نعت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يوم 25 كانون الثاني الحالي رحيل الروائي عبد الرحمن منيف والذى اعتبرته مناضلا في صفوف الحركة اليسارية القومية في المشرق العربي واحد المساهمين في انطلاق هذه الجبهة مع لفيف من المثقفبن العرب البارزين وخاصة الكاتب المسرحي الكبير سعد الله ونوس صاحب المسرحية المشهورة " حفلة سمر من اجل 5 حزيران" والمفكر اليساري د. صادق جلال العظم، والعديد من اللامعين في عالم الفكر والثقافة والأدب في خدمة النضال اليساري الثوري والطبقات الشعبية العاملة ، وبرحيله يفقد الادب الروائى العربى علما بارزا من اعلامه ورواده المبدعين .
ولد عبد الرحمن منيف في عام 1933 في عمّان, لأبٍ من نجد وأم عراقية. أنهى دراسته الثانوية في العاصمة الأردنية, ثم التحق بكلية الحقوق في بغداد عام 1952. وبعد عامين من انتقاله إلى العراق, طرد منيف منها في عام 1955, مع عدد كبير من الطلاب العرب, بعد توقيع (حلف بغداد); فواصلَ دراسته في جامعة القاهرة ، تابع عبد الرحمن منيف دراسته العليا منذ عام 1958 في جامعة بلغراد, وحصل منها في عام 1961 على درجة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية, وفي اختصاص اقتصاديات النفط, وعمل بعدها في مجال النفط بسورية في عام 1973, انتقل منيف ليقيم في بيروت حيث عمل في الصحافة اللبنانية, وبدأ الكتابة الروائية بعمله الشهير (الأشجار واغتيال مرزوق) في عام 1975, أقام في العراق, وتولى تحرير مجلة (النفط والتنمية) حتى عام 1981حيث غادرفي العام نفسه العراق إلى فرنسا متفرغاً للكتابة الروائية. وفي عام 1986, عاد منيف مرة أخرى إلى دمشق, ..حيث يقيم صدر لعبد الرحمن منيف عدد من الروايات: (الأشجار واغتيال مرزوق) (1973), (قصة حب مجوسية) (1974), (شرق المتوسط) (1975), (حين تركنا الجسر) (1979), (النهايات) (1977), (سباق المسافات الطويلة) (1979), (عالم بلا خرائط) (كتبت بالاشتراك مع جبرا إبراهيم جبرا, 1982), خماسية (مدن الملح): (التيه) (1984), (الأخدود) (1985), (تقاسيم الليل والنهار) (1989), (المنبت) (1989), (بادية الظلمات) (1989), و(الآن هنا) أو (شرق المتوسط مرة أخرى) (1991), (لوعة الغياب) (1989), (أرض السواد) (1999). كما صدرت لمنيف مؤلفات في فن الرواية, ومؤلفات أخرى في الاقتصاد والسياسة
حاز على جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية للرواية عام 1989 وعلى جائزة القاهرة للإبداع الروائي التي منحت للمرّة الأولى عام 1998.
من ضمن أول قراءتي المبكرة قبل زهاء عشرين عاماً روايته (شرق المتوسط) التى أحدثت ضجة كبرى بين أوساط القراء العرب أثناء صدورها لانها لامست بشكل مبكر موضوع التعسف السياسى كما في روايتيه (الاشجار واغتيال مرزوق) و ( حين تركنا الجسر) و ( وقصة حب مجوسية) ، لكن عدد كبير من النقاد والقراء اعتبروا روايته (مدن الملح) في الصدارة من اعماله الروائية.
ومدن الملح اصدرت لها دار "ديدريشس" في ميونيخ الترجمة الألمانية وهي رابع رواية تترجم له إلى اللغة الألمانية بعد "شرق المتوسط، وسيرة مدينة، والنهايات". التى قامت دار لينوس السويسرية بترجمتها الى الالمانية، وجاءت ترجمة هذا العمل الملحمي الكبير، الذي يتناول اكتشاف النفط في السعودية والمراحل الأولى في بناء الدولة، في وقت تحتل فيه السعودية صدارة الاهتمام لدى الدوائر السياسية الكبرى في العالم وخصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر . يقول عبد الرحمن منيف عنها : أقدر أنّ الرواية يمكن أن تضيف جوانب معينة في وضع الشرق الأوسط ومناخه وبالتالي همومه. ومما لا شك فيه أنّ الحافز الأساسي لدي لكتابة هذه الرواية، كان الإحساس بأنّ موضوع النفط بحاجة إلى معالجة وإلى معرفة التأثيرات الكبيرة التي حصلت نتيجة وجود هذه الثروة التي لم يُحسَن التعامل معها. ومن البديهي أنّ إلقاء الأضواء على جزء من ماضي هذه المنطقة سيساعد في قراءة الواقع الراهن ومعرفة هذا الغليان أو هذا الوضع الاستثنائي المتفجر. ولعل السعودية هي إحدى هذه المناطق التي هي بحاجة إلى إعادة نظر. فالسعودية بصيغتها السياسية الحالية، بنظرتها، بمنطق الحكم السائد فيها، هي نوع من الصيغ التي تنتمي إلى الماضي، التي قد تلائم مرحلة سابقة، أما الآن فلابد من تجديد وتحديث الدولة والمجتمع وإشراك القوى، التي تكونت وأصبح لها حضور كبير على أكثر من مستوى، في القرار. كنا نفضل ألاّ تتدخل القوى الأجنبية وخصوصاً أمريكا في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، لكن نتيجة للتزمت وحالة الجمود المسيطرة على الوضع في السعودية تجعل الآخرين مدعووين وبنسب وصيغ متعددة لإبداء الرأي والتدخل لمحاولة استحداث تغيير من نوع وآخر. ومن الطبيعي أنّ العلاقة الأمريكية ـ السعودية، التي مرت بعدة مراحل صعوداً وهبوطاً، لم تعد متكافئة أو متوازنة بحيث أصبح الأمريكان، الذين دعموا النظام السعودي في السابق، أيضاً مضطرين إلى إعادة النظر في المرحلة الحالية. وهو الأمر الذي نلاحظه من خلال الصحافة الأمريكية ومن خلال القوى والمناخات التي خلقت نتيجة أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وبالتالي أصبح موضوع السعودية على نار ساخنة ـ كما يقال ـ ولا بد من إحداث التغيير. وطبيعي أنّ المرء يتمنى أن يحدث التغيير داخلياً وطبيعياً وبمشاركة كل القوى التي تتطلع إلى مستقبل أفضل. وحين سئل احمد حسو في لقاء اجراه مع عبد الرحمن منيف لماذا أسمى روايته مدن الملح وليس مدن النفط الذي هو أقرب إلى موضوعها، بل هو موضوعها الأساس؟ يجيب بقوله : وعندما يفكر الإنسان للوهلة الأولى لاختيار عنوان لهذه الرواية فسيقع اختياره على مدن النفط، لكني قصدت بمدن الملح، المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي. بمعنى ليست نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، إنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة. هذه الثروة (النفط) أدت إلى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حاد. الشيء ذاته ينطبق على الملح. فبالرغم من أنه ضروري للحياة والإنسان والطبيعة وكل المخلوقات، إلا أن أي زيادة في كميته، أي عندما تزيد الملوحة، سواء في الأرض أو في المياه تصبح الحياة غير قابلة للاستمرار. هذا ما هو متوقع لمدن الملح التي أصبحت مدناً استثنائية بحجومها، بطبيعة علاقاتها، بتكوينها الداخلي الذي لا يتلاءم وكأنها مدن اصطناعية مستعارة من أماكن أخرى. وكما قلت مراراً، عندما يأتيها الماء، عندما تنقطع منها الكهرباء أو تواجه مصاعب حقيقية من نوع أو آخر سوف نكتشف أنّ هذه المدن هشة وغير قادرة على الاحتمال وليست مكاناً طبيعياً لقيام حاضرات أو حواضن حديثة تستطيع أن تستوعب البشر وأن تغير طبيعة الحياة نحو الأفضل.
أمتاز الراحل عبد الرحمن منيف بأنه صاحب نص صحراوي بعيدا عن الغرائبية والاستشراق الذي أصاب أعمال آخرين كمحصلة لاشتغالات سابقة على فضاء النص الصحراوي هي وثيقة على تاريخ من الصراع والسيطرة على المكان إذ تقترح تقاطعات وثنائيات متعددة بين المناخ الصحراوي والقحط وبين شخصية الوافد الأجنبي وصاحب المكان الأصلي بين الصحراء واكتشاف النفط هو إذا يقوم بتأسيس المكان وتحولاته من صحراء قاحلة إلى / مدن ملح/ تقترح حيوات أخرى على الشخصيات ولا سيما شخصية /متعب الهذال/ بكل ما تحمله من توتر وصراع ومقاومة ضد كل انواع التحديث فإحساسه البدائي مكنه من اكتشاف الخراب القادم لكنه لم يستطع الصمود فيختفي من النص تماما وإن ظل شبحه يحوم في المكان والأمر نفسه بخصوص شخصيات أخرى . إن (مدن الملح) تستعيد مطالع القرن العشرين لترسم صورة لتشكل المدن في الصحراء وكيفية ترسيخ قيم جديدة في مكان صحراوي وإخضاع هذا المكان لسطوة الشركات النفطية الأمريكية البريطانية إنها رواية تاريخية لكنها في الوقت نفسه رواية المكان ومقترح لنص صحراوي آسر .
لكن الراحل المبدع روائيا اوقع نفسه في شراك المسالة التاريخية حبن اختار الخوض في هذا المضمار الصعب والمرهق للغاية فما عرفناه مؤرخا متخصصا ، ويبدو انه غامر باصدار كتابه : " العراق : هوامش من التاريخ والمقاومة " ، الناشر: المركز الثقافي العربي ـ بيروت2003 ، الصفحات: 207صفحات من القطع المتوسط. الذى قال عنه انه مجرد هوامش جمعها خلال اعداده لعمله الروائي عن العراق ذى النفس الملحمي وهو ارض السواد ، ولأن الهوامش كثيرة على ما يذكر منيف فقد استبعد قسما كبيرا منها واقتصر على عرض عدد محدود منها خاصة تلك التي لها علاقة بالأحداث التي نعيشها في الوقت الراهن أي تلك التي ترتبط بالقرن العشرين وذات الصلة بالاستعمار القديم منه والحديث. وبتعبير منيف فان ما يضمه الكتاب صوراً متفرقة من تاريخ العراق تمثل محاولة لتحريض الذاكرة واجراء مقارنة بين ما كان بالأمس واليوم والخلاصة التي قد ننتهي اليها منها هي كيف واجه الأجداد قوى الاستعمار وكبدوه خسائر فادحة ويشير الى أن السمة العامة للعراق مع الاحتلال الانجليزي له أوائل القرن العشرين هو الاضطراب وعدم الاستقرار ودلالة هذا الامر هو أن الطرفين المستعمر «بكسر الميم» والمستعمر «بفتح الميم» لم يكونا قادرين على التعايش أو الاستمرار بالتالي كان كل منهما يتربص بالأخر وينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض عليه. ويشير منيف الى أنه رغم لجوء الانجليز الى كافة الأساليب لادامة سيطرتهم بما في ذلك افتعال المعارك بين الفئات العراقية المختلفة الا أن الوعي الشعبي نجح في تجنب الانزلاق الى الفخ الطائفي. غير أن هذا المناخ لم يتواصل فيما بعد ثورة 1958 حيث كان التحالف الذي قام بها هشا مما أدى الى تفجير الصراعات فيما بينها بسرعة فضلا عن أن صيغة نظام الحزب الواحد أدت الى عزلة النظام ونرجسيته وبالتالي عدم قدرته على تجديد نفسه وهو ما كان يسهل للقوى الخارجية أو المتضررة اسقاطه النظام.
