• حاوره: عدنان حسين أحمد أمستردام
• د.نصر حامد أبو زيد لـ ( الزمان )
- أنجزتُ صيغتي الخاصة بالتعايش مع إمكانيات تحليل النص العربي، وتجاوز الطريقة التقليدية.
ما إن يتردد اسم المفكر نصر حامد أبو زيد حتى تقفز إلى الأذهان قضية تكفيره التي انطلقتْ شرارتها يوم 9-5-1992 حينما تقدم بطلب الترقية من أستاذ مساعد إلى درجة أستاذ اعتماداً على كتابيه المُهِّمين ( الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية ) و ( نقد الخطاب الديني ) فضلاً عن عدد من البحوث التي نالت استحسان الجميع باستثناء د عبد الصبور شاهين. لم يكن د. نصر حامد أبو زيد أول مفكر إسلامي يُتهم بالكُفر والارتداد أو المّس بقداسة الدين الإسلامي، فقد سبقتهُ التهمة إلى ابن رشد والحلاج وطه حسين وعلي عبد الرازق ومصطفى محمود وفرج فودة والقمني وآمنة نصير وعشرات المفكرين الذين يصّرون على إعمال العقل وتأويل الفكر الديني بما يتناسب وروح العصر . وأبو زيد يفّرق بين ( الدين ) و (الفكر الديني )، ولا يعيد إنتاج ما سبق إنتاجه. وهو يحّرض على الحوار العقلي، ويدافع بشدة عن اجتهاداته العلمية التي تقّوض البنى الثقافية الهشة للعقول السلفية الخاملة التي ترى في الاجتهاد كفراً وإلحاداً ومروقاً على تعاليم ديننا الحنيف. فما هو الضير في قراءة النصوص الدينية وفقاً لمستجدات الواقع المتغير قراءة نقدية عقلانية لا تحّول الدين إلى مجرد وقود للمعارك السياسية. إن الإيمان في جوهره هو قضية ذاتية بين الإنسان وخالقه، فلا مجال للتفتيش في زوايا العقل، وطوايا القلب، وأغوار الضمير. وللتّعرف على منهج د. نصر حامد أبو زيد إلتقيناه وكان لنا معه هذا الحوار الذي يخاطب فيه العقول المتفتحة.
• حرائق أدبية
• مَنْ الذي غمسَ كفّكَ في موقد الفكر المتأجج، وأشعل في روحكَ حرائق المعرفة التي لا تنطفئ أو تذوي ذات يوم؟
- أبي هو الذي غمس كفي في هذا الموقد المعرفي حينما كان يسرد لي قصص الأنبياء وأنا في سن الخامسة من عمري، وبالذات قِصَتي يوسف وإبراهيم، وما تنطويان عليه من بعد درامي مؤثر. وكذلك مدّرس اللغة العربية الشيخ عبد العزيز الذي علّمني كيف أكتب؟ ولماذا أكتب؟ وما الغاية من الكتابة؟ ثم قرأتُ دون كيشوت في سن مبكرة، وتأثرتُ بها، وحينما قرأتُ ( رادوبيس ) نجيب محفوظ أحدثتْ انقلاباً في ذائقتي، وهكذا توالت الحرائق الأدبية والفكرية والفنية ولم يعد بإمكاني إطفاءها، ولكنني وظّفتها في خدمة المنهج العقلي في التفسير كي أُنتج أفكاراً جديدة، ولا أعيد ما سبق إنتاجه.
• سحر الكلمة المطبوعة
• ما هي مؤثرات الأدباء والمفكرين الآخرين سواء كانوا عرباً أم أجانب على تجربتك الفكرية. ما هي طبيعة هذه المؤثرات وفحواها، وهل هي واضحة ومحددة الملامح بحيث أنها ما تزال تترك بصماتها على منجزك الفكري الواسع؟
- أن مسألة التأثر أصبحت على درجة عالية من التعقيد بحيث يصعب تحديدها، ولكنهم دون شك فتَّحوا عينيَّ على ما يسمى بقراءة الأشياء قراءة نقدية، وكيف لا أستسلم لسحر الكلمة المطبوعة، لأن ليس كل ما تقرأه صحيحاً، وليس كل ما يطبع حقيقة. أذكر بعض الأساتذة مثل عبد المحسن طه بدر في الأدب، وعبد العزيز الأهواني، هذا الأستاذ الذي أنجزتُ على يديه رسالتين في الماجستير والدكتوراه، وهو أستاذ متخصص في الأدب المقارن، ومتخصص في الأندلسيات أيضاً. هذا الأستاذ علمني الكثير، فكما تعلم، أن الأستاذ ممكن أن يعّلم الطالب، والطالب يتصور أن الأستاذ ممكن أن يتعلم منه، عبد