أعتقد أن العنوان المعبّر عن واقع الحال هو "الرؤية الأمريكية لصياغة العالم"، وبالتالي يمكن أن يكون كذلك "عسكرة العالم" ما دامت الحرب هي الوسيلة ربما الوحيدة من أجل الهيمنة والسيطرة.
ولقد أشرت إلى "الرؤية الأمريكية لصياغة العالم" لأنه ليس من الممكن تناول الحدث (حدث 11 أيلول) كلحظة منعزلة عن سياق تاريخي، أي كلحظة منعزلة عن صيرورة، كانت الهجمات على كل من البنتاغون ومركز التجارة العالمي، جزءاً منها، وكتعبير عن تفاعلاتها. وبالتالي ليس من الممكن فهم الخطوات التالية للحدث، والمسماة بـ"الحرب ضد الإرهاب"، وكأنها خطوات تبلورت للتو وصيغت على عجل، إننا هنا إزاء مصالح ورؤى تعبّر عنها، ربما كان الحدث مدخلاً لتنفيذها.
بكل تأكيد، أنا لا ألمح هنا إلى ما هو رائج حول "الحرب الدينية"، أو "الحرب الصليبية" كما تلفظ بها بوش الابن وتمسك بها ابن لادن، كما أنني ـ بالتالي ـ لا أشير إلى "صدام الحضارات" كما نظر لها صموئيل هنتنغتعون. فالمخططات لا تتعلق بالدين، ولا بتمايز الحضارات وبحتمية تصادمها، ولاشك في أن كل هذه الأفكار حول الحرب الدينية وصراع الحضارات لا تعبر سوى عن غطاء أيديولوجي: يعدم ـ في وسائل الإعلام خاصة ـ لكي يغطي على ما هو حقيقي، وما هو واقعي أي لكي يغطي على الأهداف الحقيقية للحرب، لهذا فإن ما يجب البحث فيه هو الأهداف الحقيقية، فالمسألة تتعلّق بالصيغة التي تريدها الرأسمالية للعالم، أو صيغة العالم المتوافق ومصلحة الرأسمالية. والتي تظهر بالشكل الدموي الذي نشاهده اليوم في أفغانستان ويمكن أن نشاهده غداً في العراق أو الصومال..
فما حدث في 1 أيلول كان المدخل لتطبيق "تصور للعالم" كان قد صيغ في "الدوائر الأمريكية"، وعبر الشركات الاحتكارية متعدية القومية إثر انهيار الاشتراكية نهاية ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت الرأسمالية تعاني من أزمة عميقة. حاولت حلَّها عبر تعزيز الهيمنة على العالم، ولقد أعلن عن هذا التصور مع بدء الهجوم الامبريالي الأمريكي على العراق بداية سنة 1991م. حين أعلن بوش الأب تدشين "النظام العالمي الجديد". استناداً إلى أحادية القطب التي تحققت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كما استناداً إلى التفوق الأمريكي المطلق، خصوصاً في المجال العسكري. ولقد عُرف هذا النظام العالمي الجديد منذئذ بـ"العولمة".
وبالتالي فإن الحدث (حدث 11 أيلول) يدخلنا في مسألة العولمة، في مسألة طبيعة العولمة وماهيتها. كما يدخلنا في الدور الأمريكي العملي من أجل فرضها. حيث ستبدو العولمة في الواقع وكأنها "أمركة العالم"، أو هي في الحقيقة "أمركة العالم". حيث أن "النظام العالمي الجديد" هو العالم كما تريده "المصلحة القومية الأمريكية"، التي هي بالأساس مصلحة الشركات الاحتكارية الأمريكية، والتي تسعى الدولة الأمريكية لكي تفرضها ـ بقوتها العسكرية بالغة التفوق ـ على الآخرين.
إذن أنا انطلق هنا من أن تداعيات 11 أيلول التي قادت إلى إعلان "الحرب ضد الإرهاب". بدءاً من أفغانستان، في معركة مفتوحة، من حيث الجغرافيا والزمان، أن تداعيات 11 أيلول هي في الواقع جزء من إعادة صياغة العالم بما يحقق "المصلحة القومية الأمريكية"، وربما تكون هذه التداعيات هي الجزء الحاسم فيها، لأن الدولة الأمريكية تسعى لـ"حسم المعركة"، وبالتالي الانتهاء من "ترتيب العالم"، بما يحقق الاستقرار الذي يحقق مصالحها.