يقدم منيف صورة رائعة لأعمال المقاومة العراقية خلال ثورة العشرين وهي المقاومة التي أدت الى ارتفاع الأصوات في البرلمان الانجليزي وصحافة لندن مطالبة بجلاء القوات البريطانية ما دفع الى زيادة الجهد من أجل اختراق الثورة واسقاطها من الداخل. ولافتقاد الثورة الى قيادة موحدة استطاع الانجليز أن يجدوا لهم موطئ قدم هنا وهناك حتى أنقلبت موازين القوى ضد الثورة. ويخلص منيف الى أن ثورة العشرين رغم عفويتها وعدم وجود قيادة موحدة لها ورغم فارق السلاح ونوعيته بين الطرفين كانت أول ثورة عربية في الشرق تقوم ضد الاحتلال وقواته وقد كبدت المحتلين خسائر قادته وغيرت نظرتهم للكيفية التي يجب أن يحكم بها العراق وهو ما تمثل في التخفي وراء واجهة وطنية لأن الحكم الاستعماري المباشر يستفز المواطنين ويؤلبهم ضد الغزاة في حين تكون المتاريس الوطنية قادرة في بعض الأحيان على امتصاص النقمة وتأجيل الانفجار المحتمل
ثم يعرض لصراع الشيخ ضاري الذي شارك في ثورة العشرين وكان همزة الوصل بين الثورة في الفرات الأوسط والجنوب وبين المنطقة الوسطى والشمال وكان يمون الثورة بالرجال والانجليزي لجمان ففيما كان لجمان يعزف على الوتر الطائفي كان ضاري ضده وهو الصراع الذي انتهي بمقتل لجمان على يد ضاري وأولاده ازاء الاهانات التي وجهها لهم في اطار محاولة لجم أعمال المقاومة، ولم يغفر الانجليز له ذلك فاصدروا عليه حكما بالاعدام وهو في الثمانين من العمر تم تخفيفه الى الأشغال الشاقة حيث توفي بعد سجنه مباشرة وقد كانت جنازته يوما مشهودا في تاريخ العراق. ثم يعرض لدور الميس «بل الخاتون» أو جيرتروود بيل والتي تعتبر من الشخضيات التي كان لها دورا كبيرا من حيث نوعية الحكم الذي قام في العراق. لقد كان لها دور في صناعة الممالك وتنصيب الملوك واختيار الوزراء وتقسيم النفوذ والأرزاق وهنا يشير منيف الى أنها كانت هي التي رجحت تولي فيصل بن الحسين العرش على منافسيه وقد نجحت في ذلك باللجوء الى المداهنة والاقناع مما حمل أكثر المرشحين حظا على الانسحاب ولجأت الى القوة والحزم في ابعاد ثم نفي طالب النقيب الذي كان أقوى المرشحين ويشكل خطورة حقيقية على فيصل. وفي سياق الكتاب يستعرض منيف مشكلة الموصل والمؤامرات التي جرت بخصوص الحاقها سواء بالعراق أو بتركيا في اطار الصراع على النفط. وقد كان موقف بريطانيا يتراوح بين الحماس لحل المشكلة أو ابقائها موضع مساومة لحمل الأطراف الاخرى على تقديم تنازلات وفي اكثر من موقع وضمن هذه الأطراف فرنسا والولايات المتحدة وقد أصبحت الأخيرة اكثر تشبثا من قبل بأن تكون ضمن الشركاء الأساسيين في اقتسام الثروة النفطية الى أن انتهى الأمر باقرار تبعيتها للعراق عام 1926. وفي اطار تناول التفاعلات العراقية في تلك الفترة يتطرق منيف الى شخصية ياسين الهاشمي الذي كلف بتشكيل الوزارة وقد كان شخصية لها حضور مميز وكانت سياسته مناوئة للسياسة البريطانية ليس في العراق وحده وانما في المنطقة العربية وهو ما ساعد على خلق مواقف ايجابية وسلبية منه فكان انقلاب بكر صدقي عليه والذي ثبت أن له صلات السفارة البريطانية وتولي حكمت سليمان خليفة الوزارة وهو تحالف لم يكتب له الاستمرار ازاء تزايد نقمة الرأي العام على أداء حكومة سليمان. ووسط هذه التطورات يتوفي ياسين الهاشمي في بيروت التي ابعد اليها لترفض الحكومة العراقية دفنه في اراضيها ليدفن في سورية. ومن التاريخ العراقي غير البعيد يستدعي منيف شخصية الدكتور سندرسن الطبيب الذي تمكن من خلال التقرب من الملك فيصل أن يطلع على الكثير من الأسرار والخفايا فضلا عن أن هذا القرب من الملك ومن بيرسي كوكس المندوب السامي مكنه من أن يقوم بمهمات خطيرة وقد استطاع سندرسن أن يطور وضعه في فترة ما بعد الملك فيصل بالمشاركة في السياسة متخفيا وراء ملابسه الطبية ولذلك توثقت علاقاته مع نوري السعيد ومع الملكة علياء زوجة الملك غازي ومن هنا يبرز دوره في صناعة صيغة الحكم الجديدة أولا بتغييب غازي ثم اختيار عبد الاله وصيا على عرش الملك فيصل الثاني. وما أن انتهت مراسيم تسمية عبد الاله وصيا على عرش العراق حتى بدأ الدور الكبير والخطير للعراق ولعبد الاله فلقد قدر عبد الاله غريزيا وعن طريق بطانته المرتبطة بالانجليز أن من يتحالف مع بريطانيا وتقدره اكثر من غيره سوف يحظى بالموقع الأقوى والأهم وهكذا بدأ الصراع بينه وبين نوري السعيد على احتلال المركز الأول. وفي هذا يشار الى أن المرحلة التي سبقت ثورة 14 يوليو 1958 كانت مطبوعة أغلب الوقت بطابع الثلاثي الدائمالسفير البريطاني في بغداد ونوري السعيد السياسي المخضرم ثم عبد الاله مع تفاوت في أهميته وأدواره تبعا للمرحلة الزمنية. لقد كان عبد الاله يردد بفخر ومباهاة أنه غير قادر على التخلي عن الانجليز لأنهم وحدهم الذين يقدرون عل حمايته ورد خصومه عنه خاصة بعد أن انكشف دوره في تصفية الملك غازي.
