مدينة المليون عريف هل حقا ستصبح مدينة المليون نخلة!؟

طارق حربي

الحوار المتمدن-العدد: 2326 - 2008 / 6 / 28 - 12:37
المحور: كتابات ساخرة
    

كلمات
-200-
في القطار الصاعد من البصرة إلى بغداد ذات نهار قائظ من سنة 1983، وبينما كنت عائدا في إجازة دورية، سألني الجندي الجالس بجانبي بعدما تعارفنا، وكان من سكنة الموصل : من وين الأخ!؟..أجبته من الناصرية!؟، ودار حوار بيننا عن الحرب والموت الزؤام والهجومات ووو، وفي سياق الحديث ذكرت له إني كنت في زيارة لإبن عمي برتبة رائد (*)، وهو آمر أحد الإفواج في شرق البصرة أيضا، ووتقع وحدته غير بعيد عن وحدتي العسكرية (اللواء الخامس والعشرون)، فبادرني الجندي مازحا : من اين لكم ضباط في الجيش ياأهالي الناصرية فالمعروف أنكم جميعا إما جنود أو ضباط صف، والعراقيون يطلقون عليكم تسمية مدينة المليون عريف!!
لاأعرف من أين جاءت التسمية لكن أرجح أنها من افتراءات النظام البائد، لغرض النيل من ابناء الناصرية الكرام والتنكيل بهم، مثلما أطلق من قبل صفة الشجرة الخبيثة وغيرها، وكلها تقصر أن تنال من مدينة ناضلت وضحت، وعانت ومازالت!!
لكن الناصرية كانت المصدر الأكبر في رفد الجيش العراقي بضباط الصف والجنود، وحمل انحسار القطاع الزراعي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، الكثرة من المتطوعين من ابناء الفلاحين للانخراط في سلك العسكرية، وقبل ذلك كانت الناصرية حاضنة للواء 14 الذي كان له صيت ذائع وتضحيات في سنة 1948 في فلسطين.
عجيبة هذه الناصرية : مبدعة ثائرة تستند إلى إرث حضاري يعتبر مهد البشرية وأول الحرف وأول قيثار يضرب فيها، متمردة لامبالية كما لو سرقت منها ألواح القدر السومرية، أقيم في النرويج منذ خمسة عشر عاما وقلبي عليها منذ خمسين، أكتب عنها كما لو أني أعيش فيها وأتصفح وجوه أهلها الطيبين في شارع الحبوبي، مدينة نشوانة مسروقة منهوبة في العهدين لكني أقرأ وأسمع عن نهضة عمرانية فيها، واكتشاف حقول نفطية جديدة، مغبرة غبارا أصفر كأنها مضروبة بالكيمياوي، وكأنما أبرق محافظها قبل قليل إلى بغداد لطلب المزيد من أقنعة الوقاية!، أمشي في شوارعها خلال العواصف الترابية صيفا فلاأكاد أرى الصديق بجانبي ولاحتى أصابعي، مدينة عجيبة تقع على الفرات وتشرب من دجلة، وبنيت بأخفض من مستوى النهر لكي تفيضها الحكومة على سكانها لأقل تمرد، تتأثر بمنخفض موسمي حراري في الهند (حسب تصريح مدير الأنواء الجوية السيد . السيد عبد المحسن كاطع..مؤخرا) فتنهال عليها العواصف الترابية، ورغم كل ذلك، كل ماأصابها ويصيبها لاتتوقف عن ولادة الجنود وضباط الصف ولا المبدعين والأكاديميين والمفكرين!
ومثل بقية المدن العراقية تنعكس عليها أيضا موجة الكساد العالمي سنة 1930 فترد عليه بطلائع شبابها وأولى التشكيلات الشيوعية بزعامة فهد، وحال الناصرية مثل حال بقية مدن العراق الذي يعزو حنا بطاطو تمردها إلى سببين أذكرهما لكن ليس حرفيا:
1- مشكلة المدن الواقعة على الأنهار باعتبارها مصدر زراعة وتعرضها لغزوات البدو والرحالين والصراع على الطعام والأرزاق
2- عدم الثقة المتبادلة بين تلك المدن والمركز
