|
الدولة الوطنية وتناقض الأمركة مع العولمة
نجيب غلاب
الحوار المتمدن-العدد: 2334 - 2008 / 7 / 6 - 10:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الدولة هي الوحدة الأساسية في المنظومة الدولية، ولا يمكن تجاوزها، والرؤى المتطرفة الفوضوية والعدمية التي طالبت بإلغاء الدولة، عادة ما تنتهي رؤيتها الفلسفية إلى خلق إطارات تنظيمية، لا تختلف عن الدولة بحدودها الدنيا، ومن البديهيات القديمة أن الفرد لا يمكن أن يعيش إلا في مجتمع، وكل جماعة لابد فيها من أمر وطاعة حتى تكون قادرة على تنظيم نفسها وإدارة شئونها. الدولة المعاصرة في الوقت الراهن مازالت قوية وهي الفاعل الرئيسي في المنظومة الدولية على الرغم من تقلص صلاحياتها، والمؤسسات الأخرى المنافسة للدولة اقتصادية او سياسية او اجتماعية، والتي تبدو انها مستقلة عن الدولة، إلا أن نشاطها وفاعليتها مرتبطة بالدولة، فالمؤسسات ذات الأبعاد الدولية مثلا كالأمم المتحدة والشركات المتعددة الجنسية وان كانت مستقلة عن الدولة إلا أن الدولة هي التي تنظم أمورها العامة وتشكل الدولة أداتها لتحقيق أهدافها. فالقوى الاقتصادية الكبرى كالشركات المتعددة الجنسية رغم قدرتها على تجاوز الحدود الجغرافية، وامتلاكها القول الفصل في تحديد بعض السياسات وفرض آليات عمل وقوانين على الدول، إلا ان الدولة هي المنظم وهي الحاضن الفعلي والخالق للبيئة الملائمة لعمل تلك الشركات. وهنا فإن المتغير هو وظيفة الدولة وطبيعتها لا وجودها كقيمة مجردة فهي ثابتة لا يمكن تجاوزها ولكن يمكن تغيير طبيعتها ووظيفتها وطريقة عملها. فالتطورات الاقتصادية الراهنة مع اكتساح ظاهرة العولمة مثلا قد أضعفت سيادة الدولة بالمفهوم الذي تحدث عنه بودان وبتطوراته في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بحيث اصبحت بعض القرارات والاستراتيجيات التي تحرك الدولة تصنع خارج الدولة ولكن تظل الدولة هي الفاعل الأساسي في صناعة الحدث. وقد استطاعت الدولة بما في ذلك الدول الصناعية ان تتأقلم مع التغيرات العولمية وبدأت التنظيرات السياسية تعيد بناء مفهوم الدولة وكل القيم المرتطبة به كالسيادة الذي اصبح أكثر مرونة ومرتبطاً بالتفسيرات القادرة على تحقيق مصالح الدولة وبما يتوافق مع منظومة القيم الانسانية المتفق عليها في المواثيق الدولية. وضعف السيادة في ظل التحولات العالمية لا يؤثر على قوة الدولة بل يرسخ وجودها فهي الأداة المستقبلة للعولمة وما تغير هو مفهوم السيادة الذي أصبح مجالاً مفتوحاً للخارج بعد ان كان صناعة محلية. وهذه التحولات في المرحلة الراهنة خادمة للدول القوية فالمنظومة الغربية ترى ان قوة الدولة والمجتمع الغربي مرهون بالاستجابة للعولمة لأنها قادرة على تحقيق اهداف المجتمعات الغربية. وهذا جعل البعض يرى ان القوى المهمشة خصوصا في العالم الثالث أصبحت رهينة للقوى الاقتصادية الكبرى والتي هي مرتهنة لمصالح النخبة الغربية المهيمنة على الاقتصاد بحيث حولت الدولة إلى أداة طيعة لتحقيق مصالح الطبقات الرأسمالية إلا ان هذه التحليلات في ظل التعقيدات التي تعيشها هذه الدول وطبيعة الاقتصاد المعولم وطبيعة الدولة والتنافس والصراع الدولي يجعل محاولة فهم ما