أما نوري السعيد فازاء الجو الذي بدا خاليا له وحده اثر غياب ياسين الهاشمي فقد قرر وبدعم من الانجليز أن يبقى في الرئاسة لأطول فترة ممكنة فكانت معاهدة التحالف مع البريطانيين عام 1930 التي أثارت استياء واسعا لدى الرأي العام وهنا يستعرض منيف جانبا من الصراع بين السعيد ورشيد عالي الكيلاني والتي انتهت مرحليا بقيام الكيلاني بتنحية الوصي على العرش وتسمية الشريف شرف ثم سقوط حكومة الكيلاني نتيجة التدخل العسكري البريطاني في مايو 1941 وبالتالي عودة الوصي على العرش عبدالاله ونوري السعيد الى الواجهة مرة اخرى حيث دخل الوصي بغداد على متن دبابة انجليزية! ولم يكن من الغريب أن تودي هذه الأوضاع الى علاقات بين العراق وبريطانيا سمتها تبعية الأولى للثانية.
ويبدو ان هذه الهوامش التى غامر عبدالرحمن منيف بنشرها تحتوي الكثير من الهنات المعلوماتية غير الدقيقة ، والتى يتصدى لها الدكتور سيار الجميل ، الكاتب والباحث العراقي المعروف فيقول في مقالة نشرت بحلقتين في بعض مواقع شبكة الانترنيت العراقية والعربية : معترضا ان التاريخ يكتب بمضامينه قبل الهوامش وان تاريخ العراق المعاصر معقّد جدا وله مخاطر لا تحصى ولا تستقصى وان اغلب الذين تعاملوا معه من المؤرخين العراقيين والغربيين كانوا على درجة من التخصص والسيطرة على معرفة بالعراق ومكوناته واطيافه ومشكلاته وتعقيدات كل الوانه .. فضلا عن توفر قدر كبير من الحيادية والامانة والشمولية من خلال اتباع منهج ذكي وبارع في التعليل وتحليل المضامين والمواقف والاحداث التاريخية والابطال والشخوص وصولا الى النتائج والاستنتاجات التاريخية ومن ثمّ توظيفها جميعا في خدمة البحث العلمي . ان تاريخا رصينا للعراق الحديث لا يمكن كتابته من خلال هوامش عادية وقصاصات ورقية من قبل اديب روائي هام في دوامة سياسة خرقاء قادت بعد عقود من السنين الى كل هذا الوباء الذي تشهده المنطقة في بدايات القرن الواحد والعشرين ! ويستطرد في مستهل توضيحه للاخطاء التاريخية التى وقع فيها الراحل عبد الرحمن منيف :
ويعترض الدكتور سيار الجميل عل عبد الرحمن منيف قوله : " فثورة العشرين مثلا التي انفجرت مع بداية الحكم البريطاني للعراق .. " ( ص 11 ) ونحن نعلم بأن الاحتلال البريطاني للعراق استغرق اربع سنوات للفترة 1914 – 1918 م ، ولم تندلع الثورة الا بعد ثلاث سنوات على احتلال بغداد من قبل الجنرال مود عام 1917. ويستنكر قوله بأن " اغلب مناطق العراق اصبحت تحت سيطرة الثوار عام 1920 اذ ما عدا بغداد والبصرة ، والتي كانت تتمركز فيها القوات البريطانية وكان يحاصرها الثوار ايضا ، فان باقي المناطق كانت محررة وتخضع لسيطرة الثوار .. " ( ص 42) . وهذا غير صحيح ابدا ، فالمراجع التاريخية جميعها لا تقر بمثل هذا الكلام ابدا ، بما فيها المصادر من كتابات بعض الذين شاركوا في الاحداث!
ويرى الدكتور سيار الجميل بأن المستر ( عبد الله ) فيلبي لم يكن احد صانعي السياسة البريطانية في المنطقة العربية ، خاصة في العراق ..كما يرد في ( ص 70 ) . بل هو من منفذي السياسة البريطانية وليس من صنّاعها ، ولكن في نجد من الجزيرة العربية وليس في العراق بعد ان اقترح ان يكون الاخير جمهورية وليس مملكة .. وقد عاش في الرياض ردحا طويلا من الزمن وكتب كل مؤلفاته عن السعودية ونجد والملك عبد العزيز آل السعود .. ولابد ان نرجع للكم الوفير من كتبه ومنشوراته ونتدارسها لنرى حجم ما كتبه عن موضوعات الجزيرة العربية مقارنة بالذي كتبه عن العراق !
وبشأن قضية الموصل يستنكر الدكتور سيار الجميل قول منيف بأن بريطانيا ( كانت ) مستغلة بقاء لواء الموصل موضوعا للمساومة ، لأن هذا اللواء بقي موضع تجاذب بين تركيا .. وبين بريطانيا وبين فرنسا " ( ص 71) . واقول : لا ابدا ، فمشكلة الموصل لم تظهر للعلن الا بعد 1921 اي بعد تأسيس كيان الدولة في العراق وبعد معاهدتي سيفر ولوزان . وسيتكر قوله بأن الملك فيصل الاول كان يلجأ ( المس بيل ) في الصغيرة والكبيرة الى ان وصل الامر الى حد الالتباس في العلاقة ، وتشير المس بيل ذاتها الى عدد من الحالات حين كان فيصل الاول يستدعيها الى مزرعته الخاصة في خانقين ليناقش معها بعض الامور ، او لكي يفضي اليها بمكنونات عقله وقلبه ! " ( ص 76 ) . وهنا ، اتساءل : ألم يكن بمقدور مؤلفنا عبد الرحمن منيف ان يوثق هذا الخبر الذي يتعلق اساسا بشرف الملك فيصل الاول واخلاقياته ؟ اذا كنت قد اعتمدت على كتاب عبد الرحمن البزاز في توثيق المرشحين للملكية في العراق ، فلماذا لم توّثق هكذا رواية خطيرة تتعلق باثمن ما يمتلكه الانسان ؟ هل غدا التاريخ العوبة او دمية بأيدي البعض من الروائيين الراديكاليين الذين لا يحترمون كلمتهم ؟ واذا كان المؤلف يطلق بهكذا احكام جزافا على الاخرين ، فلسوف يتهم بعدم الامانة في اعماله كلها ! وسواء التقى فيصل خلسة بالعجوز الانكليزية المس بيل في مزرعته ام قصره ام لم يلتق ، فالمس بيل لم تكن عربية ولا مسلمة ولا فتاة عراقية باكر يأبى اهلها على شرفها!
