|
-الضنا- الغالي
إكرام يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 2329 - 2008 / 7 / 1 - 10:47
المحور:
كتابات ساخرة
يوم آخر كبقية الأيام.. طويل، شاق.. يبدأ في السادسة صباحا بتجهيز الطفلين للذهاب إلى الحضانة والمدرسة.. ثم سباق مع الزمن للانتقال بالمواصلات العامة ـ من الجيزة إلى حدائق القبة ـ للقيام بواجب متابعة رعاية والد مريض.. ومنها إلى عمل حكومي في وسط البلد، يجب أن أصل إليه في التاسعة صباحا.. وبعد ساعات العمل الست، أعود لاصطحاب الطفلين عقب الغذاء إلى النادي لحضور تدريباتهما.. ثم العودة لمتابعة الواجبات المدرسية، وتأدية بعض أعمال المنزل.. في العاشرة مساء، يعد خلودهما للنوم، يبدأ يومي الحقيقي.. فأتفرغ للقراءة والترجمة حتى الثانية صباحا.. وهكذا... جاولت إقناع الصغير ذي الثلاثة أعوام أن يستسلم للنوم، قال في عناد "عاوز لبن".. قلت له "انت اتعشيت خلاص واللبن خلص. الصبح نجيب لبن"..رد:"مش اللبن أبيض والدقيق أبيض؟ ممكن نحط مية على الدقيق، ونسخنه يبقى لبن"!.. أفهمته أن اللبن لا ينتج بهذه الطريقة، وشرحت له في صبر ـ كأي أم مثقفة ـ عن أي طريق يأتي اللبن.. بعد قليل كان قد استنفد كل الحجج التي تبقيه متيقظا، انصاع لقرار الذهاب للفراش.. ما أن مر نصف ساعة من انهماكي في العمل بحجرة مكتبي الواقعة في نهاية الشقة، حتى شممت رائحة دخان! .. هرعت إلى غرفة نومي لأجد الصغير جالسا في المسافة بين الحائط والسرير، أمامه كومة من ورق الجرائد المشتعلة فوقها إناء به دقيق مذاب في ماء!. قال لي أنه اضطر لهذا التصرف لأني حذرته في الصباح من إشعال النار بجوار البوتاجاز!..
سيزيف..
أن تتولى أم بمفردها تنشئة طفلين في هذا الزمن، أشبه بالعقوبة التي فرضتها الآلهة على سيزيف (يصعد الجبل حاملا حجرا ثقيلا، وما أن يقترب من حافة الجبل حتى يتدحرج الحجر إلى السفح فيضطر لمعاودة المحاولة إلى الأبد).. يستأذن الكبير ذو الثماني سنوات للعب مع أصدقائه.. أذكره بواجباته المدرسية التي لم تنجز.. يتوسل: "عشر دقايق بس، وحاطلع على طول".. وتمتد الدقائق العشر إلى نصف ساعة .. وعندما يعود للمنزل بعد فشل آخر محاولاته لتميد المهلة، يتعلل بالتعب لعدم إنجاز واجبه،ثم ينفجر باكيا "مش انتي اللي سبتيني ألعب لغاية ما تعبت وكبس عليا النوم؟"!.. يوم العطلة الأسبوعية.. وأنا في أمس الحاجة لنيل قسط من الراحة، أخيرهما ـ كما تقول كتب التربية الحديثة ـ بين الذهاب للملاهي أو القرية الفرعونية.. يختار الكبير الأخيرة ويوافق الصغير.. يعد انتهاء اليوم أعود منهكة للاستعداد ليوم شاق آخر، يقاجئني الكبير ببكاء يغيظ "كان نفسي أروح الملاهي"! تمر سنوات الطفولة ويبدأ "صداع" المراهقة (واهم من يعتقد أنه يستطيع كشف جميع "ألاعيب" الأبناء المراهقين، للتحايل على أوامر الأهل ونواهيهم!).. تأتي فاتورة التليفون باهظة بسبب المبالغة في