بدر الدين شنن
الحوار المتمدن-العدد: 2304 - 2008 / 6 / 6 - 08:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان من الطبيعي أن تعلن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة ( الفاو ) عن عجزها ، في مواجهة هجوم احتكارات الأغذية الدولية ، على حقوق المجتمع الإنساني بالحصول على مقومات الحياة الغذائية ، حيث بات نحو مليار إنسان ، والعدد مرشح للزيادة بمئات الملايين ، معرضون لمخاطر الموت جوعاً ، نتيجة تحكم هذه الاحتكارات بكميات ونوعية إنتاج الحبوب والمواد الغذائية الأخرى وبالتلاعب بأسعارها ، ركضاً وراء معدلات ربح جشع ، دون أي اعتبار إنساني . هذا الهجوم الذي يترافق مع تمادي الاحتكارات الدولية في مجمع صناعة الأسلحة وإنتاج الطاقة في هجومها الزاحف للسيطرة على العالم با سم الحرب على الإرهاب .
وقد أ شار الأمين العام للأمم المتحدة ( بان كي مون ) في خطابه في مؤتمر القمة الدولية المنعقد في روما ، في بداية أيار الجاري لبحث أزمة الغذاء الخطيرة وإيجاد الحلول لها ، إلى أن أزمة الغذاء الناشبة الآن هي ( من صنع أيدينا ) ، أي أنها مصطنعة . كما أ شار المدير العام ل ( الفاو ) السيد ( ضيوف ) بهذه المناسبة إلى أن الجوع المنتشر في العالم هو ( جوع سياسي في طبيعته ) . وهذا ما يضعف و يكذب الأسباب التي علل بها عدد من المؤتمرين الحالة الكارثية الراهنة ، مثل تحويل كميات من الحبوب إلى إنتاج الوقود الحيوي أو زيادة عدد سكان العالم وزيادة الاستهلاك الغذائي . كما يشير إلى فشل الحلول الترقيعية للأزمة ، مثل جمع التبرعات والصدقات من الدول الغنية ، المسؤولة تاريخياً وأخلاقياً عما يكابده وسيكابده ضحايا هذه الاحتكارات .
لقد قارب السيدان كي مون وضيوف جانباً من الحقيقة فقط . أما المقاربة الأدق والأشمل ، فهي تشير بأصبع الاتهام إلى النظام الرأ سمالي الاحتكاري الدولي الراهن ، الذي تقوده الاحتكارات الإمبريالية العابرة للقارات ، بعد إنزياح الكتلة الاقتصادية المغايرة المنافسة ، التي كان يمثلها الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية ، والتي كانت تحول دون تحكم هذه الاحتكارات المطلق بمصائر المجتمع الإنساني ، وانفلات توحشها دون راع كما هو جار الآن .
وإذا ما توسعنا قليلاً في المعنى ل ( الجوع سياسي في طبيعته ) فإنه يتضح أن الغلاء وأزمة الغذاء ليس قدراً لامفر منه ، بل إن هناك قوى دولية سياسية اقتصادية ، لمصلحة أهدافها الخاصة ، قد قررت صنع هذه الأزمة . وبالمقابل ، أن هناك قوى سياسية اقتصادية نزيهة لها مصالح مغايرة تستطيع أن تحل الأزمة واتباع نمط اقتصادي عادل خال من الأزمات المماثلة . كما يتضح ، أن ما ترتكبه احتكارات صناعة الأسلحة والطاقة واحتكارات المواد الغذائية ، علناً ، يتجاوز السياسي الاقتصادي والأخلاقي ليصل إلى المستوى الجرمي المتوحش . فهذه الاحتكارات ومعها بقية الاحتكارات ، وخاصة ، في مجالات الاتصالات والمواصلات والمعلومات ، والأدوية ، والتكنولوجيا العامة والفضائية ، والإعلام ، التي تمتلك الثروات والقدرات المادية الهائلة ( 550 شركة عابرة للقارات تسيطر على 40 % من الاقتصاد العالمي ) التي تتحكم بمصير العالم الآن ، هي التي تتحمل كامل المسؤولية عن مصائر الجنس البشري على كوكبنا ، وذلك عبر سياسات وممارسات الحكومات والإدارات المتواطئة معها والعميلة لها .
وليس بخاف على أحد ، أن الأنشطة الاحتكارية المتعددة الوجوه والآليات والأهداف الدموية الجشعة ، هي التي أفضت إلى أن يكون الإنفاق العسكري الدولي على حساب الإنسانية أمناً وغذاء وصحة وتعليماً وسكناً وعملا ، حتى وصل في عام 2007 إلى ( 1200 ) مليار دولار ، لتستخدم في ارتكاب جرائم الحرب والمجازر المتعددة الأشكال لتنفيذ مخططاتها الاستعمارية ، وأفضت إلى هدر قيم غذائية بمئات المليارات للمحافظة على معدلات الأسعار الاحتكارية ، كما أفضت ايضاً إلى رفع سعر برميل البترول أربعة أضعاف عما كان عليه قبل الحرب على العراق عام 2003 ووصل إلى 135 دولار ، وهو المنتج بتكلفة بخسة . إذ أن كافة البترول ، على سبيل المثال ، في المملكة السعودية ( 1,5 ) دولار وفي ليبيا ( 3 ) دولارات وفي المكسيك ( 13 ) دولاراً وفي العراق أقل من ( 1 ) دولار . في وقت يموت فيه ( 900 ) إنسان كل نصف ساعة من الجوع . و( 300 ) مليون طفل ينامون كل ليلة دون طعام . وهناك الآن أكثر من مليار إنسان مهددون بالانقراض جوعاً في القارات الفقيرة .
