|
الرحيق المختوم
طارق الطوزي
الحوار المتمدن-العدد: 2320 - 2008 / 6 / 22 - 03:58
المحور:
الادب والفن
إلى مدينة بنزرت الأزلية يتنشق روح الفرار. في أدغال العمر البائسة يقفل ضياعه الأليم. خلف طاولته القصيرة، يحتسي كأس الجعة... يرى الطيور تهاجر قفار الصمت. يختنق انبساطا. يتكشّف له خلف الأضواء المتشابكة للملهى أجساد ترتعش انتشاء، تتحرك في اشتياق غامض. ينظر بجرح الحرمان إلى فتيات تمردن على الصراط. يختنق رجما. الأصوات تمزق هدوءه البليغ لتقفز به إلى دندنة الاضطراب، يتكسر حجابه الملعون في زندقة النسيان، بلا ألم يرقص كالشيطان... يلامس بأصابع مرتعشة شفتي حوريته، جسدها يغشاه باستسلام، تتحرك بخفّة اللؤم في حضنه، أغمضت عينيها كالراحلة إلى عميق اللقاء، تمتم بكلمات لم تسمعها؛ رفعت رأسها تتأمل وجهه،قالت : " أحبك "، عادت إليه في سلام. علا صوته كي تسمعه، و هو يرفع رأسها برفق لتواجهه. - لقد أوقفت عن العمل! بدا له أنّها لم تفهمه. عاود بصوت أعلى. وضعت سبابتها على شفتيه تريده صامتا، التزم الصمت في خشوع.
اندفع بلا توازن طفيف إلى المرحاض. الكلمات تقفز في فكره بمرح البؤس. تعلّق نظره بالمرآة فبزق على الوجه البادي بحنق. في حلبة الرقص انفجر وسط الأصوات المتنافرة يمزق أحزانه، تتشتت حركته؛ تتابع لحنا ثائرا. الطيور الميتة على حافة العمر تتنفس. يهتف إلى الأسماع بصوت كالنداء الحارق، يغيب في هياج إلى عمق اللطف الرحيم... - يا إلهي، أين الخطأ ؟ قالت من عمق الدلال و الشهوة : أحبك.
يملأ كأسه جعة، يحتسيه دفعة واحدة. تابع قواما قلقا بين الزحام. الممر المائي القديم على مسافة بعيدة من الرؤيا. تملكه شعور بالوحدة وسط هذا الهرج، قال لها بضيق : سأغادر. ردت بحزم مصطنع : لن تغادرني الآن، مازال عليك أن تضاجعني. نظر إليها مبتسما قائلا : لا أعرف بدونك ماذا كنت فاعلا حدجته بمكر و قالت : تبحث عنّي، يا حبيبي. قبلها بوحشيّة وهي تضحك بفتنة ...
قالت له بهدوء : لماذا أوقفوك عن العمل ؟ - لا شيء البتة، مجرد سوء حساب. - هكذا إذا، مجرد سوء حساب. ردّ بفتور : نعم، حضور غير ضروري في مكان أغفل النظام. واجهته في وسط الحلبة، قبلته من خده، قالت بصوت صاف تجاهد كي يكون مسموعا : لنرقص. ترنح؛ يتبع إيقاعا راقصا غريبا، قفز في خفّة و بعشوائيّة منتظمة، كان يحلّق في مدى لا يشاركه فيه غيرها، تناول يدها في حركة بدت تلقائيّة، التحما بسرعة ثمّ تباعدا إلى فراق تائه... الرحلة الوامضة في ميقات الضياع ولادة ... اللكمات تنهال على جسده الدامي، ثقل الألم يغتصب ثورته. القضيب الحديدي يمزق بوطأته المتمردة بشرته الزرقاء، ينادي فزعا مستغاثا ما، يغرق صوته في ضحكات جوفاء. الموت القريب من حافة المكان، يراه. تأمل حضوره الحذر في خوف. - أتركه، سيموت بين يديك. - ليس قبل أن يعترف. - يبدو أنه لا يعرف شيء. - أعرف هؤلاء الأنذال، إنهم يكتمون مكرهم حتّى الموت. يستسلم الجسد في صمت كئيب، كان عليه أن ينهي نزقه. - فيما تفكر؟ تأملها بهدوء : في الموت - لا تشغل نفسك بالمجهول - بالفعل سألها بعد صمت قصير : أتعتقدين في ما خلف الموت ؟ - بالطبع، و أنت ؟ تملكته الحيرة؛ فالإجابة غامضة إلى حدّ مفزع، الصلاة التائهة إلى الربّ الكبير تتسع عن فكره الشقي. الغربة بين أفواه تتشدق بالكمال تسئمه الوصول إلى قرار ما. لكن لن يقنع عناقها الحار كيانه المفتون باللاشيء؛ ستكره فراره، ستساعده كي يكون إنسانا فاضلا، فقط إنسانا فاضلا. - بالطبع، بالطبع ... تخلصت الكلمات إلى شرود طويل. يتسع الفضاء إلى ثورة أخرى على الحلبة، يده تداعب ظهرها متبعا الإيقاع، جسده يلاصق جسدها في عناد، شفتاه تطبقان في لهفة على شفتيها المستسلمة، يمّحي كلّ فراق وسط لحن هادئ.