العزيز الأهواني لم يكن يسألني ممتحناً، وإنما كان يسألني مستفهماً، وحين يسألُ الأستاذُ تلميذه مستفهماً فإن هذا يعطي للتلميذ كثيراً من الثقة في النفس، أو يجعله يمتلك الثقة في النفس لأن يقّدم إجابة، سواء كانت إجابة صحيحة أم خاطئة. كان يستخدم طريقة سقراط، الذي يسأل مستفهماً. ومن التجارب الهامة جداً أنه كان يسألني سؤالاً معيناً وأنا أقرأ فصلاً من الرسالة، وبعد أن أطرح إجابتي يبدو مقتنعاً، ولكنني حين أعود إلى البيت أعيد فحص السؤال مرة أخرى لأنني لستُ واثقاً من الإجابة التي أعطيتها، وحين وافق على الرسالة وطلب مني أن أطبعها على الآلة الكاتبة غبتُ عنه سنة كاملة لأنه طرح عليّ مجموعة من الأسئلة شككتني تشكيكاً تاماً ويمكن أن أكون قد ارتبكتْ حين قال: أنني لا أظن أن المعتزلة كانت لهم نظرية في اللغة. كانت هذه ملاحظته، ثم أضاف: عندك رغبة شديدة في أن تجعل المعتزلة أصحاب نظريات. فمن يدري أنك جئت بنص من هنا، ونص من هناك، وصنعت هذا البناء النظري، لكن هل كانوا حقاً واعين بأنهم يكتبون باللغة؟ أنا أجبت عن هذا السؤال، وبدا لي أنه كان مقتنعاً، وأعطاني الإذن، لكنني لم أسترح إلى السؤال، فاضطررتُ إلى أن أعود إلى كل النصوص التي استخدمتها في سياقها في الكتب كلها لأرى هل قمت بتأويل هذه النصوص خارج سياقها، أم أنني وضعتها في السياق المطلوب؟ وهذا الأمر استغرقني سنة كاملة، فيما ظل هو يبحث عني لأنه أعطاني الإذن بطبع الرسالة، وحينما ظهرت، قلتُ له بأنني كنت أتأكد من صحة طروحاتي، ولكنه قال لي بأننا كنا قد اتفقنا على أن تبدأ، فأجبته بأنني لم أكن مقتنعاً تماماً . هذه هي الدروس المفيدة التي استنبطتها من علاقة الأستاذ بالتلميذ، وأنا الآن أحاول أن أكون مخلصاً في التعاون مع طلابي بنفس المنطق أعلاه، أي أن لا أفرض عليهم معرفتي، وإنما أطرح عليهم تساؤلات، وأن أستمع إلى إجاباتهم، وأنا أعتقد أن الإصغاء لإجابات الآخرين مسألة مهمة جداً. حسن حنفي حينما بدأ أول محاضرة في الفلسفة الإسلامية كان مبهراً بالنسبة لي، لأنه أستاذ يعطي مراجع، ولا يمّلي على الطلاب، ولا يعترف بوجود كتاب أو منهج مقرر، وأنما كان يفتح الباب للنقاش، وكان هذا النقاش يتجاوز الحدود اللائقة بين التلاميذ. كان يناقش أفكارنا، ويطّور فينا نزعة الحوار. ومع حسن حنفي في السنة الثالثة قرأت تقريباً أهم كتب علم الكلام. باختصار لقد كان الأستاذ يطرح تحدياً لطلابه،وكان يمنعنا من الكتابة في المحاضرة، وأنا أفعل ذلك مع طلابي الآن، وأقول لهم لا تكتبوا كلامي هذا لأنكم ستجدونه في كتب كثيرة، وعليكم أن تفكروا وتحّفزوا أذهانكم. ولابد من ذكر أول مستشرق قرأتُ له وتأثرتُ به جداً، وما أزال معجباً بكتاباته، وأتمنى لو أن هناك دار نشر تتبنى ترجمة أعماله، إنه المستشرق الياباني TOSHIHIKO ISUTSU وهو غير معروف إلا للمتخصصين، ويكتب بالإنكليزية، وقد عاش فترة طويلة في العالم الإسلامي وبالذات في إيران، وكان أستاذاً للدراسات الإسلامية في كندا، وأول بحث قرأته له، وأنا منغمس في الماجستير هو ( الوحي كمفهوم لغوي في الإسلام ) وهو مذكور في مراجعي في كتاب ( الاتجاه العقلي في التفسير ). وكانت هذه الدراسة إنثروبولوجية لغوية ثقافية على درجة عالية من الدقة. وما يزال يطّبق هذا المنهج الدلالي السيمانطيقي في دراسته عن القرآن، وفي دراسته عن تاريخ الفكر، والرجل له كتب مهمة، ولكنه للأسف الشديد غير معروف في العربية. هذه هي بداية قراءاتي باللغة الأجنبية.
