|
التلوث الثقافي...الثقافة والثقافة المضادة
إسماعيل الحمراوي
الحوار المتمدن-العدد: 2321 - 2008 / 6 / 23 - 10:16
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
يعتبر مصطلح التلوث الثقافي من المفاهيم المرتبطة بالبيئة، إلا أن هذا الاصطلاح فاق استعماله في جانبه الأولي وأصبح يأخذ طابعا متعدد الجوانب لما له من إلتصاق واضح لمختلف المجالات خصوصا تلك المرتبطة بالانسان. إن الثقافة باعتبارها المكون الأساسي لمعارف ومكتسبات الإنسان التي يربى عليها من خلال عالمه الخارجي ومؤسساته الإجتماعبة أصبحت تعاني من أشكالية كبيرة تستدعي الوقوف عند معالمها لتوضيحها والأخد في تفاصيلها؛ إنها إشكالية التلوث. موضوع التلوث الثقافي ليس بالموضوع الجديد بل هو ذلك المفهوم الذي تعاقب عبر الحضارات واستعمل كسلاح للسيطرة و الهيمنة الثقافية وهو بذلك تجاوز علاقة النمو الثقافي بالفكر الإنساني ليضع حدود تندثر فيها تلك العلاقة لتعيش أزمة ثقافة أوبالأحرى تتبنى المفهوم، اي أصبحنا نعيش تلوث ثقافي. فهذا الأخير أضحى يأخذ لنفسه عدة تجليات من خلال 4 مستندات أساسية:
1- المستند التاريخي...سيرورة الانتاج و اعادة الانتاج:
يعتمد على بلورة ثقافة عكسية من خلال تلويث التأريخ ومحاولة تزييف الحقبات التاريخية في إطار مراجعات يقال عنها علمية، بيد أنها تحمل في طياتها ايديولوجيات ضيقة تتضارب مع هوياتها الأصلية التي هي في العمق ثقافة الثقافة الانسانية. لقد عرف التاريخ تحولات ملحوظة منذ الحضارة الأغريقية إلى يومنا هذا، وكانت كل حضارة تحاول أن ترسو على أخرى لتسعى من ورائها؛ الهيمنة على ثقافتها بدعوى أنها ثقافة متجاوزة لاتواكب العصر ولاتخدم الصالح العام؛ فيكون بذلك التلوث الثقافي هو القاعدة القانونية لمحاكمة الثقافة وإبادتها ورميها في مزبلة التاريخ. بالفعل، فان هذه الثقافة الملوثة هي ثقافة صراع ذاتي من اجل البقاء نادى بها حتى العلامة افلاطون من خلال قولته الشهيرة " الحمد لله الذي خلقني يونانيا لابربريا وحرا لاعبدا" وهو بذلك يكون قد استعمل الى حد ما خطابا نفعيا ضيقا لا يتجاوز الحدود الثقافية للحضارة الاغريقية ويبقى محصورا في دائرتها الجغرافية..فإذا صرح الكل من جانب ثقافته وقال عكس ماقاله افلاطون ...الحمد لله الذي خلقني عربيا...صينيا..اولم نجد في ذلك تراشقا ثقافيا يلوث احدهما الاخر ؟ لقد ظهر التلوث الثقافي عبر التاريخ على يد الانتربولوجيون عندما توجهوا لبلدان افريقيا و امريكا اللاتينية في محاولة منهم لتمدين الشعوب التي كانوا يعتبرونها ( متوحشة ) - على حد قولهم - أما الان فأصبحنا نشاهد تطور هذا المفهوم من خلال تمركز اسلحة القوى والهيمنة في يد ايديولوجية وحيدة تحارب كل من ليس له علاقة مع قطبيتها في محاولتها تلويث ثقافتها...
2- المستند السياسي...فن ازدواجية الاضاد :
لقد عرف بعض من فقهائنا السياسة بانها "فن الممكن" و تناولها اخرون بانها "فن ازدواجية الاضاد" فبين المفهوم الاول والمفهوم الثاني يظهر جليا وبوضوح مقوم اساسي يوضح لنا معالم العمل العمل السياسي اليوم، بيد ان تلك المعالم تشوبها نيات وخلفيات ثقافية تسعى من ورائها فرض الوجود و الهيمنة على من هو اقل منها... فالمقوم الايديولوجي اصبح ياخذ لنفسه العصمة والعفة واضحى كل من جانبه يحلل واقعه بقناعاته الخاصة في جو يطغى عليه طابع الصراع وتلويث للافكار.. وترانا اليوم نعيش في عالم الغاب بنوع اخر تصلح فيه نظرية القوي يأكل الضعيف... فكل ايديولوجية الا وتستند على ثقافة و كل ثقافة الا وتحارب الاخرى في سعي كل واحدة منها استعمال نقط ضعف الاخرى لتلويث وتشويه ثقافتها لتظهر في سوق السياسة كمثال للعمل السياسي المنقذ للمجتمعات رغم تبنيها لثقافة الرجعية و الانتهازية التي تستغل ثقافة البراءة و الامية لدى الشعوب. لم تعد قواعد اللعبة السياسية تحترم ولم يعد في العمل السياسي ماهو في الاصل سياسي لان جوهره "التدبير" وليس "التبدير" واختفت مع دوليبه ثقافة تدبير الاختلاف واندثرت معه ثقافة الديمقراطية وثقافة حقوق الانسان واصبحنا نعيش في مستنقع " العمل السياسي و التلوث الثقافي بين التدبير و التبدير " واختلطت الاوراق السياسية بين ثقافة التلوث و التلوث الثقافي ..فهل من مهدي منتظر في العمل السياسي ...
3- المستند الاجتماعي...بوتقة التلوث الثقافي:
لعل اهم مايثير نقاشا حول هذا المستند هو مسالة الثقافة الشعبية السائدة التي اصبحت تعرف تباعد و انفصام على مستوى مكوانتها، وذلك راجع بالاساس الى طبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة وعلاقاتها بالمؤسسات التنشئوية ناهيك عن عملية الانفتاح التي يعرفها عالمنا اليوم؛ ادى ذلك الى تلويث الثقافة واقحام طبائع ثقافية تساهم في تشويهها وافراغها من محتواها و من عصارته الفكرية للمجتمعات. واصبحنا نعيش ثقافات وافدة ودخيلة تمتزج بثقافتنا وتنحيها جانبا لتأخذ حيزا مجاليا عريضا من مقوماتها الاساسية لتكون بذلك كثقافة - بديلة- فالمجتمع اليوم اصبح يعيش بين تناقضات العالم وازماته الثقافية المزدوجة الخطاب؛ ثقافة الكراهية في مقابل ثقافة الحب، ثقافة الاستعمار مقابل ثقافة الاستقلال، ثقافة الانتهازية مقابل ثقافة التعاون، ثقافة الفردانة مقابل ثقافة التضامن... لقد هاجر الانسان وتطبع تفكيره فعاد بتقليد اعمى ليواجه أجداده..فتبلور الصراع واشتد الخلاف ..وكانت النهاية تلوث ثقافي...لقد استوردنا المقررات الدراسية واكتسبنا نزعة فردانية فمات الشعور الجمعي فينا ...فكانت تبعاتها نشوء اسر نووية .. احترفنا ثقافة التبعية المجتمعية فأصبحنا خاضعين ليس إلا، وتخلينا عن ثقافة المبادرة وروح الانتاج..فكان أن نعتنا بالشعب الاستهلاكي. كل ذلك وغيره من الامثلة التي يندى لها الجبين تدعونا لاعادة النظر في ثقافاتنا وتنقيحها من كل تشويه غير سوي لكي نعيد للثقافة الاجتماعية دلالاتها وسياقتها التاريخية استنادا على هوية ثقافية مختلفة لاوحيدة تخدم مصالح فئة غير أخرى، لنعود في النهاية لثقافة التضامن الميكانيكي المستدام.
4- المستند الاعلامي..ثقافات متعددة في ثقافة واحدة:
إذا كان المستند التاريخي سيرورة للانتاج وإعادة الانتاج للمسألة الثقافية، والمستند السياسي هو فن ازدواجية الاضاد بين ثقافة وثقافة مضادة وكان المستند الاجتماعي بوثقة التلوث الثقافي فإن المستند الاعلامي هو أخطر خطاب لازدواجية " الحوار-الصراع " الثقافي. فهو الرابطة الرئيسية في العلاقة القائمة بين ماهو تاريخي، سياسي و اجتماعي وهو الاصل في نقل المعلومة التي كلما طال تداولها كلما شوهت وحرفت عن طابعها...لذلك اولت الثقافات وتداولت بين ماهو ايجابي وبين ماهو سلبي. فرغم مايميز الاعلام من سمات خاصة إلا أن اعداء الثقافات يترصدون لتأويلات تروقهم فيستغلون ماهو ضعيف بتبنيهم لثقافة الاحتيال الاعلامي والترويج لثقافة مضادة. لقد اصبح العالم اليوم وكما يقال قرية صغيرة تتعدد فيه الثقافات وتتنوع بين ماهو مشترك وبين ماهو مفترق فبواسطة شبكة اعلامية فاقت كل التقديرات اصبحنا امام ثقافات في ثقافة واحدة؛ ثقافة الانترنيت التي شملت جل الثقافات في صورة متعددة الابعاد لكنها وحيدة. قد يراه البعض من زاوية اجابية لكن البعض الاخر لايتنبأ فأل خير عن هذا المستند فهو في بعده السلبي يكرس ثقافة المظاهر التي تعكس ثقافة الجوهر ولا تعطي مكانا للدور بقدر ماتعطيها للمكانة فهو ايضا يكرس ثقافة الشهوات من خلالها يبحث صاحب هذه الثقافة عن تحقيق اللذة الغريزية ليس إلا، هذا إضافة الى ترسيخه لثقافة الاستهلاكية وكذا الثقافة الجنسية. فهل يمكننا اذا نستغني عن هذا المستند؟ للوهلة الاولى سنقول " لايمكن الاستغناء عنه" لكن لابد لنا ان نرقى به الى مستوى الحياد الثقافي لاأن يساهم في التطبيع الثقافي..
اذا كان من الضروري التحدث فلا بد من الحديث وإذا كان من الضروري السكوت فلا بد من السكوت فمن خلال الحديث والسكوت نسجل مواقف... فأين موقفنا من التلوث الثقافي؟؟؟ وحتى نعرف قيمة القيم الثقافية فلنحاول أن نتجاهل هوتنا وحتى نعرف قيمة هوتنا فلنتجاوز ثقافة قيمنا ...فإذا علمنا أبنائنا ثقافة الخنوع فماذا ننتظر؟...
#إسماعيل_الحمراوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشباب المغربي بين المطرقة والسندان (1)
-
الشباب والفضاءات غير المهيكلة...رسائل ومواقف مشفرة
المزيد.....
-
وزارة الصحة اللبنانية: مقتل 13 شخصًا جراء غارات إسرائيلية ال
...
-
زيلينسكي يتوقع الحصول على مقترحات ترامب بشأن السلام في يناير
...
-
مصر تتطلع لتعزيز تعاونها مع تجمع -الميركوسور-
-
زالوجني: الناتو ليس مستعدا لخوض -حرب استنزاف- مع روسيا
-
أكبر الأحزاب في سويسرا يطالب بتشديد قواعد اللجوء للأوكرانيين
...
-
استطلاع جديد يوضح بالأرقام مدى تدهور شعبية شولتس وحزبه
-
الإمارات.. وزارة الداخلية تحدد موعد رفع الحظر على عمليات طائ
...
-
هل تشعر بالتوتر؟ قد يساعدك إعداد قائمة بالمهام في التخفيف من
...
-
النيابة العامة تحسم الجدل حول أسباب وفاة الملحن المصري محمد
...
-
نتنياهو: التسريبات الأخيرة استهدفت سمعتي وعرّضت أمن إسرائيل
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|