|
الآثارالعربية ... ومحاولة هدم الأهرامات !
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 2329 - 2008 / 7 / 1 - 10:19
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لماذا تحترم بعضُ الأمم آثارها وتراثها القديم ، بينما تنتقم أممٌ أخرى من آثارها التاريخية، ويكون الانتقام في صورٍ شتى، بالسرقة والإتلاف والتدمير والبيع ، فيزدهر بيع الآثار في سوق العالم السوداء ، وتُنهبَ في فترات الأزمات لتباع أيضا بأسعارٍ زهيدة ؟ ولماذا تقتني بلادٌ أخرى آثار غيرها ، وتشتريها بأغلى الأثمان ،وتخزنها في متاحفها؟ سؤالان ، تُحدد الإجابة عنهما مستوى الشعوب الثقافية والفكرية ، فالدول التي تُحافظ على تراثها القديم ، وتصون آثارها التاريخية دولٌ حظيتْ بمستوى ثقافي رفيع ،لأنها أدركتْ بأن التقدم والرقي ناتجٌ من نواتج التراكم المعرفي والثقافي ، وما الآثار سوى إشارات وخطوات نحو التقدم المعرفي. أما الدول التي لا تُحافظ على تراثها ، فهي دول تعيشُ اللحظة الراهنة فقط ، هي دول الفرصة السانحة التي تسير وفق نظرية " فليأتِ بعدي الطوفان" وهذا النمط من الدول لا تسود فيه القوانين والأعراف. فهي دول الفرصة السانحة، دولٌ تحكمها طُغمةٌ جاهلة ،همها الوحيد جني الربح الشخصي ، وتكديس الثروات في خزائنها ، حتى ولو كانت الثروات ناتجة عن بيعِ تاريخ الأوطان ، بآثارها وتاريخها وفنونها . وما يزال الأمس القريب شاهدا على سرقة آثار العراق الجريح ، حين نُهبتْ الآثار وبيعت الكنوز المخزونة في المتاحف بأبخس الأثمان . وها هو رئيس تحرير أخبار الأدب الروائي جمال الغيطاني يدق ناقوس الخطر في آخر أعداد صحيفة أخبار الأدب 28/6/2008م في زاويته نقطة عبور حيث يشير إلى (محنة الآثار الإسلامية) التي تتعرض للسرقة بطرقٍ شتى ، وهو يقول : أصبحت الآثار مستباحة وهدفا للعصابات المنظمة . وما أزال أذكر كيف عمد أحد المسؤولين في وطني إلى تسوية منطقة أثرية رومانية واسعة بالجرافات ليبني فوقها قصرا ومتنزها له ولعائلته ولأفراد حاشيته ، خارقا القانون الذي يحفظ هذه المنطقة بالقوة . ولا يعرف هذا المسؤول مقدار الجريمة التي ارتكبها في حق الوطن ، إذ أن الأثار المدمرة في هذه المنطقة الأثرية لا تشير إلى أي أثرٍ عبري ، بل هي آثار رومانية ،واظب الإسرائيليون على التنقيب فيها وزيارتها وحين فشلوا في العثور على أي أثر عبري ، تركوها لنا لنكمل هدمها وتدميرها، كي لا تؤشِّر على العصر الروماني ، وقد فعلنا . ومن خلال جولاتي في كثير من دولنا العربية، وجدتُ بأن الأمر لا يختلف في معظمها، إذ أن كثيرا من المسؤولين العرب ، ممن يجهلون أهمية التاريخ والتراث ، يعمدون إلى جريمة في حق الوطن حين يُقررون طمس تاريخ الوطن كله، وإبقاء تراثهم وأسمائهم فقط ، فلا أحد يعلو على صورة الزعيم الأوحد والقائد المغوار باني الوطن ، لا بجهودهم وأفعالهم طبعا ، بل بتدمير آثار الغابرين ! إنها القصة القديمة الحديثة التي عرضها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة حين قال: "إن السبب في أن العرب إذا تغلبوا على الأوطان أسرع إليها الفساد ،فهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقا وجِبِلَّة ، وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن رتبة الحكم وعدم الانقياد للسياسة ، وهذه منافيه للعمران ، والغاية عندهم الرحلة والتغلب ، وهو مناقض للسكون الذي به العمران ، فالحجر للأثافي ، ينقلونه من المباني ويخربونها عليه ، والخشب إنما حاجتهم إليه ليعمدوا به خيامهم ، ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم ، فيخربون السُقُف عليه .فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران " المقدمة ص 178-179 " وإكمالا لاستنتاجات ابن خلدون، فإن كاتبا آخر يقرر حدثا تاريخيا فريدا في عهد البطل التاريخي صلاح الدين الأيوبي ، وهي من أبشع محاولات هدم الآثار: " هدم قاراقوش وكان وزيرا لصلاح الدين عددا من الأهرام الصغيرة، وبنى بحجارتها قلعة القاهرة وأسوار عكا والقناطر الخيرية وقام الملك العزيز عثمان بن يوسف، وهو خليفة صلاح الدين بمحاولة لهدم الأهرام كلها عام 1193م فبدأ بالهرم الصغير ، فأوفد إليه النقابين والحجارين، وجماعة من عظماء دولته وأمراء مملكته، وأمرهم بهدمه ووكلهم بخرابه، فخيموا عندها ، وحشروا عليها الرجال ووفروا عليهم النفقات، وأقاموا نحو ثمانية أشهر بخيلهم يهدمون كل يوم بعد بذل الجهد، واستفراغ الوسع الحجر والحجرين. فقوم من فوق يدفعونه بالأسافين والأمخال ، وقوم من أسفل يجذبونه بالقلوص والأشطان، فإذا سقط سمع له وجبة عظيمة من مسافة بعيدة، حتى ترتجف الجبال، وتزلزل الأرض، ويغوص في الرمل، فيتعبون تعبا آخر حتى يخرجونه، ثم يضربون فيه الأسافين، فيقطع، فتسحب كل قطعة على العجل حتى تلقى في ذيل الجبل إلى مسافة قريبة . فلما طال ثواؤهم، ونفدت نفقاتهم ، وتضاعف نصبهم ، ووهت عزايمهم ، وخارت قواهم، كفوا محسورين مذمومين، لم ينالوا بغية، ولا بلغوا غاية، بل كانت غايتهم أن شوهوا الهرم سنة 593 هـ، ولو بُذل لهم ألف دينار ليردوا حجرا لعجزوا عن ذلك . من كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة بأرض مصر لعبد اللطيف البغدادي تحقيق احمد غسان سبانو دار قتيبة دمشق ،وقد أهدى الكاتبُ كتابه هذا للخليفة العباسي الناصر لدين الله لإطلاعه على أحوال مصر ، وهو الخليفة 34 في زمن صلاح الدين ص 144. يصور هذا النص أيضا مقدار الألم الذي يعتصر قلب الكاتب عبد اللطيف البغدادي ، وهو يستقصي الجريمة السابقة . وقد استفاد الغُزاة من جهل العرب بقيمة بتراثهم ، فكانوا عندما يدخلون بلدا يُفرغونه من كنوزه الأثرية، وينهبون الكتب والمجلدات ويحفظونها في متاحفهم وآثارهم كدلائل تشير إلى سلسلة التاريخ الطويلة التي يحتاجها أبناؤهم في دراستهم لحلقات التاريخ ،بعد أن اقتدوا هم بالخليفة العربي المأمون الذي كان يشترط على المهزومين أولا أن يسلموا المخطوطات التي لم تترجم إلى العربية لذلك فليس غريبا أن يصطحب القائد العسكريُ باحثين وعلماء ليجمعوا الآثار من البلاد المفتوحة فقد استعان نابليون بعدد كبير من العلماء في حملته على مصر وقد بلغ عدد العلماء والباحثين المرافقين للحملة أكثر من خمسمائة، وكانت الثمرة هي المؤلف الكبير (وصف مصر) . واكتشف العالم تشامبليون حجر رشيد عام 1822 ، على الرغم من أن تشامبليون كان مسبوقا بعالم عربي اسمه أحمد بن وحشية الذي كتب كتابا اسمه شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام ، الذي نشره المستشرق النمسوي جورج هامر 1806 ، وفيه يكتشف رموز حجر رشيد قبل