|
مكتبة قورينا .. قهوة تيكا
أحمد الفيتوري
الحوار المتمدن-العدد: 2345 - 2008 / 7 / 17 - 07:49
المحور:
الادب والفن
كان شارع المختار الممشى الوحيد في الستينات وهو ممشاي اليومي لكن الكثير من الناس هجرته بعيد أن صار لكل حى سوق ، حيث يجد المرء ما يريد قرب بيته ، هذه الايام يتم افتتاح محل في كل زاوية ، وانتشرت هذه الدكن كالفطر على وجه المدينة . لكن الشارع لازال يزخر بمكانة يدركها كل صاحب عين حصيفة ، كثيرا ما تلتقى كاتب أو فنان يجول كما يجول السواح فيه متطلعين ومتبصرين معالمه وتاريخيته . كما فيه جال يوسف القويري حين كان يكتب في جريدة الحقيقة جريدة المدينة الشهيرة في تلك الايام ما يقف القارئ في طابور للحصول على نسخته منها ، كنا نلتقى يوسف القويري طائشا في الشارع مشتتا بقامة منحنية وعيون شاخصة جاحضة ومستريبة ، شعره منكوش ورجليه متباعدتين يحث الخطى مسرعا متوحدا في وجع من نقرس يمخره ، ننشد إلى هيكل عظمى شارد في اللاشئ ويجوس كل شئ قابضا على اللحظة العابرة باقتدار معلم ، جاسا نبض الشارع : المشهد مضحك . ولكن ما وراء ذلك يثير الامتعاض . شارع عمر المختار والوقت ما بعد الظهيرة ، على الرصيف الطويل سائح يمشي بخطوات وئيدة ، في يده آلة تصوير صغيرة وفي تعابير وجهه يرتسم اهتمام كثير ، إلى الامام منه تقبل امرأة ملفوفة في قماش أبيض يشبه ملاءة السرير فلا يبدو منها شئ سوى استدارات الأنثى وعينها غير المغطاة التي تجبرها على التلفت كالدجاجة برأسها كله لتلمح ما حولها . الكاميرا تتحرك بسرعة ، تجفل المرأة كالفرس ، وكأنما صوبت نحوها فوهة مسدس ! ، السائح يريد تصوير زاوية معينة للشارع ، وهو خبيث وعفريت لانه يريد أيضا أن يضع في هذه الزاوية امرأة محجبة ، وبالطبع المسألة في نظره مثيرة جدا ، ولكن المرأة لا تعرف ذلك . تم المشهد في لحظة خاطفة ثم ذاب في زحام الشارع دون أن يكثرت به أحد ، وامتلأت كاميرا السائح بومضة صادقة من الشرق ! ، آنئذ احسست بالحزن .. فنحن لا نستطيع ان نضع لافتات في الشوارع نكتب عليها : ممنوع تصوير المحجبات . وعن حجب المشهد أنحرف نحو مكتبة قورينا الغاصة بالكتب وما من مطرح لمزيد ، وان كان ديدن صاحبها المزيد المزيد من الكتب ومن جديدها .. أتخطى الممر وأقف مشدوها كأن عبد الرحمن بدوي يتكئ في مكانه المعتاد بالمكتبة ، عبد الرحمن بدوي من خلت أنه طلق بنغازي منذ طاله سجنها السياسي في السبعينات الطائشة من القرن العشريني ، صديق عبد المولى لنقي عاشق الكتب وصاحب قورينا الذي يخرج من مكتبه موقفا انشداهي اتفحصه و من خلاله أتصفح المكان : في نظرته سؤال دائم وتختلط حمرة الوجه ببياض شعر الرأس ينهض قبالتك رافعا حاجبيه في استفسار مقدم عن حاجتك ، هو ولد لنقي عند أهل المدينة ، هو شغف كتب عند نفسه وعند أهل الكتاب ، منذ أول الخمسينات شب عن الطوق متخذا موقفا قريبا من جمعية عمر المختار الطوق السياسي للمعارض ، ثم صار وزيرا للعمل والشئون الاجتماعية ، لكن الكتاب هو داره وآله فكانت دار ليبيا للنشر ما نشرت كثيرا من كتب محتواها ليبيا كذا دار قورينا ، هو في الربيع الرابع من العمر إذا كان الربيع عشرين عاما لكنه ينهض بمهمة من هو في ربيعه الأول : جالبا ، حاملا ، مرتبا ، مجادلا ، مقترحا ، بائعا الكتب ولعل لهذا شدت بينه وعبدالرحمن بدوي صداقة ونشرله بعض من كتبه . ومما يرويه تلاميذ بدوي أنه اعتاد أن لا يشترى الكتب كان يكمل الكتاب الذي بين يديه في اتكأة على رف من أرفف قورينا : تذكر الكتب أن لليونانيين الليبيين مدن خمسة في شرق ليبيا منها يوسبريدس أو هوسيبريدس / بنغازي وقورينا / شحات : تدور حول نشأة مدينة قورينا أساطير عدة اثبتها هيردوتس في المقالة الرابعة من تاريخه ، واشار اليها الشاعر اليوناني العظيم فندارس في الفوثاويات الرابعة والخامسة والتاسعة ، وعملا بنداء وحي ابولو في دلف ، الذي ناداه باسم ملك قورينا ثلاث مرات ، ابحر بطوس بسفنتين ذواتي خمسين مجذافا متجها صوب ليبيا ، ونزل في جزيرة صغيرة تدعى فلاتيا فأقام فيها عامين ، حاول بعدهما العودة إلى ثيرا ، لكن اهل ثيرا منعوه من النزول ، فعاد إلى ليبيا ونزل في موضع قبالة فلاتيا يسمى آزيريس أو ازيليس فأقام فيه هو وصحبه سبع سنوات ، وفي السنة السابعة اقتاده اهل الاقليم هو وصحبه صوب الغرب إلى ينبوع كان يسمى في ايام فندارس وهيردوتس باسم ينبوع ابولو ، وكان اهل ليبيا يسمونه كورا ، ومن هنا قيل ان اسم كورينا جاء منه ، وكان ذلك في سنة 631 قيل الميلاد . كنت مشدودا لمحاضرة الفلسفة القورينائية أو مذهب اللذة تترد على لسان تلاميذ بدوي عن ظهر قلب : وفي مدينة قورينا الزاهرة الوافرة الثراء هذه ، الحافلة بروائع الفن اليوناني في عصره الكلاسيكي ، ولد ارسطيفوس ، مؤسس المدرسة القورينائية . خلت نفسي واقفا وقفة الاستجواب : أيها الكبير فينا كيف جئت هذه المدينة الصغيرة ومكث فيها السنين ؟ .. عبد الرحمن بدوي : من باريس سافرت إلى بنغازي ، يوم الأحد العاشر من سبتمبر سنة 1967م وابان الرحلة نزلنا في طرابلس الغرب لمدة ساعتين . ووصلت إلى بنغازي في حوالى الساعة التاسعة مساء . ونزلت في فندق ضيق كئيب بشارع الاستقلال ، يبعد عشرين مترا عن مقر كلية الآداب . ومع ذلك فإنني حين سألت موظفي الفندق عن مكان ادارة الجامعة الليبية أشاروا على بأن أركب تاكسي لإيصالي إلى هناك !! لكني شككت ، وأنا أعرف مقدما ان بنغازي بلدة صغيرة ، ولن أحتاج إلى ركوب تاكسي ، فقررت السير في شارع الاستقلال وسؤال المارة ، وأخيرا أخبرني أحدهم انها على بعد أمتار فقلت في نفسي : أهذا ما ينتظرني ها هنا !! إن البداية لا تبشر بأي خير ! . ودخلت كلية الآداب والتربية كما كانت تسمى آنذاك ، وسألت عن العميد وبعض