وإذا كانت الناصرية تعرضت إلى إهمال مدروس في السابق، من أي خطة لتطويرها وعمرانها باعتبارها من المدن المتمردة، وضنَّ عليها النظام البائد حتى بحزام أخضر لدرء شر العواصف الترابية، لابل عمد إلى قص القصب في أهوارها (منتصف الحرب العراقية الايرانية) للبحث عن الهاربين من الخدمة العسكرية والمتمردين على السلطة الجائرة، فهي اليوم أفقر مدينة عراقية على الإطلاق، فإضافة إلى الإهمال نكبت هذه المدينة المبدعة بالآلاف من أبنائها في الحرب العراقية - الإيرانية مطلع الثمانينات، وأكثرهم لم يكونوا متطوعين (خارج تهمة المليون عريف على أية حال!) بل هم أجيال من الخريجين والبسطاء والكسبة، وقبل ذلك دُفع الآباء والأجداد دفعا إلى الموت في فلسطين وعلى جبال كردستان، وفي أي مكان دفعت بهم غرائز البقاء للأنظمة العراقية البائدة، وهكذا صارت فيها كثرة من الشهداء وضحايا الحروب : حرب 1948 وحرب1975 وحرب1980 وحرب1991 وحرب2003
حسنا فعلت الناصرية أنها استبدلت تسمية المليون عريف بمليون نخلة، فلو نشرت مليون بدلة عسكرية في أجواء الناصرية اليوم، لأصبتَ بالرعب والكآبة من المنظر الأسود، لكن زراعة مليون نخلة تعني أن المدينة كفرت بالحروب المفروضة على أبنائها وعادت إلى هويتها، مستبدلة بزة الحرب ببدلة الطبيعة الخضراء، وماأروع العودة إلى أحضان الطبيعة والتمتع بجمالها وخيرها الوفير، فتزامنا مع يوم البيئة في (5 حزيران) ستقوم مديرية بلدية الناصرية [بزراعة مليون فسيلة نخل وشجرة في الحدائق والساحات العامة المتوزعة على عموم محافظة ذي قار حسب توجيهات وزارة البلديات والاشغال العامة]، وتأتي هذه ضمن برنامج وطني لزراعة 15 مليون نخلة في عموم العراق العزيز..
و[إن المديرية حققت نسبة متقدمة في زراعة الحزام الأخضر الذي سيحيط بخصر المدينة ويمنع عنها العواصف الغبارية وسيكون هلالا أو حرف C يحيط بمدينة الناصرية من الجهة الشمالية الغربية إلى الجنوبية الغربية، وأكثر من ذلك [ زراعة مئة دونم من زهرة عباد الشمس]
الموصل مدينة المليون ضابط والناصرية مدينة المليون عريف تكريت وملحقاتها مدينة المليون عنصر مخابرات، إلى آخر التسميات التي أطلقتها دولة المنظمة السرية وعسكرة المجتمع العراقي، زالت كلها ومابقي إلا وجه العراق الكريم وإحدى مدنه العزيزة الناصرية، حيث تشهد نهضة عمرانية واسعة ومشاريع، ومن ضمنها مشروع الحزام الأخضر، الذي سيقف بوجه العواصف الترابية الهابة من شمال المدينة وشمالها الغربي، أي الأراضي الواقعة من شمال قلعة سكر، وصولا إلى ناحية البطحاء ذات الرمال الناعمة المتأثرة بالمنخفضات الجوية، والمسببة لتلك العواصف.
مشروع سيغير مزاج الناس حتما ويشعروا بآدميتهم، وكل نهضة تتطلب إخضرار وجه الأرض ودوران العجلات في المصانع، وتتحول ذكريات المليون عريف المأساة إلى مليون نخلة اتصالا بملايين النخيل في الجنوب العراقي الأصيل.
(*) اغتاله الإرهابيون في بغداد سنة 2006 وبعد إسبوعين تقريبا اغتالوا ولده الأكبر !
[email protected]
http://summereon.net
27.6.2008

#طارق_حربي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات