|
الرغبة في تخييل العالم .. قراءة في قارورة صمغ ل فاطمة ناعوت
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 2321 - 2008 / 6 / 23 - 06:13
المحور:
الادب والفن
في ديوانها " قارورة صمغ " – الصادر عن دار ميريت بمصر 2008 – تعيد فاطمة ناعوت إنتاج دلالات الأنوثة ، في سياقات ثقافية ، و تخيلية ، و نصية عديدة ، تقوم أحيانا على الانحياز للنزوع الإبداعي في الطبيعة ، حيث يختلط الإحساس الفني بتجدد العناصر الكونية ، و يمنح الشاعرة رغبة في الخلود ، و الاتصال بقوة المبدأ الأنثوي في الأساطير و اللاوعي الجمعي ، و السخرية من المنطق الأحادي للموت ، و الحرب ، و الجنس ، و القضايا الكبرى . بينما تتجه بعض القصائد إلى محاولة بناء كينونة متمردة ، و في هذا السياق يستبدل الخيال ، و التأمل ، و السخرية السلطة الثقافية للأب ، ثم تذوب إشارات الأنوثة فيما وراء الهوية النسائية ؛ فتبحث الشاعرة عن لغة تتجاوز فكرة الحدود ، فتتحد بالأطياف ، و المجازات النصية دون أن تتخلى عن الصوت المؤنث في القصيدة . إن ديوان " قارورة صمغ " يجسد اختلاط كتابة السيرة بالرغبة في تخييل العالم انطلاقا من مبدأ أنثوي قوي ، و ممتد بحيث نرى فيه الموت خلاصا ، و اللعب أصلا مضادا للمنطق الحتمي ، و آثار التهميش و الدم في التاريخ ؛ أما الجسد فيمثل استعادة متكررة للبهجة ، و الفرح بالتكوين ، أو النص ، أو الصورة الخالدة للأنثى في بزوغها الأول ؛ و لهذا نلاحظ احتفاء فاطمة ناعوت بالأطفال ، و الفنانين ، و الشخصيات الأدبية مثل فرجينيا وولف ، و صور الآلهة المؤنثة التي قد تجمع بشكل خفي بين عشتار ، و أفروديت ، و حتحور ، و كأنها تؤكد استمرارية الهامش و قدرته على تجاوز الموت ، أو الخطاب الكلي المعلن . و من جهة أخرى يمثل الديوان مزيجا من المسارات المختلفة للفكر النسائي المعاصر ، الذي ترجع أصوله للستينيات ، و هو يشهد اليوم تحولا كبيرا ، و تأويلات عديدة ، و من أهمها ، ما رصدته الباحثة سارة جامبل في دراستها Post-Feminism أو ما بعد النسوية ، من اتجاه الكتابات النظرية الجديدة عند بروكس و غيرها ، نحو تجاوز الانفصال ، و التضاد بين الرجل ، و المرأة ، كما ترى أن الموجة النسائية الثالثة تجمع بين الالتزام بالكتابة الأنثوية ، و سيولة الهوية في الوقت نفسه ( راجع – سارة جامبل – النسوية و ما بعد النسوية – ترجمة أحمد الشامي – المجلس الأعلى للثقافة 2002 ص 86 و 90 ) . إن فاطمة ناعوت تنتقل من تأكيد الهوية الأنثوية في أخيلة النقاء ، و البهجة ، و البياض خارج سلطة الأب ، إلى التحول باتجاه الطيف كدال إبداعي يتجاوز الأنوثة ، و لكنه يبدأ منها ليحقق حدس الخلود ، و الخصوبة المتكررة في سياق الفرح بالجسد الذي يعلو على الجسد المتعين ، و يخلط مادته بالالتباس الإبداعي الكامن في الطبيعة ، و الأسطورة معا . في نص " هكذا " تتشكل الهوية من خلال صفاء الجدار المضاد للآخر ، هذا الجدار الذي يؤكد مبدأ آخرية الذكر ، و يتجاوزها