ويوضح السيار كيف ان عبد الرحمن منيف ايضا يطعن في فيصل الاول واخلاقه وسيرته ايام مرضه ووفاته ، فيقول : " وضمن ملابسات تلفت النظر لتشابكها وغرابتها ، وبعد ان التقى فيصل بسيدة هندية قيل انه كان يحبها ، وبعد ان شرب الشاي معها تعّرض لازمة قلبية اودت بحياته ... " ( ص 91 ) . ومرة اخرى ، هل استطاع المؤلف ان يوثّق الخبر بدل جعله سائبا هكذا قيل عن قال ؟ لماذا ملابسات تلفت النظر ؟ واين التشابك والغرابة ؟ كيف التقى فيصل بسيدة هندية وكان يحبها وهو على سرير المرض في سويسرا ؟ ومن الذي قال للمؤلف بأن فيصل كان يحبها ؟ لماذا هكذا تلفيقات بحق رجل اعتقد انه لم يسرق العراق ولم يضطهد العراقيين .. اعتقد انه كان مؤسسا بارعا لدولة جديدة ! واعتقد انه الزعيم الوحيد الذي حكم العراق في القرن العشرين وقد فهم العراقيين فهما عميقا .. واذا كانت المعلومات المؤكدة والموثقة تقول بأن ممرضة هندية كانت تقوم في احدى مستشفيات سويسرا على راحته .. وتتهم بزرقه ابرة فيها سم وليس هناك ادلة دامغة تكشف هذا الخبر .. فلماذا قمت بتحريفه اخرجته عن حقيقته ؟ واسألك : اذا كان هناك محبة قد جمعت فيصل الاول بسيدة هندية فلماذا قتلته ؟ هذا كلام هامشي فعلا ولا يصلح ان يعتمد عليه ابدا القراء العرب من العقلاء والمثقين الناضجين .
ويستمر السيار معترضا على قول عبد الرحمن منيف : " في عام 1921 كانت المباحثات من اجل اقامة الدولة ، تجري بين فيصل بن الحسين ومعه كوكبة من الذين شاركوا في ثورة العشرين ، وكان غبار المعارك لا يزال عالقا بعباءاتهم وجفونهم .. والطرف الثاني في المفاوضات مجموعة من القادة العسكريين والسياسيين البريطانيين الذين عرفوا المنطقة وناسها .. " ( ص 83 ) . وانا اتساءل : ما هي اسماء تلك الكوكبة الذين شاركوا في ثورة العشرين ؟ فالتاريخ لم يقل بمثل هكذا رواية تاريخية ، فمن اين اتى المؤلف بها ؟ ونحن نعرف قادة ثورة العشرين واحدا واحدا .. فمن هو ذاك الذي جلس يفاوض الانكليز ؟ هل يمكن للمؤلف ان يخبرنا بما سجله بكل سرعة ؟
يقول المؤلف : " تم الاتفاق بين الاطراف جميعا على اقتسام الثروة النفطية .. اما الخمسة بالمائة الباقية فقد تركت للسمسار الدولي كولبنكيان .. " ( ص 90 ) . ولا ادري من اين استقى منيف معلوماته ، فالمستر كولبنكيان لم يكن سمسارا دوليا ، بل كان عراقيا ارمنيا يمتلك مقاطعات كبرى من الاراضي الواقعة في لواء كركوك التابع لولاية الموصل واكتشف النفط في اراضيه ، وان حصتّه لم تكن حديثة العهد بل تعود الى شركة النفط العثمانية وقد قررت حصّته على هذا الاساس منذ العهد العثماني ايام عهد السلطان عبد الحميد الثاني .. وبقيت علاقة الرجل قوية بالعراق حتى بعد ان عاش حياته في الخارج وللتاريخ اقول كما يعرفه اغلب العراقيين القدامى انه منح الكثير من عائداته الى العراق والعراقيين بصفة منح ومشروعات واعمار وخدمات وبعثات دراسية للطلبة العراقيين .. الخ وبعد تأميم النفط من قبل احمد حسن البكر ، تأممت حصّة كولبنكيان من قبل البعثيين ومنحت الخمس بالمائة الى صدام حسين شخصيا اذ سيطر عليها منذ ثلاثين سنة حتى زوال حكمه .. أسأل الان : لماذا لم يؤرخ عبد الرحمن منيف ذلك ؟ لماذا لم يقل كلمة حق ازاء المستر كولبنكيان الذي افاد العراق والعراقيين من الخمس بالمائة.
يقول المؤلف : " .. أما اتفاقية سان ريمو ، فقد اعطت نفط العراق لبريطانيا وفرنسا وخصت بريطانيا بالانتداب على العراق لكن قيام الثورة البلشفية فضح هذه الاتفاقيات .. " ( ص 95-96 ) . وكلنا يعرف بأن اتفاقية سان ريمو كانت قد وقعت في 25 ابريل / نيسان 1920 ، وان الثورة البلشفية الروسية قد اندلعت يوم 17 اكتوبر / تشرين الاول 1917 ، فكيف تفضحها وقد سبقت الثورة تلك المعاهدة بثلاث سنوات .. انه يقصد اتفاقية سايكس – بيكو ! ثم يكتب المؤلف من عندياته اشياء لا اساس لها من الصحة ، فمثلا يقول : " ولكن الولاية ( = الموصل ) تضم بين سكانها مجموعات عرقية متعددة ، فقد حاولت الاطراف المتنازعة ان تعزز مواقعها وان تمالىء اكبر عدد من المجموعات العرقية ، كي تكسبها الى جانبها ، الامر الذي استدعى تدخلات كثيرة واستطلاع آراء من قبل لجان متخصصة سميت عن عصبة الامم ، او من بعض الدول التي عرضت وساطتها ، مثل الولايات المتحدة ، والتي اصبحت شريكة في هذا النزاع بمرور الوقت وليكون لها في النهاية نصيب في الثروة النفطية " ( ص 96).