وتجاه هذا الافتراس الاحتكاري المتوحش لمصائر وحياة مئات الملايين بل والمليار من البشر ( في فردوس العولمة الرأ سمالية ) ، ماذا تفعل ميزانية ( الفاو ) التابعة للأمم المتحدة لإنقاذ الجياع في العالم ، وهي لاتتجاوز ما تنفقه قبضة من البلدان " المتقدمة " لمدة أ سبوع على إطعام الكلاب والقطط المنزلية ؟ . وماذا تفعل العشرون مليار دولار التي يطالب بها السيد ( كي مون ) مؤتمر روما لمكافحة الجوع في البلدان التي تحتاج للإنقاذ الغذائي الفوري وجلب الربيع لتصحر الجوع الزاحف ؟ .
على أن الأكثر فظاعة في تأثيره المتوحش على المجتمع البشري ، هو مايقوم به مجمع صناعة الأسلحة ، الذي يلعب دور القاطرة والدرع الحامي المسلح لأنشطة الاحتكارات الإمبريالية الأخرى . فهو من أجل تصريف منتجاته التدميرية ، يمارس - كما يحدث في الشرق الأوسط - أحط أ شكال التآمر والتحريض لإشعال الحروب الأهلية والدولية الثنائية والإقليمية . وتقوم فروعاً تابعة له بفبركة الأكاذيب السياسية والإعلامية ، لإثارة النعرات القومية والطائفية والحساسيات الموروثة ، لتوتير الأجواء ودفعها نحو الحرب ، ويلعب دوراً تكاملياً فاعلاً مع الاحتكارات الأخرى لتأمين المصالح المشتركة ، إن داخلياً على مستوى المركز المالك لقرارات اقتصاد الاحتكار والحرب ، أو على مستوى الأطراف ، التي تعتبر ثرواتها وقيمها الجيو سياسية مواضيع وأهداف ومسارح عمليات لحروبه المصطنعة . بدلالة أن إجمالي مبيعات مئة شركة منتجة للأسلحة عام 2007 ما يفوق ( 300 ) مليار دولار . ومن بين هذه الشركات ( 40 ) شركة تعمل في الولايات المتحدة الأمريكية وتستحوذ على 63 % من المبلغ الاجمالي المذكور .. مثال .. إن إنتاج طائرة ف 22 المقاتلة يساوي ( 120 - 130 ) مليون دولار .
ومن خلال الدور القذر الذي يمارسه مجمع صناعة الأسلحة ، تفتح وتعبد الطرق أمام احتكارات أخرى لجني أرباح أ سطورية تبلغ آلاف المليارات من الدولارات ، على حساب ملايين الضحايا ، التي تتساقط في مجازر الحروب والمجاعات والأمراض المعدية والتلوث البيئي الأكثر بشاعة وإذلالاً .
وفي هذه الملحمة المريعة ، التي تتداخل فيها مفاعيل الحروب والنهب القرصني لثروات الشعوب وتقرير مصير فقراء العالم بالموت جوعاً ، تلعب الأنظمة المحلية في الأطراف ، سيما الأكثر تخلفاً وا ستبداداً دوراً تابعاً وسخاً في الاستجابة لمتطلبات الاحتكارات الدولية . فهي أي الأنظمة ، لاتكتفي بضرب وسحق القوى السياسية المعارضة لها وحسب ، وإنما تحجم ، أو تهمل ببلادة غبية ، عن إقامة بنية اقتصادية تنموية تلبي الحدود الدنيا من احتياجات شعوبها ، وفي مقدمها احتياجاتها المعيشية ، تتداخل أيضاً مهام التحرر من الهيمنة الاستعمارية العسكرية والاقتصادية والسياسية ومهام التحرر من الاستبداد والتخلف ، وتستدعي قوى سياسية نضالية من طراز جديد .. قوى تحمل رؤى علمية تستوعب الواقع الإنساني المزري وآفاقه ، محلياً وإقليمياً ودولياً . وتحمل البرنامج العلمي لتغييره ، وتفتح آفاقاً لحياة إنسانية خالية من كل أ شكال الهيمنة الاستعمارية .. من مآسيها ورذائلها وأزماتها ، وبناء مجتمعات متحررة ديمقراطية عادلة .. تعيش بسلام وإخاء وتكامل حضاري إنساني .
وعليه ، فإن مؤتمر روما ، كسابقيه من المؤتمرات التي عقدت تحت قيادة حكومات الاحتكارات الإمبريالية ، لن يجلب الربيع لتصحر الغذاء العالمي ولتصحر العدالة الإنسانية ، الناتجين عن هيمنة الاحتكارات الإمبريالية عامة والغذائية خاصة ، القائمة على أ سوأ أ شكال الاستغلال للشعوب لتحقيق أعلى معدلات الربح .. ولن يتحقق قلب معادلة سوء توزيع الدخل والغذاء من قبل حكومات هي آليات جسدت وتجسد هذه المعادلة .
#بدر_الدين_شنن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