"ينبغي لنا ان لا نتعامل مع اللغة كشيء مقدس!!
منيف
فوجئنا اليوم برحيل الروائي المبدع والكاتب الهادىء والاديب النهضوي المتنقل الاستاذ عبد الرحمن منيف .. وكنت قد كتبت عن كتابه الاخير حول العراق : صفحات من التاريخ والمقاومة .. دراسة نقدية مطّولة ونشرتها قبل شهرين .. ولم يتخذ مني موقفا ، بل بالعكس اتصل بي وشكرني على ما اصلحت من معلومات تاريخية كانت تغيب عن باله او لم يصلها . والحق يقال ان الرجل كان مهموما بالعراق واهله ومصيره .. ويعّد فقد الرجل في مطلع العام 2004 خسارة جسيمة للثقافة العربية الحديثة والادب العربي المعاصر خصوصا وانه كان يحمل فكرا حديثا ، كما واغنى المكتبة والثقافة العربية بالمزيد من اروع الاعمال الروائية التي بلغت درجة عليا من الاصالة والحبكة والقوة والجمال .. وهي اعمال اغنت حياتنا الثقافية في العقود الاربعة الاخيرة من القرن العشرين .. ان عبد الرحمن منيف يعد واحدا من ابناء جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي خرج الى الحياة بعباءة راديكالية .. ولعل ما ابرز ما مّيزه انه جمع كل من الجزيرة العربية والهلال الخصيب في ذات واحدة وهوية واحدة وتكوين واحد وابداع واحد وتعبير واحد ..
وقفة عند بطاقته الشخصية
ولد عبد الرحمن منيف في العام 1933 في عمّان بالاردن لأبٍ من نجد وأم عراقية – كما يقولون - . أنهى دراسته الثانوية في العاصمة الأردنية, ثم التحق بكلية الحقوق في بغداد العام 1952. وبعد عامين من انتقاله إلى العراق ، طرد منيف منها في العام 1955 مع عدد كبير من الطلاب العرب بعد توقيع حلف بغداد ، فواصلَ دراسته في جامعة القاهرة . تابع عبد الرحمن منيف دراسته العليا منذ العام 1958 في جامعة بلغراد, وحصل منها في العام 1961 على درجة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية, وفي اختصاص اقتصاديات النفط, وعمل بعدها في مجال النفط بسورية . وفي العام 1973, انتقل منيف ليقيم في بيروت حيث عمل في الصحافة اللبنانية, وبدأ الكتابة الروائية بعمله الشهير (الأشجار واغتيال مرزوق ) . في العام 1975 أقام في العراق, وتولى تحرير مجلة (النفط والتنمية )حتى العام 1981 الذي غادر فيه العراق إلى فرنسا حيث تفرغ للكتابة الروائية. وفي العام 1986 عاد منيف مرة أخرى إلى دمشق .. حيث يقيم الآن . كان صديقا حميما للاديب الروائي جبرا ابراهيم جبرا .
صدر لعبد الرحمن منيف عدد من الروايات: (الأشجار واغتيال مرزوق) (1973), (قصة حب مجوسية) (1974), (شرق المتوسط) (1975), (حين تركنا الجسر) (1979), (النهايات) (1977), (سباق المسافات الطويلة) (1979), (عالم بلا خرائط) (كتبت بالاشتراك مع جبرا إبراهيم جبرا, 1982), خماسية (مدن الملح): (التيه) (1984), (الأخدود) (1985), (تقاسيم الليل والنهار) (1989), (المنبت) (1989), (بادية الظلمات) (1989), و(الآن هنا) أو (شرق المتوسط مرة أخرى) (1991), (لوعة الغياب) (1989), (أرض السواد) (1999). كما صدرت لمنيف مؤلفات في فن الرواية, ومؤلفات أخرى في الاقتصاد والسياسة . حاز على جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية للرواية العام 1989 وعلى جائزة القاهرة للإبداع الروائي التي منحت للمرّة الأولى العام 1998.
