|
دور الفرد في التاريخ
بليخانوف
الحوار المتمدن-العدد: 2996 - 2010 / 5 / 5 - 23:22
المحور:
الارشيف الماركسي
ترجمه وقدم له إحسان سركيس مقدمة يستأثر الرد البارز باهتمام الناظر في التاريخ والمعتبر به، ويفتقد عندما تستدعيه حاجة راهنة فتتلامح الصورة الآلقة التي بقيت عن أمثاله الماضين فإذا وصل إلى مركز السلطة والنفوذ فقلما ينتفي التململ منه والضيق به حتى يكاد أن يجري عله ما أوردته حكمة صينية قديمة: «الرجل العظيم مصيبة عامة». وتطل هامات كثيرة، من خلال العصور، لا تزال إلى اليوم موضع التقييم ومثار الجدل واختلاف الرأي فيها أو الحكم عليها، وذاك لأن من شأن التاريخ هذه المزية أو هذه المشكلة ألا وهي إمكان كتابته دائماً من منظور جديد. وكأن كل عصر ميسر لأن يكتب التاريخ من وجهة نظره فيرى الماضي من خلال اهتماماته والأفكار السائدة فيه: وكأن التاريخ، بمعنى ما، حوار بين الحاضر والماضي أو هو، على الحقيقة، إعادة كتابة وإعادة تفسير مستمرتين. ولئن كان التاريخ حواراً بين الماضي والحاضر فهو أيضاً حوار بين المؤرخ والقارئ، وبذلك تصبح الحوادث ذات قيمة عندما يستنطقها المؤرخ على قدر مسؤوليتها ومدى تأثيرها في وضع الإنسان وتوجيه مصيره. إن دور الفرد البارز أو العظيم في التاريخ ليس مجرد معضلة عملية وإنما يؤلف مشكلة من أعظم المشاكل النظرية في التحليل أو التأويل التاريخي. وموضع الخلف في الآراء حولها يكمن في الفلسفة أو النظرة العلمية التي يعتنقها من يكتب التاريخ وإن ظل غالباً اهتمام كل فلسفة تاريخية بإقامة توازن شبه معقول بين الدور الذي لعبه البشر والمسرح المكيف الذي قدم مواد «مآسي» التاريخ الإنساني والذي قدم أحياناً قواعدها ونواميسها ولكنه لم يقدم إطلاقاً تصاميم وحبكات تلك «المآسي». وما ذاك إلا لأننا لا نستطيع أن نتصور الكائن البشري إلا في محيط وفي وضع وحالة. لقد ازداد الاهتمام، في زماننا، بأقوال الرجال البارزين وأعمالهم إلى درجة لم يرق إليها قبلاً. ولعل هذا الاهتمام يرتكز إلى حقيقة أساسية وهي عدم الاستغناء عن الزعامة، حتى اليوم، في كل حياة اجتماعية وفي كل شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي أو السياسي، فضلاً عما يستدعيه الشكل المركزي البالغ التعقيد في الدول المعاصرة، وتعدد مهامها ووضعها الإمكانات الهائلة، في التقدير والتقرير، بين أيدي قلة من الناس. وتجري في أيامنا هذه معاودة هذا الموضوع ولعل الحادي عليها ظاهرة تاريخية تميز بها النصف الأول من هذا القرن. وهي كثرة الرجال البارزين فيه، وهؤلاء لعبوا أدواراً كان لها انعكاسها الكبير داخل بلادهم وفي العالم أجمع، وفي مجال تقييم أعمالهم كان لا بد من تأمل ما أصابوا أو أخطأوا وما قاربوا فيه القصد أو جانبوه وما كانت تستدعيه الحاجة الزمنية من مواقف وأعمال وما استقلوا فيه بنوازع فردية. يضاف إلى ذلك ما يثار على الصعيد النظري من مناقشات في دنيا الفكر التقدمي بعامة واليساري بخاصة، حول دور الجماهير ومبادهاتها وحول العفوية والتنظيم، التنظيم المنبثق تلقائياً من خلال العمل والممارسة أو التنظيم الذي يحكمه أو يفرضه حزب يمثل وعي الطبقة أو وعي الشعب. كما يتفرع على البحث تأمل دور النخبة أو القلة في تمثل هذا الوعي واستيعابه والقيادة أو الريادة بمقتضاه أو انبثاق القيادة في اللحظات الحاسمة التي يبلغ فيها وعي الطبقة ذروته، في الثورة مثلاً، فتختار الطبقة قادتها من خلال الفعل والممارسة.. هذا وذاك من الأسباب والبواعث يدعوان لمواجهة دور الأفراد البارزين في ظل الظروف الموضوعية وفي ظل ما أتيح لهم من النفوذ والشوكة حتى يمكن الوصول إلى بعض الملاحظات أو التعاميم أو النظريات. ونحن في هذه المعالجة نمضي في تماس مع مختلف الآراء القريبة أو الموافقة لما تؤمن به ونعتقد ومع ما يخالف منها في الرأي لأن المشكلة في احتوائها الموضوعي والذاتي تقتضي ألا ينصرف الرأي في صراع مع هذه النظرية أو تلك قدر الاهتمام بالتفكير معها من خلال وجهة النظر التي تأخذ بها. لهذا فسبيلنا الإلمام بالعديد من النظريات والمبادئ، كما لو كانت جميعها صحيحة أو مجدية، وردها إلى شيء من الوحدة والتركيب، من خلال الموافقة أو المعارضة، كما لو كان ذلك ممكناً وتقبلها جميعاً بعد إعطائها حيزها المعقول، لأن كل فهم أو تفهم يتضمن انعطافاً منهجياً لا يستبعد القناعة وموجباتها ولا يحل محلها، ولأن تعدد الآراء واختلاف المناهج لا بد أن يكشف للمرء أن تعدد الطرق التي تستهدف الحقيقة ليس بالضرورة، خطأ محضاً وبدونه لم يكن بالوسع أن يكون لهما تاريخ. ويشهد عصرنا تفجر الكليات، المعاني الشاملة، وما كان منها مسلمات لا يمارى فيها. وإذا كانت الوحدة أو الشمولية هي من منازع العقل فإدراك المعنى الشمولي لا يتم إلا باعتبار حقيقتين: الأولى هي أن الإنسان يروم أن يكون شاهداً للحاضر وشاهداً على الماضي وهو لا يجهل أن الماضي بعد من أبعاد الحاضر. وما من نظام أو منهج أو سياق عام ينشأ مبتوت الصلة بما سبقه لأنه يحمل في صلبه سلسلة من الأهداف، لهذا فسبيله أن يستند إلى نظام قبله، ولكنه، في استناده هذا لا يرجع إلى مجموع أحداثه وإنما إلى جانب من سياقها فيسقط منها ويزيد. والحقيقة الثانية هي أن الوحدة أو الشمولية لا تقع إلا على مراحل وبأجزاء تتكامل لهذا يغدو مفيداً وضرورياً مشاققة الآراء من جانب والاعتراف بأن لدى الآخرين بعض الحقائق أو أنهم وصلوا، في مجال حقيقتهم التي يؤمنون بها إلى حد قد يكون بالغ الدقة والوضوح والسمو. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هون: ـ ما هي القوة التي تحرك الشعوب؟ ولقد اختلاف الجواب باختلاف الأزمنة والأعصر فكان ينصرف قديماً على الدور المتمثل في القدرة والكفاءة اللتين كان يمتلكهما الإبطال والحكام العظام. ولكن هذا المفهوم طرأ عليه مع الزمن تبديل وتعديل فلم يعد يؤخذ به على علاته وعلى وجه التفرد والإطلاق، وكذلك لم يعد يؤخذ بالفكرة التي ترى الحياة المسرح الكبير المشرع أبداً يدعو الممثلين لأدوار ملزمة محددة فالغلو في الأولى إسقاط للأسباب الموضعية والغلو في الثانية إسقاط للوعي الذاتي وحرية الاختيار والمجهود الإرادي والحياة لا تحتمل هذه الفرقة النظرية، وجميع المدارس التي تناولت هذا الموضوع أو تتناوله تدور حول هذين القطبين من الآراء أو بينهما: إعطاء الفرد الأولوية المطلقة والأثر الحاسم أو الجبرية المطلقة. تأويل التاريخ يتفق الباحثون على أن الإنسان كائن تاريخي لأنه إنما يعمل في الزمان ولا تاريخ إلا بالزمان، ومن هنا ارتبطت كل نظرية في التاريخ بنظرية في الزمان، والإنسان هو الوحيد بين الكائنات الحية الذي يعي الزمن لهذا فهو الوحيد ذو التاريخ. وقد ذهب بعضهم إلى اعتبار هذه المدة الزمنية وفقاً لأحداث ومقاصد معينة وهم فريق أصحاب النظريات الدينية في الزمان وفي التاريخ الذين ربطوا الزمان بالخلق الأول وبمصير الإنسان في الدنيا وبنهاية يرتبط بها حساب وعقاب وثواب وفريق ربطوا تلك المدة بأحداث فلكية كونية بمعزل عن كل المعاني. ومنهم من اعتبر للتاريخ مساراً واحداً ومنهم من اعتبره دوائر ومن قالوا بالأول تصوروه معرضاً «للروح المطلقة» وهي تفض مضمونها على مر الزمان اللامتناهي ومن قالوا بالثانية تصوروه دوائر، أما مقفلة هي الحضارات المختلفة أو دوائر يفضي بعضها إلى بعض ولها عودات. ومن خلال العديد من المدارس أثيرت مشاكل فلسفة التاريخ، وأولها نسبية التاريخ وثانيها مشكلة العلية وثالثها مشكلة التقدم والتخلف في مجرى التاريخ وهل هناك خط للتقدم مستمر قدماً أو ثم تقدم وتخلف دون قاعدة أو قانون ورابعها إمكان التنبؤ بما سيكون عليه التاريخ، ومنهم من ذهب إلى التفاؤل ومنهم من ذهب إلى التشاؤم وبعضهم الثالث زعم أنه بمعزل عن كليهم. لقد دخل على التاريخ من معطيات العلوم والبحوث الجديدة ما جعله يطرق مجالات لم يكن له شن بها ودخل في الاتجاه والشمول ما جعله يأخذ طريقه في العمق فصار يهتم بالشعوب لا الأفراد وبالقواعد الشعبية الواسعة لا القمم والملوك ثم أصبح في القرنين الماضيين برجوازي المنطلق وقد تحول الآن فصار، بالضرورة، شعبياًن كما انصرف اهتمامه إلى العوامل والتيارات التحتية والخفية، ولم يعد الحادث التاريخي هو الحادث السكوني الثابت بل أصبح في ديناميكية تحولية متصلة الحلقات. التأويل المادي للتاريخ إن التغيرات في شكل الإنتاج الاقتصادي والتصادم بين الفئات الناجم عن تلك التغيرات إنما هو عامل تقريري حاسم في تاريخ الإنسان. إن مجال التاريخ خاضع «لضرورة» تكشف عن ذاتها عبر جملة من الأحداث الطارئة التي تكون تجربتنا اليومية أما هذه الضرورة في أعماقها فهي ضرورة اقتصادية. وبما أن الضرورة الاقتصادية هي التي تسطير على التاريخ فإن أفعال البشر قد تعمل بانسجام مع تلك الضرورة أو ضدها فيكون مآلها أن تصبح عديمة المفعول، وذلك أن الأفعال الإنسانية لا تصبح ذات مفعول إلا إذا عملت بالانسجام مع تلك الضرورة، أما التطور الاقتصادي للمجتمع الذي يلعب فيه التوسع المستمر لقوى الإنتاج دور الدافع والمحرك فإنه لا يسير سيراً سهلاً وإنما ينمو بفضل تعارض أو تناحر لا ينقطع بين قوى الإنتاج من جهة وبين علاقات الإنتاج المقيدة الزاجرة أو الأشكال القانونية من جهة أخرى. ودعوى التاريخ، في الجدل الماركسي، هي دعوى تستقر فيها موضوعياً جميع الفترات التي أوجدتها دعوى سابقة ولكنها تحتوي بذاتها على بداية التطور المقبل. ويرى هذا الجدل اعتبار الوحدة في التناقض (وبخاصة التناقض الموضوعي ـ الذاتي أو الشروط الموضوعية والممارسة الثورية) ويتجلى ذلك في كل مظهر وبالتالي في العلاقات التي تقوم بين شتى المظاهر والسمات. وعندما كان ماركس يفكر في التطور وديناميكية التاريخ لم ينطلق من شكل معين من الإنتاج ولكن من الناس أنفسهم: «لقد بدأ البشري يتميزون عن العجماوات منذ أن شرعوا في إنتاج وسائل