|
أزمة تراث أم تراث أزمة؟
غسان المفلح
الحوار المتمدن-العدد: 2316 - 2008 / 6 / 18 - 08:57
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
سؤال البداية، سؤال عملي ومباشر: هل يحتاج الشارع الإسلامي إلى هذا الكم المرعب من قراءة تراثه؟ أو بشكل أدق هل هو بحاجة إلى كل هذه المحاولات اليومية، لمن يقرأ نيابة عنه تراثه الإسلامي؟ من المفارقات التي اعتبرها طريفة: أن النبش في التاريخ الإسلامي والحفر من أجل الحصول على كافة وثائقه وحفرياته على حد تعبير الأركولوجيون، هذه الحفريات، التي طالت كل ما هو ثانوي ومهمل، ولا يعتد به حتى، يكفيه أنه مهمل! ومحاولة إعادة إحياءه سلبا أو إيجابا تراكم وعيا بسلطة صاحب التأويل وليس بالحفرية المؤولة، واستكمالا للمفارقة هذه: أن التيارات الحداثية وما بعد الحداثية، قد كشفت للراهن حسب موقع الباحث أو المفكر الذي يقوم بالحفر في هذا التاريخ، إما لتأويله*1 أو لإحداث خرق اجتهادي فيه، أو لمحاربته جملة وتفصيلا. لقد ساعدت هذه التيارات على التهويل من خطر النخب الإسلامية المتشددة، على حساب السلطة المتغولة، مثال الحفر من أجل إظهار الجانب الإيروتيكي في التجربة الإسلامية. بداية القول فرضية: التأويل تعبير عن أزمة أمة وثقافة، الأمة التي يكون الاجتهاد اليومي جزء من حياتها المنخرطة في تاريخيتها الراهنة، لا تحتاج إلى تأويل تاريخها، بكل هذا الكم. التأويل هو بشكل أو بآخر محاولة للاحتماء بالماضي، من أجل مواجهة أزمة في الحاضر من أجل تجديده وبث الروح فيه. أو كما يعبر أسلافنا، الاحتماء بالغائب نتيجة أزمة في الشاهد. التأويل مهما كان لا يسمح بترك بابه مشرعا لحيادية- لموضوعية- المؤول تجاه راهنه. ولنا في تجربتين مهمتين، كارل بوبر وإعادة تجديد الليبرالية على طريقته ذات البعد السياسي السجالي المباشر، ولدينا فلسفة الاختلاف، لمواجهة أزمة مركزية العقل الأوروبي، أو عقل الإنسان الأبيض، حيث أصبح الهامش له حضوره المرضي في الحياة الغربية، سواء داخل مجتمعاتها، فوكو، أو داخل نزوعاتها للهيمنة على الخارج، ليفي شتراوس، و ديريدا، وتودورف الذي عاد ليقرأ مجازر الإنسان الأبيض بحق الهندي الأحمر، هي أزمة ما بعد الحرب العالمية الثانية ومخلفات حرب سبقتها. وتركت أوروبا في حالة من العجز عن تفسير هذا الهول: خمسون مليون أوروبي فقط قضوا في هذه الحرب إضافة إلى هولوكوست لازالت معززة مكرمة- رغم غزة- أقر بأنني أميل هنا إلى خطاب سجالي لا يترك أثرا للمرجعيات النظرية أن تأخذ من النص حيزا يعتبره بعضنا مصدر القوة في نصه. وهذا ما اعتبره: أن إحضار النص لا يحضر وقائعه التاريخية كما هي في لحظة انبثاقه- كتابته وتعميمه- لو كان يُحضر وقائعه لخفت كثيرا وظيفة التأويل. لو أن بيننا الآن أبو هريرة رضي الله عنه، ربما لا نحتاج إلى كل هذا الكم من تأويلات الحديث النبوي الشريف. رغم أننا في هذا