• حركة بندولية
• قرأتَ عبد القاهر الجرجاني مرات عديدة، وغربلتَ منجزه الفكري والبلاغي، ما سر ميلك الشديد إليه، هل هو تشابه في الرؤية، أم تطابق في الأسلوب والمقترب؟
- في علم البلاغة والنقد يجب أن أعترف بأن عبد القاهر الجرجاني يمثل بالنسبة لي نقطة الانطلاق لقراءة السيمولوجيا والسيمانتيك، وبالذات لياكوبسن وديريدا وبارت. أنا أقرأ لهؤلاء وذهني يتذكر بعض نصوص عبد القاهر. أنا لا أريد أن أقول بأن عبد القاهر قد سبق هؤلاء كما يزعم البعض، وهذا ليس صحيحاً، ولكن عبد القاهر قد تجاوز تخوم عصره، هذا أمر لاشك فيه، وبدأ آفاق معرفية جديدة، لكننا لا نستطيع أن نقول أنه سبق دوسوسير، ولكن حينما يقرأ الإنسان دوسوسير، ويرى هذا التمييز بين الدلالة والمعنى، بين الدال والمدلول، وبين اللفظ والمعنى، فالفكر الكلاسيكي يسّميه اللفظ والمعنى، بينما في الفكر الحديث يصبح الدال والمدلول، ويعيد قراءة الجرجاني يكتشف أن هناك تلميحات عند عبد القاهر. أن قراءتي للتراث الغربي على مستوى اللغة وعلوم السيمولوجيا كانت دائماً في حركة بندولية بين التراث الإسلامي المتطور وبين الإرهاصات المتولدة عنه، أو التي يمكن اكتشافها في التراث العربي،ولولا التراث الغربي لا يمكن اكتشاف هذه الإرهاصات. إن اكتشاف هذه الإرهاصات يجعلك قادراً على أن تستخدم هذه الأدوات المنهجية بعد أن تعيد تكييفها لتناسب النص العربي. لاحظ أننا في النقد أمام مدرستين، الأولى مدرسة تقليدية تعيش خارج التاريخ،والناقد الذي يفهم النظريات ولكنه لا يلوي أعناق النصوص بطريقة جافة لكي يحلل النص الشعري تحليلاً بنيوباً، أم تفكيكياً. .الخ. إن حساسية النص العربي أخَذْتها أنا من عبد القاهر الجرجاني، وبالتالي إمكانية أن تنسى ما قرأتْ، وتستفيد من فحوى طروحاته، ولا تطبقها تطبيقاً ميكانيكياً. ومن هنا أستطيع القول أنني أنجزتُ صيغتي غير التلفيقية، وإنما صيغتي الخاصة بالتعايش مع إمكانيات تحليل النص العربي، وتجاوز الطريقة التقليدية، والدخول في آفاق جديدة، ويمكن للقارئ أن يلمس هذا في تحليلي للنصوص القرآنية، وهذا يمكن أن يكون شرحاً أو توضيحاً لبعض ما يقولون كيف تطبّق مناهج غير عربية على النص القرآني لأن النص القرآني لا يصلح له غير المناهج التقليدية، وهذا يعكس للأسف الشديد استهانة ضمنية بمستوى الدلالة في النص القرآني.طيب، ماذا عن اكتشاف آفاق لغة القرآن بتداول معناها الدلالي إلى معنى سيمولوجي؟ لم يكن للإنسان أن يصل إلى هذا إلا من خلال هذا الربط التركيبي بين وسائل عبد القاهر التحليلية وبين تطور هذه الوسائل في الفكر الحديث. لقد نبشتُ أفكار عبد القاهر كلها ووصلت إلى ما أريد رغم تغير وتعدد التحقيقات، فالمسألة ليست أن تطّبق هذا المنهج أو ذاك، وإنما أن تجد تركيباً فذاً يكون في النهاية ملكك كباحث، لأن المنهج في النهاية هو إبداع وليس تقليداً لا لمنهج كلاسيكي، ولا لمنهج حديث نبع من خلال التعامل مع نصوص مغايرة، ولذلك يصعب أن تجد في كتبي تلك الرسوم والجداول، وإن وجدت أحياناً فهي دالة، ولا تمثل عائقاً أمام القارئ.
• هسيس النص
• لديك رغبة شديدة لكتابة النقد الأدبي أحياناً، ما الذي يستدعيك لخوض غمار هذه التجربة، هل هي قوة كامنة استفاقت مؤخراً، أم أن الناقد فيك هو قرين المفكر الذي يسعى لاكتشاف أساليب جديدة ولا يبغي إعادة إنتاج أفكار قديمة؟
- أحياناً ينتابني هاجس أن أكتب عن قصائد محددة، أو شعراء معينين، أو عن دواوين شعرية أعجبتني، لأنني كلما أقرأ نقداً تطبيقياً أجد فيه كثير من الصعوبة بحيث يبدو بعض النقاد، وأنا لا أعني أحداً لأنني أتكلم بصفة عامة، وكأنهم لا يفتحون أنفسهم للنص قبل أن يدخلوا في تحليله. ثمة سؤال أطرحه كثيراً وهو: كيف يُقرأ القرآن؟ أو كيف يَستمع المتلقي للقرآن؟ والجواب هو: ( إذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا. .) وهناك فرق كبير بين الاستماع والإنصات، لأنك أحياناً تستمع إلى إنسان، أو إلى شئ معين دون أن تكون منتبهاً. فكيف تنصت للنص حتى يحّل فيك، ثم بعد ذلك تبتعد عن النص فتستطيع أن تحلله. أما أن تحلل النص قبل أن يحل فيك، وتكتب عنه، فعند ذلك يصبح التحليل ميكانيكياً، ومجرد تعداد للتشبيهات والاستعارات والكنايات،وهذا ليس نقداً. إذن، يجب أن تفتح نفسك للنص، وهنا سوف ترى الشخصية في علاقتها بالزمان والمكان، وسوف ترى اللغة المستخدمة، وترى الراوي أو الكاتب أو القارئ الضمني، لكنك لن تكتشف هذه الأبعاد كلها ما لم تنصت إلى هسيس النص، وهسيس النص هذا مصطلح صوفي يقول لك اقرأ القرآن وكأنه أُنزل عليك، وإذا أردنا أن نحّول هذه المقولة إلى مجال النقد فنقول اقرأ هذه القصيدة وكأنك أنت كاتبها، وبدون هذا الحلول فلا يوجد هناك نقد تطبيقي حقيقي، وإنما مجرد كتابات متعجلة، وإذا عكسنا هذا الأمر على القرآن فلا يوجد هناك تحليل عميق للنص القرآني، وإنما مجرد كتابات متعجلة تعيد إنتاج ما سبق إنتاجه عن القرآن في العصور السابقة.