ولكي نحدد هذه المصالح، ونعرف التصور الأمريكي لصياغة العالم، وبالتالي لكي نلمس معنى الأمركة (وربما كذلك عذابها)، لابدّ من تناول "الظرف" الذي أسس لكل ذلك. فالتاريخ الذي وُلد فيه النظام العالمي الجديد هو أول سنة 1991م، سنة انهيار المنظمة الاشتراكية وسقوط القوة العظمى الأخرى، التي كان وجودها يؤسس للحرب الباردة، وللتنافس على استقطاب أمم العالم الأخرى. وكذلك على استقطاب طبقات في المجتمع الرأسمالي ذاته. ولكن كان وجودها يؤسس كذلك لوضح حدود للعسكرية الأمريكية، حيث ستكون التدخلات العسكرية وأيضاً الحروب مضبوطة بدقة، ومحسوبة بما يمنع تفاقهما، فتتحول إلى حرب نووية، إذن لقد تأسست صورة النظام العالمي الجديد أو العولمة انطلاقاً من تتويج الدولة الأمريكية القوة العظمى وحيدة، في عالم يخلو من المنافسين. حتى من الدرجة الثانية، هكذا ترسم الدراسات الأمريكية وضع العالم منذئذ. وعلى ضوء ذلك سوف تبنى سياسات، حيث سوف تتنزع الدولة الأمريكية إلى أن تلعب دور "الملك"، أو حسب التعبير الذي يثير حساسية شديدة في واشنطن أن تلعب دور "شرطي العالم".
ماذا سنفعل بكل هذه القوى لديها إذا لم تلعب هذا الدور إن مشكلة "تقنية" قد نشأت عن انهيار "القطب الآخر"، تمثلت في انتفاء المبرر الواقعي لوجود كل هذه القوة العسكرية. فقد كانت الاشتراكية عدواً، وهو عدو مخيف لأنه يمتلك القوة العسكرية الرادعة والقادرة على الهجوم كما يتملك السلاح النووي، وبالتالي كانت هذه الحجة سبباً في تضخم ميزانيات البنتاغون، وتضخم القوات المسلحة، والإنفاق السخي على البحوث العسكرية، كما كانت سبباً في التدخل العسكري الخارجي. هكذا كان يسوّق كل ذلك، لكن هذا الاختفاء المفاجئ للعدو، عرض البنتاغون للمساءلة، فما دام العدو قد انتفى، وما دام خطر وجود عدو قادر على المواجهة لا وجود له في المستقبل المنظور، إذن يمكن تقليص ميزانية البنتاغون، خصوصاً وأن الاقتصاد الأمريكي يعاني من أزمة، والدولة الأمريكية ذاتها تعاني من مديونية عالية، ومن عجز في الموازنة، فـ"المعروف أن اختصاص وزارة الدفاع يتعلق دائماً بخوض الحروب، والآن عليها أن تحدد موقفها لتثبت أنها تستطيع الإسهام في تعزيز المصالح الأمريكية، وعليها إيجاد طريقة لمقارنة إسهامها الفعلي أو المحتمل في شؤون الأمن القومي بإسهام المؤسسات الحكومية الأخرى، كما يجب ألا تفعل عن إبراز قدراتها المتفرد والتعريف بها"، وإلا، فقد يتم تخفيض اعتمادات وزارة الدفاع من الموارد المخصص للأمن القومي ما لم تبرز الوزارة دورها الحيوي بالنسبة للمصالح الأمريكية"، هذا حسب تقرير معهد الدراسات الاستراتيجية في الكلية الحربية التابعة للجيش الأمريكي.
هنا سيبدو الجيش الأمريكي وكأنه يبحث عن دور، وعن عدو، وسنلحظ بأن نغمة الحرب ضد الإرهاب قد بدأت منذئذ، أي منذ نهاية الحرب الباردة، حيث كانت الحرب ضد الرأسمالية قد تراجعت إلى أقصى مداها، ولم تبق سوى القوة الإرهابية المدعومة من قبل الولايات المتحدة، لكن كان يجب أن ينصب عدو في مكان اللائق. لهذا بدأت نغمة "لفت الانتباه" إلى الإرهاب تتصاعد، كما بدأت نقمة "صدام الحضارات" تتصاعد كذلك.