النطاق نحن نُئول عن مؤول، تأويل يراكم تأويل! ما وردنا مكتوبا مشروحا أو مفسرا في الصحيحين أو الأربعة أو الستة، التي جمع أصحابها الحديث النبوي الشريف، هو كتابة تأويلية لأصحابها. أو لو كنا نشاهد أمامنا غزوة بدر، أو كنا حاضرين في السقيفة لنشاهد الشورى، لما احتجنا لكل هذه المجلدات التي تملأ المكتبات، ويعجز المواطن العربي عن قراءتها، لهذا يمكن لنا بجرأة أن نقول أن تأويل الداعية التلفزيوني عمرو خالد الآن أهم من أي تأويل آخر، ربما. وكنا أعدنا مشاهدة الانشقاق الشيعي السني بتفاصيله التي تملأ كتب الطرفين وبوتقتهم في نواصب و روافض! أيهما على حق!؟ وعندها هل يمكن لنا الحكم في هذه القضية؟ لهذا من الاستحالة تحقيق مثل هذا الأمر فيصبح للتأويل وظيفتين مباشرتين: الأولى بث الروح في النص- الأصل، أو في الواقعة- الأصل، والوظيفة الثانية سحب تفاصيل الواقع لإدخالها في النص المؤول، أو في الواقعة المؤولة من أجل عصرنتها. وجعلها جزء من راهن هو أساسا كما نزعم لا يحتاجها. بعد هذا المدخل السريع يمكن لنا أمام هذا الكم أن نقول بشكل واضح بات لدينا ليس أزمة تراث، بل بات لدينا تراث من الأزمة، فيما لو واجهنا في الواقع حجم التأويل الذي جرى على النص والتاريخ الإسلامي خلال أكثر من قرن ونصف. حيث استطاع الغرب أن يرفدنا بكل ما يمكن أن نقول عنه عصر الكتابة. بمعنى أن الغرب له الفضل في تعميم الكتابة،بمطبعته، ورخص صناعته للورق. كيف لمواطن غلبان أن يبقى لاهثا وراء تأويل ينتج تأويلا، وكأننا أمام ولادات أوتوماتيكية. تراث كامل خلفه لنا علماء ونخب وفلاسفة ومفكرون إسلاميون وعرب ومستشرقون دخلوا على خط تأويل تاريخنا الإسلامي. لهذا وصلت حدود التأويل عند بعض الجماعات مثلا إلى وجوب قطع الرأس بالسيف أمام شاشة تصوير، أو عدم النوم بجانب الحائط لأنه مذكر، أو عدم استحمام المرأة عارية في حمامها، لأن الشيطان يراها. أليس هذا تأويلا. لا أريد تبخيس الأمر وعظيم الإنتاج المعرفي والأيديولوجي لأحد أبدا، ولكن الموضوع يتعلق، بأننا لم نعد أمام حالة من أزمة تراثنا، لأنه لم يكن مأزوما وإلا ما كان لتراث مأزوم أن يخلق عالم من مليار و مائتي مليون مسلم تقريبا، رغم ما حدث فيه من حروب وفتن ودمار وإعمار فهو كان يحمل للبشرية جديدا إنسانيا*2، ولكن من سنة الحياة أن الجديد يتحول بفعل الزمن إلى قديم، و القديم لا بد من التعامل معه كقديم هذه هي المعادلة باختصار، والقديم لايمكن أن يحيى برموز الجديد ولكنه يحضر داخلها دون أن يهمن، كتراكم معرفي أو أخلاقي أو إنساني. إذن أزمتنا في تراث الأزمة التي نعيشها وهي أزمة حاضر لا نريد القبول بوقائعه، وهذا ما يجعل دوما التأويل وظيفة دائمة الحضور لكي تزيد من مؤلفات الأزمة، دون أن تساهم في حلها. إن للتأويل في عالمنا العربي، سلطة تقف خلفه وسلطة تمنعه أيضا حسب أهوائها، وهنا أعتقد أننا يجب