من خلال الهامش الذي يحمل آثار الماضي ، و لكنه يسعى لاحتلال موقع الآخر ، من خلال نقاء مقابل يتمثل الهوية الأولى ؛ تقول : " كلما ابتعدت عنك / ازددت بياضا " . إن الآخر حاضر ، و لكن كنقطة في دائرة أنثوية مضادة للمركز ، و إن اتخذت قوته ، و شكله ، و تاريخه كبدايات لتشكيل عالمها المتجاوز للهامشية . و في نص " طفلة " تبدو مقومات الكتابة النسائية في الإعلاء من اللعب ، و الأداء السردي ، و السخرية من القضايا الكبرى ، و تمثل الطفلة مبدأ الأنوثة المتخيل كطاقة خلاقة تنجذب الأرض حولها خارج تاريخ الحروب ، و الثورات ، و الصراعات ؛ تقول : " حول كاحل ساقها / خيط / في نهايته كرة خضراء / هي تقفز إلى فوق / فتدور الأرض حول ساقها / تلعب هولاهوب بعدما سئمت من حكايا القرويين حول الثورة " . هل هو الفرح الأول بوجود الجسد ؟ أم أنه انحياز الأرض نحو اللعب الإبداعي ، و تأملات الوعي ؟ . إن الشاعرة تعتقد في قوة الأنوثة ، و لو كانت أثرا أو طيفا ؛ فمن خلالها تتجدد الحياة ، و تتكرر من خلال التدمير ؛ يبدو هذا واضحا في نص " قرار " ، إذ تقول : " في ميتتي القادمة / سأجعلهم يحرقون جسدي / و يستبقون أظافري " . إن الأنوثة تستبق الموت في تكراره ، الذي يحاكي أحلام الخصوبة ، و التجدد ، و كأنها تسخر منه ، فالأثر هنا مادة إبداعية تقوم على التضاعف ، و الانتشار النصي ، و الطبيعي كلما جاء الموت ؛ فالأظافر تنتمي لقوة الأنثى الجمالية ، و أخيلتها المضادة للجسد المحدود في اتجاه التكرار و الاتساع للجسد نفسه حين يتحرر في سياق الكتابة . للإبداع فضاء تخيلي يمثل قوة خفية ؛ هي قوة استعادة الوجود المناهضة للصراع في بعده الأحادي ، و لهذا تقوم الأماكن عند الشاعرة على بنية غير محددة يبدأ منها العالم ، في استعادة حضوره فيما وراء الواقع الشمولي . تقول في نص " مدينة " : " سطحت أبنيتها المدافع / إلا كوخا / يحتل علامة + في كل عدسات التصويب / من يسكن الكوخ يا ناس ؟ / نحات فطري / و بعض طمي " . إن تعاطف الوعي النسائي مع مادة الخلق ، يمنحها نزوعا نحو الديناميكية الأدائية للخيال ، الذي بدأ من المحو في اتجاه مضاد له ؛ فالفنان هنا هو الرجل الذي يسكن وعي المتكلمة ، و لا ينتمي للآخرية الأبوية ، و لهذا يندمج بالصوت المبدع ، و يحقق أخيلة الخصوبة في الوعي ، و اللاوعي . الفنان كالطفل يمارس فعل الإنتاج خارج المسار الحتمي للعالم ، و لهذا يتحد بإمكانية اللعب في نص بعنوان " طفل " ، فالطفل يواجه الهدم الموجه للمكان بليونة المكان المماثلة لجسد الأنثى ، فيعلن الانحياز للتعددية ، و التجدد في مقابل العدم ، تقول : " لا يعبأ بانهدام العالم / و لا يخاف الأضرحة / لا يرهب سقوط المآذن و الأبراج / في الليل يعيد رفعها بعيدان ثقاب و قطعة صلصال " . الفضاء الفني هنا قوة إنتاجية في الطبيعة ، تتجاوز القوالب الصلبة التقليدية للموت ، و الحياة ، و الحرب معا . أما الطفل فهو الأداة المبدعة في وعي المتكلمة ، حين تلتحم