أثار مشروع القرار الفرنسي بمنع المظاهر الدينية في المدارس الفرنسية موجة من ردود الفعل المتباينة، فكثرت الأحاديث والمقالات حول مسألة الحجاب ، فتجد من يرى أن عدم التزام النساء بالحجاب، منكر عظيم.. لأنّ الحجاب، كما يرون، "عبادة وليس عادة". وتجد من يتوعد المتساهلات به، قائلاً: "إياك إياك أن تتساهلي به أو تتنكري له، فإنه - والله - ما تساهلت امرأة بحجابها أو تنكرت له إلا تعرضت لسخط الله وعقابه، وما حافظت امرأة على حجابها إلا ازدادت رضا وقرباً من الله، واحتراماً وتقديرا من الله".
ويورد البعض وصفاً للحجاب الشرعي فيقول: "إن الحجاب الشرعي للمرأة المسلمة يجب أن يكون سميكاً غير شفاف، وألا يكون زينة في نفسه ، ولا معطراً؛ لأن النبي حرّم على المرأة أن تتعطر وتخرج إلى مكان فيه رجال أجانب، فقال: (أيما امرأة استعطرت فمرت بالقوم ليجدوا ريحها فهي زانية)".. ويؤكدون على ورود نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تدل على وجوب تغطية المرأة لجميع بدنها؛ لأن المرأة كما يؤكدون "كلها عورة لا يصح أن يرى الرجال الذين ليسوا من محارمها شيئاً منها".. ويوردون أدلة تثبت دقة وصحة كلامهم ، كما يزعمزن، قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) النور (31) كما يستشهدون بآيات من سورة الأحزاب.
ويستغرب هؤلاء من القول بأن حجاب المرأة هو أن تحجب شعرها وتبدي وجهها ويعدون "هذا من عجائب الأقوال !! فأيما أشد فتنة : شعر المرأة أو وجهها ؟! وأيما أشد رغبة لطالب المرأة أن يسأل عن وجهها أو أن يسأل عن شعرها؟ " ويؤكدون أنّ "الحجاب الشرعي هو ما تحتجب به المرأة حتى لا يحصل منها فتنة أو بها، ولا ريب أن متعلق ذلك هو الوجه".
وتختتم أغلب المقالات بالتهديد والتخويف من مصير المتبرجات السافرات "اتقِ الله وتوبي إليه من هذا العمل القبيح، واعرفي مالك وتذكري مصيرك، وتذكري سكناك وحيدة فريدة في القبر الموحش المظلم، وتذكري وقوفك بين يدي الله عز وجل، وتذكري أهوال يوم القيامة، وتذكري الحساب والميزان، وتذكري جهنم وما أعد الله فيها من العذاب الأليم لمن عصاه وخالف أموره"..
لماذا كل هذا الضجيج؟ وهل تهدد هذه القضية الإسلام فعلاً ؟ وما حقيقة موقف الإسلام من الحجاب، وما المقصود بالحجاب؟ وما سبب نزول الآيات التي ذكر فيها الحجاب؟ وما قول مفسري القرآن فيها؟
للإجابة على هذه الأسئلة عدنا إلى تفسير القرآن عند كل من ابن كثير، والطبري ، والجلالين، والقرطبي، فحصلنا على المعلومات والإجابات التالية:
أولاً: في تفسير ما ورد في سورة النور: (.. وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ..)(31)
جاء في تفسير "بن كثير" لهذه الآية ما يلي:
"... وَقَوْله تَعَالَى " وَلَا يُبْدِينَ زِينَتهنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا" أَيْ لَا يُظْهِرْنَ شَيْئًا مِنْ الزِّينَة لِلْأَجَانِبِ إِلَّا مَا لَا يُمْكِن إِخْفَاؤُهُ ... وَقَالَ بِقَوْلِ اِبْن مَسْعُود الْحَسَن وَابْن سِيرِينَ وَأَبُو الْجَوْزَاء وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَغَيْرهمْ وَقَالَ الْأَعْمَش عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس : " وَلَا يُبْدِينَ زِينَتهنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا " قَالَ : وَجْههَا وَكَفَّيْهَا وَالْخَاتَم . .... وَقَوْله تَعَالَى" وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبهنَّ " يَعْنِي الْمَقَانِع يُعْمَل لَهَا صِفَات ضَارِبَات عَلَى صُدُورهنَّ لِتُوَارِي مَا تَحْتهَا مِنْ صَدْرهَا وَتَرَائِبهَا لِيُخَالِفْنَ شِعَار نِسَاء أَهْل الْجَاهِلِيَّة فَإِنَّهُنَّ لَمْ يَكُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ بَلْ كَانَتْ الْمَرْأَة مِنْهُنَّ تَمُرّ بَيْن الرِّجَال مُسَفِّحَة بِصَدْرِهَا لَا يُوَارِيه شَيْء وَرُبَّمَا أَظْهَرَتْ عُنُقهَا وَذَوَائِب شَعْرهَا وَأَقْرِطَة آذَانهَا فَأَمَرَ اللَّه الْمُؤْمِنَات أَنْ يَسْتَتِرْنَ فِي هَيْئَاتهنَّ وَأَحْوَالهنَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى " يَا أَيّهَا النَّبِيّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتك وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبهنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ " وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة " وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبهنَّ" وَالْخُمُر جَمْع خِمَار وَهُوَ مَا يُخَمَّر بِهِ أَيْ يُغَطَّى بِهِ الرَّأْس وَهِيَ الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّاس الْمَقَانِع . قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر " وَلْيَضْرِبْنَ " وَلْيَشْدُدْنَ " بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبهنَّ " يَعْنِي عَلَى النَّحْر وَالصَّدْر فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْء..."