ولكي اجيب على مثل هذا التزييف للتاريخ والاحكام البليدة ليعلم الاخ المؤلف بأن الموصل ولاية عربية قديمة تنتمي الى العراق منذ عصر سحيق ، وانها قاعدة بلاد الجزيرة الفراتية وهي جزء علوي شمالي من بلاد ما بين النهرين وكانت تضم على امتداد التاريخ اعراقا وقوميات واقليات متآخية متعايشة في المدينة والريف .. في الجبال والسهول والهضاب والبوادي . لقد كان انبثاق لجنة تقصي الحقائق عن عصبة الامم بمثابة صمام الامان يضمن عراقية الموصل التي كان الاتراك بدأوا يطالبون بها بذرائع واهية .. وكان عمل افراد تلك اللجنة الدولية معرفة التوزيع السكاني ومعرفة الانتماءات السكانية سواء للعراق ام لتركيا وهي من انجع الوسائل الدولية في بدايات القرن العشرين .. وبقيت اللجنة الدولية تتدارس طويلا ميدانيا اوضاع السكان وارائهم والحدود وتواريخهم وجغرافياتهم .. ولا ينسى فضل الموقف المشرف لابناء مدينة الموصل من خلال احزابها السياسية : الحزب الوطني وحزب الاستقلال ولجنة الدفاع الوطني في الاستماتة من اجل عروبة الموصل وعراقيتها .. فماذا يتكلم المؤلف في كتابه ؟ ولماذا تزييف الحقائق ؟ ولماذا لا نعترف فعلا بدور كل من بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية في ذلك الوقت من اجل ابقاء الموصل في اطار العراق ؟ لماذا نستخدم الاسقاطات المعاصرة على التاريخ ، واذا كانت امريكا مكروهة اليوم ، فلماذا يسقط المؤلف كراهيته على ادوارها منذ ثمانين سنة ؟.. وليكن معلوما ان كان المؤلف لا يدري بأن مواقف الولايات المتحدة في النصف الاول من القرن العشرين كانت ممتازة ازاء قضايا الشعوب وكانت تناصر قضايا عدة في العالم ازاء ما كانت ترسمه كل من بريطانيا وفرنسا ! وكنت أتمنى من المؤلف ان لا يخوض في هكذا موضوع من دون وثائق ومستندات تاريخية كتلك التي استخدمها المؤرخون المختصون ، امثال : فاضل حسين وانصح المؤلف منيف بأن يراجع مرة اخرى وبتمهل شديد ما كتب عن هذه " المشكلة " التاريخية التي لولا التدخلات الدولية لصالح عراقيتها لاستحوذت تركيا الكمالية عليها خصوصا وانها كانت اقوى من العراق كثيرا ، ولكان اصبح مصيرها مصير لواء الاسكندرون .. ولكن الاصرار العراقي والبريطاني ، وخاصة عند ابناء الاقليم وبالذات اهالي مدينة الموصل ودور احزابهم السياسية على تدويل القضية قد اكسبها ابعادا في كسبها الذي عد انتصارا للعراق كله .
اما عن موضوع الفريق بكر صدقي ،يقول المؤلف : " من صفات هذا الضابط ( = بكر صدقي ) الكفاءة العسكرية والطموح السياسي ، وباعتباره كرديا فقد كان يفكر ويعمل من اجل انشاء كيان خاص للاكراد في شمال العراق .. " ( ص 108 ) . ويقول المؤلف ايضا : " ولأن طموحات بكر صدقي باقامة كيان كردي في الشمال العراقي اصبحت علنية ومكشوفة .. " ( ص 115 ) . وهذا هو الخلط بعينه وانني اتحدى المؤلف ان يأتينا بنص وثيقة واحدة تعلمنا بأن بكر صدقي كان يسعى لتمزيق العراق وانشاء كيان انفصالي كردي ! صحيح ان بكر صدقي من عرق كردي ، لكنه كان عراقيا صلبا ويعتبره كل المؤرخين الذين اعتنوا بتاريخه انه كان ضابط عراقي محسوب على المجموعاة الشريفية التي آمنت في البداية بافكار الشريف حسين بن علي ، ومن ثم كان لبكر صدقي دوره في تأسيس الجيش العراقي ، ولكنه وجد نفسه في تيار عراقي وطني يقف ازاء تيار عربي قومي في بنية الجيش العراقي – كما اشار الى ذلك المؤرخ حنا بطاطو - ، ولم يكن في نية بكر صدقي ابدا تأسيس اي كيان كردي في شمال العراق .. ولكن خصومه كانوا قد روّجوا ضده جملة من السيئات وخصوصا بعد مصرعه انه كان شعوبيا وانعزاليا عن العروبة وخصوصا بعد مقتل جعفر العسكري مؤسس الجيش العراقي اثناء انقلاب بكر صدقي الشهير في العام 1936 . وللعلم ، فان بكر صدقي كان هو الضابط القوي الذي يؤثره الملك غازي على غيره من الضباط العراقيين . واقول ايضا بأن النغمة التي يرددها الكثير من الكتاب العرب المعاصرين بأن الاكراد انفصاليون انما هي فرية واكذوبة يوظفونها من اجل تمزيق وحدة العراق المصيرية ، ويدخلون انوفهم في ما لا دخل لهم به ، فالعراقيون العرب وانا منهم يعترفون بأن اخوتهم الاكراد العراقيين هم ملتصقون بالعراق التصاقا قديما وقد اثبتت الاحداث بأن مصيرهم هو مصير كل العراقيين .. ولقد انجب العراق العشرات بل المئات من الشخصيات الكردية المدنية والعسكرية ومن المثقفين والاداريين والمبدعين المخلصين للعراق وترابه وكلهم كانت لهم ادوارهم الوهاجة في تقدم العراق الحديث.
