(2 من 2)
(سنحاول في هذا القسم الثاني من المقال أن نلتقط صورة من زاوية مختلفة لنظام العولمة، قبل أن نطرح سؤال العمل) .
لعل الواقعة الحاسمة في تشكيل الأزمنة الحديثة ورسم ملامح وآفاق الحداثة العالمية هو العالمية بالذات. وبذلك أعني تكون مستوى جديد للوعي والسياسة والاقتصاد مستقلٍ عن القوميات والدول والثقافات. تعدَّل من هذه الواقعة دون أن تلغيها واقعة أخرى لا تقل عنها شأناً، وهي الطابع غير المتكافئ لاستقلال العالمية عن الدول والكتل الدولية. فلا شك أن منحنى العالمية أشد انحناءً وانجذاباً نحو أقطاب القوة في العالم المعاصر،وأكثر تنائياً عن "الأقطاب السلبية" إن جاز التعبير، أي الأقطاب الفاقدة لقدرة الجذب والتشكيل. هنا تبقى العالمية –وهي سيرورة عولمة وليست واقعاً محققاً ومتجانساً- قدراً لا يُردُّ وفكرة مجردة في آن معاً. فبينما تتاخم الولايات المتحدة دول العالم الأخرى كافة، وتجد تهديداً لأمنها القومي في الخليج العربي أو في مضيق تايوان، تنكمش دول أخرى فلا تكاد تغطي مجالها الجغرافي، هذا إن لم تنهار الدولة ويسقط المجتمع في الفوضى والاقتتال المدمر كما وقع للصومال وأفغانستان ورواندا. أما معظم الدول العربية فتتمسك بحدودها كأنها خُلِقت معها وعلى قياسها فلا تزيد ولا تنقص. والقصد على كل حال هو أن الحدود لم تعد تعترف بالدول وانطوى زمن اعتراف أو عدم اعتراف الدول بالحدود. فالحدود الجديدة هي حدود القوة بكل معانيها، العسكرية والاقتصادية والسياسية والعلمية والثقافية. لا حدود للضعفاء لأنها تنهار نحو الداخل، لكن لا حدود للأقوياء: لا لأنها تنهار نحو الخارج فقط، ولكن لأنها تعيش في القارب العالمي نفسه الذي ينهار فيه الضعفاء. وليس "الإرهاب" والهجرة ومشكلات الاقليات العرقية والدينية في المراكز الغربية غير تعبير عن أن حدود الضعفاء هي ذاتها حدود الأقوياء وأن القارب العالمي واحد.
الدلالة الأولية والهامة لتكوّن مستوى العالمية المذكور ولإعادة إنتاجه الموسعة هي أن الدولة لم تعد الفاعل الدولي الوحيد، ولا حتى الأهم. فالمنظمات الدولية المتنوعة والكثيرة جداً، والشركات عابرة الجنسيات وديناميات العولمة الاقتصادية التي تلقت دفعة قوية في العقد المنصرم، والتدفق الإعلامي الهائل من أقمار البث، هي جوانب ثلاث ذات قيمة تأشيرية وغير حصرية على الحدود والإكراهات التي تقيد عمل الدولة اليوم.
العولمة والاستقلال والسيادة
ولم تعد هذه أيضاً الوحدة المكوَّنة الحصرية للنظام العالمي، وتحوّل المدخل إلى فهم هذا النظام من وصف وتحليل الخلايا المشكلة له، أي الدول، إلى الكشف عن ديناميات التشكيل العابرة للدول والأمم. وبموازاة تآكل القيمة التفسيرية والتكوينية للدولة يجري تحوّل مستمر لنصاب مفهومي الاستقلال والسيادة.