لا أقصد هنا القول بأن الحاجة إلى تبرير الميزانيات الضخمة لوزارة الدفاع هي سبب الحروب، لكنني ألمس إشكالية طرحت في الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة، وربما تكون زائفة، لكن عمق الأزمة الاقتصادية كان يجعله محل نقاش ساخن في الكونغرس، كما في الصحافة، لكن الحرب الأمريكية ضد العراق كانت قبل ذلك، مما يشير إلى أسباب أعمق، رغم أهمية الملاحظة سابقة الذكر، حيث أن جيشاً ضخماً سوف يبحث عن دول له، حين ينتهي من معركة ما. إن انتقاء العدو لم ينه المصالح التي تسمي "المصالح القومية الأمريكية" في العالم. على العكس، فقد كان ذاك عدواً نتيجة المصالح بالذات، وحسب التقارير الاستراتيجية الأمريكية فإن مهمة الجيش تتمثل في "تعزيز المصالح الأمريكية بتشكيل المناخ الأمني الدولي بما يلائم هذه المصالح".
ومفهوم "المناخ الأمني الدولي" هو ركن مركزي في السياسة الخارجية الأمريكية، ومفصل في كل المراجعات المتعلقة بالجيش الأمريكي، وبالتالي ربما كان المدخل لفهم "تصور لأمريكا للعالم"، فهو الجانب العسكري المحقق لـ"المصلحة القومية الأمريكية"، وهو لمفهوم آخر ـ والأهم ـ الحاكم للسياسة الخارجية الأمريكية، وحسب بعض الدراسات الأمريكية "أن المصالح الاقتصادية الخاصة هي التي تحرك الحكومة (الأمريكية)، وكل ما تقوم به الحكومة هو توفير الضمانات الأمنية وسهولة الحركة أمام تدفق راس المال الخاص"، وهذه المصالح الخاصة القوية هي التي تحرّك "الامتداد العام للامبراطورية"، وحسب الدراسات الأمريكية سنلحظ "اتساع المصالح الأمريكية التجارية في شتى أنحاء العالم". لهذا فإن مصلحة الولايات المتحدة الحيوية حسب هذه الدراسات هي مصلحة كونية في إطار التجارة والاقتصاد وفتح الأسواق".
على ضوء ذلك تتحدد الاستراتيجية العسكرية في وثيقة صادرة عن البنتاغون وتسمى "الرؤية المشتركة: 2010" في أنه "سيظل مفهوم بسط النفوذ الأمريكي من خلال القوات الأمريكية المتمركزة بالخارج مفهوماً استراتيجياً جوهرياً"، وحسب تصور معهد الدراسات الاستراتيجية في الكلية الحربية "تبقى مسألة الدور الأمريكي في الخارج وتوسيع نطاق هذا الدور بلا شك من المباد~ الأساسية للاستراتيجية الأمريكية". فالهدف هو حسب المعهد، "فرض النفوذ الأمريكي". هذه هي حسب "الوعي الأمريكي" "المهمة المقدسة العالمية" التي تناط بالولايات المتحدة، هذه المهمة المعبرة عن "الخصوصية الأمريكية"، والتي تنطلق من أن مهمة تبشيرية أنيطت بالولايات المتحدة، وأنها ـ بالتالي ـ باتت معينة بفرض "السلام العالمي"!! وربما كان هذا الوعي هو الذي سحب من فم جورج بوش الابن تعبير "الحروب الصليبية". لأنه وعي ديني.
إذن سيتأسس "المناخ الأمني الدولي" على أساس الوجود العسكري الأمريكي، وبالتالي على الحروب. هذا هو جوهر الاستراتيجية الأمريكية ما بعد الحرب الباردة، وإذا كانت الدولة الأمريكية قد حصلت على قواعد عسكرية في أوروبا (عبر الحلف الأطلسي) واليابان، وفي بعض الدول الأخرى (مصر مثلاًُ)، فإن انتهاء الحرب الباردة أسس لتوسيع هذا التواجد وتعميمه لكي يشمل كل المناطق الحساسة في العالم، بدءاً من منطقة الخليج العربي، وانتهاء بكل بئر نفط، وكل موقع استراتيجي.
إن "المناخ الأمني الدولي" يعني تحقيق عناصر متعددة، كانت نهاية الحرب الباردة تفرضها أو تفترضها، وهي العناصر التي تُشمل في إطار "المصالح القومية الأمريكية"، وتبدأ بالتجارة والاستثمار، ولا تنتهي بإسقاط "الدول المارقة" وتكريس الدولة الأمريكية قيادة مطلقة للعالم وآخر قيادة له كذلك، لكي تصبح فكرة فرانسيس فوكوياما عن "نهاية التاريخ" حقيقة ملموسة، لكن هذه المرة ليس بفعل إنتصار الجيوش، وتدمير الآخر. فهذا التصور للعالم يقوم على جثة السوق والليبرالية، لأن القوة هي التي تفرض قوانينها وليس السوق ذاته، رغم كل الاختلال واللا تكافؤ اللذين يعيشهما العالم. فهي عبر القوة المتفوقة تفرض السوق الذي يناسب مصالحها وحدها، فما ينفي حريته.
