|
الرقصة الأخيرة
أشرف بيدس
الحوار المتمدن-العدد: 2347 - 2008 / 7 / 19 - 10:18
المحور:
الادب والفن
أتت الريح المرة تحمل أنباء الحرب من كل مكان.. من البر والبحر، ومن السماء.. تسرب الغاز.. وامتلأ المكان بالدخان والغبار.. هرع الناس إلي الشوارع والميادين والأركان.. يختبئون من دوي القنابل وطلقات الرصاص .. عمت الفوضي واستباحت كل الأشياء.. أتت الريح العفنة تجتاح حقول القمح وأحواض الزهر، وأكواخ الفقراء.. تتباين الظلال والألوان والآراء، وتتداخل الدوائر والمربعات والمكعبات والمثلثات .. ويبدو الواقع مريبا ومخيفا ومخيبا لكل الآمال، تبدلت الصورة الجميلة بالقبح القادم من الشمال، واختلط الأحمر بالأخضر بالأصفر وصار السواد الموحش اللون الغالب الكاسح .. مغارة لا تدخلها شمس.. ولا يقترب منها الهواء، فكيف تكون الحياة، أبوابها مائة باب ونوافذها ملء الجدران.. بدأ العزف المنفرد والجماعي والثنائي علي أحزاننا.. ولأن أوتار الحقيقة مقطوعة، محصورة ما بين الأقواس وعلامات التنصيص، جاء العزف مبتورا موتورا موجوعا مألوما لم يرق للنشاذ . أنغامه تائهة زائغة حائرة.. نحن جرحي القلب جرحي الروح والفم لم يبق إلا الموت والحطام.. والدمار.. وصبية مشردون يعبرون آخر الأنهار ونسوة يسقن في سلاسل الأسر وفي ثياب العار مطأطئات الرأس.. لا يملكن إلا الصراخات الناعسة أمل دنقل مازلنا ننتظر الفرمانات السرطانية السلطانية من الباب العالي، فقد بدأت مرحلة التفكيك والتركيب، وإعادة رسم خرائط التحديد والترسيم والتحصير والتعجيز .. وبدأ التحليل والتنظير والثرثرة علي شاشات التلفزة وعلي المقاهي والأرصفة ودواوين الحكومة والجامعات والمدارس والمساجد والكنائس وداخل الحجرات المفتوحة والمغلقة .. صار الكلام سلعة لا تخضع لتقلبات سوق الصرف.. سلعة مجانية .. الجميع يتكلم .. الجميع يدلو بدلوه.. الجميع يحاور .. الجميع يناور.. تخرج المظاهرات كل صباح في كل الدنيا .. تندد وتشجب وتعلن رفضها وسخطها وحنقها.. ترفع اللافتات والشعارات .. وتطلق الحناجر والأبواق والأصوات الزاعقة الناعقة الهاتفة في زمن الطرشان .. زمن أبكم أصم لا يري ولا يسمع ولا يتكلم إلا في إطار أولياته ومطامعه وأهدافه.. لا مكان للأحلام الصغيرة والشعوب الصغيرة .. والأيادي القصيرة.. فهذا وقت الكبار التتار .. وهذا أوان خطف الأرزاق والفتيان، وهذا وقت وأد البنات.. تموت امرأة في شهر المخاض ويتهدم عليها وعلي وليدها أحجار بيتها.. فهذا شئ يسير، تخترق رصاصة طائشة من بندقية طائشة رأس طفل ذاهب في الصباح إلي مدرسته، فهذا أمر مألوف.. يتسلل القطيع في سترة الليل ليجتاح مدينة بأكملها ويسوق الشباب والرجال مكبلين مقيدين إلي المعتقلات ويقتلون ويعربدون ويهدمون فتلك هي تحية الصباح.. نحاصر .. نجوع.. نشرد.. نموت .. نطرد.. لا شئ جديد .. فهذه عاداتنا اليومية التي نشاهدها في المساء في نشرات الأخبار.. أما ما نخشاه أن يأتي ليل ينقطع فيه التيار الكهربائي .. فلا نشاهد عاداتنا يوما..ويحرمونا من متعة مشاهد ذوينا لآخر مرة.. لم يبقي سوي أن نلقي بأنفسنا في البحر، حتي لا يجدوا في نهاية الأمر غير أنفسهم، فيحاكمون أنفسهم، وينصبون المشانق لأنفسهم، ويعذبون أنفسهم.. ويسجنون أنفسهم، ويقهرون أنفسهم.. ما أقبح أنفسهم. هل سوف نوف الكيل، ونعدل الميزان .. أما نتراشق بالألفاظ والعبارات.. هل سوف نسرق من القمح والزيتون والقرآن آيات الإيمان والاستشهاد.. هل سوف نبدل أناشيد الوطن بكلمات العزاء والإطراء والتشجيع والتمييع والترقيع .. أم سوف ننصب المفعول ونرفع الحال.. تأتي جيوش التتار غدا لترسم حدوداً جديدة لبلداننا لأفكارنا، وتطبع علي أكفنا وصدورنا أوشاماً وعلامات حتي يستطيعوا تمييزنا في أزمنة التشابه والاستنساخ.. غدا تأتي الجيوش لتسمم الآبار التي نشرب منها.. وتحرق الزرع الذي نأكل منه، وتهدم البيت الذي نسكن فيه.. ما أكثر المحظورات والممنوعات ..وما أسهل الكلمات الحبلي بحروف البغاء .. لأننا فقدنا طعم الأشياء فأن كل ما نلقيه داخل حلوقنا مر.. مرارة العلقم ..مرارة الصبار.. لا نقوي علي هضمه أو مضغه أو دغدغته.. يقف في الحلوق والصدور يمنع الهواء من المرور .. ما أصعب تلك الأشياء التي نلقيها فتلقي بنا رغما عنا..