• تفاعل الحضارات
• لقد ارتحلتَ كثيراً في بلاد الله الواسعة، إذ أقمتَ في اليابان بعض الوقت، وعشتَ في أمريكا ردحاً من الزمن، وتنّقلتَ في العديد من العواصم العربية والأوربية زائراً ومحاضراً ومستجماً في بعض الأحايين، ما هو كسْبك المعرفي من هذا الترحال شبه المستديم؟
- تشّكل الرحلات جانباً مهماً من معرفتي، فالقراءة لوحدها ليست كافية. حصلتُ على منحة من مركز دراسات الشرق/ جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1978-1980، ثم ذهبت إلى جامعة أوساكا للغات الأجنبية باليابان عام 1985-1989 بوصفي أستاذاً زائراً، وأنت تعرف أن الفرق بين أمريكا واليابان هو فرق كبير. أن أهم ما أنتجه السفر في وعيي هو أنه علّمني أن للبشر تجارب وثقافات ولغات،ولا أقصد هنا اللغات الطبيعية، وإنما أقصد اللغات بمعناها السيمولوجي. من الطبيعي أنت لا تحب من الطعام إلا الذي تعودتَ عليه في بيتك، وربما الطعام الذي تصنعه أمك بالذات، أما حين تتزوج فيبدو طعم الطعام غريباً حتى تتعود من جديد على الطعام الذي تصنعه زوجتك. ما معنى هذا؟ معنى هذا أن الإنسان عبد لما يتعود عليه. السفر يخلق هذه الخصيصة، أنت ترى الناس، فإذا حكّمتَ ذوقك فقط فهؤلاء الناس أدنى منك، وأن ذوقك أحسن،وطعامك أحسن، وأن ثقافتك أفضل، ودينك أفضل،وهذا هو جذر العنصرية في العالم، لكن إذا استمعت إلى الثقافات الأخرى فالأمر سيكون مختلفاً. حينما ذهبتُ إلى اليابان أول مرة لم أكن أطيق رائحة الطعام، بينما كنت أتأمل اليابانيين أنفسهم كيف يستمتعون بطعامهم. إذن، لابد أن ندرك أن الإنسان إلى حد كبير هو ابن عادات وتقاليد، وأن هذه العادات والتقاليد ليس معيارية، وإنما هي نسبية. في اليابان أُتيح لي أن أقرأ البوذية، وأن أقرأ في التراث الصيني الأسيوي بشكل عام، وأن أرى هذا التأثير المتبادل بين هذا التراث والتراث الإسلامي. إن تجربة السفر والترحال والحوار مع الثقافات الأخرى هي تجربة مهمة، فضلاً عن التفاهم مع أناس لا تفهم لغتهم، ولا يفهمون لغتك،وأعتقد أن هذا جزءاً من التجربة التي تؤكد للإنسان يوماً بعد يوم ما يسمى بالقناعات التي هي مجرد قيم ليست معيارية، وأنه إذا جعلنا أية ثقافة معياراً لثقافة أخرى، وأية لغة معياراً للغة أخرى، وأي فن معياراً لفن آخر فنحن ندخل في دائرة التعصّب، وهذا يجعل الإنسان يدرك أنه ليس هناك ثقافات منعزلة، ولم تكن هناك أبداً حضارات منعزلة، وأن ما يسمى بالحضارة الغربية والحضارة الإسلامية،واليونانية، والهندية،والمصرية، والبابلية،والآشورية،
والأكدية إنما هي في حالة تفاعل مستمر،وأن هذا التفاعل هو سر الغنى الذي وصل إليه الإنسان. وبالتالي فأننا عندما نسمي هذه الحضارة بالحضارة الغربية، فهي ليست حضارة غربية، وإنما هي حضارة إنسانية وصلت إلى قمة ما وصلت إليه في هذه البقعة من الأرض. إن القراءة الواعية للتراث، والدراسة العميقة له، والتواصل مع التراث العالمي تعزز هذا التفاعل. الترحال قبل كل ذلك يعّمق انتماءك الحقيقي لوطنك، فالوطن ليس مكاناً، إنما الوطن بشر ننتمي إليهم. والسؤال إلى مَنْ ننتمي مِن هؤلاء البشر؟ والجواب، طبعاً، إلى المستضعفين في الأرض.
