|
- تفاصيل - ل ديمة ونّوس .. تسعة شهور لا تكفي حين يكون الجنين هو الحياة
نادين باخص
الحوار المتمدن-العدد: 2317 - 2008 / 6 / 19 - 06:13
المحور:
الادب والفن
تسعةُ شهورٍ تحملُ المرأةُ جنينها ، تعيشُ حملَها ذاك لحظةً بلحظة ، بخوفها من آلامِ الولادة حيناً ، و تفاؤلها بمجيء كائنٍ ترسمه حسب أحلامها حيناً آخر .. برهبتها من أسرار هذا الكون العجائبي فيما تواكب نمو جنينها تارةً ، و فرحها بخصوبتها تارةً أخرى .. و تسعةُ تفاصيلٍ حملتها المجموعة القصصيّة الأولى للكاتبة ديمة ونوس ، الصادرة عن دار المدى للعام الجاري 2007 بعنوان تفاصيل ، حيث أودَعَتْ جنينَ الحياة في جوفِ كتابٍ تجاوز المئة صفحة بصفحة واحدة ، ليمثِّلَ كلُّ تفصيلٍ من تفاصيلها التسعة ، نموذجاً إنسانيّاً مشحوناً بمشاعر متنوّعة ، و أفكار عدّة ، و وقائع و هواجس و أشياء أُخَر تتضافر جميعاً مُشكِّلة الحياة بكاملها .
على طول المجموعة ، يتعثّر القارئ بإشارات علنيّة لروحِ فسادٍ تلفُّ واقعَ شخصيات ديمة ونوس ، أو بالأحرى تفاصيلها ، حيث النبرة الساخرة لا تفارق السطور .. و ربما لا تشير الكاتبة للفساد من باب النظرة من زاوية سلبيّة ، إنّما من أجل إسقاط الضوء على ما يجري في واقع الشخصيات المُقْتَبَس من واقعها نفسه ، ممّا يحرِّض على النهوض به إلى واقع يبتعد عن وحشيّة الحياة ، و يقترب إلى حياةٍ أكثر إنسانيّة ..
و توظّف الكاتبة شخوصها ليؤدّوا الأدوار المقترحة من قبل أفكارها ، عبر مواقف متنوّعة ، و أحوال مختلفة ..( جهاد ) مثلاً هو ابن السياسي السابق الذي سيظلّ عظيماً _ برأي ابنه _ مهما توالت السنوات على تقاعده و على موته حتّى ، لذا يريد أنْ يهيمن على كلّ شيء ، و أنْ يكون السياسي و التاجر و صاحب الشركات و المثقف و منتج الأفلام و الأغاني و مموّل المسرحيات ، و كلّ ذلك تحت شعار : ( دعم الاقتصاد الوطني ) .. فشخصية ( جهاد ) تطرح نموذجاً شاع للغاية ، و هو رأس المال الذي يريد ابتلاع كلّ شيء ، و قَرْنَ اسمه بكلِّ مُنْجَزٍ ، متجاهلاً أنَّ هذا العصر هو عصر الاختصاص ، و أنّه لا يمكن لأحد مهما امتلك من الثروات أنْ ينجحَ في أداء الاختصاصات جميعاً ، بل لن ينجح _ في حال محاولته اقتراف ذلك _ إلاّ بإضافة فشلٍ جديد لأمّته .