الأساتذة المصريين ، فعلمت ان الذي يتولى العمادة بالنيابة هو د ابراهيم نصحي ، العميد السابق والزميل في كلية الآداب بجامعة عين شمس ، فالتقيت به ، وأرسل يدعو د على عيسى رئيس قسم الفلسفة والاجتماع آنذاك فحضر . ومع د عيسى ذهبت للقاء مدير الجامعة ، الأستاذ عبدالمولى دغمان ، الذي كان قبل ذلك مدرسا لعلم الاجتماع في كلية الآداب . فرحب بي أجمل ترحيب ، وكان على شبابه واسع الاطلاع على آخر الأبحاث في علم الاجتماع ، إذ كان قبل ذلك بفترة قصيرة طالبا يحضر للدراسات العليا في احدى الجامعات بالولايات المتحدة ؛ وحصل من هناك على الماجستير في علم الاجتماع ، وعاد قبل ان ينجز رسالة الدكتوراه ليتولى منصب مدير الجامعة الليبية . وكان أول مدير ليبي كفء ، مختص يتولى هذا المنصب ، بعد أن تولاه قبل ذلك أشخاص لا شأن لهم بالعلم و لا بالجامعة . فمسح هذا اللقاء الجميل الانطباع السيئ الذي بدأ يساورني . وطوال العامين اللذين كان فيهما الأستاذ عبدالمولى دغمان مديرا للجامعة الليبية ، كنت أشعر بالاطمئنان وأحظى بالتقدير البالغ ، لهذا كان هذان العامان الأولان من الأعوام الستة التي أقمتها في ليبيا الفترة المضيئة الخصبة في مقامي هناك . ومن تلاميذ بدوى من ملأ المكتبة بمؤلفاته كنجيب الحصادي : ليس في وسعي أن ألمح إلى سيرتي الذاتية دون أن أذكر أنني تلميذ عبد الرحمن بدوي ، ما كان لأحد أن يتتلمذ على بدوي دون أن يتأثر به بطريقة أو أخرى ، فقد كان نوذجا لشخصية المستبد المستنير ، لم يكن يعبأ بواحد منا ، وإن أحسسنا بتقدير حيي للمتفوقين يندر بندرتهم ، كانت هناك هوة سحيقة إلى حد مروع تفصلنا عنه ، وكنا نكتفي في أغلب الأحيان بالتطلع عن بعد لسطوته والتندر بزهوه . وهذا التلميذ المجد منشغل بفلسفة العلم عن العلم وبمعنى المعنى عن المبنى . كاد أن يغرق في طرقة المكتبة في عناوين وأسماء يغص بها قفص الزجاج الذي يفصل بينه وبين تلك الشواهد ، وقد بدأ له أن كل الرفوف تقاسيم جبانة ؛ لقد شاهد هذه الكتب في مطارحها مدفونة بعد أن غدر بها عشاقها ، عطن يلفح خياشيم المكان وانكسار ظاهر للضؤ يلف الأغلفة فالعتمة تغلف الكتب وللعث مسارب . تنفس الصعداء وهو يتلقي النجدة من خياشيم السمك التي بعث له البحر بريحها ، كدت أن أتخبل في خيوط المكتبة ، سلبت النفس من شباكها فتلقفتني شوارع بنغازي أقرأ يافطات شارع عمر المختار وملصاقاته التي بصقها التجار على حيوطه ، تحوطنى عزلة عن مشارب الشارع ومشاغل الناس ، اندلفت من مكتبة قورينا متخطيا الطريق في تثاقل ضايق السائقين السوقة ، تلقتني أقواس ظللتني وسلتني من خيوط الشمس الحارقة ، فما الذي أوقعني في هذا الخبل غير القراءة ؟ . تعلقت بالمباني وانزحت عن الكتب ، عن الحروف شدني خيط معمار المدينة وأخلاطها من كل شئ ومن اللاشئ هذه الاخلاط تفوح بالنفط الزيت الاسود الذي شكل عجين المدينة ودوخ أهلها ، غير أن بنغازي وعلى غير عادتها في شارع عمر المختار مدينة محافظة لهذا بقى الشارع على ماهو عليه بمبانيه الايطالية وان شاب المشهد بعيض تغيرات . قبل أن تلج مكتبة قورينا وعلى شمالها مقهى تيكا الاسم الحركى لجيلي جيل السبعينات ان شئت ، وللحق كنا موزعين بين مقهي بازامه ومقهي تيكا الذي لا شئ يلفت الانتباه اليه غير كونه ينحشر بالقوى وبالفعل كشق خفي وانثوي ليس من عزمه في شئ أن يقول هأنذا وليوكد عزمه هذا فليس ثمة كراسي خارج أمتاره القليلة رغم اتساع السقف القوسي أمامه ، لم يقطع الرصيف حيث قتلت الارصفة في مجمل المدينة . حافظ الروائي صالح السنوسي على مقعده وغادر السبعينيون المكان لما غدر بهم الزمان : هنا في مقهي تيكا تجمعنا عمر الككلي وعلى الرحيبي من طرابلس يدرسان الآداب وقانون بنغازي وعبدالسلام شهاب يكتب قصة الشباب والرسام محمد نجيب يطل وجلا حينا وكثيرا ما يغيب ، عند سي تيكا نشرب ما نحب وما لانحب ونتداول الساخن من أحاديث الحقبة المضطرمة وتجيش خواطر . هناك في مقهي بازامه حيث لم يعد للكاراكوز مطرحا ، لمة أخرى تجمع القاص محمد المسلاتي والكاتب سالم مفتاح وسالم الكبتي ورضا بن موسي والشاعر السنوسي حبيب وأحيانا منصور بوشناف يخططون لحلقة جديدة من برنامجهم الاذاعي الناجح – الملتقى ؛ ونشكل للملتقى لوحة ليسار يافع وغفل عن ما يفعل الزمان : نتبادل الممنوعات من كتب ومشروبات وأفكار ورغبات عارمة في تغيير الكون . كانت قهوتنا مرة نحليها بأحلام طرية ، وكان المكان درب التبانة تغطيه طاقية المباحث وتدوى فيه أشعار محمد الشلطامي مناشيرنا السرية . صمد مقهي تيكا ، وثبت عاشق الكتب مكتبته قورينا كطود ، لكن مصوراتي عوض اعبيدة تحول لمقر شركة الطيران السويسرية التي سكنت المبنى دون أن تضيف شيئا ، ومن هذه الزاوية تطل العمارة على تمدد شارع فيا تورينو ليلحس البحر ؛ حيث يسده عن ذلك كورنيش بنغازي ما شغله أن يتغضن ويهرم وأن يموت في وحدة البعير الأجرب . في الزاوية شمالي ، مطل ميدان الحوت بعد أن اجتاز تقاطع عمر المختار وفيا تورينو مصرف التنمية الذي يذكرني عندما أصله بالمصرف الزراعي على يميني . اجتزت مفرق الشارعين متناغما مع عمر المختار في زحمة الباعة المتجولين ، قبل مقهي أكرم ما حول لمطعم بعد تحول متساكنى بنغازي لبطن هلوعة . توقفت استطلع المنظر في مبنى التأمين وساحته الممسوخة لمكب قمامة ، هي جادة تنفتح عليها أبواب ورواشن تضم المكان بحنو وشفافية ، ساحة لمستريح أو يمكن أن تكون جنان لأهل الذوق ، تفرست بعينى المعري : أنا أعمى / فكيف أهدي / إلى المنـ / هج / والناس / كلهم عميان .. دنوت من ما تبقي من مقهي أكرم ، خلت النفس في عجيج الايام الخوالى ؛ يوم كان يعج بجيل الستينات وقد جعلوه لمة لصحب الجديد في مواجهة مع مقهي العرودي مجمع