يجري بحاجة إلى تحليلات أكثر عمقا لفهم الواقع. واذا كانت العولمة في مراحلها الأولية قد فرضت هيمنة المؤسسات الاقتصادية الكبرى وجعلت الفعل الدولي وسلوك الدول يهيمن عليه كليا المحدد الاقتصادي، إلا أنه يمكن القول إن ذلك قد أجبر الدول الكبرى على العمل وفق آليات واضحة متفق عليها وهذا حدّ من الصراع وساعد على انتشار خيرات الرأسمالية على مستوى عالمي. الإشكالية الكبرى التي تواجه هذه التحولات العالمية أن العلاقات الدولية الراهنة قد حولت الدولة إلى مؤسسة يتركز نشاطها حول الاقتصاد كقيمة أولية ومحدد لسلوك الدولة الخارجي. فالتركيز على فتح الاسواق وتحرير التجارة جعل من الديمقراطية وحقوق الانسان ضروريات من أجل تحقيق الأمن والاستقرار وتنظيم الصراع السياسي داخل الدول بحيث تكون قادرة على التماهي مع سياسات العولمة الاقتصادية. وهذا حول القيم الإنسانية كالحرية إلى أدوات في الصراع من اجل الهيمنة، وكل ذلك افقد الانسان معناه وجعل منه كياناً اقتصادياً. كما ان التركيز على الاقتصاد جعل الكثير يمحور وظيفة الدولة في تنظيم الاقتصاد وكل نشاط آخر يخدم هذا الدور هو في حكم الواجب حتى وان تناقض مع القيم الانسانية، وهذا جعل من الدولة ملحقة بالفعل الاقتصادي وحولها إلى أداة لخدمة مصالح الكبار في الداخل والخارج. وما عمق من الإشكالية هو سلوك الولايات المتحدة الأمريكية فهي اللاعب الأكبر في المنظومة وتسعى في سلوكها من أجل فرض هيمنة سياسية واقتصادية على العالم، وهذا النزوع ناتج عن القوة التي تتمتع بها مقارنة بالدول الأخرى، وهذا جعل الكثير يرى أن الولايات المتحدة مازالت تفكر بعقلية الدولة التقليدية التي ترى أن مصالحها لن تتحقق إلا بفرض هيمنتها على العالم وأمركته لا عولمته وبما يخدم مصالحها دون مراعاة لمصالح الآخرين. إلى ذلك هناك إشكالية أخرى وهي أن الدولة الوطنية في العالم الثالث فقدت في خضم هذه التحولات استقلالها ومصالحها الحيوية لصالح القوى الاقتصادية المهيمنة، وأصبحت الدول تقيّم على مدى توافقها مع المعايير التي تجعل منها دولة قادرة على الانسجام مع سياسات العولمة الاقتصادية وملحقاتها السياسية والثقافية أي مع مصالح الكبار خصوصاً الولايات المتحدة، والتي مازالت تتحرك في سلوكها الخارجي والداخلي بعقلية الدولة التقليدية وهي لا تفقه سوى مصالحها ولا تتفهم مصالح العالم المادية والمعنوية وهذا ما جعل القرار الداخلي لبعض دول العالم الثالث في اغلب الأحيان يتناقض مع مصالحها الحيوية ويتوافق مع مصالح القوى الاقتصادية المهيمنة. ويمكن القول انه رغم وجود إفرازات سلبية في بداية التحولات إلا ان ربط المصالح العالمية بروابط قوية سيجعل من توافق دول العالم مسألة حتمية لحماية مصالحها التي لا يمكن تحقيقها إلا عبر العمل العالمي، كما ان ترابط المصالح سيفقد نزعة الهيمنة قدرتها على فرض رؤيتها والتطورات اللاحقة للعولمة سيجعل الدول التقليدية تتبنى استراتيجيات لحماية مصالحها من خلال تفهم وحماية مصالح الجميع. والواقع والتطورات كفيل بخلق الآليات النظرية والعملية الكفيلة بتجاوز الاستغلال الذي قد تفرزه المرحلة الانتقالية الراهنة، فالعدالة المفقودة حاليا يمكن تجاوزها كما تجاوزت