الحياة. إنتاج حياتهم المادية بطريقة غير مباشرة». وبهذه المثابة فالإنسان الفرد تاريخي في جوهره لأنه يعيش في الزمان ويتجدد بأحوال وظروف معينة ووجوده عملية زمنية تتجدد بالميلاد والموت وتتألف من سلسلة متصلة الحلقات تتألف من ماض وحاضر ومستقبل. وتجري هذه العملية في إطار علاقته مع الآخرين وعلاقاته مع الطبيعة. فإذا كان الفرد كذلك فإن العلاقات بين الأفراد هي أيضاً علاقات تاريخية وحياة الإنسان حياة تاريخية وعالم الإنسان هو عالم التاريخ أو الصيرورة. وإذا كانت حياة الإنسان منذ كان عبارة عن سلسلة متصلة الحلقات لا انفصام فيها، فإن الإنسان، إذن، يصبح ابناً للماضي بأسره وثمرة هذا الماضي برمته وهو يصنع التاريخ والتاريخ بدوره يصنعه في جدلية حياتية لا تنتهي. والإنسان في تفاعله مع التاريخ موجه وموجه لأن سير التاريخ تحركه فكرة النشوء والارتقاء، وهي الفكرة التي تحرك كل الخليقة نحو إنسانية أكمل تخلق لنفسها في كل مرحلة من مراحل مسيرها على الأمام الإطار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الملائم لوضعها ونضجها في حركة تطورية جدلية يستمر بها الخلق، فتاريخ الإنسان هو الإنسان وبالتالي فإن جذور الإنسان هي الإنسان نفسه. وثمة ثبات نسبي في السنن الطبيعية وتطور للظواهر الحية في وقت معاً، جدلية الإصرار على أن في التكوين أسباباً لا بد بالغة غاياتها وإن الكائنات الحية وبخاصة الإنسان في تطور متماد لا يقف وأن ذلك الثبات وهذا التطور مترابطان معاً متزاوجان في نسق ومسيرة جدلية. وهكذا تسود حركة جدلية بين الإنسان والتاريخ فالتاريخ يصنع الإنسان ويكفيه والإنسان هو الذي يصوغ التاريخ ويصوره. ويرى ماركس في كتابه «رأس المال» أن نقطة الانطلاق هي العمل الذي يعود بكليته إلى الإنسان ويرى أن ما يميز أسوأ مهندس من أبرع نحلة هو أن المهندس يبني الخلية في رأسه قبل أن يبني الخلية في الواقع والنتيجة التي ينتهي إليها الصانع توجد مسبقاً في مخيلته فهو يحقق هدفه الخاص الذي وعاه والذي يحدد، كقانون، طريقة عمله المشفوعة بإرادته. ومن ذلك أن الكائن إنما يتميز بكونه غير محدد كلياً بالشروط الموضوعية وأن جدله النوعي لا يرد إلى دورية إعادة الإنتاج ولكنه يدخل بين الحاجة والشروط الموضوعية وساطة مشروع. ولكن كيف يمكن، انطلاقاً من نوعية العمل الإنساني، أن تتطور، من خلال الفاعلية الاجتماعية التي يمارسها الناس لتأمين شروط وجودهم، علاقات معينة في كل فترة تشرط بدورها جانباً من هذه الشروط الموضوعية وتصبح «الطبيعة الثانية» التي يصنعها الإنسان ويتلاقي، من خلالها، جدل العمل وجدل التاريخ. «إن الناس يصنعون تاريخهم الخاص ضمن شروط يجدونها سابقة لهم ومعطاة وموروثة من الماضي». ومقتضى ذلك أن الصيرورة تصبح ممكنة وظهور الجديد هو، في الوقت نفسه، تقدم، تقدم يصبح المظهر الأول، من خلاله، مظهراً رئيسياً عن طريق قفزة نوعية تتناسب مع الممارسة التي تقوم بها الطبقة الموعودة بالمستقبل حتى الوصول إلى مجتمع لا طبقات فيه، وعندها يتم الانتقال من عصر الضرورة إلى عصر الحرية ونهاية ما قبل التاريخ. وبذلك تدخل القوى الغريبة والموضوعية، التي تحكم التاريخ حتى اليوم، في نطاق رقابة الناس واعتباراً من ذلك الحين يصنع الناس بملء وعيهم، وتاريخهم والأسباب الاجتماعية التي يضعونها قيد الفعل يمكن أ، تبلغ، بنسب متزايدة، الأهداف المرجوة. صفحتان أمام الإنسان في مواجهة التاريخ: الشروط الموضوعية التي صنعت الإنسان في فترة معينة من التاريخ وصفحة الإنسان الصانع ـ المطور لهذه الشروط، طبيعة مطبوعة وطبيعة تترك طابعها وميسمها. ولا يوجد سوى واقع تاريخي هو جماع الممارسة الاجتماعية التي تتلبس وجهي الطبقة والجماهير. ولكن كيف يمكن التوفيق بين هذين الوجهين؟ إن ما هو حقيقي وصحيح ينصرف إلى أن أوضاع الطبقة تشكل القاعدة الموضوعية لحركة الجماهير وهي الحركة التي تستقر في الشروط الموضوعية لحاجات الطبقة وتطلعاتها. والجماهير ليست أفراداً منعزلين وإنما جماعية أو جماعات لها مشروع واحد ولا يمكن لهذا المشروع أن يقوم إلا على أساس من الأوضاع والشروط المشتركة. ويتم ذلك عن طريق انتقال الطبقة، بذاتها ولذاتها ومن خلال الممارسة، إلى واقع آخر. ولا يعني ذلك مجرد الانتقال الاقتصادي ـ السياسي، وإنما تتكون الذات على أساس من الشروط القائمة ويسري ذلك إلى المجالات كافة من اقتصادية وسياسية وإيديولوجية. وتكون الذات هذا هو تدرج معقد تتخلله الصراعات والنكسات ويرتكز على الشرائط الطبقية ولكنه يعمل بشكل من الاستقلال والانقطاع عنها، واستقلال الذات هذا بالنسبة إلى تلك الشرائط، يستحيل إلى شكل من القوة المادية التي «تصنع التاريخ». إن فكرة الكلية تبقى تصوراً جدياً فنحن لا نستطيع أن نرى الكل بيد أننا نعيش فيه ونحن لا نستطيع التصرف فيه كما نهوى ولكننا نرتب فيه حياتنا والتاريخ في مجموعه لا يتكرر أنه تاريخي حقاً وليس