ما الذي نراه في عبد الرحمن منيف ؟
انه الروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف.. الذي صنع بذاته وسيرته منذ ولادته حتى وفاته وحدة عربية من اقطار عديدة متلاحمة ولكنها منقسمة متشرذمة .. وعبر عن ذلك في مجمل اعماله الكبيرة .. وبرغم كتاباته الاولى ، فلقد انبثق اسم "عبد الرحمن منيف" من: "مدن الملح" في خمسة أجزاء ، وهو العمل الروائي الكبير الأشهر له ، وقد شكل "الرمز" في رواياته، والتوصيف بابعاد متباينة في ملامح شخوص الروايات، وانه جسّد في الحقيقة البعد الانساني فيما كتبه، كأنه يسجل حقبة مهمة جدا بكل تناقضاتها او مرحلة متغيرات عاصفة وشديدة العصف في تاريخ العرب الحديث . اننا ومن قراءتنا لابداعات اعمال الروائي "عبد الرحمن منيف".. نجده في اغلبها قد ترسم ابعاد ذلك المعنى مستهدفا في عبارته التي قالها في يوم من ايام العام 1991م انه : "ينبغي لنا ان لا نتعامل مع اللغة كشيء مقدس!! ولقد دعا الى اخراج اللغة من اطار السحر والقداسة، بحيث لا يكون الوصول اليها من خلال السلفيين!! ولقد نجح هو نفسه في تشكيل اسلوبه المكتسب له خصوصياته بكل ما تميز به من السرد او ما نسج منه من عبارات تكّون في الحقيقة طبيعة كتابته للرواية متميزا بذلك عن اقرانه من المبدعين الروائيين العرب المعاصرين .
ما الذي نلحظه في الرجل؟
لقد كانت ولادته في مكان وامه من مكان وابوه من مكان ودراسته في مكان وثقافته في مكان وعمله في اكثر من مكان وغربته في اكثر من مكان .. كان يحيا متنوعا ومهاجرا متعددا في انتماءاته وابعاد هوياته وتنوع علاقاته كأي مثقف عربي سابق لعصره واوانه بالف سنة ، او كما كان الاجداد الاوائل من الذين لا نكف نقرأ من اسمائهم جملة من الانتماءات العربية التي هي بالاحرى انتماء واحد تجسده العروبة الحقيقية الكامنة في اعماق المجتمع العربي منذ القدم بعيدا عن الفكرة القومية وابعادها الفاشية التي مزّقت الامة بكل افعالها وخروقاتها!
لم التق عبد الرحمن منيف الا مرة واحدة فوجدته انسانا عروبيا مثقفا تقدميا .. اصغيت اليه فوجدت كتابته ابرع من مقول قوله وخطابه تحريرا اروع من خطابه مشافهة له هدوء منقطع النظير واكتشفت فيه ان اعماقه تختزن جملة هائلة من الاحزان الدفينة والالام التي لا يكشفها للاخرين بقدر ما تعبر عنها سحنته والظاهر دليل الباطن .. وبدا لي انه يتلظى على حالة ما كان مهموما بها ويعيشيها بكل جوارحه في نفسه وفي روحه . ان اعمال الرجل تشكل في حقيقة الامر مدرسة ادبية عربية مستقلة او مختلفة عن منهج روائيين آخرين امثال : نجيب محفوظ من مصر ، والطيب صالح من السودان ! ولعل اعز اصدقائه الذين افتقدهم منذ اكثر من عشر سنين كان الراحل جبرا ابراهيم جبرا الذي اعطى لصديقه حقه ، بل واشترك معه في اكثر من عمل ومناسبة .