التقليد / الكلاسيكية الحديثة ونار علمهم شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي ، وفي شمالي المصرف العقاري أو بنك التوفير عهد ايطاليا ! ترك المبنى اليوم في عطالة ، تنبهت لبابه الضخم الفخم ولصحنه المميز بالرخام الثقيل في شفافية ظاهرة ، غرقت في زحمة زاحفة من ميدان الحوت حيث لا يمكن التيقن من شئ حاولت استنهاض روحى من عزلتها ، جو من الارتباك خيم على المكان وعلامة استفهام حية وطويلة الاهداب تجسدت على كرسي من كراسي المقهي في رهاب غير نادر ومفرط التجسد في ضائقته ، على الكرسي يخفى وجهه بيديه متيقنا من لايقينه متوجسا من الحياة يندس في قميصه الابيض المفتوح الصدر في الكرسي الابيض ، كيمائي وحيوي واستاذ العلوم المنشغل بالأدب الناقد ، الناقض لنفسه ولليقين كان حسين مخلوف في عراك مع محيطه في عقد ستيني واثق عازم قابض على كل شئ واللاشئ ، ينفلت حسين مخلوف منى ومن لا أحد ؛ يبعث ما كتب في صحف هاتيك الايام معطيا بظهره ومستريبا يوارب باب نفسه عنى وعن لا أحد . عند زاوية المقهي مكتبة تعرض كتب الصادق النيهوم ما جمعت ما كتب في تلك الايام ، ما خلته ازدحام تبين عن عمار خال وخواء ينطح الفراغ ، وكأنى بالمكان يتسأل من أنا ؟ لكن أحدا لا يجيب . بين أقواس عمر المختار كنت هائما عند محل فيلبس طلعت مكتبة فمحل ملابس أنيقة ، كثيرا ما وقفت أعد ما في الجيب وجيوب الأصدقاء ؛ حتى نشتري ما جد لفيروز الرحابنة من مسرحيات كانت المحطة منها ، مثل : احنا والقمر جيران أيقونة جيل يتغذى الكلام بعينيه ويتعشى الرحابنة بالفم ويمز بفيروز الخمر المحلي الردئ . عمارة التأمين تتمدد في الشارع بين فياتورينو وميدان الحوت تطل شرفاتها من أركان أربع ، كتابة ايطالية مازالت مصبوغة على جبهتها ويوشم أكتافها كل اعلان عديم الذوق ، عمدانها حملاتها قوية والبدروم غطته الايام بالاوساخ ، بعد جادتها الاولى ومقهي أكرم والمكتبة ومحلات الملابس الأنيقة هدير يعلو وزرقة متماوجة بالبياض ، من فتحة لشارع صغير كمنظار تطل على المشهد مطل البحر ما يجانبني وما تركت أيضا خلفي ، في الزاوية فرع مصرف الوحدة شارة البؤس واللطخة السوداء ؛ هذه اللوحة في شمالي وقد قصدت ميدان الحوت . على الشارع المختار بعيد الوحدة ومسبار البحر الشارع الصغير كثقب ابرة في اليسار ، حيث كنت أرقب من اليمين قرب الجادة الثانية ، تندس مكتبة عامة ما لم أدخل مرة دون سبب يذكر ؛ مكتبة الشاعر على الفزاني الذي ذهب في رحلة الضياع ولم يعد ، كطيور النورس التي تبرقش الزرقة السماوية والزرقة البحرية بالبياض تكاكي مفصحة عن سنة العودة الميمونة ، من الشاعر اتخذت المكتبة اسم وقد أبقى منه للمكتبة أسفار حزن مضيئة ومضنية . في المقابل الجادة أو العين الثانية من عيني عمارة التأمين الحية التي تتربص في مكمنها من شارع عمر المختار ، صدى