|
البلاطة السوداء
طارق قديس
الحوار المتمدن-العدد: 2341 - 2008 / 7 / 13 - 04:26
المحور:
الادب والفن
بكل حماسة ، وقف أمام شقة المدير ، حمل باقة زهورٍ متعددة الألوان ، ورسم ابتسامة عريضة على شفتيه ، وتمنى في قرارة نفسه أن يكون أول من يهنئ المدير على منصبه الجديد من الموظفين.
الغريب أنه ، ورغم أنها المرة الأولى التي يزور فيها المدير في شقته ، أحس بأنه قد زار هذا المكان من قبل ، وذلك فور أن وقعت عيناه على تلك البلاطة السوداء المكسرة في آخر الدرج ، فعندها .. بدأ يبحث في ذاكرته ، بدأ يتساءل ، وبدأ يقول لنفسه : "الشارع ليس غريباً عليَّ ، وكذلك مدخل العمارة ، والبلاط الرخامي المنقوش أمام عتبات كل الشقق الثماني فيها ، والمصعد الكهربائي المعطل ، والأهم من كل ذلك هو هذه البلاطة بحد ذاتها".
إن هذا الشعور أخذ بالازدياد شيئاً فشيئاً عندما فتح له المدير الباب ، واستقبله بالتأهيل والترحيب ، عندما تخطى عتبة الباب ، ودخل برجله اليمنى، وجلس في الصالون، عندما شرع بشرب القهوة ، وأكل صحن التبولة ، وهو يتمعن في زوايا الغرفة بطرف عينه ، والردهة المؤدية إلى غرفة المعيشة ، حتى تيقن مما يشعر به ، وقال لنفسه ثانيةً : " إنها هي ، الشقة نفسها ! ".
إن الحسرة التي اشتعلت في صدره ، وأخذت هي الأخرى بالازدياد ، جعلته يرجع لا شعورياً إلى خمس سنواتٍ مضت ، حينما زار هو وخطيبته - آنذاك - هذه العمارة ، بحثاً عن عش للزوجية ، فأخذتهما الشقة ، باتساع مساحتها ، وتناسق غرفها ، وتعدد خدماتها ، وسعرها المقبول على حدٍّ سواء ، إلا أن شيئاً واحداً قد أفشل خطة شراء الشقة ، وهو تلك البلاطة اللعينة!
الخطيبة اشترطت على صاحب الشقة أن يغير البلاطة أولاً حتى تتم عملية الشراء . صاحب الشقة رفض تغيير البلاطة بحجة أن هذا من اختصاص صاحب العمارة . صاحب العمارة بدوره رفض تغييرها بحجة أن تغيير البلاطة يستدعي تغيير بلاط الدرج بأكمله ، وهو أمر مكلف لا يمكن أن يتحمله وحده.
في النهاية ، لم يتفق الجميع ، وفشل مشروع شراء الشقة ، والأسوأ من ذلك أن مشروع الزواج قد فشل هو الآخر.
حاول قدر المستطاع ، وهو جالس في المقعد ، أن يكتم حسرته عن المدير . حاول جاهداً أن يمحو ما حصل من ذاكرته ، ألا يتذكر سبب عدم شراء الشقة ، ألا يتذكر كيف أنَّبَ خطيبته على عنجهيتها المفرطة ، وتفكيرها القاصر. حاول ألا يتذكر أن سعرها قد تضاعف مرتين منذ ذلك الحين ، وأنه ما عاد بإمكانه – هو الموظف - أن يشتري شقة مثلها أو حتى نصفها في ظل الارتفاع المستمر لأسعار الشقق . حاول ألا يتذكر أنه قد أصبح على أعتاب الأربعين ، وهو لا يزال دون زواج . حاول ألا يتذكر أنه لم يستطع بعد خساراته المتوالية أن يعود حتى بخفي حُنين إلى حياته الطبيعية ، فلا شقة ، ولا زوجة ، ولا أولاد ، ولا مال ، ولا أي شيءٍ آخر يذكر.
وأمام الباب لحظة الخروج ، ألقى نظرة بعيدة إلى داخل الشقة ، ثم ودع المدير ، لم يتركه ينزل معه إلى مدخل العمارة ، ودعه ثانيةً حتى تأكد من إغلاقه للباب وراءه، أما هو فوقف يتأمل المصعد المعطل ، الباب الخشبي الداكن ، المصابيح الكهربائية ، ولم ينسَ تلك البلاطة اللعينة. استمر في التأمل ، في النظر نحو الأعلى ، إلى الدرج المؤدي إلى السطح ، فيما هو يَهِمًّ بالنزول ، والذكريات تتلاطم في رأسه .
استمر في النظر ، ونسي نفسه ، ولم يشعر بجسده إلا وهو يترنح في الهواء، يفقد توازنه ، وقدمه تنزلق في ثانية واحدة إلى الأمام ، ليقسط على ظهره فوق الدرج ، ويستقر في النهاية على مشارف الطابق السفلي ، وقد ارتطم رأسه بزاوية الدرج ، وسال منه القليل من الدم .
لقد شعر بآلامٍ متعددة تتنقل في جسمه كله ، دون أن يفقد الوعي ، وأدرك أن تلك البلاطة اللعينة نفسها كانت وراء سقوطه المدوي ، وأن لعنتها مازالت تلاحقه رغم مرور الأيام ، وقد تمنى لوهلة من الزمن أن تعود به عقارب الساعة إلى ذلك اليوم المشؤوم ، وقبل دخوله إلى العمارة ، ليقول لخطيبته أنه لن يشتري شقةً فيها ، حتى لو فرشوا له البحر ذهباً.
عندها ابتسم ابتسامته الساخرة المعتادة وسط آلامه ، وهو يتذكر خطيبته الجميلة المتكبرة ، ليرحل بعدها إلى عالم النسيان، ويفقد الوعي بما حوله من أشياء ، وذلك حتى اشعارٍ آخر !
#طارق_قديس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
امرأة برائحةِ التُفَّاح
-
امرأة عابرة فوق سريرعابر
-
زوج غير مرغوب فيه
-
حيثيات الاستقالة
-
وداعاً يا حقيبة السامسونايت !
-
أوباما- ماكين - إسرائيل
-
فتح الإسلام .. من نهر البارد إلى العبدة
-
باب الحارة
-
رصاصة في الفم
-
الجريمة والعتاب
-
بيروت خيمتنا الأخيرة
-
الحب في الوقت الضائع
-
لمن تُخبئينَ هذا الجسد؟
-
قطعة السُكَّرْ
-
عالم بلا نساء
-
سارقة الأضواء
-
في بيتنا إرهابي!
-
وخير جليسٍ في الزمان .. !
-
البحث عن بطل
-
لبنان والديمقراطية المغدورة
المزيد.....
-
أسلوب الحكيم.. دراسة في بلاغة القدماء والمحدثين
-
الممثل السعودي إبراهيم الحجاج بمسلسل -يوميات رجل عانس- في رم
...
-
التشدد في ليبيا.. قمع موسيقى الراب والمهرجانات والرقص!
-
التلاعب بالرأي العام - مسرحية ترامبية كلاسيكية
-
بيت المدى يؤبن شيخ المخرجين السينمائيين العراقيين محمد شكري
...
-
مصر.. الحكم بحبس مخرج شهير شهرين
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي بتهم -الاعتداء والسب-
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي شهرين لهذا السبب
-
الكويت توزع جوائز الدولة وتحتفي باختيارها عاصمة للثقافة العر
...
-
حتى المواطنون يفشلون فيها.. اختبارات اللغة الفرنسية تهدد 60
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|