|
طقوس الموت والامتداد الثقافي
يوسف هريمة
الحوار المتمدن-العدد: 2342 - 2008 / 7 / 14 - 02:38
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تعتبر الطقوس الجنائزية أحد أكبر مظاهر الثقافة الإنسانية منذ ظهور الإحساس بالموت، باعتباره معطى من معطيات الواقع البشري، وإدراك الكائن الحي لهذا البعد من أبعاد إنسانيته، وإن اختلفت تفسيراته وأنماط التفكير في التعامل معه. لم تكن هذه الطقوس بمعزل عن السياق البدائي في التعرف على ظاهرة الموت بمشاكلها وضبابيتها وتعقيد التفسيرات المحاطة بها حتى عالمنا المعاصر، غير أن الفكر الديني نحى بالأمر في الكثير من الأحيان أن يتعامل مع الإنسان خارج سياق هذا التراكم الإنساني، وأصبحت الطقوس تأخذ منحى الإلهي بطريقة من الطرق، حين أصبحت محاطة بثقافة الحلال والحرام والجائز والممنوع، محاولة فصل هذا الترابط والامتداد الثقافي والتاريخي منذ ظهور هذه الطقوس وبدايات تشكلها مع الكائن البشري. دفعني إلى محاولة الإشارة إلى ذلك طريقة التحليل والتبسيط، التي يتميز بها العقل الديني في وضع بعض القطيعات الإبستمولوجية على هذا الامتداد الثقافي، وصبغه بألوان معينة غالبا ما تكون سطحية في التعامل مع أبعاد أنثروبولوجية بحجم ما نحن بصدده. إن الموت شكَّل ولا زال يشكِّل أحد أكبر المؤسسين للطقوس الجنائزية على مر التاريخ، ولا زالت إرهاصاته تلقي على الكثير من ميادين البحث الأركيولوجي والأنثروبولوجي على حد سواء، سواء انتسبت الطقوس إلى عصور ما قبل التاريخ كما سنرى أو إلى العصور التي ظهر فيها الدين كأحد أهم المعطيات الثقافية المؤسسة للوعي الجمعي. لدى فالبحث في هذا المعطى الإنساني من زاوية معرفية يلقي بالكثير من المعطيات على فهم تصورات الكائن البشري للموت وتمثلها على أرض الواقع وما يرافقها من طقوس، أما ثقافة العبث والاحتقار لكل ما هو إنساني تحت مسمى من المسميات، فسبيله أن لا يجد صدى إلى في أذن قائله مهما ظن نفسه قارئا للحس الإنساني المستتر بالعلم. سأختار جزء مما قد كنت كتبته في بدايات المعراج ألقي فيه بعض ملامح هذه الطقوس، وأفسح المجال للإخوة لإثرائه كل حسب طاقته ومبلغ علمه إن أمكن ذلك، هذا الجزء متعلق ببعض هذه الطقوس في عصر من العصور ما قبل التاريخية وهو العصر الحجري الحديث Néolithique وظهور الإنسان العاقل ومراسيم الجنائز، لكن قبل ذلك لا بأس من إعطاء لمحة على دلالات هذا المصطلح العلمي. تعني كلمة Néolithique العصر الحجري الحديث ، وهو العصر الذي يمتد بين الميزوليث وعصور المعادن؛ و يشير إلى العصر الذي تم فيه استعمال الإنسان للحجر المصقول، بعد أن كان يستعمل الحجر المنحوت. ويُقصد بهذه التسمية اليوم، العصر الذي انتقل فيه الإنسان من الصيد إلى الإنتاج الزراعي والرعوي، وقد ظهرت أولى بوادر هذا التحول في الشرق الأدنى. لكن هذا التعريف لم يعد كافيًا لاستيعاب هذه المرحلة، ولا زال أمرا متنازعا فيه بقوة، لأن الصقل ليس اختراعا نيوليتيا حيث استعمله الإنسان في عمل العظام في المرحلة الباليوليتية. غير أن ما استجد فعليا خلال هذه الحقبة الزمنية هو أن الصقل أصبح يستعمل على صخور صلبة. *- ظهور المدافن: تمثل المدافن وحدات تحوي في طياتها معطيات غنية ومتماسكة مميزة