يعكس غموض مفهوم العولمة التباسات الواقع الذي يفترض بهذا المفهوم أن يمثله. كمحاولة لتنظيم التفكير في قضية العولمة، قد يمكننا النظر إليها باعتبارها تضافراً لحركات ثلاث:
1- حركة علمية وتكنولوجية تُمثلها القفزات المتسارعة في ميدان المعلوماتية والبث الفضائي والصحون اللاقطة والشبكة الدولية للاتصالات (إنترنت)، بما يُمكن من تغطية كل إرجاء الأرض مبدئياً بقصف إعلامي مركز وبلا توقف. يقول بعض المعلقين إن هذه القفزات تحمل في ثناياها نهاية الجغرافيا.
2- حركة سياسية وإيديولوجية تمثّلت في انهيار المعسكر الشرقي وزوال الحواجز السياسية والايديولوجية أمام تدفق الإعلام والأفكار والأموال والسلع، ثم في افتقاد إيديولوجيات وحركات الاعتراض على الرأسمالية لقدرٍ كبير من قوتها الاجتماعية والتعبوية (نهاية الحكايات الخلاصية الكبرى حسب جان فرانسوا ليوتار). أخذ الاحتفال بهذه التحولات في الغرب شكل إعلان نهاية التاريخ وفقاً لأطروحة فوكوياما، أي إغلاق باب الاجتهاد السياسي واستيعاب الليبرالية نهائياً لكل الممكنات المقبلة في التطور الفكري والسياسي والاقتصادي للبشرية .
3- حركة اقتصادية ومالية تتظاهر بسهولة تحريك الأموال في معظم بقاع الأرض، وانتقال الصناعات إلى حيث الأيدي العاملة الرخيصة والخبرات العلمية قليلة الكلفة وغياب قوانين حماية البيئة، وما يتبع ذلك من تضعضع القدرة التفاوضية للنقابات العمالية في الغرب وتآكل سيادة الدولة في العالم غير الغربي. تترافق هذه الحركة مع الهجوم على دولة الرفاه وتقويض إجراءاتها التصحيحية (ميزانيات الإنفاق الاجتماعي كتعويض البطالة والضمان الصحي وكفالة المسنين…) واستهداف النظام الضريبي التصاعدي. يُفترض أن تعلن هذه التحولات عن نهاية دولة الرعاية الاجتماعية، بل يتحدث البعض عن نهاية الدولة القومية.
تشكَّل هذه النهايات الثلاثة، نهاية الجغرافيا والتاريخ والدولة الراعية(وربما الدولة القومية)، مضمون مذهب العولمة أو إيديولوجيتها تمييزاً عن العولمة كعملية موضوعية أو كدينامية التقاء مسارات مختلفة، اقتصادية وتقنية وإعلامية وسياسية، تشترك في طاقة اختراقية أكيدة. فإيديولوجيا العولمة، كأية إيديولوجية، تنبني على تحويل ماهو احتمال وارد إلى واقع ثابت، وما هو نزوع وميل إلى سمة كلية للعصر، وماهو واقعة نسبية قلقة إلى حقيقة مطلقة ويقينية، وما هو علاقة موضوعية إلى جوهرٍ وقدرٍ. ستبدو العولمة والحالة هذه النهاية المرغوبة لتاريخ بشري تعب من التقلب، والحل الأمثل لمشكلات التاريخ قبل أن يستسلم مرتاحاً إلى ما بعد التاريخ الفوكويامي. ومع ذلك فإن كشف الطابع الإيديولوجي لمعظم ما يُقال عن العولمة، وهو ما يكاد يقتصر عليه النقاش العربي حولها، لا يكفي لفهمها ولا لحسن التعامل معها .
من ناحية أخرى إذا كانت النهايات الثلاثة ليست واقعاً ثابتاً ومستقراً بعد، فإن هذا لا يُلغي أن التوجه الموضوعي نحوها أكيد ومطرد. بعبارة أخرى قد تكون العولمة نسبية كواقع، لكنها مطلقة كاتجاه. وقد يكون هذا الاتجاه هو قفزة نوعية في حركة توحيد العالم عمقاً بعد أن كانت الإمبريالية قد وحدته أفقاً واتساعاً.
