|
نقد الفكر العربي/المشروع النهضوي اعادة تشكيل الوعي العربي
ضمد كاظم وسمي
الحوار المتمدن-العدد: 2312 - 2008 / 6 / 14 - 10:05
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لم يتطرق الفكر العربي التقليدي الى الحرية بالمعنــى السياسي للمفهوم ، بل اشتمل على دعوات لمواجهة ظاهرة العبودية (( الرق )) .. التي كانت معترفا بها ضمن الفكر الاسلامي ككل ، بيد ان ذلك لايعني اضمحلال الشعور بالحرية في مقاومة مظاهر الظلم والاستبداد ، بدليل قيام العديد من الثورات الشعبية المدفوعة باسباب إقتصادية واجتماعية ، رغم اصطباغها بالصبغة الدينية والمذهبية – التي هي سمة ذلك العصر - . قامت الدولة الاموية على اساس ادلجة (( الجبر )) والتنظير له بغية اكساب الشرعية لسلطتها غير الشرعية ، بمعنى انها كانت توظف (( الديني )) توظيفاً سياسيا فاضحاً .. (( أي سلب الانسان من كل قدرة على الاختيار ، وانه بالتالي مسير في كل شيء ، ولابد ان يطيع السلطان ، ذلك ان مشيئته من مشيئة الله )) . الآيديولوجية الجبرية يمكن القول ان الايديولوجية الجبرية كانت سمة السلطة الدينية الاسلامية منذ معاوية حتى انهيار الخلافة العثمانية .. تلك الايديولوجية التي بنيت على ليّ النص وتأويله تأليهاً للخليفة ، او في احسن الاحوال تفويضه سلطة الاله .. لكن لم يعدم التاريخ العربي ومضات مشرقة للتصدي لكابوس الجبر والغاء ارادة الانسان من خلال الفكر التنويري الذي افرزه الفكر المعتزلي الذي جاهد لكي يعطي بعداً سياسياً لمفهوم الحرية من خلال محاولته في اعادة تشكيل الفكر العربي على اساس مقولة (( الاختيار )) ، والتي اظهر لها الحجة البالغة من النص الديني ذاته ، وانتهى الى تفنيد نظرية الجبر واثبت ان الانسان مسؤول عن افعاله .. غير ان تلك الشعلة لم ينفذ ضوؤها في مسالك العقل العربي اذ سرعان ما تم اطفاؤها ليسود الفكر السلفي الجبري على مقدرات العقل العربي حتى يوم الناس هذا ! . وقد طبع الفكر العربي التقليدي منذ البداية بما اسماه ابن خلدون (( بالعصبية )) كعنصر قوة وهيمنة ، بخلاف ارتباط الفكر الغربي الحديث بالعلم كعنصر قوة معرفية وسيطرة اخضاعية .. هذه العصبية التي لم تزل تعمل عملها في مجتمعاتنا العربية ، وتقف حجر عثرة امام تطورها وتقدمها .. قام ابن خلدون بالتكلم عنها محللاً المجتمع العربي على ضوئها .. (( تحليل العصبية هو تحليل القوة العاملة المرتبطة بالنسب ، أي بما ينتج جميع العلاقات الاجتماعية التي تكيف المسيرة الى السلطة ، وتكيف ايضا ما نسميه المشروعية للسلطة )) .. وقد تنامت هذه العصبية لتنتهي الى قوة فاعلة مرتبطة بالنسب ليس الى القبيلة فحسب ، وانما بالنسب الى الطائفة والعرق والدين والجهة والحزب والمنطقة والمليشيا .. الخ . ومع حلول عصر النهضة الاوربية ، بعد انقضاء العصور الوسطى وتنامي افكار عصر الانوار ، واطلالة الحداثة بأقانيمها على العالم والقائمة على اساس سلطان العقل بثالوثه المشيد على العقلانية والحرية والعدل السياسي والاجتماعي ، واعتبار الانسان