اما عن مصرع الملك غازي ، يقول المؤلف : " وهكذا دبرت عملية اغتيال الملك ( = غازي ) في ليل بهيم من قبل بعض خدم القصر وبادعاء ان عمود الكهرباء سقط على السيارة التي كان يقودها الملك .. " ( ص 116 ) . ويقول ايضا : " وكان بطلها الضحية غازي وفرسانها نوري السعيد وعبد الاله والملكة عاليه " ( ص 116) . وفي مكان آخر : " وقد اشترك في هذا الاغتيال ثلاثة : نوري السعيد والملكة عالية والامير عبد الاله .. " ( ص 151) . ويقول عن نوري السعيد : " خاصة بعد ان انكشف دوره في تصفية الملك غازي ، وبداية ارتقائه درجات السلم نحو الموقع الاول في السلطة " ( ص 155 ) . اما الشهادات التي اعتمد عليها فكانت لناجي شوكت الذي قال : " لا يستبعد ان يكون .. " ( ص 117) وتوفيق السويدي الذي لم يتهم احدا ( ص 117 ) وصلاح الدين الصباغ الذي اتهم عبد الاله ونوري باصبعه ولكن الصباغ كتب ذلك في فرسان العروبة في العراق بعد حركة 1941 اي بعد ان انقلب من صديق وفي لعبد الاله الى عدو لدود .. ويكرر المؤلف اتهامه لنوري بقتل غازي ( ص 167 ) . نعم ، لقد راجت اشاعات لا حصر لها ضد نوري وعبد الاله كما روج البعض عن دور للملكة عاليه وروج آخرون لدور قام به الانكليز .. وكتبت دراسات وكتب وبحوث ولكن حتى يومنا هذا لم يعثر على اي وثائق دامغة تدين اي طرف بقتل الملك غازي . ان مشكلة المؤلف ليس في ترويج مثل هذه الاشاعات والاقاويل ، ولكن وجدناه يكتب عن اشخاص وكأنهم فعلا قد قتلوا .. ويعيد ويكرر من دون استخدام اي عبارات توحي بشكوكه كمؤرخ .. فالمؤرخ الحقيقي لا يمكنه ابدا ان يحّول على مزاجه مجموعة اتهامات الى حقائق وادانات من دون ان يطلعنا على حقائق ثابتة .. وكل الذين كتبوا في الموضوع تكهنوا بحدوث مؤامرة دبرت لقتل الملك .. ولكن من هو القاتل الاساسي ؟ انني اتحدى المؤلف ان يأتيني بتلك الحقائق ! وعليه ، فلا يمكن ان نوزع الاتهامات على اناس نكرههم ونمقتهم ونحن نجهل حقائق التاريخ ! ولا يمكن لضميرنا ان يقبل جعل التاريخ محطة لرمي كل احقادنا وكراهياتنا عليه ! ولا يمكن تشويه ذلك التاريخ الذي ستقرأه الاجيال القادمة .. ويمكن ان يتحول عندها ما تقرأه من الاكاذيب الى حقائق ! اما ما ذكره المؤلف عن نوري السعيد وبداية ارتقائه السلطة ، فلقد اخطأ مرة اخرى ، اذ لابد ان يعلم المؤلف بأن نوري ترأس اول وزارة له في عهد فيصل الاول .. كما وكان نوري وراء توقيع معاهدة 1930 وتطبيقها قبيل رحيل فيصل العام 1933 التي ادخل العراق بموجبها عصبة الامم بعد ان نال استقلاله الشكلي . وعليه نقول بأن لا اثباتات ملموسة ولا قرائن محسوسة منذ مصرع الملك غازي حتى يومنا هذا تؤكد المؤامرة التي يلوكها الجميع بأن غازي قد رحل بعد تصفيته ! ولا دلائل قانونية فعلية تشير الى اشتراك نوري او عبد الاله بتلك المؤامرة ؟ فكيف يمكن لكاتب مرموق مثل عبد الرحمن منيف ان يغّلب فيها كراهيته للهاشميين ونوري السعيد ولا يقتصر على اتهام عبد الاله ونوري بقتل غازي ، بل يجازف باشراك الملكة عاليه زوج غازي بقتل زوجها ، وهذا اتهام باطل وقذف وطعن لا اساس له من الصحة ان لم نتأكد تأكيدا وثيقا ! ولا يمكن الاعتماد على الخصم في لصق الاتهامات . ان مصداقية اي كاتب في هذا الوجود لا يمكن ان تبقى ثابتة لا تهزها الرياح الا من خلال حفظ الكاتب نفسه من الوقوع بفوضى القيم وتغليب الكراهية على تحكيم العقل .
ومن التاريخ الى الواقع يرسم منيف لنا صورة محزنة على ما أسفرت عنه الحرب الأميركية على العراق فيما يتعلق بأثاره مذكرا بالضجة التي أثيرت لدى اسقاط حركة طالبان تمثالين لبوذا فيما صمت العالم على الجريمة التي جرت في العراق معتبرا أن ما حصل في العراق من قبل الامبراطورية الأميركية سيظل سبة في جبين هذه الدولة الى يوم القيامة معربا عن دهشته مما قد يؤول اليه حال العالم في العصر الأميركي الجديد وكيف سيتصرف رعاة البقر اذا لم تتحد البشرية كلها لمواجهة هذا الطوفان من الهمجية ووضع حد للبربرية الجديدة. ومذكرا بوضع اليابان والمانيا بعد الحرب العالمية الثانية يدعونا منيف الى الحفاظ على ثروة العراق من العلماء الذين يعدون هدفا اميركيا اسرائيليا مؤكدا أنهم الرأسمال الحقيقي للعراق والأمة العربية.
فيكتب في صحيفة السفير تحت عنوان اللصوص يحرسون الكنوز متهما الولايات المتحدة هي التى قامت بتلك الفعلة الشنعاء وان استعملت ايدي الاخرين في نهب المتحف العراقي، وتحطيم ما عجزوا عن حمله، وحين أحرقوا مركز الوثائق في بغداد، وكذلك المكتبة الوطنية، وما فاتهم حمله، أو تأخروا في ذلك لجأوا إلى إحراق المكتبة. كذلك فعلوا بالنسبة لمكتبة الأوقاف، التي تعتبر من المكتبات المهمة، لأن كثيرين كانوا يوصون بمكتباتهم الخاصة إلى هذه الجهة، وكانت هذه المكتبات تحوي عددا كبيرا من المخطوطات المهمة والنادرة. وكذا الحال بالنسبة لسجلات النفوس والسجل العقاري ومؤسسات عديدة أخرى. وما عدا عدد محدود من ذوي الضمائر اليقظة الذين احتجوا على هذه الأفعال، فإن معظم الناس في العالم أصموا آذانهم أو تظاهروا بأنهم لم يروا. وهكذا بعد أسابيع سوف تطوى هذه الصفحة السوداء في التاريخ، وكأنها لم تكن، لأن الذي قام بهذه الفعلة الشنعاء ليس الرعاع واللصوص وإنما الولايات المتحدة، وإن استعملت أيدي الآخرين".
