أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - غازي الصوراني - مجتمع المعرفة في الوطن العربي في ظل العولمة - على هامش اصدار -تقرير التنمية الانسانية العربية للعام 2003 –نحو اقامة مجتمع المعرفة















المزيد.....



مجتمع المعرفة في الوطن العربي في ظل العولمة - على هامش اصدار -تقرير التنمية الانسانية العربية للعام 2003 –نحو اقامة مجتمع المعرفة


غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني


الحوار المتمدن-العدد: 721 - 2004 / 1 / 22 - 07:20
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


لعل الحديث عن مفهوم محدد للمعرفة ، أمر يفتقر للسهولة ، بمثل ما يفتقر إلى الاتفاق بين أصحاب الفكر على تعريف محدد له ، نظراً لأن المعرفة عملية جدلية معقدة تحدث بأشكال مختلفة ، ولها مراحلها ودرجاتها في التطور ، وتتضمن مساهمة قوى الإنسان وقدراته المختلفة عبر التجربة والممارسة المرتبطة بطبيعة وشكل النمط الاجتماعي – الاقتصادي من التطور  بين هذه المجموعة البشرية أو تلك ، وبالتالي نحن أمام مفهوم متعدد المضامين والدلالات ،المرتبطة بتطور حركة الواقع والفكر والمسار التاريخي للبشرية .                                                                      
فإذا كنا نتفق على أن المعرفة هي ثمرة أولية من ثمار الفكر باعتباره وعياً قبلياً مرتبطاً بالواقع المعيش وعاكساً له ، فليس معنى ذلك تطابق هذه المعرفة بالواقع مع شمولية الفكر وفضاءه الواسع ، إذ أن حجم المعرفة ودورها يتحددان حسب نسبة أو درجة تفاعلهما مع شمولية الفكر وحركة تطوره التاريخي ، وهو تفاعل مرهون بدرجة تطور وحركة الواقع المجتمعي في هذه المرحلة التاريخية أو تلك ، ما يؤكد على ذلك ، أن تاريخ البشر ونشوء المعرفة وتطورها ، ليسا سوى سيرورة بدأت مع الإنسان الذي تحرك بدوره – على خلاف الحيوانات الأخرى – بقوة العقل والإدراك عبر تدرج وعيه ومعرفته منذ مرحلة النشوء ، فالصيد والرعي والزراعة ، الى مرحلة الحرفة والتجارة والصناعة وصولاً الى المرحلة الحديثة أو الثورة في العلم والمعلومات . على أن تطور المعرفة وتشعبها الذي " نبع من تربة الاقتصاد والحاجات المادية الأساسية ، لا يعني بقاء المعرفة مرتبطة بهذه التربة بصورة مباشرة ، ذلك أنه مع تطور وسائل وقوى الإنتاج ، يتشعب العمل ويتطور تقسيم العمل الى شبكة معقدة متعددة الأبعاد والجوانب ، فيبدأ التخصص ، بما في ذلك التخصص في إنتاج المعرفة التي تأخذ عند ذلك خطاً تطورياً خاصاً بها ،  ومستقلاً نسبياً عن تربة الإنتاج المادي "[1]دون انفصام مع الواقع الذي يؤثر عليها وتتأثر به ضمن علاقة جدلية ، ترتبط مخرجاتها أو نتائجها السلبية أو الإيجابية أو أنواعها ، وفق طبيعة ومسار المصالح الطبقية الحاكمة أو السائدة في هذه المرحلة أو تلك ، فهناك المعرفة الأولية أو الأولى التي تتشكل في أذهاننا عن طريق الحواس التي تقودنا الى معرفة وجود الشيء والاستدلال عليه كوجود مادي أو محسوس ، وهناك المعرفة التي لا تكتفي بالمحسوس أو بالشكل أو المظهر، بل تحاول أيضاً أن تدرك الأشياء إدراكاً عقلانياً يُمكِّن العارفين بها من فهم الأسباب التي تحول دون التطور والتقدم في واقعهم، وصولاً إلى معرفة السبل الكفيلة بتجاوز هذا الواقع ، وهنا تتجلى الأيدلوجيا كمفهوم  جراحي يستطيع الناس من خلالها، أن يعوا حقيقة الصراع وأن يشتركوا في مباشرته " في حال ممارسة دوره النقيض حيث يقوم بتشريح عمومية التصورات والأحكام المعرفية في الذهن البشري ، ارتباطا بما يمثله من تجسيد لمصالح أو شرائح طبقية واسعة في ظروف محددة ، دون أن يعني ذلك انفصام الأيدلوجيا عن المعرفة، بل بالتواصل والتفاعل معها من داخل إطارها . وبالتالي فإن المعرفة التي ندعو الى امتلاكها ووعيها ، هي المعرفة المشغولة بالعلم والاستكشاف المرتكز الى العقل والتجربة ، وتخليص البحث المعرفي من سلطة السلف وقدسية الأفكار ، كمدخل لابد منه لتحرير الواقع العربي من حالة التخلف والتبعية والخضوع، وتحرير فكرنا العربي من حالة الجمود والانحطاط ،ذلك ان اعتماد العقل كأداة وحيدة للتحليل ، والعقلانية كمفهوم يستند على المنهج العلمي الجدلي ، سيدفع بفكرنا العربي – ولا أقول عقلنا العربي – صوب الدخول في منظومة المفاهيم العقلانية التي تقوم على أن للعقل  دوراً أولياً ومركزياً في تحليل الواقع ، والتحكم في سيرورة حركته ، وهو أمر غير ممكن – كما يقول هيجل – ما لم يصبح الواقع في حد ذاته معقولاً ، أو مدركاً ، عبر الممارسة العملية في سياق تطبيقنا لقوانين ومقولات الجدل ، التي لا تكمن أهميتها في كونها قوانين لتطور الواقع فحسب وإنما هي أيضاً ، قوانين لتطور التفكير والمعرفة . خاصة في عصرنا الراهن، عصر العولمة ، الذي تتهاوى فيه كثير من النظم والأفكار والقواعد المعرفية السائدة ،لحساب "رباعية  البيانات والمعلومات والمعارف والحكمة " فكما أفرزت تكنولوجيا الصناعة مجتمعاً مختلفاً عن مجتمع الزراعة ، كذلك أفرزت تكنولوجيا المعلومات مجتمعاً مختلفاً عن مجتمع الصناعة، تمثله الثلاثية التالية : مجتمع المعلومات ، مجتمع المعرفة كأهم مورد للتنمية الاقتصادية و الاجتماعية ، مجتمع التعلم والذكاء البشري والاصطناعي"[2] فالمعرفة في هذا العصر " هي حصيلة هذا الامتزاج الخفي بين المعلومات والخبرة والمدركات الحسية والقدرة على الحكم ، لتوليد معرفة جديدة ، وصولاً الى الحكمة أو ذروة الهرم المعرفي ، واستخدامها في تقطير المعرفة إلى حكمة صافية ، " وتجاوز " المتاح من المعرفة ، وزعزعة الراسخ ، من أجل فتح آفاق معرفية جديدة لترشيد استغلال الموارد واستخدام الوسائل والموازنة بين تحقيق الغايات وكلفة الوصول إليها "[3] في عالم أصبحت البلدان المتقدمة والمهيمنة فيه ، تتعاطى مع مفهوم العالَم الإدراكي كنظير معرفي للعالَم الفيزيائي ( المادي ) ، فكما حدد أينشتين للفيزيائي معادلته الشهيرة التي تربط بين الكتلة والطاقة ، يقترح بروكز ، في المقابل ، ثنائية " المعلومات – المعرفة " كأساس للعالم الإدراكي ، ومحركاً رئيسياً للاقتصاد الحديث[4] .