طبيعياً وتبقى الفكرة القائلة بوجود كل منظم فيه لكل ظاهرة مكانتها الخاصة بها وليس في هذا مجموع من المصادفات بل كل الخصائص الأرضية تندرج في الوحدة الأساسية. وليس ثمة وحدة في التاريخ العام وإنما ينشد الإنسان الوحدة دون أن يدركها ومزج الإنسانية كلها في وحدة هو حد التاريخ بمعنى أن هذه الوحدة لو تحققت لانتهى التاريخ. ابن خلدون وليست هذه المفاهيم في مراميها العامة بغريبة عن تراثنا، فابن خلدون يقول في مقدمته: «إذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث». ويقول في موضع آخر قولاً ينم على فهمه العلاقة الجدلية التي تربط الإنسان بتاريخه: «حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماعي الإنسان الذي هو عمران العالم وما يعرض طبيعية ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التقلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ من ذلك من الملك والدول ومراقيها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال». كما اهتدى ابن خلدون إلى أن التاريخ لا يعيد نفسه وأوضح ذلك إيضاحاً لا لبس فيه فكتب يقول: «من الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال وكما يكون ذلك في الأشخاص والأزمان والإعصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار». ويعتمد ابن خلدون في استنتاجاته على الحضارات العديدة البائدة أو القائمة في زمانه ليدلل على أن التاريخ ليس تكراراً أو عوداً متواصلاً على بدء وإنما هو تطور وهذا الخلق لا يزال يرتقي في سلم «التدرج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة» كما أنه فطن إلى حقيقة الوعي الذي لا يحظى به إلا الآحاد لأن الإنسانية كانت قديماً تساق إلى مصيرها في غيبوبة بين اليقظة والوعي، ويزداد وعيها وضوحاً أكثر فأكثر، فالتاريخ إذن هو وعي التطور والاضطلاع به والإنسان هو الكائن الذي بفضله ينقلب التطور الشامل لكل الطبيعة تاريخاً بالمعنى الإصطلاحي. وبحق قال ايف لاكوست: «قبل القرن التاسع عشر لم يكتب لأحد أن يفوق «توسيديد» سوى ابن خلدون فالأول قد اختراع التاريخ وعلى يد الثاني اكتسى هذا التاريخ صيغته العلمية». دور الفرد البارز من خلال تأويل التاريخ لم يعد المرء، في أيامنا، بحاجة لأن يقف طويلاً أمام ما جاء به «كارليل» في تعظيمه من شأن الرجل البارز ولا أمام مشايعه وتابعه «فريدريك أومز» وهو من أكثر دعاة التأويل البطولي للتاريخ غلواً بعده، إذ أن جميع الذين يرون أنه ما من تبدل اجتماعي طرأ لم يكن من صنع رجال عظام وأن «تلقائيات» اليوم التي تجعل ذلك ممكناً هي نتيجة الأفعال والأمثال التي فعلها وسنها الأفراد البارزون لا يصمدون أمام الحجة القاطعة وهي أنه مهما تكن أسماء الأفراد التي تقترن بتلك الحركات أو الأعمال العظيمة فليست هناك بينة على أنه لم يكن بالإمكان الاستغناء عن أولئك الأفراد، بمعنى أن تلك الحركات والأعمال ما كانت لتحدث بدونهم. ولم يؤد رد الفعل حيال «المذهب البطولي الكارليلي» في القرن التاسع عشر إلى إنكار ضرورة وجود البطل والفعل البطولي في التاريخ حتى ولو إلى إنكار ضرورة البطل والفعل البطولي ولكن ما قال به رد الفعل ذاك هو أن الأحداث التي أدى إليها مثل ذلك الفعل البطولي قد تقررت بواسطة النواميس التاريخية في الفترة التي ظهر فيها البطل أو بواسطة احتياجات تلك الفترة، وقد اختلف المفكرون والفلاسفة في وصفهم هذه الاحتياجات الملحة الضاغطة فقيل أنها احتياجات «ميتافيزيقية» أو «مثالية» أو «سياسية» أو «اقتصادية»، ويمكن استعمال تعبير «احتياجات اجتماعية» ليشمل جميع تلك الأصناف. ولعل الأنموذج الكامل للتفسير المثالي يرجع إلى «هيجل» فالرجل العظيم، في نظره كما في نظر «اشبنجلر» الذي يحذو حذوه في هذا الشأن ليس نتاج الأحوال المادية أو الاجتماعية أو البيولوجية بل أنه في المقام الأول تعبير عن «روح» العالم في زمنه أو أنه «روح» حضارته، والرجال العظام لا يصنعون التاريخ ويكيفونه إذ تستدعيهم «الأزمنة العظيمة»، أما الأزمة العظيمة فهي تلك الفترات الانتقالية التي ينهض فيها الجنس البشري من مستوى ما من مستويات الحريات والتنظيم إلى مستوى غيره. ولم يكن انتصار يوليوس قيصر انتصاراً شخصياً بل كان حافزاً لا واعياً هو الذي هيأ تحقيق ما كان قد نضج الزمن من أجله. وهذه هي حال جميع الرجال التاريخيين العظام الذي تنطوي أهدافهم الخاصة على تلك القضايا الكبرى التي هي إرادة روح العالم. إن نشاط البطل يجب أن يفهم ليس كفعل صادر عن فرد ضد بيئة وإنما كعملية متفاعلة حتمياً، عملية صادرة من جانب من جوانب الحضارة ومتعلقة بالجوانب الأخرى أي أن الإنسان لا يستطيع أن يفعل ألا ما تسمح به حضارته ولكن الحضارة، وهذا حكم قاطع، لا تسمح إلا باتجاه واحد للتطور وليس هنالك من احتمالات أخرى أصيلة لذلك. ويرى هيجل أن «أمجاد الإرادة إنما هي أوراق يابسة ولم تكن يوماً بأوراق