ولا يتعارض هذا الكلام بأي شكلٍ مع الاقرار بأن وحدة العالم العُمْقية العتيدة وحدة تناقضية وغير متكافئة واستقطابية، لكنه يتعارض بالتأكيد مع النظر إلى وقائع التناقض واللاتكافؤ والاستقطاب كأنها حقائق مطلقة وثابتة لا تتحرك. والقصد المبدئي من هذه الإشارة هو إبراز حاجتنا لنظم مفاهيم وأطر نظرية متحركة ومرنة لاستيعاب هذا الواقع الآخذ بالتشكل تحت أنظارنا، والذي تنجح نظرياتنا التقليدية في عدم رؤيته.
عـالم جـد يد مُضـاع
ينبغي أن نميز بخصوص الحركة الأولى أعلاه (الحركة العلمية والتقانية) بين عظمة منجزات العقل البشري وبين خيريّة هذه المنجزات. فمن جهة، الأجهزة الأكثر "ذكاءً" هي الأقدر على إنتاج الغباء. فلا شك أن التلفزيون الذي يورّط حاستين ومعظم الانتباه منتج للسلبية والبلادة أكثر من الراديو الذي يستهلك حاسة واحدة ونِصف الانتباه. وحين يمكن الوصول إلى 100 قناة فضائية، وهذا رقم معتدل جداً، فقد يجب أن نضرب ناتج الغباء الإجمالي بـ 100. وهذا يصح بخاصة على المجتمعات التي لا تملك أية "إجراءات تصحيحية" لضبط هذا التدفق إيجابياً، وذلك في ظل عدم فاعلية وربما استحالة السياسات السلبية المتركزة على المنع والحظر والرقابة.
والمقصود بالإجراءات التصحيحية كل ما ينطوي تحت عنوان استراتيجية ثقافية قومية في حالتنا العربية من نهوض بالتعليم وتنمية الروح النقدية، ووضع فلسفة تربوية تنمي الاعتزاز الصحي بالذات دون انغلاق دون العالم وتنفتح على العالم دون احتقار الذات وتجاهل قيمها الثقافية، مروراً بإنتاج إعلامي متطور ومتعدد الأصوات، والسعي للسيطرة على التكنولوجيا الحديثة والطليعية إنتاجاً وتوظيفاً، وصولاً إلى حرية الرأي والإبداع والتعبير والتنظيم الاجتماعي المستقل.
من ناحية أخرى، قد لا نقول شيئاً مهماً إن تذكرنا أن التقنياتِ تقنيات فحسب، وأن المهم من يسخرها وكيف وخدمة لمن ولأية أهداف؟ فإذا كانت عظمة الإنترنت مثلاً تتمثل في مد أبصارنا إلى كل ارجاء الأرض وضمان معرفة فورية لما يحدث في اليابان أو البرازيل، فإن خيريتها تتعلق بكيفية الاستفادة منها إطلاعاً وتوظيفاً. قد نستخدمها من أجل "الشات" أو للجنس عبر الإنترنت أو للإطلاع على الصحف ومكتشفات العلم أو لنشر المعلومات عن بلادنا وثقافتنا أو للهجوم على مواقع إسرائيلية فيها.
وبخصوص الحركة الثانية (الإيديولوجية السياسية) يفيد أن نشير إلى أن انهيار المعسكر الشرقي لم يقدم شيئاً إيجابياً لإطلاق الطاقة الانتهاكية والتوسعية لبلدوزر العولمة، لكنه أسهم في إزالة الحواجز السياسية والإيديولوجية أمام هذه الطاقة، وهو ما تجسّد رمزياً في إزالة جدار برلين. لا تزال هناك بالطبع بعض الجزر المتباعدة الممانعة للاختراق العولمي، وأهمها الصين (وهي تنفتح لها، وإن بشكل محسوب) ثم إيران وكوبا وكوريا الشمالية.... لكن هذه البلدان لم تعد تقدم نموذجاً مستقبلياً للحياة والاجتماع والسياسة، ولم تعد ممكناً إنسانياً يغني ذخيرة بني البشر من الممكنات، وهي جميعاً في وضع دفاعي متفاوت .