وجاء في تفسير "الجلالين":
"وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبهنَّ" أَيْ يَسْتُرْنَ الرُّءُوس وَالْأَعْنَاق وَالصُّدُور بِالْمَقَانِعِ "وَلَا يُبْدِينَ زِينَتهنَّ" الْخَفِيَّة وَهِيَ مَا عَدَا الْوَجْه"..
وجاء في تفسير الطبري
"وَقَوْله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبهنَّ } يَقُول تَعَالَى ذِكْره : وَلْيُلْقِينَ خُمُرهنَّ , وَهِيَ جَمْع خِمَار , عَلَى جُيُوبهنَّ , لِيَسْتُرْنَ بِذَلِكَ شُعُورهنَّ وَأَعْنَاقهنَّ وَقُرْطهنَّ .
وجاء في تفسير القرطبي
"ِ...الْأَخْمِرَةِ وَهِيَ الْمَقَانِع سَدَلْنَهَا مِنْ وَرَاء الظَّهْر . قَالَ النَّقَّاش : كَمَا يَصْنَع النَّبَط ; فَيَبْقَى النَّحْر وَالْعُنُق وَالْأُذُنَانِ لَا سَتْر عَلَى ذَلِكَ ; فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِلَيِّ الْخِمَار عَلَى الْجُيُوب , وَهَيْئَة ذَلِكَ أَنْ تَضْرِب الْمَرْأَة بِخِمَارِهَا عَلَى جَيْبهَا لِتَسْتُر صَدْرهَا...
فِي هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى أَنَّ الْجَيْب إِنَّمَا يَكُون فِي الثَّوْب مَوْضِع الصَّدْر ... وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ رَحْمَة اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ ( بَاب جَيْب الْقَمِيص مِنْ عِنْد الصَّدْر وَغَيْره ) وَسَاقَ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : .. : فَأَنَا رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول بِإِصْبَعَيْهِ هَكَذَا فِي جَيْبه ; فَلَوْ رَأَيْته يُوَسِّعهَا وَلَا تَتَوَسَّع . فَهَذَا يُبَيِّن لَك أَنَّ جَيْبه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ فِي صَدْره ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَنْكِبه لَمْ تَكُنْ يَدَاهُ مُضْطَرَّة إِلَى ثَدْيَيْهِ وَتَرَاقِيه. وَهَذَا اِسْتِدْلَال حَسَن".
يتبين مما ورد في هذه التفاسير ما يلي:
ـ لا حرج للمرأة منذ العهود الأولى للإسلام أن تبدي وَجْههَا وَكَفَّيْهَا وَالْخَاتَم.
ـ "الْأَخْمِرَةِ وَهِيَ الْمَقَانِع سَدَلْنَهَا مِنْ وَرَاء الظَّهْر".
ـ "وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبهنَّ" أَيْ يَسْتُرْنَ الرُّءُوس وَالْأَعْنَاق وَالصُّدُور بِالْمَقَانِعِ "وَلَا يُبْدِينَ زِينَتهنَّ" الْخَفِيَّة وَهِيَ مَا عَدَا الْوَجْه"..