إذن ، نحن أمام مفهوم جديد للمعرفة، زاخر بالحركة الصاعدة صوب المستقبل بلا حدود أو معوقات، اعتماداً على ثورة المعلومات والاتصالات  وعلوم الكمبيوتر والتكنترون ، والميكروبيولوجي ، والهندسة الوراثية، الى جانب العلوم الحديثة في اللغة ، والاجتماع ، والانثروبولوجيا  والتاريخ والجغرافيا البشرية والاقتصاد ، بحيث أصبح مفهوم المعرفة المعاصر شاملاً لكل العلوم الطبيعية والإنسانية في علاقة عضوية لا انفصام فيها من ناحية ، ومحصوراً في كوكبنا - إلى حد بعيد - في بلدان المركز الرأسمالي القادرة وحدها على إنتاج وتصدير العلوم والمعارف من ناحية أخرى ، بحيث بات من غير الممكن تطبيق هذا المفهوم على أوضاعنا العربية وبلدان الجنوب أو العالم الثالث عموماً دون امتلاك جزءاً هاما من مقوماته والتفاعل مع معطياته ، واستخدام آلياته وقواعده ، كمدخل وحيد لجسر الهوة المعرفية ، بيننا وبين تلك  البلدان ، آخذين بعين الاعتبار، أن لكل معرفة خصوصيتها المرتبطة والمحددة من حيث شكلها وجوهرها ، بحركة صعود أو بطء آليات التطور الداخلي في هذا المجتمع أو ذاك من ناحية ، وبالعوامل الخارجية المؤثرة في ذلك التطور من ناحية ثانية ،فالمعرفة عملية انعكاس للواقع وعرضه في الفكر الإنساني المرتبط بهذا الواقع مكانياً وزمانياً من ناحية ، ومرتبط بالممارسة العملية التغييرية في الأنشطة الإنتاجية والمجتمعية بكل أبعادها من ناحية أخرى ، إذ ان المعرفة والتغيير العملي هما جانبان مشروطان ، يتوقف كل منهما على الآخر بشكل تبادلي لعملية تاريخية واحدة "[5] فالتفكير وحده – على أهميته وضرورته – لا يخلق إلا الأفكار الذاتية ، ولا يمكن حل هذه الإشكالية إلا بالممارسة الاجتماعية ، التي هي شرط التفكير وبلوغ الحقيقة الموضوعية كهدف أساس من أهداف المعرفة لا يمكن بلوغه في واقعنا العربي عبر التشخيص أو التحليل أو استخدام البيانات والمعلومات الدالة على أوجه القصور فيه ، كما تناولها تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 " ، وإنما عبر امتلاكنا – بالإضافة الى ذلك – لرؤى ومفاهيم غير ملتبسة ، وبرامج واضحة لتجاوز الأزمة البنيوية الشاملة في هذا الواقع وتغييره عبر الممارسة، كأساس  للمعرفة الإنسانية العربية ومقياساً لصحتها ، إذ أن المعرفة – كما يرى ماركس بحق- تنشأ أصلاً كانعكاس لحاجات الممارسة العملية للإنسان، من أجل سد وتأمين هذه الحاجات بمختلف أشكالها وأنواعها المادية والمعنوية .
فإلى أي مدى استجابت ومارست مجتمعاتنا العربية في تاريخها القديم والحديث والمعاصر ، عملية الربط بين المعرفة والممارسة كشرط لتقدمها ؟ الحقيقة انه باستثناء الومضات أو اللحظات العقلانية العربية في التاريخ العربي الاسلامي على يد المعتزله وابن رشد ، والتي انقطعت منذ القرن الثالث عشر ، واستمرت حالة الانقطاع المعرفي عموماً حتى نهاية القرن التاسع عشر والعقود الاولى من القرن العشرين ثم انقطعت وعادت الى التواصل والتجدد في سيتينياته في الحقبة الناصرية التي انتهت بوفاة مؤسسها، ظلت الفرضيات الغيبية هي الحاكمة على صعيد الفكر العربي كما سنوضح لاحقاً، بمثل ما استمرت المجتمعات العربية محكومة في تطورها الاقتصادي – الاجتماعي للنمط الريعي المركزي ، والتجاري في التاريخ القديم، والى نظام التبعية والتخلف في التاريخ الحديث، بما أدى الى هذا الانفصام الممتد الى اليوم بين المعرفة والممارسة ، والذي شكل عقبةً  في وجه تفتح الرؤية العقلانية العربية وأبقاها أسيرة لمناخ التخلف ومظاهره، التي تتبدى في أن " العقل السياسي العربي محكوم في ماضيه وحاضره – كما يقول الجابري – " بمحددات ثلاثة هي : القبيلة والغنيمة والعقيدة ، أي بعلاقات سياسية معينة تتمثل في القبيلة ، وفي نمط إنتاجي معين هو النمط الربوي ،  الذي يرمز إليه بالغنيمة ( الدخل غير الإنتاجي ) ، وسيادة العقيدة الدينية ، ويرى أنه لا سبيل الى تحقيق متطلبات النهضة والتقدم بغير نفي هذه المحددات الثلاثة نفياً تاريخياً وإحلال بدائل أخرى معاصرة لها "[6] . ولهذا يقول محمود أمين العالم " إن قضية تجديد العقل السياسي العربي اليوم مطالبة بأن ، تحول " القبيلة " في مجتمعنا الى تنظيم مدني سياسي اجتماعي ، وتحول " الغنيمة "أو الاقتصاد الريعي الى اقتصاد إنتاجي، يمهد لقيام وحدة اقتصادية بين الأقطار العربية، كفيلة بإرساء الأساس الضروري لتنمية عربية مستقلة وتحويل العقيدة الى مجرد رأي ، أي التحرر من سلطة عقل الطائفة والعقل الدوجمائي ، دينياً كان أو علمانياً ، وبالتالي التعامل بعقل اجتهادي نقدي "[7] ، بما يفرض علينا إعادة النظر في بنية ومكونات الثقافة العربية ، التي باتت كما يقول الجابري " في حاجة ماسة وملحة الى  إعادة كتابة تاريخها ، الذي ما زال مجرد تكرار واجترار لنفس " التاريخ " الذي كتبه أجدادنا "[8] وذلك بهدف النظر الى إجزاء تاريخنا الثقافي الذي تم فيه تصنيف العلوم الإسلامية الى مجموعات : علوم البيان: من نحو وفقه وبلاغه، وعلوم العرفان: من تصوف وفكر شيعي وفلسفة إسماعيلية وتفسير باطني للقرآن ، وكيمياء وتطبيب وسحر وتنجيم ، وأخيراً علوم البرهان من منطق ورياضيات وإلهيات ، بل وميتافيزيقا "[9] ، وفي كل الأحوال فإن "أي تحليل للفكر العربي الإسلامي ، سواء كان من منظور بنيوي أو من منظور تاريخاني ، سيظل ناقصاً وستكون نتائجه مضللة ، إذا لم يأخذ في حسابه دور السياسة في توجيه هذا الفكر وتحديد مساره ومتعرجاته "[10] ، وستظل أيضاً الأسئلة : " لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم ؟ أو لماذا لم تتطور الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية العربية في " القرون الوسطى " الى نظام رأسمالي ؟ ولماذا لم تتمكن النهضة العربية في " القرون الوسطى " من شق طريقها نحو التقدم المطرد ؟هذه الأسئلة ستظل ناقصة ومحدودة الآفاق، ما لم تطرح على الصعيد الأبيستمولوجي ، أو ما  لم تتجه مباشرة الى العقل العربي ذاته ، ذلك أن " العرب و  المسلمين " إنما بدأوا يتأخرون حينما بدأ العقل عندهم يقدم استقالته ، حينما أخذوا يلتمسون المشروعية الدينية لهذه الاستقالة ، في حين بدأ الأوروبيون يتقدمون حينما بدأ العقل عندهم يستيقظ ويسائل نفسه ، فالرأسمالية هي بنت العقلانية "[11] ، والحال ، أنه منذ القرن الخامس الهجري : " دخل الفكر الإسلامي  كما يقول نصر حامد أبو زيد ، في مرحلة الركود بحكم الظروف الداخلية والخارجية التي أدت الى الجمود الاجتماعي والسياسي "[12] وتقلصت المساحة النقدية منذ ذلك القرن ، " عندما راح الإعلان الرسمي للمذاهب يفرض بالتدريج ممارسة " أرثوذكسية " للفكر الديني بعيداً عن العلوم الدنيوية ، حيث ظلت الظاهرة الإسلامية – كما يقول محمد أركون – الى الآن عموماً شيئاً لا فكر فيه داخل الفكر العربي والإسلامي . وبقيت المسائل اللاهوتية الكبرى التي نوقشت في القرنين الثاني والرابع الهجريين على حالها تقريباً، كما تركها الأشعري بالنسبة للسنيين ،وابن بابوية وأبو جعفر الطوسي بالنسبة للشيعيين "[13] واستمر هذا الحال حتى نهاية القرن التاسع عشر ، وظهور ما عرف بحركة الإصلاح الديني الحديث، التي أطلقها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ، ولم تفلح كما يقول الجابري في " بلورة مشروع نهضوي تتجاوز به الإشكالية التي تطرحها في التجربة الحضارية العربية منذ اندلاع النزاع بين علي ومعاوية أو العلاقة بين الدين والسياسة "[14] كما لم تفلح الاتجاهات العلمانية ، المادية والعقلانية التي ظهرت في تلك المرحلة وبداية القرن الماضي ، في بلورة مشروعها النهضوي عبر اتجاهاتها الفكرية المتعددة ، المادية والتنويرية ومن أبرز مثقفي هذا التيار شبلي شميل ، وفرح أنطون وسلامة موسى وعلي عبد الرازق وطه حسين ولطفي السيد .