على كل حال، لا بد أن نسلم مهما تكن ميولنا الإيديولوجية أن هزيمة "المعسكر الاشتراكي" كانت ثمرة ضعف خطير وقاتل في هياكله الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية ونظم قيمه وحياته. لابد أن نُقر أيضاً أن تلك الهزيمة قد حررت الدينامية الدولية – وإن يكن ذلك في غير المصلحة العربية حتى الآن- بعد أن كانت الحرب الباردة قد سخرت كل نزاعات الأرض، تحجيماً أم تسعيراً، لمصلحة مواجهة القطبين. وقد نضيف أن مانجم عن انهيار القطب السوفيتي من ضعف عربي وانكشاف عسكري وسياسي لدولنا وأنظمتنا لم يتولّد فقط عن إطلاق يد أمريكا وحليفتها إسرائيل، بل أيضاً – وربما خاصة- عن إصرار أنظمتنا غير المنتخبة "البطولي" على أن لا يكون لنا وزن واعتبار في عالم اليوم.
أما نهاية التاريخ (وسنختتم بها هذا القسم الأول من المقال) التي التقطها فوكوياما من هيغل، فقد نستفيد من هيغل ذاته للرد عليها. فالتاريخ ماكر كما يقول الفيلسوف الألماني. ولا يتجلى مكر التاريخ ودهاؤه اليوم أكثر مما في انقضاض الليبرالية الاقتصادية المتوحشة – وهي ذاتها ملاك ملكوت ختام التاريخ حسب فوكوياما- على المكاسب الاجتماعية والنقابات ودولة الرفاه أو الرعاية الاجتماعية والديمقراطية (فخ العولمة، هانس بيترمارتن وهارالد شومان، ت: عدنان عباس علي، عالم المعرفة الكويتية، العدد 238، 1998). ويضيف تشومسكي إلى المستهدفين بالهجوم الأسواق الحرة فعلاً تمييزاً عن التبشير الإيديولوجي بالسوق الحرة، وممارسة الحماية والحواجز الجمركية العالية واقعياً (قوى وآفاق، نعوم تشومسكي، ت: ياسين الحاج صالح، دار الحصاد، دمشق، 1998). تحمل هذه الدينامية خطر أن تعود المجتمعات الغربية قبل غيرها إلى تاريخ أخرجها منه فوكوياما إلى ما بعد التاريخ، حيث تهددها المشكلات المبتذلة جداً والتاريخية جداً للصراع الاجتماعي والتوازن بين الطبقات وقضايا الفقر والهامشية والبطالة. هكذا يُؤتى الحذِر من مكمنه.
لا يعدو تقرير فوكوياما في رأينا أن يكون إعلاناً نرجسياً وتحكمياً للأبدية لا يتفوق في شيء إعلان كثير من حكام العرب والأفارقة أبدية حكمهم وعبقريتهم الفذّة. لا نتجاهل أن "نافخ الصور" هذا قد راجع نظريته وعاد عنها. فإذا كنا نتناولها مع ذلك بعد قرابة عقد من إبداعه لها فلأنها تتقاطع مع المنطق الضمني للسياسة والثقافة السياسية الأميركية اليوم. قد لا يكون بلا فائدة أخيراً أن نشير، سريعاً، إلى أنه سبق للتاريخ أن "انتهى" مراراً عديدة. فالخصم "الماركسي"، وكل سلطات المطلق وعقائده، لا يعلنون شيئاً مختلفاً. هل التاريخ شيئاً آخر غير مجموعة من النهايات لا تنتهي ؟
27 آذار 2003