لعصرها، كما يستخدمها الكثير من العلماء باعتبارها مؤشرات، و محددات كرونولوجية وثقافية، تساهم بشكل كبير في التعرف على البنيات الاجتماعية لكل عصر بما في ذلك الثقافة الدينية . استخدمت المدافن في العصر الحجري الأعلى، على هيئة تجويف محفور تكون مستديرة، أو بيضاوية الشكل. يدفن الميت فردياً، وغالبا ما يكون دفنه مرفوقا بنوع معين من الطقوس. يوضع الجثمان عادة في منتصف الحفرة (بدون توجه محدد بالنسبة للسودان الأوسط، لكن باتجاه شرق/غرب بالنسبة للنوبة)، ويوضع راقداً على جانبه الأيمن أو الأيسر في وضع يختلف من منحني إلى مقرفص مع ذراعين ممدودتين وكفين مرتفعتين فوق الوجه، هذا الوضع قد يحتاج إلى رباط لحفظ الوضعية (وذلك بوضع الجثمان داخل جراب كما توضع حصيرة، ووسادة تحت الجسم(. عرفت شعائر الموت في هذا العصر لدى الإنسان العاقل- الذي ساد خلال هذه الفترة الزمنية- تحولا كبيرا بالمقارنة مع ما كانت عليه في العصور السالفة، حيث توجه بشكل واضح نحو العناية بالموتى، ودلَّ على ذلك أن المرفقات الجنائزية ازدادت، وطرق الدفن أصبحت أكثر تعقيدًا: فقد بقي يدفن موتاه داخل الكهوففي وضعية القرفصاء؛ ويبدو أنه اتجه لدفن الأموات قرب المواقد، كما كان يفعل سلفُه النياندرتالي (ربما لأن برودة الجثة دفعته لتدفئتها، عسى أن تعود إليها الحياة). كما أن طريقة الدفن على وضعية الجنين ذكَّرتْ بعض الباحثين بأن لدى الإنسان العاقل ميلاً روحيًّا، على اعتبار أن الدفن الجنيني يمثل حياة أخرى بالنسبة للميت، وذلك بتشبيه الأرض بالرحم الذي يشكل الحياة الأولى للكائن البشري. ومن جهة أخرى، فهناك من يستبعد هذا التفسير لمثل هذه الظاهرة، ويعتبر أن مساحة الكهف هي التي دفعت بالإنسان العاقل نحو وضعية الدفن الجنيني، أو ربما اتخذت جثة الميت هذه الوضعية بشكل طبيعي نتيجة موت طبيعي وما إلى ذلك. إضافة إلى ما سبق فالجثث بدأت تُطلى بالمغرة الحمراء، التي تدخل حسب بعض الأبحاث العلمية في مجال التعويض عن الشحوب الذي يعتري الجثة، وهذا ما تأكد من خلال أبحاث على قبائل بدائية تعيش في إفريقيا حتى الآن، حيث ظهر أنهم مازالوا يصبغون الجثث بهذه المغرة لاعتقادهم بأنها علامة الحياة. كما بدأت تتشكل البوادر الأولى لدى الإنسان العاقل للإحساس بالرهبة من الموت. دلَّ على ذلك أنهم كانوا يضعون أحجارًا ضخمة على أيدي الميت وأقدامه وصدره، ربما كي لا يستطيع القيام والعودة إلى الحياة وبالتالي إيذاء الأحياء، وهذا ما أكَّدتْه الأبحاث الأنثروبولوجية التي أجريت على قبائل بابوا في غينيا الجديدة، حيث لوحظ أنهم يضعون الحجارة الكبيرة على رأس الميت وصدره وقدميه. *- القرابين البشرية: من الراجح أن فكرة الأضاحي البشريةظهرت خلال العصر الباليوليتي، وربما كان الدافع الاقتصادي سببا في ظهور هذا الطقس وليس السبب الوحيد، إذ أن خوف الإنسان من المجاعات، وخشيته من عدم توفر الغداء جعله يضحي بأبنائه بصورة طقسية ودينية، وعندما بدأت المجتمعات تعتمد في مأكلها على النبات بصفة مستمرة استبدلت الفديات البشرية بالفديات الحيوانية. ينبغي الإشارة في هذا الصدد إلى أن التحليل المقارن للمدافن الفوقية- التي تحتوي على فردين أو ثلاثة- يشير إلى وجود القرابين البشرية في تلك المدافن