• طريق النجاة
• كيف ينظر المفكر نصر حامد أبو زيد إلى المرأة بوصفها أُماً وزوجة وحبيبة وصديقة وكائناً فاعلاً في المجتمع؟
- ليس أبي هو الذي علّمني فقط، وإنما أمي هي التي علّمتني أيضاً، وقد قررتُ أن أكتب عنها فصلاً، وهي تستحق كتاباً، لأن هذه السيدة ترّملتْ وهي في سن الخامسة والثلاثين، وأم لستة أطفال أكبرهم 14 سنة الذي هو أنا، وهي سيدة أمّية لا تقرأ ولا تكتب. ترى كيف استطاعت هذه السيدة أن تقود هذه العائلة الكبيرة والفقيرة إلى طريق النجاة؟ ما هي الصعوبات التي واجهتها وهي امرأة وحيدة في هذا العالم؟ طبعاً كانت تعتبرني شريكها في المسؤولية، وفي مواجهة الصعوبات. وكنت أتساءل دائماً كيف كانت الحياة ستسير من دونها؟ وأنا كل مشاركتي هي أنني اشتغلت في سن مبكرة، وهذا أعطاني عمقاً أكبر في الحياة. ترى كيف يظنني الناس أنظر إلى المرأة باعتبارها أقل من الرجل، وأنا عندي المبررات لقراءة النص القرآني قراءة عميقة لكي أرى أن القرآن لا يمّيز بين المرأة والرجل، وإذا كانت هناك تمييزات فهي تمييزات تنتمي إلى التاريخ. طبعاً، المرأة في حياتي شئ مهم لأنها ليس أمي فقط، وإنما هي من عرفتُ ومن أحببتُ من زميلاتي وصديقاتي حتى تزوجتُ، وحينما تزوجت كان زواجاً يجمع بين الحب والصداقة والزمالة والانتماء الفكري، ولم يكن بإمكاني أن أتزوج إلاّ بهذه التركيبة، ولم يكن ممكناً أن أتزوج زيجة تقليدية، إنما كان لابد أن أقابل ابتهال يونس، وفعلاً قابلتها في مؤتمر طه حسين في القاهرة يعد أن رجعت من اليابان، وهكذا كنا نتردد على بعض كثيراً لأسباب لا علاقة لها إلا لأنها أصغر مني سناً، وإحساسي بأنها ممكن أن تكون في سن بعض تلامذتي. هذا التردد كان يعكس احتراماً للمرأة في داخلي سواء كانت أماً أو زوجة أو حبيبة أو صديقة. وأستغرب كثيراً عندما يُنظر إليها في ثقافتنا باعتبارها عاراً يجب أن يختفي وراء أقبية من القهر.
• طفل مدهوش
• لا يزال د. نصر حامد أبو زيد يمتلك ملامح وجه طفولي وكأن براءة الطفل تأبى أن تغادرك رغم تقادم السنوات. مَنْ يبعثُ فيك هذا الطفل كل يوم: وهل ليُتْمكَ دور في تثبيت هذه البراءة؟
- طبعاً أن موت الأب واليتم مأساة خاصة في مجتمعات لا يتمتع فيها الناس بالضمان الاجتماعي، وعلى رأي الشاعر العامي المصري الذي قال: ( في الحارة دي إن مات رجل بيتهد بيتو، يتعلموا الأولاد الوقفة على أبواب الورش، عندك شغلانه أشتغلها يا أسطه، أنا أبويا مات. .) هذا شعر عامي يعكس بشكل دقيق ما كتبه نجيب محفوظ في روايته ( بداية ونهاية ). حينما مات أبي لم يترك لنا ( معاشاً ) لأنه كان صاحب محل، الأمر الذي اضطرني لأن أعمل، غير أن عملي المبكر علمني على الاستقلال، وأناط لي مسؤولية جديدة، إذ أصبحت رباً للأسرة، وتعودتً أن أأخذ قراراتي وأنا في سن أحتاج فيه لمن يأخذ لي القرارات.، وبالتالي فقد اكتسبت من الحياة أشياءً كثيرة. فلقد علّمني اليُتم ما لا يتعلمه الإنسان في الظروف العادية. وقد كافحت كثيراً من أجل أدخل إلى الجامعة، لأن الجامعة بالنسبة لي كانت قيمة كبرى، ولهذا فان كثيراً من زملائي وأصدقائي لم يتفهموا أن الترقية بالنسبة لي لم تكن القضية الأساسية، وإنما القضية المهمة كانت الدفاع عن الجامعة، والترقية بالنتيجة هي أمر هيّن. الجامعة كانت ولا تزال رمزاً كبيراً بالنسبة لي، ذلك المكان المهيب الذي ابتّلت عيناي بالدموع وأنا أدخل بوابتها، وللعلم فقد دخلت الجامعة وعمري 25 سنة لأنني أردت ذلك، ولأنني أصررت على تحقيق حلم أبي الذي لم يحققه بسبب المرض الذي أفضى إلى موته المبكر. أن الحياة هي التي تخلق الأعمدة الأساسية التي نقيم عليها ما يسمى بالبناء الفكري. ترى هل أن نصر حامد أبو زيد في سن السابعة والخمسين يختلف عن ذلك اليتيم الفقير؟ طبعاً، يختلف، ولكن لا يزال في داخلي طفل لم يمت بعد، هناك أغوار سحيقة في النفس يعيش فيها هذا الطفل البرئ، ولعلي لا أبالغ إذا قلت أنني التقيت بالمصادفة بسيدة فلسطينية عام 1993 هي أم مريد البرغوثي، إلتقيتها في الأردن حينما كنت مدعواً إلى إقامة ندوة في مؤسسة عبد الحميد شومان، وكان هناك مريد البرغوثي ورضوى عاشور، ثم دعوني إلى بيت هذه السيدة الكريمة.أنا حينما أتأمل وأقول: ما الذي حدث؟ وما الذي يربطني بهذه السيدة هذا الرباط الوثيق؟ والإجابة بسيطة جداً، وهي أنني في أول زيارة لها استطاعت أن تبعث الطفل في داخلي، بحنان غير صناعي، وبتلقائية كبيرة، إذ قالت لي بالحرف الواحد، تعال أفّرجك على البيت، سحبتني من يدي إلى الحديقة، وأرتني أشجاراً متنوعة، فجأة أحسست أنني طفل، وأنا محروم من هذا الإحساس. أن الذي حدث هو أن تكون طفلاً وأنت في عامك السابع والخمسين، وتقترب من سن المعاش، لكن البراءة لا تزال موجودة فيك. يقول كثير من الناس أنني امتلك وجه طفل فعلاً، ولم تنفع في إخفاء ملامحه حتى هذه اللحية التي أطلتها قليلاً، فأن تكون طفلاً في السابعة والخمسين يعني ن تكون أستاذاً وتلميذاً في الوقت ذاته، ومعناه أنك تعّلم وتتعلم في الوقت نفسه، وأنت لم تفقد دهشتك بعد، وفعل الإبداع هو فعل الطفل المدهوش دائماً، وأظن أن كل مبدع يوافق على كلامي هذا. أن أم مريد جعلتني أتحسس طفولتي من خلال هذه الطريقة المرهفة التي تعاملتْ بها معي، وكلما أسافر إلى عمّان أذهب إلى بيتها دون أن أتصل هاتفياً، لأنني لم أعد ضيفاً بالنسبة لها، بل طفل مرتقب المجئ تأخذه بأحضانها الدافئة. ملامحَ أبي لم تُمْحَ من ذاكرتي رغم مضي 42 سنة على رحيله، والغريب في الأمر أن الكثير من معلوماتي استقيتها من جانب أبي. هو لم يكلمني وجهاً لوجه، وإنما كان يكلم أصحابه، ولكنني كنت أشعر أن جزءاً كبيراً من أحاديثه كان موجهاً لي، وعلى هذا الأساس كتبت سيرتي الذاتية. هذه هي تجربتي الحياتية التي أعتقد أن الإنسان المفكر الذي هو أنا لا يستطيع أن ينفصل عن الطفل المدهوش الذي لم يفارقني حتى هذه اللحظة.