فلم يعد الاستقلال قيمة مطلقة ومحوراً لدوران السياسة والدولة بقدر ما أنه ما عاد يمكن الحفاظ عليه أصلاً بمفهومه السلبي كمجرد انعدام للتبعية. الصيغة الوحيدة اليوم لصوْن الاستقلال هي تجاوزه عبر تنمية السيطرة على التقنية وتحرير الفاعلية الاجتماعية وإطلاق إبداعية الأفراد والجماعات وتحويل السياسة إلى نشاط اجتماعي ومدني، أي بكلمة واحدة الحرية. الحقيقة أن الأمر كان كذلك على الدوام. لكن الحاجة إلى تصفية الإرث الاستعماري وضرورة تسريع التحول التنموي وما زكّاه ذلك من إيديولوجيات مفرطة النزعة التدخلية (القومية والشيوعية تحديداً)، لكن خاصةً إرادة النخب الحاكمة تركيز السلطة والسياسة ومفاتيح المستقبل في أيديها، كل ذلك دفع إلى سلطنة مفهوم الاستقلال وإلى جعله بديلاً عن الحرية. وكانت النتيجة استقلالاً مفرطاً للدولة وكتامة مذهلة لها إزاء الضغوط الاجتماعية وتعقيماً قاتلاً للمنبع الوحيد للتجديد والمقاومة الذي هو المواطنون الأحرار. هكذا آل العقد الذي عقدته السلطات الاستقلالية التحديثية لنفسها إلى تعزيز استقلالها هي إزاء مجتمعها المحلي، وإلى تعزيز صمودها في وجه مطالبه اللطيفة وانفجاراته العنيفة في آنٍ معاً. كذلك مثّل فكّ الارتباط بين الاستقلال وعمقه الاجتماعي والإنساني التحرري نقطة انعكاس وطي صفحة المنجز الاستقلالي ذاته والعودة إلى صيغ الاستتباع شبه الاستعمارية سواء عبر بوابة الديون وشروط تغطيتها وجدولتها، أو عبر بوابة الأمن والاستقرار، أو عبر أبواب الحصار المباشر. وما كان لهذا الانعكاس أو الارتداد أن يحصل وأن يُغَطى عليه لولا تحوّل وظيفة مفهوم الاستقلال من خطوة أولى نحو الديمقراطية والحريات المدنية والسياسية إلى المبرر الأقوى لإلغاء حقوق الناس وحرياتهم.
وبصلة وثيقة مع تآكل مفهوم الاستقلال فقدت السيادة الوطنية معناها ومبناها. القانون الأساسي هنا هو: الكثير من الدول والقليل من الدولة، أي تزايد عدد الدول منقوصة السيادة.
ويعود انتقاص السيادة إلى مركب من نوعين من الأسباب: هشاشة وتضيق وتفكك الداخل الوطني لهذه البلدان على الصعد الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية، وعلى المستويين البنيوي والعملي؛ ثم اجتياح الخارج وتدفق تياراته الإعلامية والثقافية (الغزو الثقافي) والاقتصادية، فضلاً عن الضغوط العسكرية والدبلوماسية الصريحة. ولا تجد هذه الدول المنقوصة السيادة تعويضاً عن نقصها إلا بإضفاء الكمال والقداسة على حدودها وحكامها.
فلنشر إلى بعض المظاهر الصريحة لهذه السيادة المنقوصة. ثمة أولاً سيادة فضائية منتهكة بفضل عالمية البث عبر الأقمار الذي لا يمكن مراقبته، ثم سيادة رمزية مجروحة عبر منافسة اللغة الإنكليزية للغات القومية كافة في عقر دورها، وكذلك سيادة نقدية شبحية بتأثير الدوْلرة المتزايدة للاقتصاد العالمي (65% معدل دوْلرة الاقتصاد في لبنان مثلاً) بما يجعل من العملات المحلية أشباحاً أمام العملات الصعبة. والحال إن هذه مظاهر نقص السيادة هذه، وهي ليست حصرية ولا حتى الأهم، تعكس في جانب منها تحجّر مفهوم السيادة ذاته، أي بقاءَه وفياً للمذهب القومي الأوربي الخاص بالقرن التاسع عشر. وهو ما يعني أن تجديد أو عصرنة السيادة يمر بالضرورة عبر التحرر من مفهومها القديم المتشدد وغير العملي، والتحوّل نحو مفهوم إيجابي ودينامي جديد يقرنها بالإبداع والمساهمة في ابتكار معايير التقدم الإنساني .
إذا كنا قد اقتصرنا على المفاعيل السياسية سيرورة العولمة على البلدان الأضعف، ومنها الدولة العربية، فلأنها هي التي تتحمل عبء هذه السيرورة أكثر من غيرها. ولعله لذلك يعتبر بعض الباحثين في العولمة أنها مجرد استمرار لجدلية الإمبريالية والتبعية، أو أنها طور جديد في هذا الاستمرار يسمونه الأمركة.