ببنية لا يمكن اكتمالها أبدا ، هذه البنية هي المدينة الأخرى ، و الكتابة النسائية ، و الرجل الآخر . و يبلغ الانحياز للهوية الجديدة ذروته في نص " حين أغدو إلهة " و فيه ترتبط الكتابة بالأسطورة ، و حلم الصفاء ، و العدالة ، و الالتباس الخيالي الداخلي ، و الاندماج بالمسار الآخر للرجل ، و غياب الحواجز الطبيعية ، و الكونية ، و الجسدية . يبدأ هذا النص من نقطة بهيجة في الوعي ، تحاول هندسة العالم خارج المنطق الحتمي ، و كأنها تستعيد بطريقة سحرية صورة اليوتوبيا الأرضية القديمة انطلاقا من خصوصية التخيل ، و صيرورة الكتابة في المستقبل . تقول : " سأنزع الكرة عن ثوبها / أنفض الخريطة / فتسقط مخطوطات التاريخ / و خطوط الطول و العرض و الحدود / .. أمر بريشتي على الوجوه المتعبة فيذوب البياض و السواد و الصفرة / تؤول جميعها إلى لون المشمش .. / أنتزع اللغات و اللهجات / و أصهر في بوتقتي معجما أبيض من غير سوء " . إن ذوبان الحدود ، و الهويات هنا ينبع و ينتهي في دائرة نسائية تخيلية تستبدل الانفصال العبثي بين العناصر ، و اللغات ، و الأنا و الآخر ، و كأنها تكتب تاريخا مجازيا يقوم على المساواة ، و تأكيد الأنا في الوقت نقسه . هل هي التناقضات الأسطورية التي صاحبت صور الأم ؟ أم أنها طاقة الكتابة النصية المفجرة للتمرد كحدث أدبي ينتجه وعي المرأة ؟ أما نص " علامة مائية " فتنتقل فيه الشاعرة بين ثلاث مستويات مختلفة من الكتابة ، فتبدأ من الرغبة الدفينة في التحول المجازي ، ثم تعلن الثورة النسائية على المنطق ، ثم تصير بحد ذاتها علامة متخيلة لا يمكن ردها إلى السياق الثقافي للأب ، و لا السياق الجسدي المحدد للمرأة . يبدو حلم الذوبان في الماء استعادة للاتساع ، و التأمل ، و الالتباس الذي صاحب النماذج الأسطورية للأم ، و من خلاله يتحقق إغواء التحول كبديل مجازي للموت المهيمن على المشهد ؛ تقول : " من الجميل أن تصبحي علامة مائية / على صفحة غيمة لا ترى الشمس / ثم تشاهدي العالم من بعيد / مثل فيلم سينمائي لا يعنيك / حين يقرعون الكؤوس أول حزيران / لا تحزني / .. و لا تنسي أن فرجينيا وولف كانت أكثر منك عذابا و أعمق موتا " . المتكلمة تبحث عن أطياف المادة / الماء في سياق اللذة ، و اللعب المميز للكتابة التي تجمع بين الهوية ، و محاولة الاندماج بالآخر ، و من ثم فهي تصف انتحار فرجينيا بالعمق ، و كأنها انخرطت بالفعل في سياق تحول أسطوري يعلو على الموت . ثم تصير العلامة المائية دالا للتمرد على ملامح الاستغلال الأبوي ، و كتابة لهوية بديلة ، تقول : " أن تصبحي علامة مائية / فذاك يعني أن ضجيج العالم لن يفزعك / و لا الفواتير / و لا حتى الرجل الكاذب الذي أحببته / ستثأرين حين يغدو وحيدا " . الكتابة المضادة هنا تصنع عالما لغويا يتميز بالخصوصية ، و الرحابة ؛ إذ تتخذ فيه الذات موقع المراقب المتعالي ، في سياق نسوي خلصته الكتابة للتو من التبعية الثقافية ، و الجسدية للأب . ثم تتحرر المتكلمة