|
الأمهات ستر الدنيا
أشرف بيدس
الحوار المتمدن-العدد: 2386 - 2008 / 8 / 27 - 07:31
المحور:
الادب والفن
معطفك الشتوي.. سجادة الصلاة.. مكحلتك.. أوانيك.. شراشفك.. صورك المعلقة علي الجدران.. فنجان قهوتك.. رائحتك التي تملأ المكان عبيرا وزعفرانا..حكاياتك .. لياليك الطويلة.. لحظات قلقك وفرحك.. ذكريات الطفولة البعيدة.. يداك اللتان كانتا تزيلان هموم الدنيا عندما تسافر في أجسامنا اللينة.. عيناك اللتان كانتا تتحسسان خطواتنا.. وقلبك النابض في الريحة والجيئة.. قطرات اللؤلؤ التي كانت تسقط من عينيك.. قطع السكر التي مازال طعمها في الأفواه..طلة وجهك المشرق عند كل صباح ومساء، صوتك الذي يوقد فينا مشاعر الطمأنينة، دعاؤك المتواصل بالستر والعافية.. صحونا وغفونا، شدتنا وبأسنا، ضعفنا وجموحنا، آمالنا التي كانت ترتكن في النهاية عند قدميك تستسمح عفوا هو في العيون كحبات القرنفل.. فواتير كثيرة لا تسعفنا إمكاناتنا المتواضعة عن سداد جزء ولو بسيط منها، إنها ببساطة الجدران الصلبة التي كنا نحتمي بها ومازلنا. علي صفحة النهر.. ترتسم صور الأمهات.. تسأل الريح السكينة حتي تصل شراعنا.. وتترجي من المخاطر أن تهدأ حتي تمر مراكبنا .. علي صفحة النهر تصحبنا الدعوات حتي نعود.. وتكف عنا الشر والبغضاء والأهوال.. وفي السماء تحلق طيور الأمهات وتغني أغاني السلامة..تحوقل.. تبسلم، تصلي، وتقرأ القرآن والإنجيل والتوراة.. أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي وتكبر فيّ الطفولة يوما علي صدر يوم وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي «محمود درويش» الأسطورة هي الشيء المحال.. الذي يصعب تصديقه، لكن بيوتنا، جميع بيوتنا دون استثناء مملوءة بحكايات أروع من الأساطير، ولأن الطيور لا تطير بغير أجنحة ، والأرض لا تنبت بغير بذور .. والشمس لابد لها من شروق.. فالدنيا لا تستوي بغير أمهات، فقبلة علي جبينهن في كل زمان ومكان. الأم هي الشيء الوحيد الذي لم يلوث، ولم يطرأ عليه أي تغييرات، كما هي من قديم الأزل وحتي آخر مشاهد الدنيا..محتفظة بمكانتها العظيمة. أشياء كثيرة فقدت بريقها وعفويتها وبراءتها واستباحتها المنفعة، لكن الأم ظلت في برجها المرمري تحيطها خمائل الرحمة.. تعطي دون مقابل.. وتغدق من نهرها الذي لا ينضب أبدا.. حروف اسمك تتشابه في كل لغات الدنيا.. ولا تختلف سمات الأم من بيئة لأخري، أو من وطن لآخر، في الشمال والجنوب.. في الشرق والغرب.. شحاذون.. ارستقراطيون.. نبلاء ..صعاليك ..فقراء ..