خضراء». إن النظرية الميتافيزيقية القائلة بوحدانية الكون وبكونه جوهراً واحداً تكشف عواقبها، بالنسبة للتاريخ، عن ضعف واضح. ذلك لأنها تنطوي على القول بعدم وجود إمكانات واحتمالات موضوعية في التاريخ كما أنها تشير إلى أن المستقبل هو كائن فعلي ولكنه لم يولد بعد وأن أمر الجهد الإنساني سواء بذلك أو لم يبذل هو أمر محتوم مقدر سلفاً وأن الفعل الإنسان لا يستطيع أن يغير شيئاً مما هو قيد التكوين فالأمر كما قال هيجل «مثل بومة منيرفا لا تبدأ طيرانها إلا بعد أن تكون ظلال الغسق قد خيمت على الكون». ما «هربرت سبنسر» الذي كان متأثراً بنظرية النشوء والارتقاء فهو ينطلق، في تقدير دور الرجل البارز، من التطور الاجتماعي الذي يفترض أن جميع المجتمعات قد نمت بشكل موحد وتاريخي وتقدمي حثيث ويرى سبنسر أن المرء إذا شاء أن يدرك ويفهم فوارق التطور الاجتماعي فإنه لن يصل إلى ذلك عن طريق الانكباب على قراءة سير جميع الحكام العظام في التاريخ. وعلى المجتمع أن يكون العظيم قبل أن يستطيع الرجل العظيم إعادة تكوين المجتمع. وفي مصطرع الآراء والنظريات كانت الماركسية في تأويلها المادي للتاريخ مطالبة بحكم العلمية التي تملكها أن تواجه هذه المعضلة وأن تقدم لها الحل الذي يفترض أن يكون أصح الحلول وأكثرها إقناعاً لأنها تعتمد سير التاريخ والصيرورة والكلية والجدل من خلال استقراء الماضي وتصور المستقبل. ورغم أن هذه المسألة واجهت المفكرين الماركسيين منذ البداية فإن تكامل حلها لا يزال قيد التفاعل الذي تغتني فيه النظرية بمزيد من العمق والإحاطة والشمول. ولم تنكر الماركسية دور الرجال العظام في التاريخ فلا هي أنكرت وجودهم ولا هي أنكرت أهميتهم التاريخية. وقد تصدى «أنجلز» للموضوع ولكن الباحث الذي تلاه والذي تناوله تناولاً شاملاً في معالجة ذكية أريبة هو بليخانوف. لقد بحث بليخانوف مشكلة البطل في التاريخ في كثير من مؤلفاته وبخاصة في كتابه القيم «دور الفرد في التاريخ» وقد كانت مشكلة دور الفرد في التاريخ، في زمنه، مشكلة حادة وراهنة بشكل فريد بالنسبة إلى الماركسيين الروس الذين كان بليخانوف زعيم مفكريهم النظريين المعترف به. ولم تكن حدة كمشكلة نظرية فحسب بل كذلك كمشكلة عملية وسياسية. وقد كان البرنامج السياسي والفلسفة السياسية لحزب «الشعبيين» الاشتراكيين الروس مؤسساً على الرأي القائل إنه بالإمكان التأثير في التاريخ، بأسلوب عام، بواسطة إبطال الفكر وحتى إبطال الفعل، وقد رفض هذا الفريق كما فعل خلفه «الحزب الثوري الاشتراكي» الآراء الماركسية حول الضرورة والتطور الاجتماعي وعلق أهمية أعظم على القرارات الشخصية والخلقية دونما إنكار لنفوذ العوامل المادية والاجتماعية والاقتصادية كما رفض التخلي عن الإرهاب الفردي كسياسة تهدف إلى محاربة الاضطهاد. وبذلك اعتبر هذا الفريق أصحاب المراكز العليا وليس النظام الذي ولدهم مسؤولين عن الشرور الاجتماعية والإفراط في العناد السياسي. وهكذا قام بليخانوف يناصبهم العداء على الصعيدين النظري والعملي واضعاً أحسن معالجاته للموضوع في مؤلفه الآنف الذكر. ورد بليخانوف على النظريات التي تفصل بطريقة كيفية، مختلف أشكال الحياة، بعضها عن بعض، لتقننها على شكل قوى خاصة تشد، من وجهات مختلفة وبدرجات متفاوتة من النجاح، الإنسان الاجتماعي في طريق التقدم. كما أعاد إلى المادية التاريخية معناها الحقيقي بإزالة ما لحق به من تشويه وتحريف. لقد رفض بليخانوف آراء المدافعين عن التأويل البطولي للتاريخ وكذلك آراء الجبريين الذين انتهوا، لدى معارضتهم أصحاب التأويل البطولي للتاريخ، إلى أن الفرد «كمية مهملة» في التاريخ. وقد رفض بليخانوف آراء الفريقين لأن كليهما ضرب صفحاً عن مشكلة على جانب عظيم من الأهمية ليس بالنسبة إلى الماركسيين فقط بل كذلك بالنسبة إلى أي فهم علمي للتاريخ. وأصر بليخانوف على الرأي القائل بأن مفهوماً مادياً عن الإرادة ينسجم مع أكثر الفاعليات العملية نشاطاً وأن جميع التعاليم التي اقتضت، في الماضي، المزيد من الإرادة البشرية افترضت مبدئياً عدم أهلية هذه الإرادة. واستبعاد ما تواضع الناس على تسميته بحرية الاختيار يؤول بالضرورة إلى الجبرية. ولكن، حتى هذه الجبرية، لا تشكل الإرادة ولا تقعدها إذ تصبح في بعض الأحيان الأساس النفسي الضروري للعمل. ومن الخطأ الاعتقاد بأن الاقتناع بحتمية وقوع حادث ما يقتل فينا كل مكنة نفسية للمساهمة فيه أو معارضته. وأساس الحل لديه هو أن الحرية هي ضرورة في شكلها الواعي، ولا يستطيع الفرد أن يفصم عرى هذا التوافق بين الحرية والضرورة ولا يمكن للمرء أن يشعر بوطأة الضرورة وإلزامها لأن غياب الحرية هذا ليس في الوقت ذاته سوى التعبير التام عنها والمتضمن لها. ولا يتم الوصول إلى هذا المفهوم إلا بتجاوز الثنائية وإدراك الحقيقة الهامة القائلة بأن لا وجود بين الذات والموضوع لتلك الهوة السحيقة التي يفترضها الثنائيون. إن الفرد الخاضع