- قد لا أفهم ما حصل - لماذا ؟ - ببساطة، لأن لا شيء ممكن الفهم - إن كان هذا ما تعتقده، فربما.
- اليوم استرقت من زمن الفراغ الطويل ساعة وجوم على البحر قاطعته و هي تنظر إليه في دلال : لوحدك ؟ واصل متجاهلا سؤالها : رأيت أحدهم يصطاد سمك البوري، كان يربط السمكة الأنثى من البوري بخيط رقيق و يتركها تسبح مستدرجة عددا من السمك الراغب في الجماع؛ ليلقي عليها شباكه. - نعم، تلك العادة القديمة. اللحاق التائه بعبق العمر الطاغي، رغبة تحترق في إتباع مربك، مزار العشق على حافة الموت؛ مقام الرحلة إلى فناء الجماع الأخير، كانت تلك ساعة الفرار إلى اللاشيء العظيم. - قد أتساءل بسخفي المعهود، أيّ سبب أوقع السمك في الشباك ؟ أجابت ضاحكة : طبعا الأنثى. - بل، هي أشياء تتعدد حدّ اللاتناهي. - لن أفهمك أبدا، مع هذا يكفينا تفلسفا، ولنرقص الحين. الكلمات السكيرة تزاحم صلابته ...
" أعدم الراحة في مدى القلق اليومي، كان عليّ الإيمان في كلّ حين، التوق نحو الوصف الحنون لخلود ما يتوزع الفراغ المحيط بي، لكنّي لا أرى غير اللاشيء. كيف يمكن الفوات إلى الإطمئنان إن لم يكن فرارا ؟ و هل من وجود بغير فرار ؟ القول المرير يترك لي لعنتي تواجهني، لم أكن قاتلا، و مع ذلك الكلّ يعلم أني القاتل، فللأشياء أسبابها المتعددة و التي لا أدرك أيّها أرادتني مجرما. "
المرآة تواجهه في صفاقة، الشتيمة تلفظها شفاه مرتعشة. القيامة الصاخبة لألم العذاب تصلبه، مازال إدراكه يحيا المتاهة؛ قيم هجينة تتعارض في سخرية. المسار الطويل للبعد عن الضآلة يحرف كيانه. كان عليه أن يتعلّم في هدوء بارد كيف تمزق الجلود المتمردة؛ حتّى ينحسر إلى ذات تكتم ماردها. مثار الألم الغاصب يجترعه، لا مجيب عن الصواب الطفولي؛ فنزق الرؤيا الخارقة تكفكف حلمه. بات الصارخ على الدوام في طرقات هذا المكان القاسي، خائفا من التيقظ الندم، غاربا في خباياه العميقة. جحيم : الصمت بلا سؤال النفور. على مسافة غير بعيدة من المرسى القديم كان يرى صليبه الكريه يصارع عاصفة. الدمع مثابة الدوّار. يتمزق طريق عودته الباكر إلى خلائه الصغير؛ إلى غرفتة الباهتة المظلمة. الوحدة تنخر قوامه التعب. ودعته بقبلة خفيفة، وانسابت هاربة إلى فرارها الدائم. هاتف من الأصوات المرتاعة تتجمّع في رأسه المتوتر. الكون الأسود فساد إلى حين؛ لا موت يحمي هجمة اندثاره في مسافة الطريق؛ شعور يتملكه بالانفجار في ساحة عامة بلا قرار. تمسك بجدار، و راح يتأمل العالم في دورانه الكئيب، الرحلة التي أرادها تنفر إلى عمق سحيق من الضياع، و لا شيء يرى الحين ممّا توقعه. سأله صوت هاذ من السماء : ما الذي يحصل ؟ أجاب بلهاث شديد : أعجز عن الوقوف - هل تشعر بدوّار السكر ؟ - لا، إنّي أفتقد إلى توازني العظيم ردّ الصوت بلهجة ساخرة : أي توازن عظيم هذا ؟
تيقظ إلى حال هزال. المدينة الجديدة التي بنيت على طمر الممر المائي، بدت حزينة مصطنعة. سيل الرؤيا يتشتت في انتفاضة قلقة. - أعجز عن الوقوف، لأنّي بلا أرض.
صرخة الألم تكرّرت إلى حدّ النسيان، لم يسمع لنداء استغاثة نكرة في حلق ملعون، كان عليه الحياة حتّى يتنبأ بالرؤيا المنكسرة، يذبح جسدا ضعيفا بيد أصرّت قديما على الرفض. - كنتُ رافضيّا - إذا أنت ملعون - بل، أنا الحين الجلّاد يتبع أنثاه المشدودة بخيط رقيق إلى قدر الموت، يطأ أرضا بلا ثبات الطمأنينة، يترنح بين الضياع المزمن و التردد الكئيب. لا شيء يقيه الدرب المتلون بالقذارة، الليل الدنس يلامس أطرافه ببرود البعد السحيق. لا مكان يتسع لشقاء الانطواء و الخوف. حاول أن يستجمع بعضا من قواه المتمردة لينهض، سقط في مستنقع ما. سارع إلى رقصته المجنونة يتبع الخيط القديم بحماسة الغريق، قبلها. نظر إلى اللاشيء المحيط به في مكر، ابتسم كمن يدري كلّ شيء، استلقى على حلبة الرقص في استرخاء عميق، قال بخفّة اللقاء : الآن تستطيع أن تطأني.
#طارق_الطوزي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|