|
الشعر والتاريخ.. تصالح أم التضاد
أحمد الناجي
الحوار المتمدن-العدد: 2342 - 2008 / 7 / 14 - 02:25
المحور:
الادب والفن
قيل إن الشعر ديوان العرب، لأنه بمثابة السجل الموثق الذي حفظ أدب العرب وتاريخهم وأنسابهم، ومما يذكر في هذا الصدد أن العرب عرفوا القصة التاريخية وتناقلوها مبكراً، ولا يبتعد غرضهم فيها عن تكوين مادة تاريخية، فهي ترجع الى الرواية التاريخية أكثر من الأدبية، ويمكن أن نسمي ذلك بالتاريخ المنقول بالمشافهة سواء كان ذلك شعراً خالصاً أم نثراً تتخلله الأشعار، والشعر في كلتا الحالتين هو الذي حافظ على تناقل الخبر وانتشاره، كما كان الشعر يمثل السياق القبلي لتدوين التاريخ على حد قول المستشرق مرجليوت. واستمرت العلاقة بين الشعر والخبر التاريخي خلال التدوين التاريخي العربي الإسلامي، فهما توأمان في البناء الهيكلي للخبر التاريخي وعرضه، وظهرت بعض سمات الحس التاريخي من خلال الروايات التي دونت في العصر الإسلامي، ولهذا عد التاريخ في نظر بعض الباحثين منظوياً تحت ظل الأدب، أو جزء منه. وليس أدل على ذلك من قول الخليفة عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، ومقولة ابن عباس: إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله فاطلبوه في الشعر، فانه ديوان العرب، وبه حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله وغريب حديث رسول الله (ص)، وحديث صحابته التابعين. ومن الممكن رصد تجليات ذلك الأمر بوضوح في وفرة القضايا ذات الصلة بحوادث الحياة التي تناولها الشعراء في مختلف الإغراض التقليدية من وصف ومدح وهجاء ورثاء وغزل وخمريات وحماسة وفخر، غير أن هناك أحداث كثيرة لم يعنَ بتدوين وقائعها بصورة تجلو الغموض الذي يكتنفها، فأصبح الشعر في مثل هذه الحالات بمثابة الوثيقة التاريخية، إذ سجل الشعر الكثير من الأحداث، التي أفادت في توضيح جوانب غير قليلة من تفاصيل التاريخ، فالشعر مصدر عميق الجذور بالتراث العربي تاريخاً ونشأة وتطوراً كما ذكر الدكتور عناد غزوان. ويتبدى مسار الشعر بوضوح إثر تعاظم أثره مع مرور الزمن في تعزيز التدوين التأريخي، وأشار الدكتور علي جواد الطاهر الى أنه أدرك أبيات من الشعر مجهولة المؤلف في أغلبها وجملتها، كانت تتناقل وراثة بين الأجيال، وخص تلك الأبيات الشعرية بالأهمية بوصفها سنداً للتاريخ النفسي لمن يتصدى لدراسة التاريخ الاجتماعي العراقي في العهد العثماني، وعدها لا تقل عن السندات المكتوبة، وكان مغرقاً في المبالغة بتفضيل هذه الأبيات الشعرية عن الوثائق والمستندات المكتوبة، وعلى ضوء ما تقدم لا نجد مغالاة في رأي يذهب الى أن الشعر قد حفظ لنا ما ضيعه التأريخ. لقد سجل الشعر العراقي عند مطلع القرن العشرين أحداثاً سياسية واجتماعية وثقافية كثيرة ومتبانية في أسبابها ونتائجها. عاشت في صميم المجتمع العراقي وصورته تصويراً دقيقاً وأميناً في حركاته وثوراته الوطنية والثورية التحررية ابتداء من دخول القوات البريطانية 1914 الى ثورة العشرين، ومروراً بثورة تموز عام 1958، حتى تفاصيل أيامنا الراهنة، وليس أدل على ذلك من منجز شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري الذي شغل القرن العشرين بأكمله تقريباً، موثقاً أدق التفاصيل لمجريات الأحداث التاريخية. إزاء الاطروحات المبهرجة التي يتشبث بها بعض المنساقين من المثقفين وراء موجة الحداثة كعنوان رئيس، وليس بوصفها مشروعاً للتجديد، يبدو المشهد واسعاً لكنه غائم، ولعل السؤال الأبرز في ذلك المشهد، ترى هل من الممكن أن تبقى العلائق بين