في حين تُرى ( مها ) صحفيّةً ملتزمة ، قضت سنوات عملها الصحفيّ كلّها متبنيّة لقضية الظواهر الطبيعيّة ، دون أنْ تتدخّل بأي قضية أخرى لا قولاً و لا كتابة ، لكنّها تخلّت عن قضيتها تلك ، مقابل منحها منصباً هي نفسها تعي أنّها ليست أهلاً له .. فتفصيلُ ( مها ) يطرح فكرتين واقعيتين : الأولى هي نظرية ( الشخص المناسب في المكان المناسب ) التي غالباً ما لا تُطبَّق في المناصب الإدارية ، و الثانية هي تلك الظاهرة التي تُسمّى بـ صحافة الكرسي ، و هي بمعنى من المعاني تعني اللاصحافة .. تقول القصّّة عن مها : " و لم تعد الزلازل و البراكين هي المواضيع الوحيدة التي تفجّر صوتها و تحرّره ، فالكرسي غالي الثمن ، و الحفاظ عليه يتطلّب تنازلات قاسية "ص31
و تعتمد الكاتبة في مجموعتها مبدأ الثنائيات ، و هذا بديهي أمام قصص تتناول الحياة ، فالحياة أرضٌ و سماء ، خيرٌ و شرّ ، بردٌ و حرّ . و يتجلّى هذا المبدأ في شخصية ( جعفر ) ، و هو سياسي ، و شخصية ( همام ) المثقف .. فالأوّل كان خلال اعتلائه لمنصبه الرفيع يستمدّ من ( همام ) _ لا شعورياً _ الدعمَ لأفكار متأصلة فيه ، لكنّه اضطر أمام غواية المنصب أن يخرسها ، و الثاني هو نموذج المثقف الذي لا يستطيع أنْ يُسمّى حرّاً _ في ظلّ ظروف سياسيّة و أمنيّة معيّنة _ إلاّ بدعم إحدى الجهات العليا .. و لا يشكّل المثقّف و السياسي هنا أيّة ثنائيّة ضديّة أو مفارقة ، على العكس ، فهما عبارة عن ثنائية تكامليّة ، كثيراً ما يراها المرء مجسّدة في واقعه المُعاش ، إلاّ أنّ المفارقة تكمن في شخصيّة ( جعفر ) السياسي ، و شخصيّته بعد تجريده من منصبه ، فقد تحوّلت الشتائم و الرّكل إلى صمت و تأمّل عميق في السماء و الياسمين ، و حتّى في الدخان الذي يلفّ المدينة ، و هذه نقطةُ تفاؤلٍ تُسجَّل لصالح حبر ديمة ونوس ، إذ إنّ الحياة ستكون بخير لو أنَّ حال كلِّ سياسيّ متقاعد أو مجرّد عن منصبه يؤول إلى ما آل إليه حال جعفر : " لمح جعفر ابتسامة همام العذبة من وراء الباب االخشبي ، قبّل عينيه بحنان مفرط و دخل بارتباك كأنّه يتعلّم المشي للمرّة الأولى " ص20
و تُكمل المجموعة تقديمَ نماذج عبر تفاصيل بشريّة متعدّدة الألوان ، فها هي ( حنان ) تتدخل في شؤون السياسة و الإدارة و التجارة و تبادل الصفقات ، رغم أنّها امرأة لا تقرأ الجرائد و لا تعنيها أخبار الدنيا ، لكنّها تمارس تدخلاتها تلك ، تبعاً لمنصب الذي يكون عليه صاحبها ، و غالباً ما تعود صحبتها تلك عليها و على زوجها بالخيرات .. تأمر و تنهي و تقول للشيء كنْ فيكون ، فقط لأنّها جذّابة إنّها مثالٌ حيّ على سلطة العهر ، تلك السلطة التي تتحكم بمصائر الفقراء و الأغنياء بجبروتٍ أعمى .
لقد اهتزَّتْ أساسات الحياة ، و لم يعد يُعرَفْ الصالح من الطالح ، حيث الأقنعة آلهةُ العصر ، و الكلّ يختار القناع الذي يناسبه ، و ما أنسب الدين لاتخاذه قناعاً طاهراً ، يلوذُ المرءُ خلفه آمناً من الفضيحة ، مرفّعاً عن ارتكاب العيب ، مغبوطاً من الآخرين على وسع مطرحه في جنّات ربّه .. هذا ما أرادت الكاتبة إيصاله عبر تفصيل ( عمر ) ، النائب البرلماني الذي بنى مسجداً بعشرات الملايين ، في حين لم يشغل باله صباح افتتاحه إلاّ كيف سيستقبل أهم المناصب المدعوّة ، و ماذا سيقول في كلمته الافتتاحيّة ، أمّا القصد الروحي من بنائه لذلك المسجد ، فلا يلمحه القارئ في سطرٍ من سطور القصّة .