تشامبليون بأكثر من ألف عام ، وقد أظهر تلك الحقيقة الباحث عكاشة الدالي المصري ، ود. يحيى مير علم . ليس غريبا حتى اليوم أن نرى أن كثيرا من آثارنا وكتبنا ما تزال ضمن مقتنيات المتاحف في الدول الأخرى ، فإذا أراد الباحثُ أن يجد المخطوطات النادرة ، فعليه أن يسافر إلى بريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول ، ليجد المخطوطات العربية النادرة . ولم يستفد العرب من ظاهرة الاستشراق ، التي قام بها عددٌ من علماء الدول الأخرى لغرض كشف أسرار عالمنا العربي ، ولم يتمكن كثيرٌ من العلماء والدارسين العرب من ربط التطور في الدول المتقدمة باطِّلاعهم على حضارتنا وتراثنا ، وبقيت العلاقة بين المذهب الرومانسي في الأدب الغربي ، وبين ترجمة قصة ألف ليلة وليلة غير واضحة ، ولم يتمكن كثيرون من كشف أثر الخيال العربي على الفكر العالمي بعد أن ترجم غالاند ألف ليلة وليلة ، حتى أنني ما أزال أرى أن ظاهرة (هاري بوتر) للكاتبة ج. ك. رولينغ وهي أشهر القصص في عالم اليوم والتي بلغ عدد المطبوع من هذه القصة الخيالية أكثر من مليار نسخة وهي مترجمة إلى أكثر من ستين لغة ، تعود بجذورها إلى التأثُّر بألف ليلة وليلة ، التي حاولت الدكتورة سهير القلماوي في رسالة الدكتوراة أن تضع لنا الخطوط الأولى لنكشف تلك التأثيرات . غير أن العرب أبقوا على تقليدهم العريق ، وهو تحويل التراث والآثار إلى أناشيد وأشعار وأغانٍ وعباءات تصلح للمناسبات والأعياد ، ولم نتمكن من البناء على قواعد آثارنا وتراثنا مجموعة من الأبنية الحديثة ، تكون هي ركائز النهوض والتقدم والرقي . كما أننا ما نزال مقصرين في حق تراثنا ، فلم تقم المؤسسات العربية بوضع برامج عملية تنفيذية لاستعادة آثارنا المنهوبة في العالم ، ولم تُسخِّر الدول العربية الميزانيات الملائمة لحفظ الآثار، وظلتْ آثارنا العربية عالات على برامج اليونسكو، واكتفينا فقط ببناء المتاحف ، وكأنها هي الغاية ! ولم نستفد من تجربة إسرائيل التي وظّفت التاريخ والتراث لتخدم أغراضها ومبادئها ، فكان جنرالات الجيش هم الباحثين والمنقبين وعلماء الآثار ، وأبرزهم الجنرال يغئال يادين ، وموشي دايان اللذين أدخلا علم الآثار في الأمن القومي الإسرائيلي .
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كتب مدرسية ( مُقرَّرة) في الجامعات !
-
عوالق شبكة الإنترنت !
-
من يوميات صحفي في غزة !
-
الإعلام وصناعة الأزمات !
-
محمود درويش يبحث عن ظله في الذكرى الستين للنكبة !
-
مجامع اللغة العربية ليست أحزابا سياسية !
-
لا تَبكِ.. وأنتَ في غزة !
-
كارتر وهيلاري كلينتون وأوباما !
-
الزمن في قصيدة محمود درويش (قافية من أجل المعلقات)
-
أوقفوا هذا العبث في غزة !
-
سؤال ديوان : لماذا تركت الحصان وحيدا لمحمود درويش ، حقلٌ من
...
-
جمعية المختصرين !
-
مأزق التعليم الجامعي في العالم العربي !
-
هل المدرسون مُتطفلون على الوظائف الحكومية ؟
-
موتوسيكلات .. لأوتو سترادات غزة !
-
غفوة ... مع قصيدة مريم العسراء للشاعر أحمد دحبور
-
في وصف إسرائيل !
-
لقطات حديثة من العنصرية الإسرائيلية
-
هل أصبح الرعب هو التجارة الإعلامية الرابحة؟1
-
مرة أخرى .. إحراق مكتبة جمعية الشبان المسيحيين في غزة !
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|