الشعر والتاريخ متلازمة ومتسقة في حدود أنساق المصالحة، أم تتجاوز الى ميدان الضدية والاشتباك. يمكننا إدراك منحى الوشيجة التي تربط التاريخ مع الشعر، بأنه يتجه صوب التباعد والافتراق، ولعل تجليات ذلك المنحى تتبدى واضحة في بعض الاطروحات الحداثوية التي تحاول أن تلج بذلك الارتباط نحو تقويض علم التاريخ نفسه، الى حيث تنظيرات "الما بعد"، (ما بعد الحداثة، وما بعد التاريخ... الخ)، لكي تؤسس -كما هو بائن للعيان- فهماً مستحدثاً يرتقي بالشعر الى مصاف خارج نطاق سطوة التاريخ، كما أشار الشاعر اوكتافيو باث الى القصيدة بوصفها محاولة للمصالحة بين الشعر والتاريخ ولكن لابد أن تكون لصالح الشعر. ومع أن ذلك الافتراض وجيه من حيث المبدأ، لأن في محيط التصالح تساكناً وتعايشاً، وهو الذي يؤمن استبعاد تهويل التاريخ وتزويره، غير أن الصحيح أيضاً أن الزمن الذي لا يبقى دون أثر، يصعب أو يستحيل في بعض الأحيان معرفة جوانبه واكتشاف أبعاده، من دون استقراء منهجي، تلك هي العلة التي ينطوي عليها هدف علم التاريخ، فالتاريخ موضوع حي، ومن الطبيعي اختلاف الآراء حول قراءته وتفسيره وأسلوب كتابته، لكونه يتصل بصورة وثيقة مع الاتجاهات المعرفية والفكرية، فضلاً عن التطورات العامة المتعلقة به. إن منجز الاشتغال التخيلي، وتحديداً الشعر الذي يستعلي على التاريخ بهدف تفتيته كمركز، انما يعبر -بكل عناصره وما حمله من معاني الاحتدام الرؤيوية والتناقضات، عن نظرة ذاتية وجزئية محدودة، ومهما بلغت فيه تجربة الشاعر الشخصية من الثراء، وبلغ عنده الطموح في تحشيد قدراته لاختراق المألوف، ومن ثم الوصول الى هدفه في ظل حالة الانعتاق من التاريخ كأحد المهيمنات، فان ما عده بمثابة الرؤية التاريخية، أو توخياً للدقة (التدوين السردي)، سيبقى محاولة منقوصة، لما تشكله بقية الزوايا من أهمية في استقراء شواهد التاريخ الذي لم يعد متحركاً، وسيغدو الشعر على افتراض أن الشاعر استطاع الحراك والتحرر اللحظي وتمكن من امتلاك أدواته بما فيها اشتراطات ومقومات الحرفة، سيغدو شاء أم أبى، قريباً من الفلسفة، ومنجزه مضبب بأحاسيس جامدة وانفعالات مصطنعة، وفاقداً لعفويته والكثير من قيمته الجمالية، بل ستتوضح في نهاية المطاف بأن الشاعر غير قادر على استلاب الدور الرئيس لعلم التاريخ، المعني بدراسة سلوك الإنسان في المجتمع كما هو بصورته في الماضي، وان كل ما قام به الشاعر لا يعدو أكثر من تعليب لروح الشعر وتحنيطها. إن المحصلة النهائية لما سيقدمه الشاعر من منجز في نطاق الاستعلاء على التاريخ، بصرف النظر عن مناحي الشكل والذائقة الجمالية، سيكون نصاً في التاريخ وليس نصاً تاريخياً، ولا يمكن لأي قدر من الصخب المتبجح بالحداثة ان يخفي تلك الحقيقة أو يلغيها. ولا ندري ماهية الإجابة على السؤال الذي ينبغي لنا طرحه هنا بشكل مباشر، ترى هل سيصبح ذلك النتاج بعد مدة من الزمن بمثابة تراث لا بد من تقويضه هو الاخر أم ماذا ؟ لا بد من الإقرار بأن الشعر، حين يمضى في نطاق الاستعلاء على التاريخ، سيكون عاجزاً عن الانفكاك من كافة المهيمنات، لاسيما الركائز الفكرية والإيديولوجية التي ينطلق منها الشاعر نفسه، والأقسى من ذلك كله، أنه في هكذا مطب سيكون الشعر عرضة لتسلط موجهات مستجدة، وسيجد الشاعر نفسه مطوقاً في نهاية المطاف، وتلك العلة التي تمثلت في جنوح الشاعر الى تصوير مظاهر الأشياء عن طريق الإلهام، وما تؤسس له إثارة الانفعالات والعواطف، قد وقف عندها الأوائل من المفكرين، وتناولها الكثير من النقاد، وصورها أفلاطون عاقبة غير مأمونة