الدردشة لفترات طوال بلا داع.. أكظم الغيظ، لتطبيق ما تنصح به كتب التربية الحديثة من ضرورة اطلاع الأبناء على وضع الأسرة المادي، وإشراكهم في تحمل مسئولية ترشيد الإنفاق.. أمنحهما فرصة أخرى، تشجعني تعبيرات الآسف البادية على ملامح الصبيين، وتعهداتهما بمراعاة ذلك في المستقبل.. لأفاجأ بزيادة أكثر من الضعف في الفاتورة التالية ، وأكتشف أن الصبيين ـ بل وأصدقائهما ـ يستخدمان تليفوني طوال الوقت للاتصال برقم المسابقات (0900).. هنا يأتي وقت الحرمان ـ كما تقول كتب التربية الحديثة ـ أغلق "جهاز التليفون"، لأفاجأ بارتفاع جديد في الفاتورة، أعرف بعد تحقيق أن "العفريتين" قاما بتوصيل فرع جديد لخط التليفون عبر واجهة المنزل إلى حجرتهما وفي غيابي، يتواطأ أصدقاؤهما ـ من ابناء الجيران ـ بإعارتهما "جهازا" آخر!.. أحاول إجبارهما على الالتفات لدروسها في غيابي بأن أغلق باب حجرتي على التليفزيون والفيديو. لأفاجأ بعد قليل أن لدى كل منهما نسخة من مفتاح حجرتي.!. في الستينيات من القرن الماضي، كان أبي يشجعني طوال العطلة الدراسية على القراءة الحرة في مختلف الميادين، ومتابعة الأحداث الثقافية، وزيادة حصيلتي من مفردات اللغات الأجنبية.. أما أثناء الدراسة فلم يكن يتدخل كثيرا معتمدا على متابعة المدرسين في المدرسة.. قررت أن أسير على خطاه، إلى أن اكتشفت خطأي بعد فوات الأوان.. فالزمن لم يعد هو الزمن، والمدرسة لم تعد هي المدرسة.. لم يعد المدرس يجهد نفسه في الشرح، وإعادته لمن لم يفهم، و "يفتش" على الواجبات المنزلية، ويعاقب المهمل في إنجازها.. النتيجة بالطبع أن أصبح عندي صبيان يهتمان بالقضايا العامة ويتابعان الأحداث الثقافية، ولا يعنيهما من أمر المدرسة شيئا.. بل أن الكبير كان حريصا ـ لإفحامي ـ على أن يضع فوق مكتبي كل حين ما يقرأه من مقالات تنتقد سوء النظام التعليمي، واضعا خطوطا تحت ما يعتبره سببا مقنعا لعدم جدوى الاهتمام بالدراسة الرسمية!.. لا مفر ـ إذا ـ من الاستسلام، والبحث عن عمل إضافي لمواجهة نفقات الدروس الخصوصية، حتى ينال الولدان شرف الالتحاق بالجامعة..قال صديق "تربية الأولاد تحتاج دخل كبير جدا.. ووقت كاف يقضيه الأهل من لأولاد لتربيتهم" وهي معادلة أصبحت مستحيلة، فالحصول على دخل كبير يتطلب الالتحاق بأكثر من عمل لتوفير حياة كريمة للأبناء، وهو ما لا يتبقى معه وقت للرعاية والتربية.. عليك أن تختار!.. مع استعار نيران الغلاء،إما أن تطعم الأبناء أو أن تربيهم!.. العمل في أكثر من وظيفة، يعني أن تخف المراقبة على المراهقين.. ويصبح من المستحيل متابعة علاقات الولدين وأصدقائهم.. إلى أين يذهبان خارج البيت؟ ومن يستقبلان داخله في ساعات النهار الطويلة؟.. الحافظ هو الله!.. يلتحق الكبير بكلية الحقوق التي كان يحلم بها منذ طفولته، وتعلق بها أكثر عندما عرف أن الالتحاق بها لا يتطلب الحصول على مجموع كبير!..
نقابة المناضلين
مع الانخراط في الحياة الجامعية، تظهر ثمار القراءة والثقافة والاهتمام بالقضايا العامة، فينشغل ”المحروس" بالهم العام الذي أدفع ـ أنا ـ ثمنا له، بالإضافة إلى الهم اليومي المتمثل في توقع مداهمة للبيت بين حين وآخر، زيادة في المصروفات لمبررات لانهاية لها (الاشتراك في جمعية علمية، الانضمام إلى مجموعات بحثية، شراء المراجع الضرورية...) والتي عرفت مؤخرا أنها لم تكن سوى حجج لتمويل المعارض والندوات وإصدار المجلات الثورية المعارضة.. والأدهى من ذلك، أن المحروس بدأ يشعر بذاته كمناضل لا يشق له غبار، وينظر إلي وإلى أبناء جيلي باعتبارنا بقايا حركة طلابية فاشلة، وتحتدم النقاشات بيننا، فلا أجد ردا على تطاوله إلا السخرية من كونه اعتبر نفسه بطلا حاصلا على "كارنيه نقابة المناضلين" وإمعانا في إغاظته، أؤكد له أن جيله يظهر تخلفا عندما يكرر شعارات كنا نرددها قبل 25 عاما.. وأن هذه الشعارات كان ثمنها غاليا في ذلك الوقت، لكنها الآن ليست دليل شجاعة بأي حال من الأحوال!.. لكنني كنت أخفي في قلبي إحساسي بالفخر حتى لا يصاب بالغرور.. الانتفاضة الفلسطينية..استشهاد محمد الدرة.. احتلال العراق.. وأبناؤنا ـ طلاب الجامعات ـ يؤكدون مع كل حدث أن قلب الوطن مازال ينبض.. وقلبي يتجاذبه إحساس بالفخر تارة، وبالهلع على "الضنا" تارة أخرى.. ثم يأتي موسم الامتحانات، ليتجاذب القلب شعور بالغيظ من الاستهتار وتأجيل المذاكرة حتى الليالي السابقة على الامتحان تارة، وتارة أخرى شعور بالهلع خشية ضياع السنة الدراسية وضياع " شقا" العام معها، و "دم القلب" الذي دفعته طوالها.. (في رأيي الخاص، أن أكبر دليل على سوء نظامنا التعليمي أن الولدين حصلا على شهادتين جامعيتين لم يبذلا في الحصول عليهما جهدا يساوي ما كنا نبذله للحصول على الابتدائية).. في زماننا كان الأهل يترقبون حصول أولادهم على الشهادة الجامعية لتنتهي بذلك مسئوليتهم المادية نحو الأولاد، الذين أصبح الطريق ممهدا أمامهم لإعالة أنفسهم، بل وفي معظم الأحيان، مساعدة الأهل أيضا.. أما الآن فسوق العمل الضيقة، وانعدام قدرة الشباب على الحصول على شقة وتأثيثها وتكوين أسرة بجهودهم الذاتية، يعني أن يستمر العبء يقصم ظهر الأهل إلى أجل غير مسمى... أتذكر قول عمتي ـ رحمها الله ـ معلقة على شقاوة أطفال العائلة: "يارب اللي عايزة خلف إديها عشرة زيهم".
#إكرام_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غزة قبل عشر سنوات
-
مثلما النسمة من بردى!
-
رحلة لأسوان
-
شريفة!
-
توأمي الضاحك
-
فعلتها طهران!
-
الوطن ليس أغنية !
-
الوطن ليس أغنية!
-
عبارات سيئة السمعة
-
لم نكن مخطئين.. والتاريخ يشهد
-
الديون.. وكوابيس التاريخ
-
المصريون.. وأيديهم الناعمة
-
عندما تفضل واشنطن الاقتصاد الموجه
-
ثروتنا البشرية.. إلى أين؟
-
إسكان الشباب وبيع العقارات للأجانب.. والأمن القومي
-
موسم الهجوم على أوبك
-
التحرير الاقتصادي الحقيقي الذي ننشده
-
دروس الغزو الصيني للاقتصاد المصري
-
العروبة بين الأغنيات والمصالح المادية
-
خطر يهدد البشرية ونحن نيام
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|