أن نركز مبحثنا في سلطة التأويل وتأويل السلطة، وأنا هنا لا أتحدث عن السلطة بمعناها الضيق المجسد فقط وإن كانت تستوعب المعنى الضيق لكنها أكبر منه في الحقيقة. حيث من المؤكد أن الخلاف ليس على قراءة التراث وما حدث فيه، بل الخلاف هنا في هذا الحاضر المسدود الآفاق- كما يراه المؤولون أو أكثريتهم والذي يحيلنا إلى الماضي نستجدي منه رموزا لا تصمد مع الحياة أبدا. تأكيدا لما ذهبنا إليه، أية مؤسسات تحتفي بهذا التأويل؟ أية مؤسسات تختار من هذا التأويل أو ذاك لتسويقه؟ يقول نصر حامد أبو زيد: في أعقاب حرب 1967 اختلفت الصيغة، وانقلبت المعادلة بين المتن والفرع؛ ولم تعد الحداثة مرجع تأويل التراث، بل صار التراث هو مرجع تأويل الحداثة، وأصبح التراث هو المتن الذي يؤوَّل عليه- مقابلة في دمشق أجراها معه الباحث السوري محمد علي الأتاسي. وهل بالفعل كان الأمر قبل عام 1967 تماما كما يقول مفكرنا العزيز؟ ولماذا؟ بالنسبة لي الأمر هو التالي هل مطلوب منا أن نبقى دوما في عتبة التأويل؟ وإلى متى؟ لماذا لا نحاول أن نقارب التأويل لجهة أن الكائن الإنساني، لا يخلق مسلما أو مسيحيا أو يهوديا، شيعيا أو سنيا، علويا أو درزيا،..الخ بل يضاف كل هذا فوق كينونته بدون دراية منه، تفرض عليه من سلطات أكبر منه تبدأ من والديه و ثم تنتقل إلى المدرسة وفيما بعد إلى الشارع أو الجامعة..أين هي كل هذه السلط التي يمر بها الكائن عندنا في منطقتنا؟ أين تختبئ؟ أم أنها بحاجة إلى كل هذا الكم اليومي من التأويل من أجل إخفاءها؟ أليست كلها سلط راهنة؟ بات التراث بعيدا جدا كما كان بعد أن مضى، ولكن ما نراه الآن هو التراث الذي نشأ من تأويل الذي مضى، حتى تحول هذا التأويل إلى تراث. في النهاية هل يمكن الحديث عن معنى يستنبط من ماض من أجل أن نساعده على غزو الحاضر ويحيله إلى سلطة فيه؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فمن هو القادر على تحويل هذا الاستنباط في مجتمعاتنا إلى سلطة؟ بن لادن يستنبط معنى، والشيخ القرضاوي يستنبط معنى آخر، ونصر حامد أبو زيد والجابري..الخ أي معنى يأخذ سلطته في الراهن وعلى ماذا يتوقف هذا الأمر؟ هنالك من يرى وظيفة لهذا الكم من التأويل تؤديها: وهي رفع القداسة عن هذا التاريخ، ولكن رفع القداسة ذاتها تحتاج إلى سلطة لتثبيتها. ختاما: هل تنجو محاولتنا هذه من فخ التأويل؟
*1أن تفسر عملا ً أدبيا ً، بالمعنى الضيق و الدقيق، هو أن توضح معناه اللغوي بوساطة التحليل وإعادة السبك والصياغة بغية زيادة معناه جلاءً، وكذلك التعقيب والشرح؛ وعادة يركز مثل هذا التفسير، على نحو خاص على المقاطع الغامضة والمبهمة أو المجازية. أما في المعنى الواسع، فأن تفسر هو أن تجعل مغزى العمل الأدبي الشامل، الذي تشكل اللغة مادته، واضحاً. والتفسير بهذا المعنى يتضمن التحليل المفصل لأوجه العمل الأدبي مثل: جنسه