مركزية كونية ، وشرعنة السلطة على ضوء نظرية روسو في (( العقد الاجتماعي )) بتجسيده الحداثة سياسيا من خلال البناء الديمقراطي .. الامر الذي اثار جملة من القضايا الحيوية التي خاضها الفكر العربي منذ الارهاصات النهضوية الاولى والتي اصطلح على تسميتها (( النهضة العربية )) .. لتطرح المزيد من الاشكاليات التي تتلاقى عند فكرة الحداثة .. حيث ان الالمامات الاولى للوعي العربي باشعاعات النهضة الاوربية كانت كمفارقة تاريخية كبرى ، ذلك ان الانغلاق الحداثي الحضاري للفكر العربي أخل بالتوازن الحداثي الكوني ، الامر الذي افضى الى الصدمة الاستعمارية الاولى .. اذ ارتبط ذلك بالغزوة الفرنسية بقيادة نابليون لمصر عام 1798م ، وما تلاها من موجات استعمارية . وكان من الطبيعي ان يتأثر العقل العربي بالقيم الجديدة الوافدة مع تلك الغزوات .. لتكون ردة الفعل في الوعي العربي المكبل بالاستبداد والتخلف .. هي محاولة اعادة تشكيل هذا الوعي ليقوم على اساس (( رفض الطابع الاستعماري لهذا النموذج مع تبن في نفس الوقت لمكتسبات الليبرالية الغربية )) . التحديثية الليبرالية وهكذا بدأت المرحلــة الاولــى مـن النهضة العربية والتي اسماها برهان غليون (( التحديثية الاسلامية )) .. والتي عملت على طبع الفكر العربي آنذاك بطابع نقد الذات ، حيث وجه الكواكبي في كتابه (( طبائع الاستبداد )) نقداً لاذعاً للتقاليد السلطانية الاستبدادية والتي سادت باسم الاسلام ، كما نقد علي عبد الرازق مفهوم الخلافة في الاسلام وارتباطها بمبدأ القوة والاستبداد كما في كتابه الموسوم (( الاسلام وأصول الحكم )) . هذه الحقبة التي استغرقت النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين ، لم تكن حقبة ابداع بقدر ما كانت محاولة نقد الذات . فقد نادى متنورو هذه الحقبة بضرورة التجديد ولكن من داخل الثقافة والفكر العربيين (( كتجديد الفكر الاسلامي وفقهه وتجديد مفاهيمنا عن الدولة والسلطة في الاسلام )) .. طمح هذا الفكر ان يغرس البذرة الاولى لاعادة تشكيل الوعي العربي بحتمية التقدم بمواجهة التخلف ، واراد ان يطور انبعاث جواني لاعادة النظر في كل المسلمات التقليدية .. غير ان التدخل الاستعماري اجهض هذه النبتة الغضة وتركها معلقة في الهواء دون ان يكتب لها التطور المنشود .. ويعد الافغاني ومحمد عبدة من اكبر فرسان هذا الفكر . المـد القومي ثم جاءت المرحلة الثانية – مرحلة الايديولوجيات – التي تكونت معالمها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والتي تناغمت مع سلسلة الاستقلالات الوطنية العربية ، وأفضت الى اشتداد عود حركات التحرر العربي واستشراء المد القومي .. بالاضافة الى نمو الفكر الماركسي والطروحات الليبرالية .. وقد شكل انتشار المد القومي الكبير (( مرحلة التفكير في ان اعادة هيكلة النظام العربي يمكن ان يتم عن طريق الايديولوجية القومية )) .. ورغم مارافق هذه المرحلة من قيام دولة اسرائيل والهزائم المنكرة التي حلت بالعرب واشرت اغتيال العقل العربي ، وابرزت