أقصد هنا بأن تعبير "المناخ الأمني الدولي" يُقصد به تحقيق المصالح الراهنة للولايات المتحدة، وهنا يمكن الإشارة إلى مسائل عامة تتعلق بالنمط الرأسمالي العالمين وكذلك مسائل تخص الولايات المتحدة، الأخيرة تتعلق بالمشكلات التي يعيشها الاقتصاد الأمريكي، والتي تتلخص في ثلاثة عناصر هي: المديونية العالمية، اختلال الميزان التجاري، واختلال الميزانية (وهذا الأخير أصلح فترة حكم كلنتون، لكنه عاد الآن). ولهذا سنلمس التركيز على "فتح الأسواق" في كل الدراسات الاستراتيجية الأمريكية". كما سنلمس الميل الأمريكي للاستفراد وجني الأرباح. استناداً إلى تفوق القوة العسكرية الأمريكية، لهذا ستبدو وكأنها عنصر واقتصادي.
سيبدو الاقتصاد وكأنه الهدف المركزي في كل ما يجري، ولقد كان عنوان مرحلة كلنتون كلها. لكنه لا زال كذلك، حيث أفضت أزمات الرأسمالية (الركود، تقلص الأسواق)، وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية، إلى منح آفاق التنافس والسيطرة، لهذا سنلحظ بأن الأهداف تحددت في "فتح الأسواق" وعثمان توريد المواد الأولية، وتحديداً النفط. وسنلمس بأن عنصرين باتا فاعلين في الاقتصاد الرأسمالي، دفعا باتجاه صياغة للعالم تحقق مصالحهما، هما: الشركات متعدية القومية. ورأس المال المضارب. انطلاقاً من الحاجة إلى أسواق دون قيود، ومواد أولية مسيطر على أسعارها، الأمر الذي كان يعني إنها دور الدولة الاقتصادي، وتحولها إلى "مركز شرطة" يحمي مصالح هؤلاء، والمشكلة هنا تتمثل في أن هيمنة أمريكية متفوقة طالت الشركات متعدية القومية، وأن الرأسمال المضارب كذلك هو في الغالب أمريكي.
لهذا سيتوضح إنطلاقاً من ذلك السبب الذي جعل الدولة الأمريكية هي التي تصيغ العالم عبر الحرب، فهي تعمل على صياغة العالم بحجم مصالحها إذن، فإذا كانت حرب الخليج الثانية أمريكية، لكن بمشاركة أوروبية وعالمية، وكذلك الحرب ضد يوغوسلافيا، فإن هذه الحرب ضد أفغانستان والعالم، تبدو كحرب أمريكية بامتياز (مع تبعية بريطانية طبعاً) بقرارها وقيادتها وجيوشها والهدف منها، وستبدو أمريكا وكأنها تخضع كل العالم، بما فيه أوروبا، اليابان، روسيا والصين، لمنطقها، لكي تكسب على حساب الآخرين، فقوتها المتفوقة هي أداة تفوقها في المنافسة مع أوروبا واليابان، وكذلك مع روسيا والصين، كما أنها وسيلة ضرورية من أجل تغيير الجغرافيا السياسية في كل العالم، عبر إنهاء "الدول المارقة" (كما تسمى في الأجندة الأمريكية)، وتحقيق التواجد العسكري الضروري من أجل تحقيق "المناخ الأمني الدولي"، وبالتالي تحقيق قيادتها المطلقة، فعبر هذه القيادة المطلقة تستطيع أن تصيغ العالم في الشكل الذي يحقق مصالح شركاتها.