والسؤال الآن : كيف وصل العرب في العصر الحديث الى هذه الحال ، وأين يكمن الخلل ؟ يرى جورج طرابيشي، أن الخطر في هذا الزمن القطري ، ليس تراجع فكرة الوحدة العربية بحد ذاته ، حيث أن مثل هذا التراجع قد يكون مؤقتاً ، وإنما تراجع فكرة القومية بالذات "[15] ، "أما برهان غليون فيري أن إخفاق الدولة العربية الحديثة ، يعود الى إنها لم تنشأ في حجر الأمة وتعبيرا عنها ، وإنما نشأت من أنقاضها وفي مواجهتها ، ولم تنجح في التحول الى دولة – أمة ، والسبب الرئيس لهذا الأخفاق  في  تصوره ، يعود الى مفهوم الدول التحديثية التي فرضت نفسها على المجتمع وأدخلت عناصر الحداثة اليه ، لكنها قادت باسم التقدم والعقلانية والحرية والوطنية الى عكس أهدافها، الى نوع خاص من الحداثة هو " ما تحت الحداثة أو حثالة الحداثـة" [16] . أما د. هشام شرابي ، فيرى أن " ما جرى في المائة سنة الأخيرة من الحياة العربية التي سادتها " الأبوية " أفضى الى تحديث القديم دون تغييره جذرياً " [17] ، وفي موقفه من هذه المسألة ارتباطاً بالتيار الإسلامي ، يرى د. ماهر الشريف –بحق- أن تيار الإسلام السياسي المعاصر الذي برز مع تشكل حركة الأخوان المسلمين ، " لا يمثل أبداً ، وخلافاً لما يراه الجابري ، امتداداً لتيار الإصلاح الديني الذي أطلقه محمد عبده في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، بل يعبر – هذا الإسلام السياسي المعاصر – في منطلقاته وتوجهاته وأهدافه عن قطيعة مع تيار الإصلاح الديني "[18].  ويضيف د. الشريف بقوله " يظهر ، بين الباحثين والمفكرين العرب ما يشبه الإجماع على أن هذه الجماعات لا تقدم حلولاً واقعية للأزمة العامة التي تواجهها المجتمعات العربية حيث يرى د. هشام شرابي أن الأصولية الإسلامية لن تقوى على توفير علاج ناجح للفوضى التي تتحكم بالمجتمعات العربية ، وذلك لأنها " مثالية " ستكون حلولها بالضرورة سلطوية ومرتكزة الى عقيدة وسبل جبرية مطلقة ، وستلجأ الى فرض نظام أبوي سلطوي يقوم على أيدلوجية غيبية دينية . أما حكيم بن حمودة ففي رأيه أن هذه الجماعات تبدو قوة احتجاج سلبية من دون أن تكون قادرة على بلورة مشروع مجتمعي بديل "[19] .
وعن موقف د. سمير أمين من الإسلام السياسي ، يقول د. ماهر الشريف " أن سمير أمين يعتبر أن حركات الإسلام السياسي ، تجسد اليوم اتجاه رفضي سلبي لا يقدم بديلاً إيجابياً على مستوى التحديات العالمية ، حيث يقوم المشروع الذي تتبناه على ثلاثة أعمدة هي أولاً : إلغاء الديمقراطية وثانياً : إحلال خطاب أيدلوجي شمولي محلها ( ينتهي الى ) خضوع شكلي لطقوس دينية لا غير وثالثاً : قبول الانفتاح الكومبرادوري الشامل على الصعيد الاقتصادي[20] .
على أي حال ، إن استمرار هيمنة الفكر الديني السلفي المنغلق عبر تيارات الإسلام السياسي ، على المستوى المعرفي عموماً ، وفي الوعي العفوي الشعبي على وجه الخصوص ، وفي مساحة كبيرة من الإنتاج الثقافي في الوطن العربي ، يعني استمرار فعل آليات التخلف المعرفي كانعكاس للتخلف المجتمعي في واقعنا العربي ، إضافة الى استمرار حالة التبعية التي تعني اننا سنظل - الى درجة كبيرة – محكومين في إنتاجنا المعرفي بكل جوانبه ، الى الفكر الرأسمالي الإمبريالي المعولم والى العلاقات الرأسمالية المشوهه السائدة في بلادنا (وفي بلدان العالم الثالث عموما) ، في مقابل " ندرة الممارسة النظرية الفلسفية في حقل الإنتاج الثقافي ، وهي ممارسة نظرية لا تمتلك حضوراً واسعاً في محيط الثقافة العربية المعاصرة ، بسبب نخبويتها[21] ،  ورغم صحة هذا الاستنتاج ، إلا أن هذه النخبة من المثقفين والمفكرين العرب المعاصرين ، استطاعوا إضاءة وتحليل ونقد جوانب هامة من الثقافة العربية السائدة ، واستطاعوا أن يقدموا أفكاراً إبداعية في دعم الرؤية العقلانية العلمانية ونقدهم للتراث في سياق مفهومي الحرية والتقدم ، نذكر منهم الياس مرقص، ياسين الحافظ، اسماعيل صبري عبدالله، حليم بركات، محمد أركون ، نصر أبو زيد ، محمود العالم ، سمير أمين ، مهدي عامل ، محمد الجابري ، هشام غصيب ، عبد العظيم أنيس، نبيل الهلالي، كريم مروه، سلامة كيلة، جاد الجباعي، عبدالله الحريف، ماهر الشريف، هشام جعيط، كمال عبد اللطيف، وغيرهم الكثير. ولكن العقبات التي تحول دون حوارهم معا عبر منبر ثقافي يجمعهم ، ودون انتقال هذه الأفكار من طابعها النخبوي الى الطابع الطليعي الأوسع ، مازالت قائمة . ولعل من أخطر ما يعوق الحوار في فكرنا العربي المعاصر، كما يقول محمود أمين العالم " هذا الالتباس والتداخل وعدم التحديد في كثير من المفاهيم والمصطلحات المتداولة"[22] بين المدارس الفكرية بمختلف منطلقاتها ، خاصة على صعيد المدارس الليبرالية والوضعية والقومية والماركسية حيث أن هذه الأخيرة أصابها حالة من التفكك والضبابية، على صعيد الفكر والتنظيم ، لم تشهدها في كل تاريخها ، وهذه الظاهرة لا تتوقف عند الالتباس والتداخل والتفكك فحسب ، وإنما تشير أيضاً الى عجز الواقع العربي وهزاله الشديد في عملية إنتاج المعرفة من جهة ، وفي هذا التداخل المربك ، والإكراهي ، بين  المحددات الداخلية لتطور مجتمعاتنا العربية المحكومة بآليات التخلف والتبعية والخضوع ، وبين المحددات الخارجية المتمثلة في طغيان مظاهر ومفاهيم السيطرة والعدوان الرأسمالي الأمريكي / الصهيوني المعولم من جهة ثانية ، وهي مظاهر ومفاهيم تنطوي في معظمها تحت غطاء ما يسمى بـ"فلسفة ما بعد الحداثة " التي تأثرت " بما يسميه المفكر الأمريكي " ألفين توفلر " بالموجة الثالثة – بعد موجتي الزراعة والصناعة – والتي تمثل صدمة المستقبل حيث تحتل  فيها المعرفة العلمية مكانة هامة تفوق مكانة إنتاج السلع ، مما خلق ظاهرة احتكار المعلومات وتوظيفها  والترويج لثقافة تكنولوجيا الخدمات وتصديرها الى بلدان الأطراف "[23] بما يوحي لهذه البلدان – وفي المقدمة منها بلدان الوطن العربي – بأن النموذج الغربي الرأسمالي هو الطريق الوحيد للتقدم والتنمية، عبر معطيات الديمقراطية الليبرالية أو ديمقراطية العولمة ، التي تعبر –بصورة رئيسية- عن مصالح الطبقات الكومبرادورية والبيروقراطية الفاسدة ، بما ينسجم مع جوهرها ودورها الحقيقي الهادف الى تكريس حالة التبعية والتخلف والخضوع عبر مزيد من أشكال الاحتواء، بل والعدوان العسكري المباشر في ما يسميه سمير أمين " عولمة السلاح " ، وهي نزعة تتوافق أيديولوجياً مع فلسفة نيتشة أو الفلسفة النازية ، التي تمجد إرادة القوة ،  ما يؤكد على ذلك طروحات الفلاسفة والمفكرين من أصحاب اتجاه " ما بعد الحداثة " لعل أبرزهم ميشيل فوكو وجاك دريدا وجيل دولوز وفوكوياما وتوفلر وهانتنجتون وبرنارد لويس ، وهو اتجاه يقوم على رفض فلسفة التنوير العقلاني ، ورفض مفهوم التطور، باسم نهاية التاريخ ، وصراع الحضارات ، وهي مفاهيم تجسد وتمجد فلسفة القوة كما عبر عنها " فوكو " بقوله " إن الحقيقة ليست معرفة أو ثمرة معرفة موضوعية ، بل هي علاقة قوة ، فالحقيقة هي السلطة والسلطة هي الحقيقة "[24] .