فجاجة الفكر التقليدي .. وما تلا ذلك من تصدع الانظمة القومية والوطنية الا ان ما انجزته هذه الحقبة هو الهوية العربية – كمعطى ثقافي – (( اذ تم ترسيخ هذه الهوية لدى الشعوب العربية قاطبة . واعتقد ان ذلك يعتبر من بين المكاسب الكبرى في التاريخ العربي الحديث )) .. رغم ان ظهور الاختلالات في هياكل الاحزاب المنضوية تحت الوية الاتجاهات التقدمية ، شرعت بالانقضاض على مكتسبات هذه الحقبة ، فضلاً عن مأساة الانفصال بين سوريا ومصر عام 1961 والتي مهدت لهزيمة الخامس من حزيران 1967 لتعلن خيبة الفكر القومي العروبي ومعه كل الافكار المحايثة بما فيها الفكر الماركسي ، والثغرات البنيوية التي تبدت في حركة المقاومة الفلسطينية . الصحوة الأصولية منذ سبعينات القرن الماضي وكرد فعل على هزائم وخيبات الفكر العربي بتنوعاته دشنت المرحلة الثالثة في مسيرة النهضة العربية البائسة .. إذ أتصفت هذه الحقبة بقوة التطرف وتمايز الأنشطار .. فمن جهة ظهرت اشارات لأعادت انتاج الأصولية الدينية تحت يافطة (( الصحوة الأسلامية )) .. وقد شجعت الأنظمة العربية بل والغرب ولاسيما أمريكا على أعادة أنتاج الأصولية السلفية ( كمضاد نوعي ) لمواجهة الأصولية الدينية الشيعية المتصاعدة في إيران .. فكان الخطأ التاريخي / الكارثة الذي لم يلحق الأذى بالشعوب العربية والأسلامية وحسب بل جر الويلات على الشرق والغرب على السواء .. وبذلك أستشرى الفكر التكفيري نتيجة الصدمة الأستعمارية الجديدة ، والتي تقودها أمريكا لتنتهي بالبلاد العربية الى حركات تكفيرية الغائبة شعارها (( بعثت بالذبح )) .. تحاول في سياق معاداتها للحداثة المماهاة بينها وبين الألحاد – انكار المقدس – لتحيل الحداثة الى قمامة تتعفن بالشذوذ والمخدرات والهرطقة والاستغلال والاستعمار ، وهو حكم استباقي مؤدلج يغلق نوافذ الحوار ويعمل على تغييب الاخر من نقطة الشروع . ومن جهة ثانية ظهرت دعوات تعلن بكل صراحة وبمنتهى التطرف وتدعو الى الارتماء باحضان الغرب والخضوع التام له .. (( ان اشكالية تمثل الغرب في الثقافة العربية تنهض اساساً من الانبهار العربي المستمر بالتفوق الاوربي منذ القرن التاسع عشر وبالتفوق الامريكي اللاحق والحالي )) .. نتيجة قناعة صارت تترسخ في الكثير من ميادين الثقافة العربية عند اعتبار التفوق خاصية الغرب المؤبدة ، وقد اشار الى هذه القناعة صادق جلال العظم ، في كتابه (( ذهنية التحريم )) عندما اسماها (( ميتافيزيقيا الاستشراق )) بسبب ارجاعها (( التفوق بين ثقافة واخرى بين شعب وآخر .. الخ .. ، الى طبائع ثابتة وليس الى صيرورات تاريخية متبدّلة )) .. ولدت هذه الرؤية الجامدة الى الغرب تيارين فكريين هما : ١. التيار السلفي .. الذي يدعو الى تقليد الماضي بما يمثله من ايمان بالمسبقات ويعتقد بقدرة الدين على النهضة ، لان لهذه النهضة اصولها المرسومة في الصدر الاول من تاريخ الدولة الاسلامية .. ولكن من دون ان يصغي اتباع هذا التيار للتاريخ والتجربة .. فالمجتمعات العربية تجتر هذا الفكر منذ قرون خلت وهي تسير نحو انحطاط اكبر وتخلف ابشع ، يقول الغزالي : (( المقلد لايصغي )) . ٢. التيار التغريبي .. الذي يدعو الى تقليد الاخر – الغرب الحداثي – لانبهاره بامتلاك الغرب لسر القوة والسيطرة ، واعتبار ما يصدر فيه مناسباً لنا بالضرورة وبالتالي عد الغرب القدوة التي ينبغي على النهضة ان تتأسس عليها . يمكن القول ان كلا التيارين يفتقد الى النظرة النقدية تجاه الفكر الحديث والمعطيات الحضارية العصرية .. ويعمد بقصدية اختلالية الى حجب جوهر الصراع بين الشرق والغرب ، ويتم الباس الصراع لبوس الصدام الحضاري بين الاسلام والغرب المسيحي كما يرى التيار السلفي ذلك . بينما يؤمن التيار التغريبي بان جوهر الصراع ينحصر بين الغرب المتفوق وبين التيار المعادي للتقدم والمناهض لتفوق الغرب . وبذلك (( يغيّب كلا التيارين جوهر الرأسمالية الغربية التي بلغت مرحلة متطورة من التوسع الرأسمالي تعرف اليوم بالعولمة ، تتمتع بمقومات جديدة ومكونات مختلفة تسمح للرأسمالية بتكييف بناها ، من دون تجاوز جوهرها الاستغلالي والاستقطابي )) . رؤى الحداثة اما المرحلة الرابعة في مسيرة النهضة العربية المتعثرة .. فهي هذه الأرهاصات والرؤى والافكار التي من المؤمل ان ترى النور وتتحول الى تيار فاعل .. والتي يمكن استقراؤها مما يحصل من تطور في مفهوم الديمقراطية ، وحقوق الانسان لدى العرب .. حيث بدأ يدخل الوعي السياسي العربي – ولو باستحياء – ليشكل منارة هادية موجهة لجزء لايستهان به من السلوك العربي – وهي جزء من فكرة المواطنة – كما شهد العالم العربي عملية تجاوز لمفهوم القومية كدعوة وكأيديولوجيا متخطياً – أو هو بصدد ذلك – اشكالية التعارض بين القومية والوطنية المحلية ، بعد ما اتضح للوعي العربي ، وجود تكتل بشري عملاق يضمه الوطن العربي مع الاحتفاظ بالخصوصيات المحلية والتكوينية الفرعية .. هذه الخصوصيات لاتتعارض مع تكاتف مكونات هذا التكتل وتلاحمها بشتى السبل والوسائل المتاحة باعتبارها شرطاً موضوعياً لقيام تنمية اجتماعية واقتصادية وسياسية شاملة للاندفاع نحو التقدم والحداثة .. مع تكثيف الجهود في تعميق محاولات ايجاد مخرج لاشكالية المعاصرة والاصالة – الحداثة والتراث – بمعنى ان هناك تلازماً بين الانبعاث الذي ينطلق من الملهم التاريخي المضيء وبين الحوار الحضاري مع الفكر الحداثي الغربي . الأختلالات البنيوية ربما يصح القول : ان اسباب فشل النهضة العربية تاريخياً تعود الى (( اننا اتجهنا الى بناء مشروع نهضتنا بعقل غير عقلنا ، اما بعقل معقول ( مكبّل ) يتجه صوب الماضي التليد ، واما بعقل مغاير ، عقل الغرب أي الليبرالية الغربية بسياقها التاريخي المخصوص وبمعطياتها الحضارية المتميزة )) ... أي ان المشروع الحداثي الوافد من الغرب لم يكن (( اختياراً نابعاً من ضرورات تاريخنا وتجربتنا كأمة )) .. وهكذا فشل المشروع الحداثي في الوطن العربي لانه لم ينجز الشرط الحداثي للانتقال الى الحداثة ، الا وهو (( التجديد الديني )) ، أي اعادة قراءة الفكر الديني وتراثه