و لا يفوت الكاتبة أنْ تُفْرِد للفقر مساحة بين تفاصيلها ، فهي تُقدِّم نموذجين عن الفقر ، الأوّل هو ( سميح ) ، السائق العمومي الذي يموت جوعاً إنْ لم يُشِرْ له أحدهم و يطلب إليه إيصاله إلى مكان ما ، ليس لأنَّ المبلغ الناتج عن إيصال الزبائن كفيل بتأمين لقمته ، بل لأنّه يعيش على هموم الناس ، و يخون الفقر فيهم ، فيصوغه في تقارير ـ و يقوّله كلاماً و شتائم لم ترد أصلاً ، و يتقاضى أجره المُسْتَحَقّ على ما قدّمه من خدمات .. أمّا النموذج الثاني ، فهو ( محمد ) ، و عبره تطرح الكاتبة فكرة أحلام الفقراء ، فـ ( محمد ) هو السائق الخصوصي لسيدة ثرية ، و هنا يمكن للقارئ أنْ يتصوّر المفارقة الكامنة بين سائق السيارة و صاحبتها ، و ما يمكن أنْ تبعثه جولات تلك السيدة السياحية ، و مشاويرها للأسواق ، في نفس ( محمد ) المسكين ، الذي كان أكبر حلمٍ حلمه في حياته أنْ يتباهى بقيادة سيارة الـ (BM W ) على طريق دمشق-بيروت .. لكنّ أحلامه تفاقمت يوماً بعد يوم ، مع مرور السواق و المحال التجارية الضخمة ، إلى أنْ تنهي القصّة نفسها بنفسها : " كان يحلم باستبدال الزريبة التي يعيش فيها مع زوجته و أولاده ببيت حقيقي تدخله الشمس من شباك واحد على الأقل ، ثمّ صارت السيارة حلمه الكبير ، فامتلاكها يسهل عليه العمل و يزيد الربح ، صار بعدها يحلم بمنح أطفاله الستة حياةً كريمة .. ثمّ تخلّى عن الحياة الكريمة و السيارة و البيت و اختصر حلمه و حجّمه ، فصارت العودة إلى البيت مساءً بعد يوم شاقّ محشو بالإرهاق و مندّى بالعرق هي الحلم الأكبر الذي يحقّقه ( محمد ) على الأقلّ في كلّ مساء "ص101
و لفساد الإدارة تفصيلٌ يلعبه ( فؤاد ) ، فتصوّره القصّة ينتقل من كرسي إلى آخر ، حاملاً معه وباء فساده ، لكنّ الطرافة أنّه حين يُعيّن مديراً لهيئة مكافحة الفقر ، يمتثل له أحد الموظفين الذي يفوقه فساداً ، و يُعيدُه لمنزله إلى الأبد من خلال تقريرٍ صغير ، يصوغه ضدّه بما يُحرِّض على بثّ القلق فيما يتعلّق بأمن الوطن الذي هو أغلى من أيّ شيء ، حسبما ورد في التقرير .
و يستكمل جنين الحياة نموّه المنطقي عبر تفاصيل ديمة ونوس ، فالمرأة التقليديّة تفصيلٌ حقيقيّ منتشر كما ينتشر كلٌّ من السياسي المجرّد من منصبه ، و المدير الفاسد ، و الساقطة ، و الفقير ، و الصحفي الخائن لمهنته ، و مدّعي الإيمان ... و ( سهر ) هي التي تلعب دور تلك المرأة ، ففضولها محصور بالتلصص على جيرانها ، و باستقبال جارتها عند الصباح ، و بالإصغاء لدروس معلّمة الدين ، و تتويج زوجها ليلة الخميس بوصلة رقصٍ حارّة..
ربما نجحت تفاصيل ديمة ونوس بعرض مشاهد متنوّعة من الحياة عبر ملكة الكتابة ، محاولة إظهارها بصورة متكاملة ، إلاّ أنّ تفاصيلَ عديدة لاتزال تعيش رغبة المشاركة في لوحة الحياة التي لا يمكن لها أنْ تكتمل في أذهان القرّاء دون إضافات يمارسونها بما يحلو لهم من خطوط و ألوان .
#نادين_باخص (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وجودية نزيه أبو عفش في (أهل التابوت)..
-
رائحة القرفة ل (سمر يزبك) حين تكون الكلمات سلعاً مهرّبة ..
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|