الأدبي، وعناصره، وبنيته، وموضوعه، وتأثيره. أما مصطلح التأويل hermeneutics فإنه كان قد استعمل، في الأصل، تحديدا ً للدلالة على تفسير الكتاب المقدس. وهو بذلك يتضمن كلاً ً من استنباط قواعد تحكم القراءة الشرعية الصحيحة لنصوص الكتاب المقدس وكذلك تحكم التأويل أو التعقيب والشرح المفسـِّر حول تطبيقات المعاني المعبر عنها في النص. وعلى أية حال فمنذ القرن التاسع عشر تصدى التأويل لمهمة صياغة النظرية العامة للتفسير. ويعني ذلك استنباط الإجراءات والأسس اللازمة لإدراك معنى النصوص المكتوبة كافة، بما في ذلك النصوص القانونية والتفسيرية والأدبية فضلاً عن نصوص الكتاب المقدس- أم. أتش أبرامز، ترجمة باقر جاسم محمد M.H.ABRAMS نقلا عن موقع سؤال التنوير. *2المفارقة هنا أن التأويل تم ويتم انطلاقا من كتابة التاريخ في مرحلة هبوطه أي بعد قرون من ولادته. و قلة هي المصادر المكتوبة التي يمكن لنا التحدث عنها وكتبت في ذروة صعود المشروع الإسلامي. التأويل هنا يتم عن تأويل للشفاهي المنقول شفاهيا في لحظة كتابته.
#غسان_المفلح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخروج من إيران-العامل الخارجي سوريا.
-
حزب الله« يتخلى عن حمولته العربية- غزوة بيروت
-
سورية ما العمل الآن؟نسيان البدء، بداية الفعل.
-
فضائية الخوف والوطن- لحظة بوح
-
فضائية سورية لمن؟
-
ثرثرة خارج خط التماس!
-
إعلان دمشق إلى أين؟
-
النوروز السوري-خواطر كصنع آلة عود في السجن
-
المعارضة السورية والثقافة النقدية.
-
الكردي المبعثر، العربي المشتت.
-
حضارة القوة أم قوة الحضارة؟
-
الاضطهاد الاجتماعي في سورية، أهل حوران نموذجا
-
غزة..إعادة إنتاج الديني سياسيا.
-
السياسة اجتهاد وليست قياس.
-
العنف... الصورة... المستقبل مقاربات لا تنتهي
-
جرائم الشرف ثقافة المشهد.
-
حوار مع ياسين الحاج صالح أزمة نقد أم نقد أزمة؟
-
الاعتقال والتخوين تعبير عن ميزان قوى.
-
فسحة بين إقصائين.سماح إدريس وفخري كريم.
-
الليبرالية والمشروع الأمريكي، فك ارتباط أم التصاق آني؟
المزيد.....
-
مجلس الوزراء السعودي يوافق على -سلم رواتب الوظائف الهندسية-.
...
-
إقلاع أول رحلة من مطار دمشق الدولي بعد سقوط نظام الأسد
-
صيادون أمريكيون يصطادون دبا من أعلى شجرة ليسقط على أحدهم ويق
...
-
الخارجية الروسية تؤكد طرح قضية الهجوم الإرهابي على كيريلوف ف
...
-
سفير تركيا في مصر يرد على مشاركة بلاده في إسقاط بشار الأسد
-
ماذا نعرف عن جزيرة مايوت التي رفضت الانضمام إلى الدول العربي
...
-
مجلس الأمن يطالب بعملية سياسية -جامعة- في سوريا وروسيا أول ا
...
-
أصول بمليارات الدولارات .. أين اختفت أموال عائلة الأسد؟
-
كيف تحافظ على صحة دماغك وتقي نفسك من الخرف؟
-
الجيش الإسرائيلي: إصابة سائق حافلة إسرائيلي برصاص فلسطينيين
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|