المنظومة الرأسمالية مشاكلها بعد الحرب العالمية بتحقيق دولة الرفاه. والتحولات الايجابية لصالح المجموع العالمي سيحول العالم مستقبلا إلى منظومة واحدة تهيمن عليه سياسات اقتصادية وسياسية وثقافية واحدة مع قبول للتعدد الذي سيتوسع بشكل مذهل حتى داخل الدولة الواحدة ولكن في ظل قيم إنسانية مشتركة ومتفق عليها. مع ملاحظة أن الحروب والنزاعات الراهنة والقادمة بحسب بعض الباحثين هي نتيجة طبيعية لمقاومة الانتقال وهي نتاج للعقلية التقليدية للدولة الوطنية القومية ونتاج للثقافات القديمة العاجزة عن تجديد نفسها لصالح القيم الإنسانية. فدول العالم الثالث مازالت تعاني من مفهوم الدولة الوطنية التقليدي مثلها مثل الولايات المتحدة بينما تقاوم الدول العالم ثالثية الهيمنة وتتخوف من اختراق سيادتها، فإن الولايات المتحدة التي ترى ان مصالحها الحيوية تتركز في العالم وتسعى من خلال قوتها لفرض مصالحها بطريقة تهدد الأمن والسلم العالميين. وصراعاتها الراهنة مع قوى في العالم الأول والعالم الثالث هو نتيجة عجزها عن بناء رؤية فكرية جديدة متوائمة مع التحولات العالمية. ويمكن القول إن اوروبا باتحادها وسياساتها العالمية اقرب إلى الأفكار المتجددة الباحثة عن رؤية عالمية تحقق الرفاه وتحترم مصالح الجميع المادية والمعنوية. والخلاصة التي يحكيها الواقع الراهن أن المصالح الوطنية لكل دولة لم تعد مرتبطة بالدولة الوطنية بل مرتبط بالعالم كله، فمصالح الدول الحيوية هي العالم كله، بما يعني ان الترابط الذي فرضته العولمة جعل الدول لتحقيق مصالحها الحيوية مجبرة على العمل من خلال رؤية متوافق عليها على المستوى العالمي، وعلى صنع سياساتها الداخلية بما يتوافق مع مصالح الدول الأخرى، وهذا ما يجعل الولايات المتحدة والعالم الثالث في وضع متناقض مع واقع التحولات. ويؤكد الباحثون أن الدولة الوطنية القادمة هويتها انسانية عالمية ولا مكان للدولة القومية المتطرفة والهويات الرافضة للآخر، وأن ذلك سيجعل الفرد أكثر استقلالاً رغم اندماجه في المجتمع العالمي، مع ملاحظة ان هويته الإنسانية لن تتناقض مع هويته الخاصة بل ان القيم الإنسانية هي من تؤسس للتمايزات الفردية، وينطبق ذلك على المجتمعات والدول. ومن الواضح ان نزوع الدول القومي والمقاومة التي تبديها بعض المجتمعات للتحولات ستكون هي بؤر الصراع القادم، وفي تصوري ان العالم الاسلامي سيكون نصيبه كبيراً وهذا ما يجعل أهل الفكر في هذه المنطقة يتحملون المسئولية في ابداع صياغات فكرية قادرة على التواؤم مع العالم فالانغلاق ومقاومة الانخراط في العالم وتبني سياسات لمواجهته بما يناقض حاجاته وحاجاتنا لا يجلب لنا إلا الدمار والتخلف وربما العزل.
#نجيب_غلاب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حُمى الجنس
-
الدين والسياسية .. المشكلة .. الحل
-
الاسلام السياسي وتناقضات الفكر والسلوك مع ديمقراطية
-
انثى من جنون
-
الاصوليه وخطرها على السلم الاجتماعي
-
ثقافة جديدة من أجل مجتمع حُر: الوعي التقليدي في مواجهة العصر
-
إشكالية السياسة في الايديولوجيات الأصولية
-
إشكاليات التحول الديمقراطي في اليمن
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|