على أي حال ، لم يكن ممكناً لهذه الأفكار والمفاهيم المعبرة عن نزعة " ما بعد الحداثة " أن تسود وتترعرع في المنظومة الفكرية لبلدان النظام الرأسمالي ، لولا تحرر الرأسمالية العالمية من كل قيود التوسع اللامحدود ، الذي وفر بدوره فضاء واسعاً للتطور الصناعي التكنولوجي أو ما يطلق عليه التطور التكنتروني الذي أصبح سمة هذا العصر مع ثورة المعلومات والاتصالات ، الأمر الذي استوجب من وجهة نظر الطور الجديد للرأسمالية ، أو العولمة ، تطوير وإنتاج النظم والمفاهيم المعرفية ، السياسية والاقتصادية في إطار فلسفة القوة والسلطة التي تبرر لنظام العولمة الأمريكي ، ممارساته العدوانية من أجل إحكام سيطرته على ثروات ومقدرات شعوبنا وشعوب العالم الثالث ، حيث باتت هذه الشعوب لا تعرف لها عدواً واضحاً سوى رأسمال القلة الاحتكارية المعولم والامبريالي المسيطر ، الذي أدت ممارساته البشعة ، وتوسعه العدواني اللامحدود في كل أرجاء كوكبنا ، إلى تعميق الانقسام" الحاد ، السياسي والاقتصادي والمعرفي بين بلدان رأس المال المعولم " ، وبين بلدان المحيط أو الأطراف بصورة غير مسبوقة ، عبر العديد من المؤشرات التي لا تنحصر في استمرار تراكم مظاهر التبعية والتخلف في البلدان الفقيرة فحسب ، بل وفي استفحال مظاهر الفقر والبطالة وانخفاض معدلات النمو ، وتراكم الديون ، والانخفاض الحاد في مستويات المعيشة ، الى جانب اشعال الفتن الطائفية والإثنية والاقتتال الداخلي، الهادفة الى تفكيك هذه البلدان وإعادة تشكيلها بما يتوافق مع الطبيعة الاستغلالية لنظام العولمة وبرامجه وسياساته باسم " التكيف والإصلاح " والخصخصة وبيع مؤسسات القطاع العام ،والديموقراطية الليبرالية والحكم الصالح وفق محددات وشروط أدوات العولمة وركائزها الثلاث : البنك والصندوق الدوليين ، ومنظمة التجارة العالمية ، وهي محددات لم تنتج في بلادنا وبلدان العالم الثالث عموماً – سوى حصاداً مراً وضاراً تجرعته شعوب هذه البلدان تحت تأثير أوهام الخصخصة والانفتاح والتنمية المستدامة والاقتصاد الحر ورأس المال الإنساني ، والنمو الاقتصادي المزعوم الذي أوقع اقتصاد ومجتمعات هذه الشعوب بسبب التغيرات والشروط التي فرضتها العولمة الاقتصادية ، في مآزق وقيود إضافية تستهدف كما يقول د. إبراهيم العيسوي[25] " المزيد من تقليص سلطة الدولة الوطنية وانعكاس قدرتها على رسم السياسات الاقتصادية الوطنية في إطار التحرير المتزايد للاقتصاديات والأسواق الوطنية ، والتحول إلى اقتصاد السوق ، والتسارع في معدلات النمو الضخم في حركات رؤوس الأموال عبر الحدود الوطنية بهدف اقتناص فرص الربح السريع من خلال المضاربة تحت مظلة الاستثمار ، وبروز دور الشركات المتعدية الجنسية ، وانتشار أنماط الاستهلاك الشعبي والثقافة الشعبية السائدة في دول الغرب الرأسمالية ".
إن هذه السياسات ، أو المآزق والقيود التي فرضها نظام العولمة ، لا تكمن مخاطرها في حجم استجابة هذا النظام العربي أو ذاك لشروطها والتكيف مع نتائجها الضارة فحسب ، بل تكمن أيضا في المفاهيم المعرفية ( السياسية والاقتصادية والمجتمعية ) التي يتحدد بموجبها الفعل التطبيقي لتلك السياسات والقيود العملية التي يفرضها نظام العولمة على بلادنا ، ليس فقط عبر الأنظمة والحكومات فحسب ، بل أيضا عبر المنظمات غير الحكومية الممولة من العواصم الغربية ، أو مؤسسات الأمم المتحدة التي باتت اليوم محكومة في مساحة كبيرة من أدائها لشروط وسياسات نظام العولمة الذي تقوده وتتحكم في مساره – الآن – الولايات المتحدة الامريكية ، على أنه من الإنصاف الاشارة هنا الى دور بعض العاملين في هذه المنظمات الذين لا يتوافقون تماما مع تلك السياسات ، بل ويتعارضون معها أحيانا ، فيما يتعلق بالشأن العربي ، على الصعيدين القطري والقومي من ناحيه ، وتأكيدا لحرص هذا البعض في انتشال واقعنا العربي من حالته الراكده الى حالة أرقى من التطور الاقتصادي والمجتمعي والمعرفي من ناحية ثانيه ، ولكن بأدوات أو مفاهيم معرفية ، سياسية واقتصادية ليبرالية ، لا تتناقض أيديولوجيا مع المفاهيم المعرفية لنظام العولمة الرأسمالي ، دون أن يعني ذلك تماهيا مع ذلك النظام أو قبولا بممارساته العدوانية ضد شعوبنا ومقدراتها ، ويندرج في هذا الإطار عموماً ، الفريق الذي أشرف على انجاز " تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003" بعنوان : " نحو إقامة مجتمع المعرفة " والذي يبدو واضحا فيه ، حجم الجهد المميز والعميق المبذول في إعداد التقرير الذي أثار وكشف عبر سطوره كثيرا من جوانب الاشكاليات ومظاهر الخلل ، المعرفية والعلمية ، السائدة في بلادنا عبر   العديد من العناوين الفرعية ، والموضوعات الهامة التي استعرضت – من وجهة نظر الفريق – مفهوم المعرفة ، وحالها وإنتاجها ، وقياسها ، وسياقها التنظيمي والمجتمعي والسياسي، عبر كم واسع من البيانات والأرقام المرتبطة بموضوعاتها ، وصولاً الى صياغة الرؤية الإستراتيجية لإقامة مجتمع المعرفة في البلدان العربية ، التي تتلخص في "إطلاق الحريات ، وتعميم التعليم الراقي ، وتوطين العلم ، وتأسيس نمط إنتاج معرفة ، ونموذج معرفي عربي أصيل ومنفتح ومستنير" .