لم تكن شهادته العليا وحصوله على درجة "الدكتوراه" في اقتصاديات النفط من جامعة يوغسلافيا، ذات قيمة اساسية امام زخم معطياته الابداعية ، ويبدو انه اصر على حملها ولكنه لم يلح على ربط حياته الفكرية والعملية بها، ، اذ اشتهر مبدعا في الرواية، والكتابات الثقافية التي طرح من خلالها رؤيته للحياة المعاصرة .. وربط بعض الاحيان التاريخ الحديث من خلال تضلعه ببعض احداثه كي يستلهم منه القارىء المزيد من التجارب الاساسية في بناء مستقبله او استقبال مصيره .
المكان العربي : منفاه الحقيقي : ازمة مثقف عربي
ويمكننا ان نتلمس كل رؤية منيف من مسألة المكان العربي الذي تنوع ازاء حياته ، فتحول في اعماقه من احساس بالارتباط الى احساس متعاظم بالغربة.. بدءا من "عيون الجوى" بالقصيم، ومرورا بسورية ولبنان والاردن والعراق، واستقرارا مؤقتا في السعودية.. ومرور الاحداث العربية بكل مأساويتها وهشاشتها وتأثير الكتابات المصرية واللبنانية التي حرص على متابعتها، مرورا بالقضية الفلسطينية بكل ما حمله ازاءها من الاحزان على امتداد حياته منذ تشكيل وعيه مرورا بالهزيمة العام 1967 حتى اليوم .. مرورا بالحرب الاهلية اللبنانية وحروب العراق الخليجية وصولا الى الحرب الاخيرة . كانت شخصيته متأثرة لابعد الحدود بالمكان اولا وبالحدث ثانيا ....
كتب الفقيد في مدن الملح ، يقول : " لا يهمني أن أكون على وفاق مع أحد.. افترقت عن كل ما حولي، وربما الى الابد .. اصبحت أسير باتجاه نحو المجهول، ولولا ذكريات ما تزال ندية تخصُّ دمي، لارتكبت حماقات كثيرة " .
لقد امتلك الرجل سيرة مبدع عربي مثقف مقهور منذ زمن طويل وهي ازمة كل عربي حقيقي في هذا الوجود يعيشها منذ هزيمة حزيران العام 1967 حتى الآن.. ولقد كانت تداعياتها قد اوصلتنا لما هو عليه وضعنا اليوم ولقد كانت هي من اصعب الفترات واسوأها، نظرا للتفكك، وشيوع روح اليأس، وانعدام موقف التضامن والوفاق والانسجام والتلاؤم او الاتفاق على مطالب وحدود الحد الادنى، اضافة الى : التبعية الاقتصادية والسياسية، وغياب الديمقراطية والمجتمع المدني، وسيادة النمط الاستهلاكي، ثم تزايد الفقر والامية، وانعدام الحوار الجدي حول الواقع الراهن . انها في حقيقة الامر الازمة التي حملها المثقف العربي الحقيقي والتي غدت سببا لاذلاله وتشتيته بوصفه اي ضمير الامة الحي .. بحيث اصبح كتابا ممزقا وفاقدا للانتماء .
وأخيرا وليس آخرا :
رحم الله فقيدنا المبدع الراحل عبد الرحمن منيف فلقد كان علامة فارقة في الحياة الثقافية العربية من خلال حياته، ومسيرته وابداعاته الروائية الاصيلة .. رحم الله ذلك الطائر الوديع الذي تحول من غصن الى غصن على شجرة هذه الامة وهو يشهد تعاستها وسوء احوالها .. وليعذرني الرجل ان كنت قد قّصرت بحقّه في ابداء وجهة نظري عندما خالفته في ما يخص بعض كتاباته السياسية .. لقد افتقدت الامة العربية اليوم واحدا من اركان ثقافتها في القرن العشرين .. داعين بهذه المناسبة كل الدارسين والنقاد والمهتمين اخضاع اعمال منيف الابداعية للدراسة فهي علامات وضيئة مضيئة في مسيرتنا الادبية ..
( فصلة مختزلة من كتاب لكاتب المقال الدكتور سيّار الجميل : نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية الذي سينشر قريبا ) .