• ذاكرة جمعية
• كان طه حسين يشّكك في رواة النص الأدبي، وكان يعرف مسبقاً أن تشكيكه سينسحب إلى رواة النص الديني، هل انتابتك مثل هذه الشكوك ذات يوم؟
- إذا شكّكتَ في مصداقية الشعر الجاهلي فأنك بالضرورة تشّكك في المرجعية التي انبنى عليها هذا التشكيك. أنت تهدم مؤسسة التفسير، هذه المؤسسة التي انبنت على الشعر الجاهلي. كان طه حسين يقول: إذا أردنا أن نفهم الحياة الجاهلية فالقرآن مصدرنا وليس الشعر، وهذا ما أكده أحد الباحثين الذين عملوا مقارنة فاكتشف أن الشعر لا يعكس زخم الحياة الجاهلية، أعني زخم الحياة الدينية الجاهلية لأن الشعر صوّر الدِين أحياناً باعتباره دِيناً سطحياً، وهذا ليس صحيحاً، أما القرآن فقد عكس لنا الحياة الدينية بقوة.أنا أعتقد بأن طه حسين في مقابل شكّه المنهجي الذي يمكن أن يكون مبالغاً فيه كان يقابله تصديق في رواية القرآن. سأحاول أن أطرح الأمور بشكل منطقي. هل أن اللغة العربية هي لغة القرآن؟ أو هل هي لغة مقدسة مثل القرآن؟ أنا عندما أتعّرض نقدياً لأبعاد اللغة يتصّور الناس أنني أتعّرض للقرآن. هذه قضية أولى. طه حسين كان واعياً بذلك، لكنه لم يدرك أهميته بالنسبة للقرآن. القرآن ليس ابن اللغة العربية البدوية، كما أن ثقافة ما قبل الإسلام لم تكن ثقافة واحدة، ولم تكن حياة العرب قبل الإسلام حياة واحدة. كانت هناك حياة مستقرة في المدن، كما كانت الزراعة في اليمن. أي كانت الحضارة موجودة في الجنوب، وفي مكة كان هناك مجتمع مستقر ومحمي لأنه كان يقع على طريق التجارة حيث ازدهرت رحلات الصيف والشتاء. باختصار كانوا مجتمع تجّار، وليس مجتمع بدو فقط. إذن، كانت هناك ثقافة البادية، وثقافة المجتمعات الزراعية والتجارية، وهذه الثقافات هي أعلى من الثقافة البدوية التي تعتبر ثقافة بدائية إلى حد ما. والقرآن ينتمي بطبيعة الحال إلى ثقافة المجتمع المديني. من هنا فأن الشكوك في رواية القرآن غير واردة لعدة أسباب، لأنه على الأقل جزء من القرآن دُوِّنَ في حياة النبي، ولكن هذا التدوين لم يكن مقروءاً، لأن الكتابة باللغة العربية آنذاك كانت بدون نُقط، وبدون حركات وبدون وقف، فلهذا كان هذا الرسم غير مقروء، ولكن بالمقابل كان الاعتماد كبيراً على الذاكرة. إذن، لدينا رسم مصحف وذاكرة جمعية، لكن الذاكرة لوحدها بدون رسم ممكن أن تغيّر كثيراً، ورسم المصحف يحكم المتغيرات، والدليل أن لدينا قراءات، وليس لدينا قرآنات، قراءات يمكن تفسيرها بالعودة إلى تعدد اللهجات،وها أنا أقرأ بلسان عربي مبين. لماذا قال بلسان عربي مبين؟ أنا أعتقد أن القرآن لم ينزل على لهجة قريش كما شاع هذا الرأي واستقر. القرآن يتضمن اللهجات العربية كلها، أو على الأقل اللهجات الأساسية، لكنه اختار من هذه اللهجات. أنها لهجات متعددة للغة واحدة، والذي سيّد لهجة قريش هو القرآن، لأنه اختار من هذه اللهجات أفصحها، وفي كل لهجة ثمة بعد مفهوم عند أصحاب اللهجات الأخرى. وعلى سبيل المثال، أنت تتكلم لهجة عراقية، وعندكم في العراق لهجات متعددة، فعندما تتكلم مع عراقي بلهجتك نفسها أفهم أنا بعض الأشياء، ولكن هناك أشياءً لا أفهمها. ما الذي فعله القرآن؟ القرآن أخذ الأشياء المفهومة من اللهجات الأخرى وعمل COMBINATION سمّاها لسان عربي مبين، لكن الاختلاف في القراءات، وليس في النص نفسه. إذن ما معنى القراءة المشروعة والقراءة غير المشروعة؟ وما معنى القراءات الشاذة والقراءات السُنة؟ إنهم قالوا إن القراءة التي لا تتلائم مع رسم المصحف تبقى إذن قراءة شاذة، أما القراءة التي تتلائم مع رسم المصحف فهي قراءة غير شاذة. ولكي أؤكد أهمية رسم المصحف سأستشهد بهذه الآية: ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا. . )أو ( فتثبتوا ) والرسم واحد هنا في الحالتين، لأن القراءتين متطابقتان مع الرسم. في تاريخ كل النصوص الدينية هناك مرحلة بين الوحي والنص القانوني، وهذه المرحلة هي من أقصر المراحل في تاريخ كل الكتب الدينية. طبعاً كانت هناك كتابة ثانية في عصر عثمان، لكن هاتين الكتابتين كانتا بدون نقط وبدون حركات، وهذه الحركات والنقط وضِعت في وقت لاحق. إذن، نخلص إلى القول إن تعدد القراءات كان أمراً طبيعياً، وكذلك تعدد كتب التأويل، لكن المشكلة في التفسير، لأن التفسير إنساني، ومن المعروف أن محمداً تلقى القرآن شفوياً حتى يُكتَبْ، لكننا لم نناقش هذه المسألة، وقد تركناها للأسف الشديد للمستشرقين كي يتكلموا فيها، ولم يُسمَح لنا أن نتكلم فيها بحجة أنها تشّوش عقائد العامة، وهذا معناه أن عقائدهم من الهشاشة بحيث أنها تتشّوه بهذه السرعة، بينما لو أخذنا الدراسات النقدية لتاريخ الكتاب المقدس لاكتشفنا أنها تغطي الإنجيل من لحظة نزوله لغاية كتابته وهذه المعلومات متاحة للجميع، في حين نحن المسلمين نعاني من وجود هذه الفجوة الكبيرة. أي أننا ضد أن نفهم تاريخ نصنا فهماً علمياً ونفسره تفسيراً علمياً، وهذا الركود الذي نعاني منه يهدد الإيمان نفسه، والفرق بين الإيمان على أساس تقليدي، والإيمان على أساس الوعي هو فارق كبير لأن الإيمان الواعي أكثر رسوخاً من الإيمان التقليدي، فضلاً عن أن الوعي العلمي يهدد المؤسسات المبنية على أساس التقليد.
• كثير من المفكرين الغربيين يقولون أن العرب لا يعتمدون على المنهج الفيلولوجي التاريخي في بحوثهم الفكرية، هل هذا صحيح؟ وهل ينطبق هذا الحكم القاطع على كل المفكرين العرب دونما استثناء؟
- بالنسبة للقرآن بشكل عام صحيح، ولكن هناك إستثناءات أيضاً. هناك باحثون مغامرون، ولكنهم قليلين، وكثير منهم داخل الدائرة الأكاديمية. أنا أعتقد أن العلم الموجود داخل السراديب والأقبية مهدد بالاندثار، وبإمكان أن نأتي بنظريات علمية يحفظها الطلاب، وحينما يخرجون إلى الحياة العامة يعيشون في الأسطورة. لقد توقف المنهج النقدي التاريخي للنصوص الدينية منذ زمن بعيد. وأنا أتساءل هل هناك دراسات تاريخية نقدية لنصوص السُنة بعد البخاري؟ والجواب، كلا، لأننا اعتبرنا صحيح البخاري هو نهاية المراد من رب العباد، وكأنه ليس هناك مناهج تطورت واكتشفت عناصر ضعيفة في صحيح البخاري. هذا كلام مكتوب . أنهم يخافون من أنَّ تواصل المعرفة العلمية قد يفضي إلى التشكيك، وهذا غير صحيح لأن شخصية محمد شخصية تاريخية.