اقطاعيون .. جهلة .. ملوك .. رعايا .. الأم هي الأم . الأمهات في الذاكرة الخضراء يحفظن كل المواعيد المنسية.. فهن البوصلة التي لا تخطئ أبدا لأنها تستمد بصيرتها من السماء، الأم هي نهر العسل والتمر واللبن.. والقصيدة الأزلية في حياة الصغار والكبار، واليد الحانية التي تضمد الجراح الغائرة، والعين التي تظل ساهرة حتي تطمئن عندما تضيع الأحلام ويسقط الدم ويسقط الماء وتسقط المدن، ويظل حضنها هو الملجأ والمأوي لدفء متواصل لا يقطعه فحيح الثعابين أو دوي القنابل. نمارس هواياتنا في اللهو داخل احضانهن، ولا نفرغ من العبث، ندعي البكاء، فتواصل الرحلة حتي ننام في مقلتيها ثم تقوم بنثر باقات الزهر في الغرفة وحول مرقدنا، وتوزع علي الملائكة الجوز واللوز وبعضا من الحلوي..نستنشق الأحلام في حضرتها ولا يعرف الأرق طريقا إلينا.. وإذا ما فتحت الريح نوافذنا كانت يداها أسرع قبل مرور الصقيع إلينا.. تلملم خطايانا المبعثرة بالبيت هنا وهناك.. وترتب النهار بفوضويته في ابتسامة ملائكية.. وفي اليوم التالي نعاود ما بدأناه بالأمس..ولا نكف عن الإزعاج، ولا تكف عن الرحمة. كل منا يحب أمه بطريقته الخاصة، لكن الأمهات لا يعرفن سوي طريقة واحدة، هي أرقي أنواع الحب، يحفظنها عن ظهر قلب، ويرددونها دون ملل أو كلل في كل الأوقات ودون مواعيد. خذيني إذا عدت يوما وشاحا لهدبك وغطي عظامي بعشب تعمد من طهر كعبك وشد وثاقي بخصلة شعر بخيط يلوح في ذيل ثوبك كأني أصيرا إلها إلها أصير إذا لمست قرارة قلبك هي الوتد الذي يغرس جذورنا في الحياة، فنري الأشياء بعينيها، ونسمع بأذنيها وتخفق قلوبنا عندما تأذن لنا بالحياة..وتتوهج بكارة النشوة في راحتيها؛ فتكون هي أول الأسماء وآخرها. البيوت التي لا تسكنها الأمهات.. لا يسمع فيها صوت للملائكة.. تهجرها الحياة.. بيوت غير آمنة مهددة بالانهيار والزوال والصدع.. تستبيحها الشروخ، وتكسوها الرطوبة.. وتصير عرضة للطامعين.. بيوت بلا أمهات مقابر بلا رحمة.. تضيق بها مسافات المودة والعطف.. تختفي منها التفاصيل.. ولا يحتاج المرء إلى فطنة لاكتشاف أنها بيوت خربة.. فلمساتهن البسيطة تبدل الفوضي إلى نظام والبكاء إلى ضحكات والجوع إلى شبع والخوف إلى طمأنينة.. الأم هي الحياة بألوانها الطبيعية ورائحتها العطرة.. وتفاصيلها التي لا يمكن الاستغناء عنها.. تهون الدنيا وتهون الحياة، إلا أنت.. عندما تشح البركة، وتطلي السماء بغيمة سوداء، ويحتجب الرزق بعضا من الوقت، وتخطئ الدعوات المرتجي، ساعتها نلجأ إلى أحضانهن، نشكو ونتأوي، ونطلب المغفرة، وبعد الدعاء تستجيب السماء وتبدل غيومها، ليعم الخير ويزداد، وتيقن لدينا بأن الأمهات هن ستر الدنيا ورحمتها المهداة من السماء. 55
#أشرف_بيدس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الناس اللي فوق والناس اللي تحت
-
الانتظار المميت
-
السقوط
-
الفارس المهزوم
-
الاعتداء الاخير
-
الوهم
-
الوشاح البنفسجي
-
عيد ميلاد
-
ترحال
-
زهوة الالوان
-
المسافة الوهمية
-
طفولة
-
القناع المزيف
-
عبودية
-
الرهان الخاسر
-
كشف حساب
-
بقايا امرأة
-
الرقصة الأخيرة
-
دقت طبول الحرب
-
طريق الآلام .. والخلاص
المزيد.....
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|