العمــل: عولمـة العولمـة
لا تزال حركات الاعتراض على النظام العالمي تئن تحت وطأة المنعكس الشرطي المتمثل في ارتباط أهم تمرد على النظام، أعني "المعسكر الاشتراكي"، ببناء سلطة قمعية بليدة ومجتمعات مدمرة المناعة، وهو ما سعت وسائل الإعلام الغربية وغيرها بكل قوة لتثبيته. ولا تزال "الأصولية الإسلامية المتعصبة" حسب التسمية الغربية لحركات الاعتراض الإسلامية أقدر على الاحتجاج منها على تقديم بديل إيجابي قابل للحياة. نواجه إذن حالة فراغ فكري وسياسي تحتم علينا في المدى المنظور محاولة تعديل وضبط الانتهاك العولمي. فإذا كان من الصعب الوقوف في وجه العولمة الاقتصادية والمالية راهناً، فإن إدخال آليات تصحيح ضريبية وقوانين حماية البيئة وحرية العمل النقابي وتحرير الرقابة الاجتماعية والتحوّل الديمقراطي من شأنها أن تكبح من سلبيات هجوم الشركات العابرة للقوميات، بل وأن تفيد المجتمعات التي تقدم لها اليد العاملة الرخيصة والميزات الأخرى التي تجني تلك الشركات الربح من ورائها. الأهم من ذلك أنه يتيح لها التمرس بمفاعيل الوحدة العالمية التي لا يمكن عكسها ولا تجاهلها، بما يمكّنها بالتالي من حيازة القدرة على التفاعل والرفض والقبول والمساومة والمقاومة. أما النهاية الحقيقية للدولة الوطنية فهي تحولها إلى شرطي حراسة لأرباح المستثمرين الأجانب وجهاز أمن لقمع التمردات اليائسة لضحاياهم.
يقتضي تحويل دينامية العولمة الغُفل إلى حضارة عالمية تحرير قدرة المجتمعات على المراجعة والإصلاح والنقد والمفاوضة والتدخل. لا شيء نوعي هنا. فليست الصناعة ولا الرأسمالية هي التي أنتجت الحضارة، بل التنقيح والمراجعة الاجتماعيين لديناميات التصنيع الرأسمالي، أي أولوية السياسة على الاقتصاد كما يقول مؤلفا (فخ العولمة). ولعل فشل التجربة الاشتراكية يعود إلى إلغاء هذا البعد المُراجع والتنقيحي والتدخلي الذي يستحق وحده اسم الحضارة.
ربما يكون رهان العشرية الحالية هو الدفع باتجاه دمقرطة النظام العالمي وتطوير طاقات الشعوب على السيطرة على مصيرها وعلى الديناميات الخام التي تعصف به. وبالتأكيد أيضاً التحرر من السلطات الأبدية والعبقريات وكل أنواع المعجزات الحكومية.
من وجهة نظر العمل لا فائدة من إشراط دمقرطة النظام العالمي بدمقرطة كل بلدان الأرض ولا العكس. فكل إنجاز يتحقق على أي من الصعيدين هو مكسب عالمي، وإن بقي مهدداً بالانتكاس. ولعل تقوية الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في وجه أيٍ من أعضائها، وخاصة الولايات المتحدة، خطوة أولى نحو بناء نظام عالمي أكثر عدالة وإنسانية .
وبخصوصنا نحن العرب آن وقت الانتقال من السياسة الفصامية إلى السياسة العقلانية . فبدلاً من هجاء العولمة كأنها شخص شرير واستجداء الاستثمارات أو المساعدات في الوقت ذاته، ثم تتويج ذلك بنظم سياسية فاسدة ومغلقة تبتز ولاء الداخل باسم عداوانية الخارج، وتبتز الخارج باسم أصولية الداخل وعنفه، بدلاً من ذلك كله علينا البدء بتحرير الإرادة الاجتماعية والاعتراف بإنسانية شعوبنا وإبداعيتها وحقها في الحياة الحرة. فليس في وسع أي شعب أن يستمر في الحياة دون اختيار حاسم للحياة.
2 نيسان 2001