ثانياً: في تفسير ما جاء في سورة الأحزاب: { يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَن لَكُمْ إِلَى طَعَام غَيْر نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ... وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاء حِجَاب...}(53)
جاء في تفسير الطبري
"وَاخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْم فِي السَّبَب الَّذِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِيهِ , فَقَالَ بَعْضهمْ : نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْم طَعِمُوا عِنْدَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَلِيمَة زَيْنَب بِنْت جَحْش .... -حَدَّثَنِي عِمْرَان بْن مُوسَى الْقَزَّاز , قَالَ : حدثنا عَبْد الْوَارِث , قَالَ : حدثنا عَبْد الْعَزِيز بْن صُهَيْب , عَنْ أَنَس بْن مَالِك , قَالَ : بَنَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَيْنَبَ بِنْت جَحْش , فَبَعَثْت دَاعِيًا إِلَى الطَّعَام , فَدَعَوْت , فَيَجِيء الْقَوْم يَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ثُمَّ يَجِيء الْقَوْم يَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ, فَقُلْت : يَا نَبِيّ اللَّه قَدْ دَعَوْت حَتَّى مَا أَجِد أَحَدًا أَدْعُوهُ , قَالَ : " ارْفَعُوا طَعَامَكُمْ " , وَإِنَّ زَيْنَب لَجَالِسَة فِي نَاحِيَة الْبَيْت , وَكَانَتْ قَدْ أُعْطِيَتْ جَمَالًا , وَبَقِيَ ثَلَاثَة نَفَر يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْت , وَخَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْطَلِقًا نَحْو حُجْرَة عَائِشَة , فَقَالَ : " السَّلَام عَلَيْكُمْ أَهْل الْبَيْت " فَقَالُوا : وَعَلَيْك السَّلَام يَا رَسُولَ اللَّه , كَيْفَ وَجَدْت أَهْلَك ؟ قَالَ : فَأَتَى حُجَر نِسَائِهِ , فَقَالُوا مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَة , فَرَجَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَإِذَا الثَّلَاثَة يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْت , وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيد الْحَيَاء , فَخَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْطَلِقًا نَحْو حُجْرَة عَائِشَة , فَلَا أَدْرِي أَخْبَرْته , أَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الرَّهْطَ قَدْ خَرَجُوا , فَرَجَعَ حَتَّى وَضَعَ رِجْله فِي أُسْكُفَّة دَاخِل الْبَيْت , وَالْأُخْرَى خَارِجه , إِذْ أُرْخِي السِّتْر بَيْنِي وَبَيْنَهُ , وَأُنْزِلَتْ آيَة الْحِجَاب .
{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاء حِجَاب } يَقُول : وَإِذَا سَأَلْتُمْ أَزْوَاجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ اللَّوَاتِي لَسْنَ لَكُمْ بِأَزْوَاجٍ مَتَاعًا { فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاء حِجَاب } يَقُول : مِنْ وَرَاء سِتْر بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ.."
يتبين من تفسير الطبري، الذي لا يختلف عن تفسير الجلالين ، ولا عن تفسير ابن كثير أو القرطبي، أنّ هذه الآية نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْم طَعِمُوا عِنْدَ الرَسُول فِي وَلِيمَة زَيْنَب بِنْت جَحْش.. وأن كلمة حجاب في هذه الآية التي نزلت في ظروف محددة، تعني الستر كما ورد أعلاه ، ولا يقصد بها الحجاب الشرعي للمرأة المسلمة والذي يصفونه بأنّه يجب أن يكون سميكا غير شفاف، وألا يكون زينة في نفسه ، ولا معطراً.. بل له معنى مختلف تماماً عن المعنى الذي يقسرها إليه بعضهم ...