وهنا تتبدى المفارقة أو الالتباس بين المفاهيم التي حكمت صياغة التقرير من ناحية ، وبين البيانات والأرقام من ناحية ثانية ، ففي حين أن الاستنتاجات الأولية ، المباشرة للبيانات والأرقام المعبرة عن حالة البلدان العربية مقارنة بالدول المتقدمة ، تشير الى المخاطر الجدية، بل والكوارث التي ستصيب الوضع العربي إذا استمر على حالته الراهنة ، إلا إننا نجد بالمقابل  قصوراً أو عجزاً في منهجية التقرير ومبناه الفكري إو إطاره النظري العام ، لن يؤدي بنا للخروج من هذه الأزمة البنيوية في بلادنا ، وذلك يعود الى أن المنطلق الأساسي لهذا التقرير ، اتخذ من الليبرالية ومنهجها كل أدواته المعرفية التي تم استخدامها وتطبيقها على واقع عربي تابع ومتخلف ومأزوم ، لا يمكن إخراجه من هذه الحال ، إلا بأدوات معرفية نقيضه للأدوات الليبرالية بل وفي مواجهتها ، تعمل عبر أطر منظمة – على تجاوز هذا الواقع وتغييره ، خاصة وإننا في فلسطين وبقية بلدان الوطن العربي ، غير قادرين في المدى المتوسط ، على تغيير ميزان القوى الاقتصادي مع العدو الإسرائيلي ،إلا إذا حقق العرب – كما يقول د. يوسف صايغ – " قدرات اقتصادية وثقافية وعلمية ملموسة تُضيِّق الفجوة الحالية بين القدرات العربية والإسرائيلية ، شرط أن يتحقق تبدل جوهري في العقل العربي يستطيع معه أن يترجم الأقوال الى أفعال ، والرؤى الى استراتيجيات ومخططات عمل وسياسات رشيدة تقوم على التعاون والتكامل العربي ، والتصميم الجاد على احداث التبدل الجوهري في الموقف العربي ، وتحمَل تبعات ذلك سياسياً ونفسياً ومالياً "[26] ، ذلك أن " مشاريع التنمية كما الاستراتيجيات ، تكون شاملة أو لا تكون ، وإن النمو أو التخلف لا تقرره موارد أو تدل عليه جداول أو بيانات إحصائية فحسب ، بل الإطار الفكري والسياسي والاجتماعي الشامل الذي تمت وتتم في ظله العملية أيضاً "[27] ، والإطار المطلوب هنا ، هو بالضرورة الإطار النقيض للرؤية والسياسات الليبرالية ، إطار مفاهيمي يحمل في مضامينه وآلياته ضرورة أن يكون مصطلح أو تعبير التنمية دالاً وحاملاً – كما يقول د. إسماعيل صبري عبد الله –لعملية التغيير الإرادي في مقومات المجتمع ، وهو ما يعجز مصطلح " التنمية الإنسانية " عن حمله ناهيك عن الدعوة الصريحة للتغيير البنيوي التي غابت عن مضمون التقرير ، وبالتالي يصبح مصطلح أو مفهوم " التنمية المستقلة " وفق ما أورده د. عبد الله ، هو المؤهل لهذه العملية لكونه يتضمن التغيير الإرادي المقصود لتحرير شعوبنا من التبعية والاستغلال ، وما يرتبط بهما من فقر وجهل ومرض وغيرها ، إذ أن ميزة هذا المفهوم تكمن في مضمونه الذي لا يقتصر على التنمية الاقتصادية فحسب ، بل يشمل أيضاً الجوانب الثقافية والاجتماعية والحضارية ، فالتنمية المستقلة – بهذا المعنى -، تعبر وتجسد مشروعاً حضارياً مجتمعياً واقتصادياً وسياسياً معتمداً على الذات، دون أن يعني ذلك الانسلاخ الكامل  مع العالم من حولنا ، وهي بالتالي رؤية نقيضة للتنمية التي يروج لها أصحاب المنطق الليبرالي وأدواته المعرفية والسياسية التي لن تقدم لمجتمعاتنا وشعوبنا سوى نوع خبيث من التنمية ، يؤكد على استمرار خضوعها بدرجات متفاوتة للتبعية والاستغلال .
من هنا فإن أي رؤية استراتيجية عربية لا تحمل صراحة موقفاً فكرياً وسياسياً واقتصادياً قومياً نقيضاً للرؤية والموقف الليبرالي في عصرنا الراهن ، فإنها لن تتجاوز – بكل جهدها وحسن نوايا أصحابها – شكل الظاهرة أو سطحها عبر الحديث عن إطلاق الحريات ، والحكم الصالح، والتعليم الراقي والنموذج المعرفي العربي المنفتح ورأس المال الإنساني … الخ .
 
وفي كل الأحوال ، فإن تقييمنا للتقرير المذكور ، لن يتوقف عند شكل الظاهرة فحسب، بل يتناول عدداً من الملاحظات على مجموعة من القضايا الواردة فيه ، والتي تعبر في رأينا عن جوهر الخلل في تلك الظاهرة ونقصد بذلك السياق العام للتقرير :
   1.    إن إشكالية تقرير " التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 " الأولى والرئيسة تكمن في منهجيته المثالية التي تعاطت مع الواقع العربي ، المعرفي والمجتمعي ، عبر تشخيص الظاهرة ، ووصف حالتها عبر بيانات وأرقام ومقارنات حقيقية تدل وتؤشر على الوعاء أو الواقع العربي الحامل والمنتج لهذه البيانات والأرقام والمفاهيم المعرفية المرتبطة به ، وبالتالي فان أي تشخيص أو تحليل أو وصف لمخرجات الواقع العربي لن يعدو كونه تعاملاً مع شكل الظاهرة دون جوهرها ، فالمطلوب موضوعياً – كضرورة تاريخية راهنة – تغيير جوهر هذا الواقع تمهيداً للتعامل مع شكل آخر يتناسب أو يتطابق مع الجوهر الجديد .
في ضوء هذا المدخل فان وصف التقرير أو تقييمه لمبادرة " الأمير عبد الله ولي العهد السعودي في مطلع العام 2003 ، على أنها من أهم التطورات التي يمكن أن تؤدي إلى تحسين التنمية الإنسانية في البلدان العربية " ، إلى جانب رؤيته " للتطورات الإيجابية لمرسوم الأحزاب الذي أصدره الرئيس السوداني ، والاستفتاء الذي نظمته حكومة قطر " هو في الحقيقة دعوة إلى تكريس رموز التخلف والتبعية والاستبداد في الواقع العربي ، رغم أن شعار التقرير " نحو إقامة مجتمع المعرفة " يفترض ويحمل في طياته بعداً جوهرياً عميقاً يتطلب واقعا متطوراً – ولو بالمعنى النسبي – في كل جوانبه المادية : الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، الكفيلة وحدها بخلق المقومات الأساسية لإنتاج المعرفة الحديثة ، الأمر الذي يفتقر إليه واقعنا العربي الذي لم يرتق إلى الدرجة المطلوبة من شكل ومضمون الدولة المدنية الحديثة ، ولاتزال الكثير من بلدانه " في طور القبيلة والعشيرة والعائلة والطائفة ، فهي بلدان أو مجتمعات تنتمي إلى عالم " ما قبل الرأسمالية ( رغم وجود العلاقات الرأسمالية فيها ) ، وبالتالي فهي تميل إلى إن تأخذ شكل الانقسام إلى طرق وطوائف وإثنيات ،ا ذ عندما يكون التقسيم الاجتماعي للعمل متخلفاً ( غير متطور ) في مجتمع ما ، فان التمايز الاجتماعي يأخذ شكل تمايز في المراتب ( أمراء ، رجال دين ، الكهنوت ، الفلاحون ، أرباب الحرف والصنائع ) دون إن ينعكس ذلك بالضرورة في شكل هيكل أو تمايز طبقي محدد المعالم بالمعنى المعاصر "[28]  بالطبع لقد تغيرت هذه المراتب في سياق تطور المجتمعات العربية حتى منتصف القرن العشرين عموماً ، وفي النصف الثاني منه على وجه الخصوص عبر دولة " ما بعد الاستقلال " ودورها الذي انحصر في ثلاث نماذج رئيسة من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي للدولة ، هي " الدولة ذات الطبيعة الرأسمالية الليبرالية ، ونموذج رأسمالية الدولة ، ونموذج الدولة ذات الطبيعة الريعية "[29] . ومع نهاية القرن العشرين بدأ في الظهور ما يسمى بـ " الدولة الكومبرادورية " نتيجة التداخل العضوي بين مصالح البيروقراطية المهيمنة في الدولة من ناحية ومصالح الكومبرادور من ناحية ثانية ، دون أن يعني ذلك تبلور الطبقة البرجوازية العربية بصورة مكتملة أو ناضجة أو واضحة المعالم في بلادنا ، وهنا لابد من " إزالة اللبس والخلط في المفاهيم – الذي ساد طويلاً في الكتابات العربية – بين تعبيري " البرجوازية " و " الرأسمالية " ، فمصطلح البرجوازية له دلالة اجتماعية وسياسية وثقافية ، إذ أن كلمة " البرجوازية " تفيد معنى التمدن في نمط وأسلوب الحياة والأفكار والنظرة ، بينما تعبير رأسمالية " مشتق من نمط الإنتاج الرأسمالي ، فهو مرتبط بملكية علاقات الإنتاج والاستغلال الرأسمالية "[30] وبالتالي فان المصطلحات أو الصفات المميزة للشرائح الرأسمالية العليا في بلادنا يمكن أن تندرج – عموماً – تحت أوصاف " الرأسمالية الكومبرادورية أو " الطفيلية " أو " رأسمالية المحاسيب " أو برجوازية الصفقات والسمسرة " ، وعلى ضوء هذه الملاحظة ، يمكن لنا القول انه بينما يمكن الحديث عن " فئات رأسمالية " أو " طبقة رجال الأعمال " أو " المستثمرين " في المجتمع العربي المعاصر ، فانه يصعب الحديث عن ظهور " برجوازية " بالمعنى الاصطلاحي في السياق الأوروبي ، أي تلك الطبقة التي تضطلع بمهمات النهضة والتصنيع والتنمية الاقتصادية " بعد أن نشأت عبر صراعها الحاد مع النظام الإقطاعي وقامت بتصفية مؤسساته وقيمه وآثاره في الاقتصاد والمجتمع على حد سواء ، بعكس الفئات الرأسمالية والبيروقراطية الحاكمة في بلادنا التي نشأت من رحم كبار الملاك وأشباه الإقطاعيين حاملة معها مساحة كبيرة من علاقاتهم وتراثهم وقيمهم الرجعية والمتخلفة ، سواء في إطار النظام البيروقراطي العثماني أو في إطار الاستعمار البريطاني / الفرنسي ، ثم استمرت فيما بعد في إطار دول النظام العربي – بهذه الدرجة أو تلك – من التطور البطيء الذي تميز ومازال – حتى بداية القرن الحادي والعشرين – بحالة من الفرز الطبقي تداخلت من خلاله العديد من الشرائح الاجتماعية ذات الأصول والأنماط المختلفة لم تتبلور بعد على شكل طبقات محددة المعالم ، بحيث تتمكن كل طبقة منها تحديد رؤيتها الأيدلوجية والسياسية أو إنشاء أحزابها المعبرة عن مصالحها الاقتصادية بصورة واضحة ، ينطبق ذلك على " البرجوازية " بمثل ما ينطبق على " الطبقة العاملة " ، وذلك يعود لأسباب داخلية وخارجية : الأولى ترتبط بخصوصية الأنماط الاجتماعية والاقتصادية التي حكمت مسار التطور الاجتماعي التاريخي في بلادنا بوتائر ومعايير مختلفة تماماً عن تلك التي حكمت مسار التطور في البلدان الأوروبية ابان عصر النهضة ، أما الثانية ، الأسباب الخارجية ، فهي تعود بالدرجة الأولى إلى تعمق وتكريس مظاهر التخلف والتبعية عبر الهيمنة الاستعمارية الحديثة والمعاصرة التي استطاعت في المرحلة الراهنة ، دمج بلداننا العربية بصورة ذيليه تابعة وخاضعة لنظام العولمة  الرأسمالي.