إذن، إن انهيار القوى الممانعة والمنشقة، وبالتالي انفتاح الأفق للهيمنة من جهة، وتضخم دور الشركات الاحتكارية متعدية القومية وسعيها لتوسيع هيمنتها من جهة أخرى، ونشوء الرأسمال المضارب من جهة ثالثة، دفع الدولة الأمريكية مستغلة قوتها العسكرية الضخمة، لتنفيذ تصور صيغ انطلاقاً من المصالح، ويهدف إلى السيطرة على الأسواق وعلى النفط الذي أصبح مصلحة قومية أمريكية منذ إعلان مبدأ كارتر سنة 1980، وبالتالي إلى تهميش القوى الرأسمالية الأخرى، بدأ ذلك مع حرب الخليج الثانية، وكان هدف التواجد العسكري الأمريكي، إضافة إلى تدمير العراق، هو "وضع اليد" على نفط الخليج العربي، إنطلاقاً من أن "من يسيطر على هذه المنطقة سيكسب ليس المال فقط. بل أيضاً الهيمنة على الشؤون الدولية" كما يقول نعوم تشوفسكي لكن يمكن أن تضيف بأن التواجد العسكري هو الذي يضمن سعراً "معقولاً" للنفط، بمعنى أن هذا التواجد يؤسس للتحكم بأسعاره. وكانت الحرب ضد يوغسلافيا كدولة مارقة تهدف إلى دمجها في "النظام العالمي الجديد" عبر تدميرها كاقتصاد وكدولة.
والآن "الحرب ضد الإرهاب" البادئة بأفغانستان والممتدة إلى كل من هو ليس مع الولايات المتحدة، حيث تحدد جوهر الحرب، بأنها "إما معنا أو مع الإرهاب". حسب بوش الابن، وبالتالي فهي تنطلق من التزام الآخرين بكل ما هو أمريكي وإلا فإن الحرب سوف تطاله، وستلحظ ابتداء بأن هذه الحرب ليست ضد دولة محددة (كما كان الحال بالنسبة للعراق سنة 1991)، بل هي حرب ضد شبكة ممتدة في دول عديدة (تحددت حسب القوائم الأمريكية بستين دولة)، العديد منها معها يوسم بـ"الدول المارقة". وبالتالي فهي حرب مستمرة. ابتدأت في أفغانستان وستطال دولاً أخرى، مثل العراق والصومال، والسودان، واليمن... الخ، بمعنى أنها حرب لا تقف عند حدّ، بل أنها الحرب التي تكرس الدولة الأمريكية كحاكم عرفي عام لكل العالم.
فالدول الأمريكية ـ مستغلة ما حدث في 11 أيلول ـ تسعى إلى تحقيق عدد من القضايا التي تكرس حاكماً عرفياً عاماً، ويمكن إجمال هذه القضايا في التالي:
أولاً: تأكيد زعامتها، وحسم هذه المسألة "إلى الأبد"، حيث بدا وكأن زعامتها التي تكرست في حرب الخليج الثانية بدأت تهتز لمصلحة "عالم متعدد الأقطاب"، عبر "النزوع الاستقلالي الأوروبي" والدور الروسي/ الصيني، وميل هذه الأقطاب إلى تكريس "عالم تعدد الأقطاب"، لهذا كان ضرورياً أن تخضع كل الأطراف الأخرى.
ثانياً: إنهاء الحركة المناهضة للعولمة، التي باتت تشكل إزعاجاً مستمراً للرأسمالية، عبر تحويل الصراع من صراع ضد الرأسمالية إلى صراع ضد الإرهاب، الذي يبدو أنه يطال كل معارض الرأسمالية إلى صراع ضد الإرهاب، الذي يبدو أنه يطال كل معارض للرأسمالية.
ثالثاً: إسقاط "الدول المارقة"، عبر تدمير اقتصادها وتدميرها كدول وتهيئة الظرف لنشاط الشركات الاحتكارية فيها، في وضع تتحكم فيه هذه الشركات في الاقتصاد وفي الدولة.
رابعاً: السيطرة على آسيا الوسطى، لتصبح مركزاً عسكرياً مهماً، وربما موازياً وموازنٍ لوجودها في الحلف الأطلسي.
خامساً: السيطرة على قوس النفط، الممتد من الخليج إلى بحر قزوين، للتحكم بأسعاره، كما بالتحكم بالدول الرأسمالية الأخرى.