ثالثاً: في تفسير قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النَّبِيّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتك وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبهنَّ }(الأحزاب 59)
جاء في تفسير الطبري
"... -حَدَّثَنِي يَعْقُوب , قَالَ : حدثنا هُشَيْم , قَالَ : أَخْبَرَنَا هِشَام , عَنِ ابْن سِيرِينَ , قَالَ : سَأَلْت عُبَيْدَة , عَنْ قَوْله : { قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتك وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبهنَّ } قَالَ : فَقَالَ بِثَوْبِهِ , فَغَطَّى رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ , وَأَبْرَزَ ثَوْبَهُ عَنْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ أُمِرْنَ أَنْ يَشْدُدْنَ جَلَابِيبهنَّ عَلَى جِبَاههنَّ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد , قَالَ : حدثني أَبِي , قَالَ : حدثني عَمِّي , قَالَ : حدثني أَبِي , عَنْ أَبِيهِ , عَنِ ابْن عَبَّاس , قَوْله : { يَا أَيّهَا النَّبِيّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتك وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبهنَّ } .... إِلَى قَوْله: {وَكَانَ اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا } قَالَ : كَانَتْ الْحُرَّة تَلْبَس لِبَاس الْأَمَة , فَأَمَرَ اللَّه نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبهنَّ ; وَإِدْنَاء الْجِلْبَاب : أَنْ تَقَنَّعَ وَتَشُدّ عَلَى جَبِينهَا. - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : حدثنا يَزِيد , قَالَ : حدثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة , قَوْله : { يَا أَيّهَا النَّبِيّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتك وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ } أَخَذَ اللَّه عَلَيْهِنَّ إِذَا خَرَجْنَ أَنْ يُقَنَّعْنَ عَلَى الْحَوَاجِب { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} وَقَدْ كَانَتْ الْمَمْلُوكَة إِذَا مَرَّتْ تَنَاوَلُوهَا بِالْإِيذَاءِ , فَنَهَى اللَّه الْحَرَائِرَ أَنْ يَتَشَبَّهْنَ بِالْإِمَاءِ . ... - حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْد , قَالَ : حدثنا حَكَّام , عَنْ عَنْبَسَة , عَمَّنْ حَدَّثَهُ , عَنْ أَبِي صَالِح , قَالَ : قَدِمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة عَلَى غَيْر مَنْزِل , فَكَانَ نِسَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرهنَّ إِذَا كَانَ اللَّيْل خَرَجْنَ يَقْضِينَ حَوَائِجَهُنَّ , وَكَانَ رِجَال يَجْلِسُونَ عَلَى الطَّرِيق لِلْغَزْلِ , فَأَنْزَلَ اللَّه : { يَا أَيّهَا النَّبِيّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتك وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبهنَّ } يُقَنَّعْنَ بِالْجِلْبَابِ حَتَّى تُعْرَف الْأَمَة مِنْ الْحُرَّة..."
نلاحظ من تفسير هذه الآية ما يلي:
ـ نزلت هذه الآية لتعالج أمراً يرتبط بأسباب معينة، عندما َكَانَ نِسَاء النَّبِيّ وَغَيْرهنَّ يخَرَجْنَ في الليل يَقْضِينَ حَوَائِجَهُنَّ , وَكَانَ رِجَال يَجْلِسُونَ عَلَى الطَّرِيق لِلْغَزْلِ... وكما قالت عَائِشَةَ: إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيّ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى " الْمَنَاصِع " وَهُوَ صَعِيد أَفْيَح , وَكَانَ عُمَر يَقُول : يَا رَسُولَ اللَّه , احْجُبْ نِسَاءَك , فَلَمْ يَكُنْ رَسُول اللَّه يَفْعَل , فَخَرَجَتْ سَوْدَة بِنْت زَمْعَةَ , زَوْج النَّبِيّ, وَكَانَتْ امْرَأَة طَوِيلَة , فَنَادَاهَا عُمَر بِصَوْتِهِ الْأَعْلَى : قَدْ عَرَفْنَاك يَا سَوْدَة , حِرْصًا أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَاب , قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّه الْحِجَاب..."
ـ الغاية هي حماية المسلمات من الأذية التي قد يتعرض لها، ممن قد يعترضهن..
ـ اختلف على تفسير "يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبهنَّ" فهناك من شمل الرأس والوجه، وهناك من يقول أنهن " أُمِرْنَ أَنْ يَشْدُدْنَ جَلَابِيبهنَّ عَلَى جِبَاههنَّ"...
* * *
من كل ما تقدم يتبين أنّ هذه الآيات نزلت في ظروف تاريخية معينة، والغاية الأساسية منها حماية المسلمات المؤمنات من الأذية، وصون الأخلاق النبيلة والشريفة.
ومن المعروف أنّ الإسلام دين يسر، لا دين عسر... وطبق الخلفاء الراشدون وأمراء المؤمنين أحكام الشريعة بما ينسجم والعصر والظروف التي مرّت بالمسلمين. لنأخذ على سبيل المثال حكم عقوبة السارق في الإسلام. أساس عقوبة السارق في الإسلام ما ورد في القرآن الكريم: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا، نكالاً من الله، والله عزيز حكيم) (سورة المائدة. الآية38).
ومن المعروف أنّ عمر بن الخطاب أوقف عقوبة قطع اليد في عام الرمادة الذي عمت فيه المجاعة والقحط، فقد كان الناس جياعاً وكانوا مضطرين إلى السرقة لكي يبقوا مع أهلهم وأولادهم على قيد الحياة.