ويرى إن الولايات المتحدة تفاخر بالمتاحف التي لديها، في نيويورك وشيكاغو وبنسلفانيا، وفي مركز كل ولاية من ولاياتها الخمسين. بل أكثر من ذلك: لديها متاحف خارج المدن وفي عدد كبير من الجامعات، وفي هذه المتاحف معظم كنوز العالم من الآثار واللوحات والتماثيل، بحيث تعتبر ما تمتلكه هذه الدولة يفوق بعدده وأهميته ما تمتلكه أية دولة منفردة. إن في متاحف الولايات المتحدة آثارا بالغة الأهمية والحجم. فالآثار الفرعونية في متحف المتروبوليتان مثلا توازي أو تفوق ما هو موجود في المتحف المصري، وما عدا الأهرامات والمسلات فإن الآثار المصرية تنتشر في متاحف المدن الصغيرة والجامعات.
ما يقال عن الآثار ينسحب على المخطوطات أيضا، ففي مكتبات أميركا ملايين المخطوطات المسروقة أو التي تم شراؤها بأثمان زهيدة، بحجة إنها عديمة القيمة أو يمكن أن تحفظ في أمكنة مناسبة، وستعاد إلى مواطنها في يوم من الأيام.
إن المخطوطات المهمة والنادرة، والتي تتمتع بقيمة تاريخية وفنية، رحلت عن المنطقة العربية إلى عواصم الغرب وحواضره، وهناك قفل على القسم الأكبر، بحيث لا تتاح الفرصة أو العرض، أو مجرد الرؤية، والأمر نفسه ينسحب على الأعمال الخشبية والنحاسية والسجاد القديم النادر، وكذلك الحال بالنسبة للفسيفساء والتماثيل وأعمال الخزف وغيرها من المشغولات اليدوية.
ويرى عبد الرحمن منيف بانه كان من أيسر الأمور حماية هذه المرافق، إذ يكفي أن توضع دبابة واحدة من دبابات "التحرير والفتح" عند كل مرفق لمنع هذا الذي حصل. لكن كان وراء تسهيل الوصول أمر مدبر ومبيت. فعمليات الإغراء والتشجيع للرعاع، والأغلب أنه تم تحضيرهم في وقت مبكر للقيام بهذا العمل، كي يتم التستر وراءه من أجل عمليات نهب منظمة وواسعة من قبل القوات الغازية أو عن طريق هذه الحثالات. إن إسرائيل وأميركا ليستا بعيدتين عما حصل، إذ لم تكتف قوات الغزو بمشاهدة كل ما يحصل، وإنما حمت اللصوص ويسرت لهم أن يحملوا مسروقاتهم ويهربوا بها، وما تعذر حمله حطم أو أحرق، وإلا فكيف نفسر تحطيم أو نهب ما يزيد على سبعة عشر ألف قطعة أثرية؟ ولماذا تشعل النيران بالمكتبة ومركز الوثائق، وبعدد آخر من الدوائر والمؤسسات الحكومية؟ إن من يفتقد للتاريخ يحاول أن يخترع لنفسه تاريخا ملفقا. ومن يبحث عن تاريخ لكي يسند حججه وادعاءاته يمكن أن يفعل أي شيء من أجل الوصول إلى ما يعتبره أثرا أو مستندا. وكلنا نتذكر كيف أن موشي دايان، بعد أن تتوقف النار قليلا، كان يهب إلى الفأس ليبحث عن الآثار من اجل تعزيز حجة إسرائيل بأن اليهود مروا من هنا، وهذا هو الدليل! حين بدأت التعبئة لخوض الحرب على العراق، تبارى قادة الولايات المتحدة في تحديد المآل والمصير الذي ينتظر العراق، ليس فقط من حيث الدمار، وإنما من حيث التخطيط لإرجاع هذا البلد إلى العصور الوسطى، أي إلى ما قبل الصناعة. والموقف من الآثار والمخطوطات وغيرها من الكنوز التي تراكمت عبر آلاف السنين، يهدف إلى خلق "ذاكرة" جديدة مزورة، إذ المطلوب تجريد العراق من تاريخه وتراثه، وأيضا من علمائه الذين يشكلون الضلع الثالث في هذا المثلث.
ولو بذلت قوات "التحرير" الحد الأدنى من الجهد في حماية المرافق الأساسية، ومن ضمنها ما أشرنا إليه، لما واجهنا هذه المأساة التي تبدو اليوم بعض مظاهرها الأولية، أما بعد أن يبرد الجرح، كما يقال، ونتأمل في ما حصل، فسوف نكتشف أن الخسارة ليست كبيرة فقط، وإنما لا تعوض، مما يعكس جوهر الحضارة الأميركية ومدى حرصها على التراث الإنساني، ومدى ما تخبئ للشعوب في المستقبل.
ما حصل في العراق من قبل الإمبراطورية الأميركية سبة في جبين هذه الدولة إلى يوم القيامة. حتى استراليا لا تنجو من هذه اللعنة، وأيضا تلك الدول المتحمسة للمشاركة في تلويث أيديها بدماء العراقيين بهدف أن ترفرف في ميادينها أعلام ماكدونالد. لقد شاركت بعض هذه الدول بعنصر واحد، وأخرى بعثت بعشرة من رجالها لتفكيك الألغام وإعلان الولاء للراعي الأميركي. والغريب أن دول أوروبا الشرقية، التي كانت اكثر صداقة للعرب، بذلت كل جهدها للتكفير عن هذه الصداقة، ومحاولة إلغاء الذاكرة. كل ذلك لإرضاء أميركا وكسب رضاها، ومحاولة الانتقال إلى الجنة الموعودة!
كاتب عراقي مقيم في مملكة تايلاندا
المصادر:
http://www.arabiancreativity.com/almoneef.htm
http://www.sana.org/The%20Arabic/Culture/Literature/apd%20alrhman%20monif.htm
http://www.albayan.co.ae/albayan/book/2003/issue279/reviews/1.htm
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=11554
http://www2.dw-world.de/arabic/kultur/1.40994.1.html
http://www.qateefiat.com/02/mq/88%20kainowz.htm
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=8102