وتجديده وتفسيره وتأويله (( قراءة منفتحة بعين العصر وبالادوات المعرفية الجديدة التي تقدمها العلوم .. وفقاً لمتطلبات العصر ، يطور انطلاقاً من الدين ثقافة حافزة على التجديد والتحديث ، والتطور كما حصل في اوربا نفسها )) .. ناهيك عن عجز الفكر العربي في استنبات حداثة جوانية على اساس انبعاث حضاري جديد (( لكن لهذا الأنبعاث قوانينه الذاتية وشروطه الموضوعية التي لايمكن تجاهلها )) .. تلك الشروط التي تغيبها وتحجبها الاختلالات البنيوية الحقيقية الفاعلة في المجتمعات العربية بقوة وسيطرة كبيرتين ، ومن اهم تلك الأختلالات : الفساد السياسي والأداري ، النفاق الاجتماعي ، التناشز – كما وصفه الوردي ، هزالة الأندماج الوطني والقومي ، اشاعة الثقافة السطحية المبنية على أساس الميثولوجيا والخرافة ، تهميش أي ثقافة جادة أو عقلانية ، قمع التيارات الوطنية ومنع مؤسسات المجتمع المدني من النمو والعمل المؤثر ، تسييس الفكرة القومية .. والفكرة الدينية ، وافتراض أنهما واقع بديهي ينشأ عليه المواطن العربي بالفطرة .. الخ . .. وهي اختلالات تضطلع بالمسؤولية عنها وتكرسها أنظمة الحكم العربية ، والفئات والعناصر المتنفذة والمستفيدة من هذا الواقع البائس .. تعد هذه الأختلالات البنيوية البيئة الملائمة والمغذية لجرثومة التخلف التي تعشش في ادمغتنا ، يقول محمد اركون : (( ضرورة نقد طريقة تفكير العقل الديني من أجل أن نكتشف هذه الجراثيم العاملة في أدمغتنا وفي منظومتنا العصبية .. المعرفة تنسخ باللغة ، عن طريق اللغة ، وفي النظام العصبي . هذا أمر قرره العلم . الذين يدرسون الدماغ اليوم ، كما يدرسون منظومته العصبية على الخصوص ، يكتشفون أنه عن طريق اللغة تترسخ المعلومات والقيم الثقافية والأخلاقية . وبعدما تترسخ هذه المعلومات والقيم ، يفترض بنا أن نغير تلك اللغة ، حتى نكتب في أدمغتنا ، اذا صح التعبير ، كتابة أخرى مختلفة )) .. فالطامة الكبرى ، هي أننا لما نزل نتحدث بذات اللغة التي تحدث بها اجدادنا ، ونطرح نفس الخطاب الذي سبقنا اليه آباؤنا .. ومما استبقى هذه الجرثومة البغيضة وعمل على تفعيلها ما قام به الأستعمار في بلادنا من أجل تحقيق أهدافه المعروفة . يقول انور عبد الملك في كتابه (( دراسات في الثقافة الوطنية )) : (( ورأى دانلوب انه ، لكي يتحقق هذا الهدف ، لابد من أن تتجه سياسة التعليم كلها – في مراحلها الأبتدائية والثانوية والعالية على السواء – نحو الحفظ دون الناقشة ، والترتيل دون النقد ، ومحاكاة المراجع والأساتذة دون تشريحها وتكوين رأي مستقل فيها ، واحترام الكلمة المكتوبة دون امتحانها والتصارع فكرياً معها )) .. ودانلوب هذا هو مستشار التربية أيام اللورد كرومر ابان الأستعمار البريطاني لمصر . لكي نحاصر هذه الجرثومة أملاً في القضاء عليها ، لابد من فكر حر نقدي بشقيه : النقد العقلي الرامي الى تأسيس للمفاهيم الاساسية التي تشتغل عليها المجتمعات العربية ، والنقد الديني لتجديد اسس الأيمان وتعميقها ، بغية تحقيق استقلال العقل عن