وسيكون لأفغانستان أهمية فيما يتعلق بالعنصرين الأخيرين، حيث أنها موقع استراتيجي يهدد روسيا عب كونه المنطلق للسيطرة على دول آسيا الوسطى، وبالتالي تهديد روسيا في العمق، كما يهدد الصين، ويضع اليد على باكستان، ليجري التحكم بقلب آسيا، من أجل تحقيق "المناخ الأمني" الضروري لمصالح الشركات الاحتكارية، كما أنها موقع مهم من الزاوية الاقتصادية، حيث أن أفغانستان أقصر الطرق (بعد إيران) فيما يتعلق بمد أنبوب الغاز من نفط بحر قزوين عبر تركمانستان وأفغانستان وباكستان إلى المحيط الهندي، وهو المشروع الذي تسعى شركة "أونوكال" النفطية الأمريكية لتحقيقه منذ سنة 1995 عبر دعم حركة طالبان لكي تسيطر على كل الأراضي الأفغانية، وحين فشلت دفعت الدولة الأمريكية باتجاه إشراك المعارضة في السلطة. عبر "حكومة موسعة" مع تهديد لحركة طالبان بأنه إذا رفضت هذا الخيار فإن خياراً آخر سوف يتخذ، وكان واضحاً أن الخيار هو الخيار العسكري حسب كتاب "بن لادن: الحقيقة الممنوعة". ومعروف أن بوش الابن قد نجح بدعم من تحالف احتكارات النفط والمجتمع العسكري الصناعي، ولقد استقدم إلى إدارته ممثلين عن هذا التحالف، وكان "الهم الأول لأركان الإدارة الجديدة يتمثل في تأمين السيطرة على منابع النفط الأساسية في العالم". وبالتالي فإن السيطرة على أفغانستان تهدف إلى "ضمان الاستقرار المطلوب لتمكين واشنطن من السيطرة على الثروة النفطية في آسيا الوسطى".
لهذا ولهذا بالذات فإن "الهدف التالي" سيشمل العراق، لأنها "دولة مارقة"، ولأن السيطرة على قوس النفط تفرض السيطرة على نفط العراق، لتحاصر إيران وتصبح عُرضة للإخضاع أو السقوط، حينها تكتمل السيطرة على قوس النفط، وبالتالي تصبح كل المنطقة محمية عسكرية أمريكية، فتسيطر الدولة الأمريكية على النفط العالمي، وبالتالي تخضع كل "المنافسين" لتكتمل سيطرتها على العالم.
يقول هنري كيسنجر في آخر كتاب له صدر قبل 11 أيلول، بأنه قلق من الوضع الاقتصادي العالمي، وأن هذا النظام الاقتصاد العالمي "يتأرجح بدون سيطرة". و"أن وقوع أزمة مالية مهمة أخرى في آسيا أو في الديمقراطيات الصناعية، سيعجل بالتأكيد جهود دول آسيوية للحصول على سيطرة أكبر على مصائرها السياسية والاقتصادية عن طريق خلق بديل آسيوي للنظام الإقليمي الحالي"، وتضيف أن "بروز تكتل آسيوي معادٍ يضم مزيجاً من أكثر دول العالم كثافة بالسكان (الصين والهند) وأكثرها وفرة في الموارد الطبيعية (روسيا وآسيا الوسطى) وأكثرها تقدماً من الناحية الصناعية (اليابان) لن يكون في المصلحة القومية لأمريكا" وربما من هذا الأساس سنلمس جذر الحرب ضد أفغانستان، التي أشرنا إليها سابقاً. لكن هنري كيسنجر يصاب بالذعر حين يلمس أزمة الاقتصاد الأمريكي، حيث "كما كان الاقتصاد الأمريكي يمثل الماكينة العالمية للنمو، ستكون لهزة كبرى في الاقتصاد الأمريكي نتائج وخيمة على الاقتصاد في كل مكان"، فكم من الأزمات يمكن للنظام العالمي تحملها؟ خصوصاً إذا أضفنا ركوداً أمريكياً إلى المعادلة، عندما يكون النمو العالمي متكلاً. أداء الاقتصاد الأمريكي، ويستنتج بأن كل ذلك سيؤدي "إلى نشر الخراب في أرجاء النظام المالي والسياسي العالمي" فالغيوم السوداء المتراكمة فوق سماء العولمة هي تهديد بتفكك عالمي لنظام السوق الحرة تحت الضغط حالياً معه كل المخاطر التي قد تلحق بالمؤسسات الديمقراطية" والحل الذي يقدمه كيسنجر يتمثل في "إشعال حرب وتأسيس نظام دكتاتوري عالمي لإدارة الأزمة".
أنهي بالقول أنه ربما كان هذا هو العالم ما بعد 11 أيلول، وربما كان هذا هو اكتمال عصر العولمة، لكن يبقى الجانب الآخر، المتعلق بحركة الصراع ضد العولمة وضد الدولة الأمريكية خصوصاً، من أجل التحرر والتقدم والاشتراكية وهو الجانب الذي يجب أن يولي كل الأهمية، حيث يبدو العالم وكأنه يغرق في البربرية.