وتعلن علي الملأ وفاتنا ..بأيدينا نموت.. وبأيدينا نجوع وبأيدينا نبيد كل جسور التلاقي.. مازال الناس يبتاعون ويبيعون يروحون ويجيئون ويضحكون ويبكون ويحلمون لكنهم في كل الأحوال لا يعلمون.. تلفهم السكينة والطمأنينة والقناعة بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.. مازال الناس في أوطاننا قانعين بالمكتوب والمقسوم والمطروح والمجموع والمضروب.. نصبت المدافع علي نواصي التاريخ تحمل باروداً وخرابا .. ومازلنا نلوك الحكايات المرة عن الأجداد والأسلاف والزمن السحيق العتيق.. مازلنا نروي الحكايات الكاذبة عن الانتصارات الكاذبة.. في الأزمنة الكاذبة المحرمة دوليا..مازلنا نترحم علي أيامنا والتي ملك أبصارنا.. مازلنا نعشق البكاء علي اللبن المسكوب، والعقد المفروط. يأتي الكابوس إلينا ليمزق شوارعنا الممزقة، ويشرع الفوض والهمجية قانونا نسن منه الحياة.. ومازال المختلفون مختلفين .. والغاضبين غاضبون.. المتشككون متشككين.. والراقصون يرقصون الرقصة الأخيرة في الحفلة الأخيرة في الساعة الأخيرة من عمر أيامنا وتاريخنا.. هل أصبحنا مثل تورتة عيد ميلاد تتهافت الأمم لاقتسامها وابتلاعها .. هل هانت علينا أنفسنا ..ينطرح القلب خارجا.. مقذوفا مطرودا مكروها ، يتفتت في الزوايا والأركان.. ينزف دما يملأ المكان .. يتوجع يتألم يتضرع يتهلل يتكوم يتمدد.. تتساقط اجزاؤه ..يتسع الجرح باتساع أنهارنا ومحيطاتنا وودياننا وأحلامنا، وتفتح في الأحشاء جروحا أخري ... مازال زمن الوجع يتسكع فيها ويمارس الصعلكة بالليل والنهار .. لم تجد كل الأدوية.. فالداء ذاق حلاوة أوجاعنا.. فاستباحنا واستوطننا وعشقنا.. فأبي الفرقة والرحيل.. ما أتعس شعبا يعشق ألمه ويستبيح عذاباته. كل الشطوط ملآنة بمراكب الصيد.. والسمك في البحر يستغيث ، يستنجد، من القناصة والصيادة وتجار الصدفة وأصابع الديناميت يا زمن النفوق ..كل الشطوط غرقت في بحر الكلام.. لا مرسي لنا ولا ميناء.. فنوة اليوم عاتية لا يرجي منها هدوء أو سلام.. بات الكلام في زمن الصمت .. استثناء بلا قاعدة.. فدعونا نأكل الصمت ونرتل السكات.. حتي إذا جاءنا الندم أدركنا في لحظات الرحيل بأن أبلغ الكلام .. هو ألا نتكلم.. وأدق العبارات هي التي لم تنطقها شفانا..فكل ما كان .. كان هراء.. نحن قتلي الأنبياء والأولياء والأصدقاء .. نحن قتلة عمر وعثمان وعلي والحسين.. نحن الموصمين بالعار أبدا .. والملطخين المذنبين الجانين علي الطبيعة والفيزياء والأحياء.. نحن رواد التحليق في الزمن الكسيح الجريح الذبيح .. نحن أول الجريمة ومنتهاها.. فمنا من فتح حدوده ومنافذه ليتسلل منها الأعداء ليلا إلي بيوتنا.. ليجرح حرمتنا ويخدش حياء زوجاتنا.. ومنا من يعطي للأعداء لبن صغارنا وتفاح بناتنا .. ومنا من يرشد رادارات التجسس علي الأماكن التي نرتدي فيها ملابسنا.. والأماكن التي نتناول فيها طعامنا وشرابنا ونومنا.. ومنا من يجاهر عيانا بيانا بأن نار الشيطان ولا جنة أوطننا فأي خير تنتظرون.. وأي رجاء..غدا تبدأ المحرقة، ونكون نحن أول الصفوف وآخر الشعوب التي جلبت واخترعت أسهل طرق الفناء..
#أشرف_بيدس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دقت طبول الحرب
-
طريق الآلام .. والخلاص
-
أوان الرحيل
-
معذرة .. سيدي العزيز
-
عصر الشهداء والجواسيس
-
غرام الافاعي
-
أعياد ميلاد ومواكب أموات
-
الموت الرحيم
-
عبد السلام النابلسي : حسب الله السينما المصرية .. فقر و-عنطز
...
-
عاطف الطيب : رادار الموهوبين
-
سينما ما بعد النكسة : تكذب .. ولا تتجمل
-
بهيجة حافظ : بنت الإسكندرية الارستقراطية التي عشقت الفن
-
خطاب التنحي: وانتفاضة الجماهير في 9و1. يونيو
-
الإرهاب في السينما : تخاذل مقصود أم وعي مفقود
-
في عام النكسة : السينما لم تدفن رأسها في الرمال
-
سينما نجيب محفوظ : واقعية وجريئة
-
المرأة والسينما والانتخابات
-
سعاد حسني في ذكراها السابعة: حالة خاصة جداً
-
فؤاد المهندس سفير الكوميديا
-
شبح اللمبي .. يطارد محمد سعد
المزيد.....
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|