السلطتين الدينية والسياسية ، كونهما تلتقيان اجتماعياً في فضاء واحد مبني على الأدلجة والشمولية والأستبداد ، لابد من تحرير العقل العربي من التقليد والاتباع ، خاصة الاتباع المفتون بالتفوق أي التيار التغريبي الداعي الى تقليد الغرب في كل شيء لمجرد كونه متفوقاً ، والتيار السلفي المفتون هو الآخر بالتفوق . ولكن هذه المرة التفوق التاريخي للفكر العربي .. هذه العقدة التي اسماها صادق جلال العظم : (( الاستشراق المعكوس )) . وهذا الاستشراق المتمثل بنقل (( حكمة القيمة من القول بتفوق العقلية الغربية الى القول بتفوق العقلية العربية الشرقية )) وفي الحالتين – حالة العقل المكبل بالماضي وحالة العقل المغاير – تفشل أجندة النهضة العربية بتحقيق أهدافها المرجوة في عقلنة الحياة الأجتماعية على كل الأصعدة . ناهيك عما تتطلبه مسألة تحرير العقل من تأسيس لنزعة الأنسنة التي تعتني بالأنسان . لان موضوعة (( الانسنة )) قد حجبت كثيراً في تراثنا الفكري .. ولابد من اعطائها الاهتمام الذي تستحقه في الوقت الحاضر لانها احدى أهم أقانيم الحداثة ، وقد المح من قبل الى هذا المشكل ابو حيان التوحيدي عندما قال : (( الأنسان اشكل عليه الأنسان ، ولابد للانسان من ان يحل هذه المشكل ولم يحلّ عندنا الا اذا أعتنينا بالعقل )) . جوهر الحداثة لم تكن الحداثة قابلة للتحقق بشكل تلقائي ، بقدر ما تتطلب من عناء فكري وجهد عملي لنقد الذات والتاريخ ، والدربة على الانتاج والابداع ولفظ الاوهام ، والتصدي للفكر التبريري والتقديسي للتراث ، الذي يستعيظ عن الذهول الحضاري الرهيب للحاضر بالهروب الى الماضي والتعلق باستيهاماته .. ورغم ان الحداثة برانية المنشأ وبالتالي هي وافدة وليست نابتة ، لكن ذلك لايعفي ابداً من التعامل معها واستقدامها وصهرها في بودقة الانبعاث الجواني المأمل . هذا الامر يشكل تحدياً تاريخياً كبيراً ، يواجه ثقافتنا العربية رغم ماتنوء به من احمال الماضي وتقاليده المتكلسة .. فضلاً عن ان منتج الحداثة وسيدها لايكيلها لاحد بالقنطار (( انه يقطرها لك حتى لاتموت وحتى تظل تابعاً وجائعاً طيلة التاريخ )) . ان احد جواهر الحداثة الغربية الاساسية ، يتعلق بمسألة الحرية ولاسيما حرية الفرد ، أي تحرير الفرد من الفكر الميثي والتقاليد القاهرة ، واطلاق كفاءاته وملكاته من شرنقة الفكر القامع .. ليتسنى للفرد اعمال عقله وممارسة ابداعه وتنظيم مسؤوليته عن الشأن العام . بخلاف ثقافتنا العربية التي لم تهيئ للانسان العربي الظروف البيئية لمنتجه الابداعي الذي يبقى مركوناً في جناح الخدج ، اذ ان الفرد العربي لازال مكبلاً بقيود الماضي وتقاليده .. بالسلطة القامعة الابوية ، بالرقيب الداخلي المرعب ، بمئات المخيفات والمثبطات التي توفر لها ثقافتنا كل اسباب الحياة والديمومة .. ان مجتمعاتنا لاتفسح المجال للافراد لممارسة فعالياتهم ، وانتاج ابداعاتهم ، وإنجاز اختياراتهم .. وهذه شروط اساسية في الحداثة .
#ضمد_كاظم_وسمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|