التي تحتوى على ثلاثة أجساد. وإذا تأكد ذلك فسيكون بمثابة مؤشر لبدء عادة كان لها الأثر الكبير في تشكيل عقليات الأزمنة اللاحقة، والتي لا زال تأثيرها يلقي بظلاله على عالمنا المعاصر، رغم التقدم الحاصل في جميع المستويات الإنسانية. هذا الوجود للقرابين البشرية والتعقيد المتزايد للمقابر وترتيبها في طبقات كلها عناصر تشير إلى مجتمع اللامساواة والطبقية التراتبية الاجتماعية. *- عبادة الجماجم: أحدث ابتكار الزراعة ثورة إنسانية انتقلت بالإنسان بوصفه جزءًا من الطبيعة، إلى الانفصال عنها والسيطرة عليها. وهذا سوف يؤثر في بنيته الذهنية، وفي تفاعله مع الطبيعة ونواميسها الذي يتركز في ظاهرة الموت ، الموت الدوري للنبات ومن بعد انبعاثه في مواجهة الموت الخطي قبل الانفصال عن الطبيعة، ولاسيما في نشوء ظواهر الاعتقادات الدفنية الخصبية، التي تجلَّت في ميلٍ اعتباري إلى الثور (الظاهرة الأقدم) وعبادة الأم الكبرى، وصولاً إلى الأرواحية أو عبادة الأجداد التي يُعبَّر عنها بعبادة الجماجم عبر فصلها عن الأجساد. ففي حوالي منتصف الألفية الثامنة ق مسوف تغدو الجماجم موضع اهتمام كبير؛ وهذا ما توضَّح في مواقع هذه الفترة. ففي المريبط عُثِرَ على هياكل دُفِنَتْ بلا رؤوس تحت أرضيات بيوت السكن. أما الجماجم فبعد فصلها عن الأجساد كانت توضع على امتداد جدران المنازل لاعتبارات اعتقادية. كذلك عُثِرَ على هذه الظاهرة عينها في أريحا في فلسطين، ولم تكن الجماجم لتُترَك سدى فقد كانوا يعالجونها، معتبرين إياها نوعا من التعويض، على المستوى النفسي الجمعي، ويحاولون إعادة تشكيلها من الجصِّ وصبغها بما يماثل لون البشرة، ثم تُنزَّل العيون بالصَّدَف أو القواقع، وتُرسَم على الجمجمة خيوط بُنِّية كدلالة على شعر الرأس.
للمزيد من المعلومات الاطلاع على: - " بخور الآلهة " لخزعل الماجدي - من مجلة آركاماني مقالة بعنوان:"عادات الدفن في وادي النيل الأعلى" لفرانسيس جيوز، ترجمة أسامة عبد الرحمان النور - انظر ما كتبه جاك رينولد بمجلة آركاماني بعنوان:" كدروكة والعصر الحجري الحديث في إقليم دنقلا الشمالي"، ترجمة أسامة عبد الرحمان النور - " معتقدات وأديان ما قبل التاريخ " لخزعل الماجدي - مقالة " شعائر الموت ومعتقداته في المشرق العربي القديم" لبشار خليف، - كتاب:" أديان ما قبل التاريخ " لأندري لوروا غوران ص:45
#يوسف_هريمة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما وراء الكواليس !!!…
-
حي على الصلاة... !!!
-
يا قارئة الكفِّ والفنجان!!!
-
عبد الرحمن المجذوب وعقدة الأنثى المغربية!!!
-
وتستمر الممانعة...
-
قناة العربية والأزمة اللبنانية
-
لعنة السياسة وسيف المذهبية
-
الدراسات المقارنة بين المعرفة والتحيز
-
أين الحقيقة...؟؟؟
-
عيدُ الأُمِّ شعلةٌ لا تنطفئ...
-
القرآنيون والتوظيف الإيديولوجي
-
مدخل إلى الكتاب المقدس؟؟؟
-
حتى الأقلام تبكي...
-
أكادير: تنمية بشرية أم جنسية
-
الثقافة العربية وسؤال النخبة؟؟؟
-
نظرية مالتوس وأزمة الزواج العربي
-
رمتني بنضالها وانسلت؟؟؟
-
الفن الملتزم وثقافة العولمة
-
وتكسًّرَ غُصن الزَّيتون...
-
سامر إسلامبولي وأزمة القرآنيين !!!
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|