للضرورة التاريخية إنما يستمد هذه الصفة لا من مجرد وعيه لها فحسب بل بسبب صفات الأخلاقية والعقلية المنبثقة عن هذا الوضع. وبما أن وضع الفرد الاجتماعي يحبوه هذه الخليقة لا غيرها فسبيله ألا يكون أداة هذه الضرورة ورهينها فحسب بل يود بشوق أن يكون ذلك ولا يسعه ابتغاء وجه آخر. وذا مظهر من مظاهر الحرية المتولدة عن الضرورة أو بعبارة أدق الحرية المتماثلة مع الضرورة أو الضرورة التي استحالت حرية. يقول هيجل: «تستحيل الضرورة على حرية لا لأنها تتوارى بل للسبب الأوحد وهو أن «تماثلهما» الداخلي الكامن قد تجلى أخيراً». إن و عي الضرورة الملازمة لحادث ما ليس من شأنه إلا أن يزيد في طاقة الشخص الذي يواجه هذا الحادث فيتجاوب معه ويعتبره إحدى القوى التي تحدد وجوده. فإذا تربص هذا الرجل بعد أن وعى الضرورة التي تحدد هذا الحادث وشبك ذراعيه ووقف يتأمله فإنه يبرهن على جهل فاضح بالرياضيات. ولكن كيف يؤثر الشعور بضرورة وقوع حادث ما على رجل قوي الشكيمة ينظر إليه شذراً ويناصب العداء؟ إن الأمور تتحول هنا قليلاً عن مجراها إذ يمكن كثيراً أن يضائل هذا الشعور القدرة على المقاومة متى اقتنع معارضو الحادث بأنه ضرورة لا محيض عنها. ويتم ذلك عندما تصبح الملابسات المظاهرة له وفيرة نافذة الأثر. إن الشعور بحتمية وقوع حادث وانعدام المقاومة لدى معارضيه ليس سوى تعبير عن قوة الأسباب المظاهرة له والتي تطوي في عدادها الشعور بالعجز الذي يحسه هؤلاء المعارضون. غير أن القدرة على المقاومة لا تتضاءل عند جميع معارضي الحادث بل تزيد لدى بعضهم بتأثير من شعورهم بحتمية وقوعه، في قدرتهم على المقاومة وتكون هذه المقاومة عندئذ عبارة عن مقاومة اليأس. ويعيد بليخانوف القول بأن الشروط التاريخية العامة أقوى من الأفراد الأقوياء، وتغدو سمة العصر بالنسبة إلى الرجل «ضرورة معطاة تجريباً»، وبشكل كل عمل يتحقق حادثاً تاريخياً. فبم إذن تمتاز هذه الأحداث عن الأحداث التي تتم من تلقاء نفسها؟ والحقيقة هي أن كل حادث تاريخي يؤمن، على وجه التأكيد، لبعض الناس اجتناء الثمار اليانعة من التطور السابق كما أن هذا الحادث، في الوقت نفسه، حلقة في سلسلة الحوادث التي تهيء ثمار المستقبل. ويشير بليخانوف إلى أن الأفراد بفضل الخصائص ولميزات التي يتمتعون بها يمكنهم أن يؤثروا في مصير المجتمع ويمكن أن يكون أثرهم ملحوظاً. إلا أن إمكان حدوث هذا التأثير واتساعه أو مداه محدودان بتنظيم المجتمع وبعلاقات القوى الاجتماعية ـ الاقتصادية. إن سجايا الفرد ليست «عاملاً» من عوامل التطور الاجتماعي إلا بمقدار ما تسمح بذلك العلاقات الاجتماعية ويبقى هذا العامل ما سمحت به هذه العلاقات وبالشكل الذي أباحته. ولا يستطيع الفرد إبراز مواهبه إلا عندما يحتل في المجتمع مكاناً ييسر له ذلك، والتنظيم الاجتماعي هو الذي يحدد في كل حين الدور وبالتالي الأهمية الاجتماعية التي يمكن أن توسد إلى بعض الشخصيات الموهوبة أو عديمة الأهلية. ولكن ألا يتعارض القول بأثر الفرد في سياق الأحداث مع المقولة التي تعتبر التاريخ أو التطور الاجتماعي خاضعاً لقوانين محددة ملزمة؟ والجواب على ذلك هو أن هذا الدور لا يتعارض والمفهوم المشار إليه وإنما هو وجه من أوجه التعبير البارزة عنه. وتجدر الإشارة إلى أن إمكان تأثير الفرد في المجتمع، هذا الإمكان الذي يحدده التنظيم الاجتماعي، يفتح الباب واسعاً أمام تأثير ما يسمى «المصادفات»، على المصير التاريخي للشعوب. ويمكن لهذه المصادفات أن تترك أثرها في مستقبل الشعب أو الأمة. وهناك أيضاً الأسباب العرضية أو الطارئة التي تنشأ عن الأفراد وعن صفاتهم ومؤهلاتهم أو عن زوالهم. لذلك فإن مصائر الأمم تتوقف أحياناً على حوادث عارضة تمكن تسميتها بالحوادث من الدرجة الثانية. وقد كان هيجل يقول: «كل ما هو تام ينطوي على عنصر من عناصر المصادفة». ولكن ألا ينفي ذلك إمكان المعرفة العلمية للحوادث ويجيب بليخانوف بالنفي لأن المصادفة أو الحادث العرضي ليس بالحادث غير المسبب، وبسبب الصفة النسبية التي يرد إليها الحادث العرضي أو المصادفة فلا يظهر إلا في نقطة التقاطع أو التصالب لظاهرات التطور الضرورية. وتظل المصادفة، تبعاً لذلك. محصلة قوتين أو تقابل حالين أو تفاعل موقفين. ولذلك لا يمكن التنبؤ بنقطة التقاطع هذه من خلال النواميس التي تقرر وتحتم أية من سلاسل الأحداث أو تلك السلاسل مجتمعة. والظاهرات الناجمة عن المصادفة أو الخصائص الفردية التي يتسم بها الرجال البارزون هي أظهر وأبين من الأسباب العامة التي يقتضي كشفها الغوص في الأعماق. وخصائص الفرد الشخصية تجعل صاحبها أقدر على تحقيق الحاجات الاجتماعية الناشئة عن العلاقات الاقتصادية القائمة أو معارضتها. ويمكن للأفراد ذوي النفوذ، بفضل خصائصهم الفكرية وبفصل صفاتهم الذاتية، أن يبدلوا في الملامح التي تتلبسها الأحداث وبوسعهم أيضاً تغيير نتائجها الخاصة ولكنهم لا يستطيعون تغيير الاتجاه