أخيرا من ثقل الصوت المضاد للآخر ، و تتجاوز الهوية الجسدية في بعدها الأحادي ، و من ثم تنعتق الذات من دائرة الأنا ، و الآخر ، بكل ما فيها من دلالات اجتماعية ، و نفسية ، و تاريخية ، و نصية ؛ فيبدو الماء كعلامة للتحرر ، و الرغبة في اتصال مغاير ، تقول : " حين أغدو علامة مائية / سأفوت عليك يا حبيبي / عد البثور التي زرعتها أمي في جبهتي كي ينفر مني الرجال " . إن التنوع في تناول المبدأ الأنثوي في هذه القصيدة يعكس ، ثراء الأفكار النسائية حين تمتزج بشاعرية النص ، و كذلك تصير كتابة هذا المبدأ تجريبية بدرجة كبيرة حين تلتحم بالبصمة الإبداعية الخفية في و عي الشاعرة ، و كذلك بخصوصية سيرتها الذاتية ، مما يدل على استمرار التغير في ملامح كتابة المرأة . محمد سمير عبد السلام – مصر
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القوة الخلاقة للرعب و التمرد في كتابة هنري ميلر
-
سحر توفيق تستعيد الرجل بلغة أنثوية
-
هارولد بلوم .. و إعادة إنتاج الأثر الشعري
-
تجدد الثقافة الشعبية
-
تعدد الدلالات و الأصوات .. قراءة في اخلص لبحرك لمسعود شومان
-
السياق الجمالي للعقاب .. قراءة في أقلب الإسكندرية على أجنابه
...
-
الآلية .. و العمل الإبداعي
-
إعادة اكتشاف روح الأشياء .. قراءة في بريق لا يحتمل لسمر نور
-
الصيرورة الإبداعية للزمن .. قراءة في فوق الحياة قليلا ل .. س
...
-
الشخصية في تحول .. قراءة في عمرة الدار ل .. هويدا صالح
-
العابرون ، و تبدل حالات الوعي
-
وعي طيفي مثل وهج الموت .. قراءة في عادات سيئة ل جمانة حداد
-
براءة الجسد ، و مخاوفه .. قراءة في كوب شاي بالحليب ل محمد جب
...
-
ظلال تتجاوز صمت الأشياء .. قراءة في سوف تحيا من بعدي لبسام ح
...
-
خوف الكتابة
-
التكوين الحدسي للمكان .. قراءة في قصص دوريس ليسنج
-
ما بعد الحداثة في ديوان شطح الغياب للشاعر مهدى بندق
-
القصيدة في نشوء آخر .. قراءة في شطح الغياب لمهدي بندق
-
تجاوز ما بعد الحداثية ، أو التفاعل المفتوح بين المحلي و العا
...
-
الزمن الآخر للظل .. قراءة في مهمل لعلاء عبد الهادي
المزيد.....
-
-وتر حساس- يثير جدلا في مصر
-
-قصص من غزة-.. إعادة صياغة السردية في ملتقى مكتبة ليوان بالد
...
-
افتتاح مهرجان -أوراسيا- السينمائي الدولي في كازاخستان
-
“مالهون تنقذ بالا ونهاية كونجا“.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة
...
-
دانيال كريغ يبهر الجمهور بفيلم -كوير-.. اختبار لحدود الحب وا
...
-
الأديب المغربي ياسين كني.. مغامرة الانتقال من الدراسات العلم
...
-
“عيش الاثارة والرعب في بيتك” نزل تردد قناة mbc 2 علي القمر ا
...
-
وفاة الفنان المصري خالد جمال الدين بشكل مفاجئ
-
ميليسا باريرا: عروض التمثيل توقفت 10 أشهر بعد دعمي لغزة
-
-بانيبال- الإسبانية تسلط الضوء على الأدب الفلسطيني وكوارث غز
...
المزيد.....
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
المزيد.....
|