والإشكالية الكبرى، أن المجتمع العربي يتعرض اليوم لهذه الأحوال المأزومة بكل أبعادها ، في اللحظة التي انتقل فيها العالم من مرحلة تاريخية سابقة ، إلى المرحلة الجديدة أو العولمة ، بتسارع غير مسبوق ، وبمتغيرات نوعية تحمل في طياتها ، في الحاضر والمستقبل ، تحديات غير اعتيادية ، لا يمكن امتلاك القدرة على مواجهتها إلا بامتلاك أدواتها المعرفية والعلمية ، وهو هدف لا يمكن تحقيقه في ظل استمرار بقاء السيطرة الإمبريالية على قدراتنا عبر تحالفها غير المقدس مع أنظمة التبعية والخضوع في بلادنا من جهة ، او في ظل استفحال مظاهر التخلف والاستبداد من جهة ثانية ، بما يؤكد على ترابط العاملين الداخلي والخارجي ، ومواجهتهما معاً في سياق عملية التغيير المطلوبة لمجتمعنا العربي بعكس ما يدعو " تقرير التنمية الإنسانية إلى الاقتصار على العامل الداخلي وحده ،ذلك إن " الاستلاب الأيدلوجي بشكليه السلفي والاغترابي هو ابرز الآليات الداخلية التي تعيد إنتاج التأخر ، وتعيد إنتاج الاستبداد وتحافظ على البنى والعلاقات والتشكيلات القديمة ما قبل القومية ، فالعلاقة بين المستوى الأيدلوجي السياسي والمستوى الاجتماعي الاقتصادي ، هي علاقة جدلية ، تحول كل منهما الآخر في الاتجاهين "[31]
إن جوهر الأزمة في مجتمعاتنا العربية لا يكمن في ضعفها المعرفي الراهن ، أو عجزها في مواكبة العصر من حيث التقدم العلمي والتكنولوجي ، بل يعود بالدرجة الأولى إلى أن بلداننا العربية عموماً لا تعيش زمناً حداثياً أو حضارياً ،ولا تنتسب له جوهرياً ، وذلك بسبب فقدانها ، بحكم تبعيتها البنيوية ، للبوصلة من جهة ، وللأدوات الحداثية الحضارية والمعرفية الداخلية بحكم تطورها المشوه من جهة أخرى، ذلك هو الجوهر الذي يستوجب التحليل والتشخيص ، لمعرفة السبل والآليات الضرورية لتغييره وتجاوزه ، وليس الوقوف – كما فعل تقرير التنمية الإنسانية العربية – أمام مظهر الأزمة أو شكلها الخارجي الذي لم يقدم شيئا إضافيا سوى مزيد من الإحباط والألم .
   2.    اقتبس التقرير مصطلح " الحكم الصالح  good governance" الذي ظهر مؤخراً في دراسة قدمتها مؤسسة " كوفمان وشركاه " الأمريكية ، إلى البنك الدولي خلال عام 1999[32] اعتمدت على معيار " فعالية الحكومة " أو " كفاءة الحكم " من خلال مجموعة من الإجراءات الشكلية أو المراسيم القانونية كتلك التي جرى تطبيقها في السودان وسلطنة عمان وقطر ، والتي اعتبرها " تقرير التنمية الإنسانية العربية " تطورات إيجابية تجسد مفهوم الحكم الصالح في تلك البلدان ، رغم أن هذا المؤشر – الأمريكي – لم يتطرق لعدالة توزيع الدخول والثروات والسلطة في المجتمع كمقياس لجودة الحكم الصالح ، ما يدل بوضوح على أن فريق التقرير قام بتثبيت هذا المصطلح والدفاع عنه استجابة لوجهة نظر العولمة الأمريكية بما يؤكد استنتاج الكاتب الأمريكي " توماس فريدمان " الذي كتب معلقاً على أهمية تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002 في صحيفة " نيويورك تايمز " الأمريكية أن " الشارع العربي قد يتخذ موقفاً مسانداً للولايات المتحدة الأمريكية في ضرب العراق ، إذا أعلنت إن أهدافها تمكين الشعب العراقي من تطبيق تقرير التنمية الإنسانية العربية ونزع أسلحة الدمار الشامل العراقية "[33] ! والسؤال هنا ، لماذا هذا الترويج لمفهوم الحكم الصالح ؟ لماذا لا نركز بوضوح شديد على تطبيق مفهوم واليات الديموقراطية في بلادنا بدلاً من اللجوء الى هذا المفهوم الملتبس ؟
   3.    في تناوله لمفهوم الحرية ، ينطلق التقرير في الدعوة لهذا المفهوم وتطبيقاته في بلادنا من الأسس الحاكمة للاقتصاد الرأسمالي وحرية السوق ، بما يجعل من حرية الأفراد في مجتمعاتنا رهينة لتلك الأسس ، والسؤال: ما قيمة هذه الحرية مع الجوع والفاقة والحرمان لما يقرب من مائة مليون عربي يعيشون عند خط الفقر ( أقل من دولارين يوميا للفرد ) أو دونه ( أقل من دولار في اليوم ) لا يستطيعون إشباع حاجاتهم الأساسية ، لعجزهم عن تأمين الحد الأدنى لتغطية هذه الحاجات ، فأي حرية هذه ؟ إنها حرية قوانين اقتصاد السوق ،                                           التي لا تعني سوى حرية المنافسة ، التي لا يملكها سوى القلة البيروقراطية المتنفذة في أنظمة الحكم من ناحية ، وحلفائها من الشرائح الطبقية العليا ، الكومبرادورية ، والطفيلية من ناحية ثانية ، لا يهمهم سوى مراكمة الأموال بأي ثمن كان ، ولا يفرحهم إصدار مجموعة من القوانين أو اللوائح التي تحمل في طياتها شكلا من أشكال الانفراج السياسي كما جرى في السودان وقطر وسلطنة عمان ، التي يرى فيها التقرير ـ بدون وجه حق ـ " تطورات إيجابية " ، رغم أنها في الحقيقة ليست سوى استجابة لبرنامج وشروط العولمة الأمريكية في بلادنا ، عبر تطبيق مفهوم الحرية وفق معايير المؤسسة الأمريكية المسماة " بيت الحرية  Freedom house" التي أشاد والتزم بها التقرير الأول عام 2002 ، واستخدمها – بطريق مباشر أو غير مباشر – تقرير التنمية الإنسانية العربية دون أن يأخذ بعين الاعتبار الملاحظات النقدية من الخبراء العرب على التقرير الأول ، وهي ملاحظات لم تنكر قيمة الحرية ومغزاها وضرورتها ، ولكنها تصدت لعملية فصل مفهوم الحرية عن الواقع ، أو تجريده من متطلباته المادية ، وأولها إشباع الحاجات الأساسية للناس وتأمين الدخل اللائق الذي يوفر لهم القدرة على فهم معناها وقيمتها وممارستها ، وإلا تصبح الحرية بالضبط قيمة معزولة عن الواقع ، كما يجري في بلادنا العربية عموما وفلسطين والعراق خصوصاً .