جاء في موسوعة أشعار اللصوص وأخبارهم التي قام بجمعها وتحقيقها الأديب عبد المعين الملوحي "أنّ معاوية أتى بلصوص فقطعهم حتى بقي واحد منهم، فقدم ليقطع، فقال:
يميني أمير المؤمنـين أعيذهـا بعفوك أن تلقى نكـالاً يبينها
يدي كانت الحسناء لو تم سترها ولا تعدم الحسناء عيباً يشينها
فلا خير في الدنيا، وكانت حفية إذا ما شمال فارقتها يمـينها
فقال معاوية: كيف أصنع بك وقد قطعت أصحابك؟
فقالت أم السارق: اجعلها من جملة ذنوبك التي تتوب إلى الله منها. فخلى سبيله، فكان أول حد ترك في الإسلام".
ومع تطور الحياة، ونظراً لاستتباب الأمن والأمان، وبما أنّ المجتمعات ارتقت في نظرتها للمرأة، التي لم تعد عورة.. وبما أنّ الحكومات أصبحت تكفل أمن المرأة وحرمتها.. فمن الطبيعي أن يتم التعامل مع المرأة والنص وفق ظروف الحياة المتطورة.. خاصة وأنّ المجتهدين، بمن فيهم الأوائل، يختلفون في تفسير النصوص.. فهناك من يرى في الحجاب تغطية الرأس، وهناك من يعني بالحجاب وجوب تغطية المرأة لجميع بدنها؛ لأن المرأة كما يؤكدون "كلها عورة".. وهناك من يرى بأن تطور الحياة والحضارة وعدم الخوف على المرأة من الأذية يترك لها حرية الاختيار في أن تتحجب أو لا تتحجب.. علماً بأنّ عدم تحجبها لا يجلب الضرر لها، ولا للإسلام..
من هنا يتبين أن تشريعات الدول فيما يخص اللباس في مدارسها هي شأن داخلي، لا ينقص من الإسلام ولا يؤثر على المسلمات، طالما أنهن لن يتعرضن للأذية... وعدم ارتداء المسلمات للحجاب لا ينتقص من إيمانهن... ومن يتبنى مثل هذا الموقف ينسجم تفكيره مع سنن تطور الحياة، ومع الاجتهاد السليم لتفسير النصوص.. وتعبر الانتقادات الموجهة إليه والضجة المفتعلة عن ضيق أفق، وهي لا تفيد الإسلام ولا المسلمين... مع التأكيد على الحرية الفردية في ارتداء أو عدم ارتداء الحجاب في المجتمع، الحرية التي لا تتعارض مع احترام القانون...
إذا أردنا التفوق على الغرب علينا بناء حضارة تتفوق على حضارته، وإذا أردنا رقي الإسلام علينا تطوير فهمنا لأمور الحياة وفق متطلبات الواقع الموضوعي الذي نعيش فيه ومتطلبات التطور الحضاري... وفي مجال انسجام فهم النص مع ظروف حياتنا لنا في نهج الخليفة العادل الفاروق عمر بن الخطاب، الذين كان يعتمد أغلب أحكامه بالتشاور مع علي بن أبي طالب، مثالاً وقدوة حسنة.. هذا الأمر ينطبق على الموقف من الحجاب والموقف من قانون الأحوال الشخصية الذي يجب أن يبنى على أسس حضارية متطورة تنسجم مع تطور الحياة، وليس العودة الجامدة إلى قرون ماضية، كما يقوم أعضاء مجلس الحكم الانتقالي في العراق حالياً بإلغائهم قانون الأحوال الشخصية الذي أقره الشعب العراقي منذ أواخر الخمسينات... وإنني لعلى ثقة من أن هؤلاء الخلفاء الراشدين، لو عاشوا معنا في أيامنا هذه، لكان فهمهم وتطبيقهم للنص أكثر انسجاماً مع متطلبات التطور الحضاري من الكثيرين الذين يعيشون بأجسادهم معنا وبعقولهم في الجاهلية، ويعملون على فرض فهمهم للنص علينا بالتهديد والوعيد...
آمل أن أكون قد وفقت في عرض وجهة نظر تؤكد أن المسلمات اللائي لا يرتدين الحجاب، لا يعصين الرسول ولا يخالفن الشريعة.. وأدعو الأخوة الدعاة إلى التمعن جيداً فيما ينشرونه ليكون وسيلة لرفعة شأن الإسلام والمسلمين في الحياة، ولتعزيز دورهم في بناء الحضارة الإنسانية.. وأن يرتقي تفكيرنا وحوارنا إلى المستويات الرفيعة لما فيه صالح شعوبنا جميعاً.
طرطوس كانون الثاني / يناير 2004