• المقاصد الكلية
• هل خرجتَ عن سياقات التفسير التاريخية في تحليلاتك للنصوص الدينية، وهل هناك تجاوز للسائد والمألوف من التفاسير؟
- لقد كتبت في ( التفكير في زمن التكفير ) عن التاريخية المفترى عليها. فعندما نقول أن القرآن نص تاريخي يتصّور الناس أننا نقصد بالتاريخ المعنى الزمني، وهذه أيضاً مشكلة من مشكلات اللغة العربية، وأن هناك فرقاً بين التاريخي والزمني. هناك أحكام كثيرة في القرآن الكريم تتناول مؤسسة العبودية، فهناك فك الرقبة والاستمتاع بالإماء. أنا هنا أطرح قضية فقط. في القرآن يقول: ( فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع أو ما ملكتْ أيمانكم. ) الآن لم يعد هناك شئ يسّمى مِلك اليمين، لكن هذا مذكور في القرآن ما معنى هذا؟ هذا يعني أن تطوّر الوعي البشري الذي أدلى إلى إلغاء مؤسسة العبودية يحّول هذا النص إلى نص تاريخي، أو شاهد تاريخي، ولا يمكن لأحد أن يدّعي أن الإسلام مع نظام العبودية بمجرد أن ذكرها ورد في القرآن. إذن، ماذا يعني ذكر العبودية في القرآن؟ يعني أنها كانت موجودة في التاريخ، وأن القرآن نص ينتمي إلى التاريخ، وبالتالي يتعامل مع هذه المؤسسة. طبعاً، هناك استنباطات كثيرة من أن القرآن تعامل مع العبودية، لكنه حاول أن يقلل من سطوتها ومشاكلها، وهذا صحيح، لكن القرآن لم يُلغِ العبودية، لأن الذي ألغى العبودية هم البشر، هذا يقف كشاهد تاريخي. أن القراءة للنصوص الدينية يجب أن تراعي هذه الجوانب، وتفرز بين ما هو تاريخي، وما هو إنساني عام. يعني ما جاء به القرآن هدفاً لتأسيسه، وما جاء به القرآن نصاً، مثل الشورى كوصف للممارسة كانت موجودة قبل الإسلام، ( وشاورهم في الأمر )، ( وأمرهم شورى بينهم )، وكم تشاوروا في أمر محمد. وحين يقول القرآن: ( الرجال قوّامون على النساء )، الوصف هنا بأنه يتعامل مع قيم في المجتمع، وهذا لا يعني ن القرآن سلّم بجميع القيم، لأن هناك قيماً رفضها الإسلام مثل الشِرك . . الخ.إذن يجب أن نقرأ القرآن قراءة دقيقة، ونكشف ما هو تاريخي، وما هو زمني. أن الذي تسميه جديداً لم يوجد في تفسيرات القدماء الذين كان وعيهم بالتاريخ، أو بما هو تاريخي في النصوص أعلى من وعينا الآن. في مشكلة الزنا لا يوجد في القرآن شئ اسمه الرجم، ولا يمكن تصّور أن القرآن قنّن الرجم ثم نَسَخهُ تلاوة دون أن ينسخه حكماً، يعني تصورات فانتازيا، لماذا ينسخه تلاوة فقط، ويبقى نص جلد. كل الروايات تقول أن الرجم كان آية: ( والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله ) أنا أقول أن هذه الجملة لا ترقى إلى أن تكون آية من آيات الله بأي شكل من الأشكال، لأن القرآن لم يستخدم مفردة الشيخ والشيخة للمتزوجين، وإنما كان يقول المحّصنات والمحّصنين، ثم أن مفردة ( البتة ) هنا حشو واضح. وفيما يبدو أن القرآن لم يكن مع الرجم، لأن الرجم شئ بدائي، وإنما خُفِفَ الرجم قبل الإسلام إلى الجَلْدْ، ولكن بعض الناس يقولون إن الرسول رجم، وإذا صحّت هذه المقولة، فربما يكون الرسول قد رجم قبل نزول الآية، وهو هنا ينّفذ شرع من كان قبلنا، لأن الرجم معروف منذ قديم الزمان. والصلب مثلاً كعقاب كان عادياً كصلب العبيد، أو صلب المسيح نفسه. أنا أعتقد أن تزايد جرائم الزنا في المجتمع نتيجة خلّوه من الرجال الذين كانوا يحاربون هي التي كانت تحّفز الحاكم على أن يستنبط عقوبات جديدة رادعة، فالجلد لم يكن رادعاً على ما يبدو. وحتى الآن حينما نواجه قضية اجتماعية كالإدمان مثلاً نحاول أن نسِّن قوانين جديدة، لذلك فإن الدراسة التاريخية النقدية مهمة جداً. لا يوجد حد للخمرة في القرآن، لذلك تساءلوا فيما بينهم وقالوا: ماذا نعمل؟ قالوا نضربهم بالنعال! ثم عملوا قياساً على الزنا فقالوا نجلدهم. أي أن هناك مستويات للدلالة في القرآن يمكن أن تكون زمنية،وأن علينا أن نعيد قراءة القرآن لنكتشف ما يسّمى بالمقاصد الكلية التي وصل إليها الفقهاء، وهي مقاصد مأخوذة من الأحكام، وليست مأخوذة من مجمل القرآن، والقرآن يحتاج في كل عصر وأوان إلى قراءة جديدة إذا كنا نقول لا يَخْلِق من كثرة الرد.
• د. نصر حامد أبو زيد في سطور
• من مواليد طنطا – محافظة الغربية – مصر عام 1943.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية من قسم اللغة العربية وآدابها – جامعة القاهرة عام 1972.
• يعمل حالياً أستاذاً زائراً في جامعة لايدن بهولندا.
• المؤلفات:
• الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز عند المعتزلة.
• فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي.
• أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، مدخل إلى السيموطيقا.
• مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن.
• إشكاليات القراءة وآليات التأويل.
• الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية.
• نقد الخطاب الديني.
• المرأة في خطاب الأزمة.
• التفكير في زمن التكفير.
• الخلافة وسلطة الأمة.
• القول المفيد في قضية أبو زيد.
• النص، السلطة، الحقيقة
• دوائر الخوف، دراسة في خطاب المرأة.
• حاوره: عدنان حسين أحمد/ أمستردام