العام المحدد بقوى أخرى. وحتى يتمكن الفرد من الاستئثار بدوره التاريخي من خلال السلطة التي صارت إليه، فسبيل الهيئة الاجتماعية أن تمنع هذا الإمكان عن سواه، وبذلك تتراءى لنا الشخصيات التاريخية أحياناً محاطة بهالة من القدرة والنفوذ الذاتيين المبالغ فيهما على خلاف ما يحدث في مجال التطور الثقافي إذ يندر أن يطمس نجاح فرد المعي المعية فرد آخر. وفي كلا الحالتين فإن الطلب الاجتماعي هو الذي يستثير المستعدين للتصدي له، فإذا أخفق أحدهم أو قعد به العزم عن ذلك تصدى له آخر تلو آخر. وثمة سرطان لا بمن توافرهما حتى يتمكن شخص موهوب، يتمتع بخلال معينة، من أن يحدث بواسطتها تأثيراً عميقاً في سياق الأحداث فينبغي له أن يستجيب، بفضل مواهبه، أكثر من سواه لحاجات الفترة الزمنية الاجتماعية وينبغي لهذا النظام الاجتماعي القائم ألا يقف عائقاً أمام الفرد ذي الأهلية المطابقة لما تستدعيه الفترة الزمنية. ويظهر الرجال الموهوبون حيثما تكون الشروط الاجتماعية ملائمة لنموهم، وهذا يعود بنا إلى القول بأن كل موهبة تظهر، أي تصبح قوة اجتماعية هي ثمرة العلاقات الاجتماعية. ونستطيع عندها أن ندرك لماذا لا يتمكن الرجال الموهوبون البارزون إلا من تعديل السمات الخاصة للأحداث لا سياقها العام وذلك لأن هؤلاء الرجال أنفسهم لا يوجدون إلا بفضل هذا السياق العام نفسه ولولاه لما كان بمستطاعهم أن يتخطوا العقبة التي تفصل الممكن عن الواقع. إن موت أو زوال شخصية بارزة في مجال السياسة أو الثقافة بخاصة يمكن أن يؤثر على النتائج ولكن التأثير يكون بالغاً عندما يعجز السياق الاجتماعي عن استثارة كفاءات مماثلة. ويعد الرجل عظيماً لأنه يتحلى بصفات تجعله أقدر من الآخرين على الاستجابة للضرورات الاجتماعية العظيمة تلك الحاجات التي تتأتى عن الأسباب العامة والخاصة. وينوه بليخانوف في خاتمة كتابه بأن ميدان العمل لا ينفسح أمام الرجال العظماء فحسب وإنما ينفسح أمام جميع الناس. *** يبدو لنا، من جميع المدارس التي عالجت موضوع الأوضاع الاجتماعية، تصميم عام هو أن الرجل البارز أو العظيم لا يستطيع التأثير في التاريخ ما لم يكن مؤاتياً له وما لم تكن الأوقات «يانعة» تمكنه من ذلك. ولا بد لحالة المجتمع، أي مجتمع، في برهة معينة أن يكون ما كان عليه قبل أن يكون لأي مخلوق معين ما كان له من تأثير في البرهة التي تلت تلك البرهة المعينة. ولكن لا يترتب على ذلك، بحال من الأحوال، بأنه كان لا بد لأي شخص معين أن يؤثر في المجتمع بسبب قيام ذلك المجتمع في عالم الوجود وبسبب حالته. وما دمنا نؤمن بمبدأ الضرورة وبان الإنسان يستهدف النشوء والارتقاء، وبأن تطور المجتمع له سنن حتمية لا يخرج عليها، وهو ما يستقى من ماضي الإنسان الحضاري والدلالات التي استخلصت منه، وما دمنا نعتبر البنية الأساسية تقوم على درجة تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وكلاهما يحدد الوجود الاجتماعي للإنسان، فلا بدل لنا، حذر الوقوع في الجبرية المطلقة، من إلقاء بعض الضوء على حدود ومعالم ما نود إدراكه من أثر الضرورة هذه ووطأتها، ولاسيما وأن الإنسانية، وإن كان بالوسع أن تؤخذ ككل على سبيل التعميم والتجريد، فهي تنطوي على مجتمعات مختلفة وأمم وشعوب وقبائل تتعارف وتتناكر ولا يخضع منطق تطورها لدواعيها الذاتية فحسب وإنما هي فاعلة متفاعلة مع العوامل الخارجية أو نقاط التقاطع التي كان من شأنها في حالات كثيرة من الماضي البعيد والقريب أن قضت على شعوب فاختفت من مسرح التاريخ أو منعتها أن تستأنف شوطها بمنطق تطورها الخاص، كل ذلك يتقاضانا أن نحدد أبعاد هذه الضرورة من خلال الغاية التي نستهدفها من هذا البحث. يتوقف الحجم النسبي للأشياء على بعد هذه الأشياء عن مركز الرؤية، وهنا يفرض علينا هذا السؤال: ما هو البعد الصحيح الذي يجب ن ننظر منه إلى التاريخ؟ تمكننا مثلاً كتابة سيرة واضحة لحضارة كاملة وباختصار شديد دون الاستشهاد بالنفوذ العلي (نسبة إلى علة) للشخصيات البارزة أو دونما إشارة إلى الحوادث الأخرى التي يمكن أن تطرأ ولكن لا يترتب على تاريخ أية فترة محدودة من حضارة ما يمكن أن يستغنى عن ذكر نفوذ تلك الشخصيات الفعال وآثار تلك الحوادث الطارئة. ويستشهد بعض الباحثين بقصة مستشاري الامبراطور الصيني الذين قالوا لامبراطورهم العجوز الذي كلفهم، في مطلع حكمه، أن يخترقوا الحجب إلى «سر» الإنسان فقد جاء هؤلاء المستشارون على ملكهم وهو على فراش الموت وأبلغوه بأن الإنسان «يولد ويعيش ويعاني ويموت». وهذه النتيجة تبقى صحية إذا غيرنا أية تفاصيل من حياة أي إنسان سواء جعلناه ملكاً أم رئيساً أم شحاذاً أو صعلوكاً وسواء جعلناه مقاتلاً أم قديساً فإنه إنسان يولد ويعيش ويعاني ويموت. إن مثل هذه التأملات تنطبق على الحالة الإنسانية التي يمكن لأي مخلوق أن يحل فيها محل الآخر إلا أنها تصبح معدومة القيمة إذا طبقت على سيرة إنسان معين إلا حينما تحملنا السيرة