  4.     الملاحظة الرابعة التي تشكل في رأينا مأخذاً خطيراً على التقرير ، تتعلق بإطلاق صفة " القتلى " على شهداء شعبنا الفلسطيني الذين مارسوا حقهم المشروع في مقاومة المحتل وضحوا بحياتهم من اجل حرية واستقلال بلادهم ، ورغم ذلك وصفهم التقرير بتلك الصفة في استخدامه لتعبير " الضحايا من المدنيين الإسرائيليين الأبرياء … وان وقوع هؤلاء الضحايا هو على الدوام مأساة إنسانية إلى جانب العدد الضخم من الفلسطينيين " حسب نص التقرير[34] . وهو نص لا تحكمه "المصادفة" ، بل يحكمه ويتحكم فيه وعي فريق        التقرير – أو معظم أفراده – ونظرتهم إلى وجود دولة العدو الإسرائيلي ودورها            في بلادنا.      
المسالة الأخرى في هذا الجانب ، ان التقرير تناول الوضع الفلسطيني ، رغم أهميته وخطورته ، بصورة محدودة جداً لم تتجاوز ثلاث صفحات ، معتمدا في معلوماته الرئيسية عن أحوال شعبنا الفلسطيني على الوكالة الأمريكية للتنمية Usaid  وجامعة هو بكنز ، رغم إدراك رئيس الفريق المركزي وأعضاءه واطلاعهم على التقارير الموضوعية الصادرة عن المراكز الفلسطينية المنتشرة في الضفة والقطاع والخارج ، المعنية بمتابعة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية لشعبنا ومعاناته الناتجة عن همجية العدو الإسرائيلي وعنصريته ارتباطاً بهمجية نظام العولمة الأمريكي وبشاعته .
   5.    لم يتعرض أو يتناول التقرير مفهوم القومية العربية أو الوجود القومي العربي ، واستخدم في كثير من المواقع ، تعبير " المنطقة " في إشارة – غير مباشرة – إلى إسرائيل والبلدان العربية معاً ، ما يدل على استجابة فريق التقرير ، لشعار كوسموبوليتية العولمة التي تتضمن القفز عن القضايا القومية عموماً ، والقضية القومية العربية خصوصاً ، وهو موقف غير مستغرب من أصحاب الفريق الذين استندوا في صياغة التقرير إلى الليبرالية – الجديدة كأيدلوجية وحيدة تعبر عن نظام العولمة الإمبريالي الراهن .   
وفي هذا السياق نقول بصراحة وموضوعية ، إن القبول بإسرائيل ككيان طبيعي في منطقتنا العربية ، سيظل أمرا غير قابل للتحقق ، إذ إن هذه الدولة لن تصبح في يوم من الأيام جزءاً من نسيج المنطقة العربية ولن تتخطى يوما دورها الوظيفي المرسوم ضمن المشروع الإمبريالي كمركز للسيطرة على الوطن العربي ومقدراته ، بما يملكه من آليات القوة والإكراه المتوفرة له راهناً ، في مقابل آليات الضعف والاستسلام السائدة في بلادنا العربية ، وهي معادلة شاذة لن تحقق التعايش أو السلام أو التنمية أو التقدم ، بل تعيد إنتاج آليات الصراع العربي – الإسرائيلي انطلاقاً من نزوع وتطلع شعوبنا العربية نحو الانعتاق والنهوض والوحدة ، إذ لا سبيل أمام أي قطر عربي للخروج من المأزق الراهن صوب التحرر والتنمية والعدالة الاجتماعية بغير العمق القومي العربي وبعده الإنساني النقيض للعولمة وأصحابها .
   6.    أشار التقرير إلى غزو العراق للكويت معتبرا هذه العملية ، تهديداً للأمن القومي العربي ، في مقابل إغفاله الاحتلال الأمريكي للعراق الساعي إلى إعادة تشكيل بلداننا العربية أو إعادة تفكيكها وتجزئة التجزئة التي فرضها على بلادنا اتفاق سايكس بيكو .
   7.    استعان التقرير بمفهوم " عملية توسيع خيارات البشر " للاقتصادي الهندي " أمارتياسن" دون أن يهتم بإيراد تفاصيل " الحقوق الإنسانية الأساسية في مجال التبادل " التي حددها "أمارتياسن" على النحو التالي [35]: 
·            الحق في التوظف . 
·                       والحق في الحصول على دخل يحقق الحياة الكريمة .
·                       والحق في أن تكون أثمان السلع والخدمات في متناول المستهلك .
 كما اقترح التقرير الجمع بين مفهومي " رأس المال المجتمعي " الذي يتكون من مجموعة الموجودات الرأسمالية التي تكون ملكاً للنشاط الاقتصادي في مجموعه[36] " ورأس المال البشري " الذي يتكون مما يمتلكه الفرد من قدرات ومهارات تساعده على أن يكسب دخلاً [37] لكي يكتمل مفهوم " رأس المال الإنساني " الذي يعتبره التقرير جديراً بالاقتران بمفهوم التنمية الإنسانية ، وهنا لا يتورع أصحاب التقرير عن الترويج للرأسمالية المعولمة باسم مفهوم " رأس المال الإنساني " الذي يعتبره التقرير " جديرا بالاقتران بمفهوم التنمية الإنسانية" . والحقيقة أن هذا المفهوم ، المطبق في بلادنا بأشكال متعددة ، لن يجلب لشعوبنا سوى مزيدا من التبعية التي لن تنتج سوى أشكالا خبيثة من التنمية في إطار العلاقات الرأسمالية المشوهة التي رافقت تطبيقات الخصخصة وما أفرزته من أشكال البؤس والمعاناة والجوع للملايين من عمال وفقراء شعوبنا العربية، بعد تفكيك وبيع مؤسسات القطاع العام التي اعتبرها خطوة على طريق الإصلاح الاقتصادي ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ رغم وعي أعضاء الفريق بدور القطاع العام في خدمة الجماهير الواسعة وتلبية احتياجاتها من السلع الضرورية .