ونزعة غير علمية، وهاجم من يسيئون في الإفادة من موهبتهم فيخضعون فيها لطغيان الجماهير أو طغيان الحكام المستبدين. إن الاتساق مع مسار التاريخ، مسرى لا يعدم توهج الشعر، ولا ينفي خصيصة تقديم قراءة جديدة لوقائع وأحداث تاريخية، ولكن ليت تلك القراءة تبقي الشعر محتفظاً بزهوه وجمالياته، وفي حدود مفهومه كشعر، وتكون على قدر من التحرر، لتستحضر ما حجب عن الذاكرة، أو حتى ما يتيح الى استعادة أحداث تاريخية، تلك بداهة ساطعة، تنطلق من كون التاريخ يصنع مرة، ويكتب أكثر من مرة، ولكي تصل هذه التوجهات الى غايتها المنشودة، ينبغي أن تستند شأنها شأن التاريخ على مبدأ كون العقل يهوى الشك، وهكذا سيحقق الشعر ممازجة الفكر بالخيال، والارتقاء بالنص الى جمالية أفضل، وستكون العملية الإبداعية منطلقة من قاعدة لا تتقاطع مع التاريخ، بوصفه علماً يتناول دراسة التجربة الإنسانية على الأرض دراسة شاملة. ستبقى إشكالية العلاقة بين التاريخ والشعر محط نظر واهتمام وجدل من مختلف المعنيين بالثقافة، ولكن الخشية -كل الخشية- من أن تضيع البوصلة على الشاعر، ويبقى هائما في مسارب التنظير والمفاهيم المشحونة بالفلسفة، وقد تلقي به في عتمة ومتاهة، أو تقصيه الى عزلة في أحد الطرفين المتنافريين، أي ما بين أن يكون أسيراً للتاريخ ومكبلاً بأحداثه وبين أن يتجاوز وقائع التاريخ الى درجة التناسي والإقصاء، وأجد من المناسب الإشارة هنا الى رؤية المفكر مدني صالح، عندما تصدى في قراءة جريئة لنتاج احد الشعراء العرب الكبار، متناولاً الآراء والتنظيرات الداعية الى أن يكون الشعر فوق التاريخ، فلم يخفِ مخاوفه المشروعة من أن يترك الشاعر كل المجد الذي استطاع يوماً ما أن يحصده، حين يتجه الى طلب مجد لم يقدر على شيء منه في حقل التاريخ وفلسفة التاريخ، ومن ثم يضيع الطاس في الحمام، ويضيع الخيط والعصفور، ويركبه يقين اليأس كإحدى الراحتين، فلم يعد مطالباً بالسلة بعد اليأس من العنب عنقوداً بعد عنقود.
#أحمد_الناجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بداية تشكيل الأحزاب السياسية في العراق
-
قنديل القديسين الشهيد قاسم عبد الأمير عجام
-
أبرز ركائز المثاقفة.. اختراع الكتابة وظهور الكتاب
-
بواكير أنساق المعرفة.. اختراع الكتابة وظهور الكتاب
-
الأبعاد الاجتماعية في نشأة مدينة الحلة
-
تكوين الطبقة العاملة في الحلة
-
الشيخ عبد الكريم الماشطة.. ريادة التنوير وأنصار السلام
-
9 نيسان 2003.. فاصلة بين الزمن المُرِ والأَمَرِ تعلن نهاية ا
...
-
المصالحة خيار واعد على صدارة المهام الوطنية
-
مؤتلقة شجرة الحزب الوارفة
-
الفيحاء.. باكورة الصحافة الحلّية
-
أضواء على التجربة الدستورية بالعراق الحديث 3-3
-
أضواء على التجربة الدستورية بالعراق الحديث 23
-
أضواء على التجربة الدستورية بالعراق الحديث 13
-
تأملات من الضفاف في ذكرى صدور المدى
-
فوكوياما من نهاية التاريخ الى نهاية الإنسان
-
من أوراق ثورة العشرين.. مقاربات بين احتلالين 2-2
-
من أوراق ثورة العشرين.. في مدار مدينة الحلة 1-2
-
المثقفف أمام الاختيار بين أحضان السلطة أم الهامشية الايجابية
-
فاعلية المثقف العراقي في صياغة الدستور
المزيد.....
-
Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي
...
-
واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با
...
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
-
-هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ
...
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|