يلعلع من الجادة وقفة كلام عن حقوق الإنسان وحرية التعبير ، قلب مبصر وعينان بصيرتان وجثة ضخمة ويدان تخلبا الهواء والهوى : فإن توافق ، في معنى ، بنو زمن / فإن جل المعاني غير متفق / قد يبعد الشئ من شئ يشابهه ، / إن السماء نظير الماء في الزرق / عجبت لهذي الشمس ، يمضي نهارنا / إذا غربت ، حتى إذا طلعت كرا / خذ الآن فيما نحن فيه ، وخليا / غدا ، فهو لم يقدم ، وأمس ، فقد مرا . أو كذا ما جاء عن أعمى المعري رفيق النص المفتوح على أفق دون حد أو كما خلت صاحبي يقول ، وقد وقفت عند مدخل الجادة أتفرس اللوحة الملصقة بالحائط : مكتب المحامي مصطفي الشيباني وكأن عيني مفتوحتان على عمى هذا المحامي المبصر أيامنا كما لم نبصر ، من نعته الاصدقاء بالقفة وهو حقا قفة عيون ونفس تضطرم ، وان حبست نفسها بين قاعة المحكمة التي تقع على خطوات شمال مكتبه الذي هو محبسه الثاني فإن محبسه الثالث : خيمة الحرية؛ ديمومة منشده . لم أراك من زمان ؟ قال : هل التقيت هانى الكيخيا هنا أو هناك في القاهرة ؟ ، لم أراه من زمان ؟ ، والعمى نوري الماقني هل تلتقيه ؟ ، من زمان لم أره ؟ ، أمن القفص للمحكمة ومن المحكمة للقفص / البيت ؟ أهكذا إذا ما أسن الشيخ أقصاه أهله ، وجار عليه النجل والعبد والعرس ؟ . حرت جوابا فالملاك أضاع المفتاح ، وغصصت بالأسئلة في لجة سماء حبرية اللون تبين أني في فم الحوت . شدني خيط وصل لا ينقطع اجتزت الجادة إلى مكتبه عند الباب تناهى صوت أعرفه في جهوريته وتوكيده ، ونبرته الحادة وتوقيعاته القطعية ، صوت قوي متعطش للسلطة وجليل وشبه رومانسي ، يولد انطباع ايجابي عن شخص قادر إلى حد ما ودون أثر للهياج على لفت الانتباه والتعبير ، وأن في الصوت تمازج بين وقعة شديدة تنبه ووقعة رهيفة تشد ، تداخل بين النحاسيات والوتريات : خطر بباله أن يتوقف في مدينة بنغازي لبعض الوقت ، وتوقع أن يجد عملا يدر عليه دخلا يفيض عن ثمن الهدايا التي سيقدمها لعائلته .. هذه المدينة أكبر حجما وأكثر سكانا ، ومن ثم فإن العلاقات الاجتماعية بها يغلب عليها طابع المصالح المتبادلة كما هو شأن المدن الكبيرة التي يذوب الفرد في زحامها ، إلا أن التركيبة السكانية لا تختلف كثيرا عن نظيرتها في درنة . فهي مزيج من السكان القدماء الوافدين من المناطق القبلية ، والنازحين من مصراته وزليطن وترهونة والزاوية والخمس .. ، ويقال إن الجفاف الذي ضرب المنطقة الغربية في عامي 1937 م و 1947 م هو الذي أدى إلى نزوح أعداد كبيرة من سكان تلك البلدات إلى مدينة بنغازي والاستقرار بها . وعمل صاحبنا في بنغازي على نول يدوي صاحبه أحد تجار سوق الظلام ، ولم يكن المكان المنصوب فيه النول ملائما لإقامته ؛ فهو دكان يقع بحى سكني وليس به مطبخ و لا حمام خلافا للبيت الذي عمل به في مدينة درنة ، مما اضطره إلى البحث عن محل لإقامته وإعداده طعامه . استدل على مبنى قديم قرب سوق الجريد يشبه الفنادق الشعبية ، وهو مشيد من طابق واحد ويضم عدد من الغرف الصغيرة ، التي يقيم بها عمال وحرفيون وعاطلون عن العمل .. يستخدمون دورة مياه مشتركة ، ويطهون طعامهم داخل الغرف التي ينامون بها ، ويلتقون كل مساء في الباحة الفسيحة للتعارف وتجاذب أطراف الحديث . وقد وجد صاحبنا لدى هولاء الجيران طيبة في المعاملة وصدقا في القول وتعاونا لا حد له ، كما لا حظ عليهم الكرم وضيق ذات اليد . بقي في مدينة بنغازي مدة قصيرة لم يتمكن خلالها من التعرف على جميع معالمها .. ؛ شهد ضريح شيخ الشهداء عمر المختار الذي سينقل فيما بعد إلى موطنه بلدة سلوق ، وعرف بعض الأماكن التي ليس لها رواد متميزون مثل منطقة الفندق وسوق الظلام وسوق الجريد وشاطئ جليانة ، وتردد مع بعض جيرانه على حى الصابري الذي يشبه بورتا عكارة في مدينة طرابلس ؛ ليس لأنه يقع مثله بعيدا عن وسط المدينة وحسب ، بل لأن سكانه من الفقراء المقيمين في أكواخ الصفيح الذين يكاد البؤس أن يكون مكتوبا على جباههم ، ومع ذلك فإنهم من أكثر الموطنين استعدادا للكفاح من أجل وحدة ليبيا واستقلالها ، ومن أسبقهم للتضحية والفداء في سبيل تحقيق هذين الهدفين . تعلم صاحبنا من هؤلاء البسطاء معنى الصمود لمواجهة أعباء الحياة . تخطيت الباب متسللا في لهفة مؤثرة للتيقن من الشخصية المتحدثة وللبرهنة على صحت حدسي ، رأيت مصطفي الشياني ضائعا في حلزونات دخانه شاردا في الكلام ، وزميله المحامي عبد الرحمن الجنزوري يجلجل ممسكا بغليونه : هذا الجزء الذي قرأت لك ما جاء في مذكراتي عن النزول ببنغازي اثر عودتي من المشاركة في حرب فلسطين عام 48 ، تقطعت أطراف الحديث حين تنبها لى ، وكنت سرحت وغصت في لج الحديث والمثل في راسي ينسج خيوطه : لا يباع القماش الجيد وهو منسي في صندوق . حينها كان قد سيطرت : موسيقي سمفونية البطولة لبتهوفن المنبعثة من المسجل ، بعد أن خيم الصمت من أثر دهشة اللقاء بالجنزوري القادم من طرابلس ، والشيباني القابع في محبسه ، وكنت من لا يتوقع أن يري في هذا المكتب بجادة عمارة التأمين .
#أحمد_الفيتوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بورتريه آسيا
-
صدق أو ..
-
مقبرة الأفاعي
-
بورتريه الغرابلي
-
ذكريات سجين سياسي ليبي
-
أفيون الإيمان
-
من وجد أخذ .. النفط×البترول
-
السوسي
-
.. وليس لي .. ما ليس لي..
-
عاشور الطويبى شعرية الصمت والسكون !
-
• رجب الماجري:الشعر أن يبوح المرء بنفسه .
-
فرج العربي : الحداثة الشعرية التي تطاردها الأشباح !
-
أطالب بحق إصدار صحيفة خاصة ومستقلة
-
• يوميات
-
• درنة غرام لا يمكن اعتزاله!
-
ليال بورتا بينيتو
-
بيتزا أحمد الفيتوري
-
أنت كذبي
-
جيل 57 بدايات الواقعية الليبية
-
آنا حبيبتي
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|