 
وأخيراً ، بقي أن نشير إلى أن ما تحتاج إليه شعوبنا في هذه المرحلة ، كما بالأمس يتمحور عند مشروع النهوض المجتمعي ، الوطني والقومي الذي " يحقق تقدماً متزامناً ،  ومتوازناً في الاتجاهات الثلاثة : التقدم الاجتماعي ، مقرطة المجتمع ، بوصفها عملية دائمة وليس مجرد " وصفه " أو " مخطط " جاهز ، وأخيراً التأكيد على الطبيعة المتمركزة على الذات للمشروعات المجتمعية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية "[38] المستقلة للإسهام في توليد آفاق المستقبل الذي تتطلع إليه شعوبنا وشعوب العالم المستضعفة والفقيرة ، عبر الخلاص من عدوها الوحيد الواضح ، وهو " رأسمال القلة الاحتكارية المعولم والإمبريالي المسيطر والى جانبه مجموع القوى السياسية التي تقف في خدمته اليوم ، وهذا يعني حكومات الثالوث الأمريكي – الأوروبي – الياباني ، وحكومات الطبقات الحاكمة الكومبرادورية والتابعة في بلدان الجنوب ( كما في بلادنا العربية ) ويتحرك هذا العدو في إطار استراتيجية اقتصادية ، سياسية ، أيديولوجية ، عسكرية  مشتركة ، ولديه مجموعة من الهيئات المجندة لخدمته ( المنظمة الأوروبية للتعاون والتنمية ، والبنك الدولي ، صندوق النقد الدولي ، ومنظمة التجارة العالمية ، وحلف شمال الأطلسي … الخ ) . ولديه مراكز " الفكر " وأماكن اللقاء في دافوس ، وغيرها من النوادي والجامعات ، وهو يخترع الشعارات البراقة في الخطاب الذي يفرضه مثل " الديموقراطية أو " حقوق الإنسان " و" محاربة الفقر " والحرب ضد " الإرهاب " … الخ .[39] بما يخلق مزيداً من الأزمات في وجه شعوبنا ، وبما يفرض على القوى والأحزاب الطليعية العربية أن تجدد نفسها وبنيانها وان تخرج من أزماتها وضعفها الشديد وتخلفها ، وترتفع إلي المستوى الذي يسمح " ببلورة استراتيجيات القوى الشعبية ، سواء على مستوى إدراك عالمية الاعتماد المتبادل بينها ، أو على مستوى التعبير الجزئي والمحلي ( على الصعيدين القطري والقومي ) ، وهنا فقط يمكن للمبادرة العامة التي تحدد شكل البديل أن تتجسد في شكل برامج وتحركات تكتسب قوتها من تنوعها ، وفي الوقت ذاته تجمع آثارها على المجتمعات الحقيقية. وهنا فقط ، تصبح " الحركة " القوة المحركة للتاريخ "[40] من أجل المساهمة في بناء النظام السياسي العالمي الجديد الرافض لسلطة رأس المال الاحتكاري ، المحقق للحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية لكل شعوب كوكبنا. ما يعزز هذا التوجه ويغذيه – بدواعي الحركة والقوة والمواجهة – معاناة هذه الشعوب ، وإذلالها واستعبادها وإفقارها على يد نظام العولمة والياته المتوحشة ، وهي معاناة كشفت إلى حد بعيد – سواء في الوعي العفوي للشعوب المضطهدة أو في وعي نخبتها الطليعية – ان هذه العولمة تحمل تناقضا صارخاً يكشف زيف ادعاءاتها عن الديموقراطية والتنمية وحقوق الإنسان في بلادنا ، وهو تناقض يتجسد في هذا التزايد المتسارع من الدمج والهيمنة والتمركز الاحتكاري الذي ينفي بصورة كلية أي إمكانية للمنافسة أو التعددية المزعومة ، بل يهدف إلى مزيد من الإلحاق والتبعية صوب الاحتواء الكامل لثروات هذه الشعوب ومقدراتها ، بما لا يترك أمام هذه الشعوب خياراً ، سوى التأسيس للبديل الشعبي المنظم شرط امتلاك الرؤية العقلانية ومنهجيتها السائدة في عالم اليوم ، وفهمها واستيعابها ودمجها – كما يقول الياس مرقص [41] " في فكرنا ووعينا وروحنا مستلهمين في ذلك ديالكتيك هيجل وماركس الذي يؤسس لخيار الاشتراكية غير المرئية الآن ، خيار العولمة الإنسانية البديلة لنا وللعالم أجمع .
 
 


[1] د. هشام غصيب – جدل الوعي العلمي – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – عمان – الأردن 1992ص13
[2] نبيل علي – اقتصاد المعرفة – وجهات نظر – العدد 59 – القاهرة – ديسمبر 2003 – ص28  .
[3] المصدر السابق – ص29
[4] المصدر السابق  - ص29
[5] الموسوعة الفلسفية – ترجمة سمير كرم – دار الطليعة – بيروت – الطبعة الرابعة – 1981 - ص
[6] محمود العالم – الفكر العربي بين الخصوصية والكونية – دار المستقبل العربي – القاهرة – 1996ص196
[7] المصدر السابق –ص 197
[8] د. محمد عابد الجابري – تكوين العقل العربي –مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – الطبعة الثالثة –1988 – ص332 .
[9] المصدر السابق – ص333 .
[10] المصدر السابق ص346
[11] المصدر السابق ص347
[12] ماهر الشريف – رهانات  النهضة في الفكر العربي – دار المدى – دمشق – الطبعة الأولى 2000-ص149 .
[13] المصدر السابق – ص 149
[14] المصدر السابق – ص270
[15] المصدر السابق – ص 253
 
[16] المصدر السابق – ص255
[17] المصدر السابق – ص 261
[18] المصدر السابق – ص280
[19] المصدر السابق – ص 282
[20] المصدر السابق ص 283
[21] كمال عبد اللطيف – قرارات في الفلسفة – دار الطليعة – بيروت –1994 –ص37
[22] محمود العالم – الفكر العربي بين الخصوصية والكونية – دار المستقبل العربي – القاهرة – 1996 –ص97
[23] د. رمضان بسطاوي – فلسفة المعلومات والتكنولوجيا – قضايا فكرية – العدد 15/16 القاهرة – يوليو 1995 –ص471
[24] محمود العالم – مصدر سبق ذكره – ص227
[25] د. إبراهيم العيسوي – التنمية في عالم متغير – دار الشروق – القاهرة – الطبعة الثانية – 2001 – ص46
[26] د. يوسف صايغ – الإمكانات الاقتصادية الإسرائيلية – الجزء الأول – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – 2000 –ص411
[27] د. حسين أو النمل – المصدر السابق – ص428
[28] د . محمود عبد الفضيل – التشكيلات الاجتماعية / الطبقية في الوطن العربي ( 1945 – 1985 ) – مركز دراسات الوحدة – بيروت – 1988 – ص29 
[29]  المصدر السابق – ص111
[30] المصدر السابق – ص144
[31] جاد الجباعي – التبعية وإشكالية التأخر التاريخي – كتاب جدل – العدد الثالث – مؤسسة عيبال – قبرص – 1992 – ص145
[32] د. محمود عبد الفضيل – وجهات نظر – العدد 47 – ديسمبر 2002
[33]  رياض أبو ملحم – تقرير التنمية الإنسانية العربية 2003 من الصدمة إلى العلاج – جريدة البيان الاماراتية www.albayan.ae 12/11/2003 .
[34] تقرير التنمية الإنسانية العربية 2003 – ص28
[35] د. محمود عبد الفضل – وجهات نظر – العدد 47 – القاهرة – ديسمبر 2002
[36] د. عبد العزيز هيكل – الموسوعة الاقتصادية – دار النهضة – بيروت – 1986 – ص787
[37] المصدر السابق – ص392
[38] سمير أمين ، البديل للنظام النيوليبرالي المعولم والمسلح – المستقبل العربي – العدد 298 – ديسمبر 2003 – ص12
[39] سمير أمين – المصدر السابق – ص16
[40] سمير أمين – المصدر السابق – ص16
[41] الياس مرقص – نقد العقلانية العربية – دار الحصاد للنشر – بيروت – 1997 – ص561



#غازي_الصوراني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ورقة أولية حـول : الإشكاليات التاريخية والمعاصرة لهيئات الحك ...
- الاصدقاء الاعزاء في منتدى الحوار المتمدن
- التشكيلة الرأسمالية وظهور الفلسفة الماركسية
- حول فلسفة هيجل وفيورباخ
- الفلسفة الأوروبية الحديثة(1) عصر النهضة وتطور الفلسفة الأورو ...
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية ) والفلسفة ...
- -محاضرات أولية في الفلسفة وتطورها التاريخي - مدخل أولي في ال ...
- ورقـة :حول الواقع الاقتصادي الفلسطيني الراهن
- عرض كتاب : الليبراليــة المستبـدة دراسة في الآثار الاجتماعية ...
- دور القوى والجماهير الفلسطينية في مجابهة تحديات الحاضر والمس ...
- الواقع الراهن للاقتصاد الفلسطيني وآفاقه المستقبلية
- التنمية والمقاومة بين التناقض والتكامل
- الأوضاع الفلسطينية في ظل الانتفاضة الثانية والعلاقات الدولية ...
- المجتمع الفلسطيني في انتفاضة الأقصى
- العولمـة وطبيعة الأزمات السياسيـة/الاقتصاديـة/الاجتماعيـة في ...
- أزمة حركة التحرر القومي العربي الراهنة وآفاق المستقبل
- المرأة الفلسطينية ودورها في التاريخ الحديث والمعاصر
- ورقة مقدمة للحوار حول : مشروع منتدى الفكر الديمقراطي الإشترا ...
- العولمة وطبيعة الأزمات السياسية الاقتصادية الاجتماعية في الو ...
- التطور التاريخي لمفهوم المجتمع المدني والأزمة الاجتماعية في ...


المزيد.....




- آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد ...
- الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي ...
- فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
- آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
- حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن ...
- مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
- رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار ...
- وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع ...
- -أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال ...
- رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - غازي الصوراني - مجتمع المعرفة في الوطن العربي في ظل العولمة - على هامش اصدار -تقرير التنمية الانسانية العربية للعام 2003 –نحو اقامة مجتمع المعرفة