على التصديق بأنه كان أكثر من رجل. والأمر كذلك عن طريق معالجة الحضارات كوحدات كاملة أو على أساس أن التاريخ ليس له صانع وإنما هو سياق طبيعي إنساني يحكمه صراع الطبقات أي عن طريق محاولة تفسير جميع الظاهرات وشرحها على أساس أنها كلية شاملة بحد ذاتها. إن الأحداث التاريخية هي آخر الأمر أحداث إنسانية ومن ثم فإن حقائق التاريخ، بعكس حقائق العلوم الطبيعية، تستدعي أن تتضافر عدة أسباب للوصول إلى نتيجة ما، ولكن الأسباب نفسها قد لا تؤدي إلى النتيجة نفسها في ظروف أخرى، كذلك فإن سبباً ما قد يؤدي إلى نتيجة في مكان ما ثم يؤدي، هو بعينه، إلى نتيجة أخرى في مكان آخر، والسبب في ذلك كله هو تدخل العامل البشري. فالإنسان هو الوحدة التي يدور التاريخ من حولها وكل جهد يحاول به صاحبه أن يعزل فئة من الناس خارج تاريخ الإنسان إنما هو جهد عبث لاغناء فيه. وفضلاً عن ذلك فالإنسان القرد ـ أي إنسان ـ له إرادة حرة وله ميول وأهواء واتجاهات وهذه كلها تدخل في التاريخ حين يصنع وربما حين يكتب. سواء أكانت الحوادث صغيرة أـم كبيرة محسوسة أم غير محسوسة، قصيرة أم طويلة فإن الجامع بينها هو أن الحال قبلها يختلف عنه بعد وقوعها، فالعالم قبل نابليون يختلف عن العالم بعده والدنيا بعد ثورة أكتوبر تختلف عنها قبلها، وكذلك الدنيا بعد الحرب العالمية الثانية كما أن الفكر الإنساني قبل ماركس وأنجلز ولينين يختلف عنه بعدهم... وهكذا فالعبرة في الحوادث التي هي مادة التاريخ هي أن يحصل تغيير في الأحوال سواء أكان كبيراً أم صغيراً محلياً أم عالمياً. وحوادث التاريخ، إذن، هي تغيرات والحادث، إذن، هو التغيير. وإذا أردنا أن نتبين أهمية حادث ما فنحن نقارن الأحوال قبله وبعده وعلى هذا الأساس فنحن نعتبر ظهور من نسميهم عظماء الرجال أو صناع التاريخ حوادث فيوليوس قيصر أو الاسكندر حادث وكذلك خالد بن الوليد.. الخ وإذا اعتبرنا كلاً من أولئك الرجال حادثاً فنحن نأخذه في مجموعه وننظر إلى حجم التغيير الذي أحدثه في مسيرة البشر. وهذه النظرة لا تمنعنا من التفكير ملياً في أن التغير في حقيقة الأمر مستمر وهو لا يتوقف على مجهود أشخاص بأعيانهم وهذا التغير يحدث نتيجة لسير الزمن نفسه. تقول سيمون دي بوفوار: «إن أقوى عامل في حياتنا هو ذلك الشيء الذي لا يحس ولا يرى ولا يدرك له وزن ألا وهو الزمن».وإذا استطعنا أن نتصور أن الزمن يمكن أن يتوقف لرأينا أن الحوادث هي الأخرى يمكن أن تتوقف والحق أن الشاعر الذي قال: والليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيب لم يفطن إلى عمق الحقيقة التي توصل إليها في هذا البيت. السببية والمصادقة والطارئ واللامنظور إننا مضطرون لأن نعترف بأن في مسيرة التاريخ وبالتالي فيما يمكن أن تكون علي قوانين التاريخ، جانباً واضحاً متروكاً للفعل الحر. جانباً لا تحدد زمانه ومكانه وأبعاده، الأسباب التي تقع تحت معقوليتنا. إن أفعال الإنسان في الماضي وإن كانت تخضع إلى حتمية معقدة الحدود فإنها في الوقت نفسه تحوي عناصر من «حرية التصرف» كانت تفاجئنا في كثير من الأحيان، إلا أننا لا نستطيع ونحن في إطار السببية الحتمية إلا أن نضع ذلك موضع الاحتمال من سلم العوامل والأسباب وإلا أن نقرر أن ثمة إمكانات معقولة كثيرة في عدد كبير من الأحيان لم تحدث رغم معقوليتها، واحدة منها فقط حدثت بفعل المصادفة، احتمال واحد جرى وماتت الاحتمالات الباقية. ولنتأمل انتصار «قطز» على المغول في عين جالوت ونجاة صلاح الدين ثلاث مرات من الاغتيال.. فكيف تقوم العلاقة السببية الحتمية ما بين الواقع والاحتمال العبثي الرواغ؟ السببية في التاريخ هي، في الواقع، محاولة الكشف لا عن «السبب» ولكن عن تلك المجموعة المركبة من الأسباب والعوامل الكامنة في كل حدث ووجود المصادفة في التاريخ أمر غير قابل للإنكار. يقول «فيفر»: «ليس ثمة ضرورات حتمية ثمة دوما إمكانات فقط والإنسان باعتباره سيد إمكاناته هو الحكم الذي يحدد استخدامها». فهل تكون المصادقة هي جهلنا بأسباب الأحداث؟ قد يصح ذلك بمقدار ولكن هناك مصادفات واضحة الأسباب وهي من نوع آخر تنشأ عن تقاطع وقائع مستقل بعضها عن بعض. وكثير من الأحداث التي وقعت في تقاطع الحاجات والغايات، في أكثر من مجتمع، لم تكن حتمية وإنما احتمالية. ويقف كثير من الباحثين أمام ظاهرة لنازية كحل احتمالي كان يمكن أن يقوم بديل له يختلف عنه في كثير من السمات والدوافع. صحيح أن هتلر ليس إلا النتيجة الناجمة عن علة الاضطراب الأساسية في زمنه ألا وهي الإخفاق في إيجاد الانسجام بين علاقات الإنتاج الاجتماعية وقوى الإنتاج الموسعة ولكن ألم تشهد هذه الظاهرة مجتمعات أخرى وعالجتها بشكل آخر وانتهت إلى نتائج مماثلة أو مقاربة. ولكن أين مكان المصادفة أو الطارئ من خلال الحتمية الضرورية؟ إن معنى المصادفة أو الطارئ هو أن يكون شيئاً معلوماً أو موجوداً ولكن وجوده غير ضروري منطقياً كما أن عدم وجوده ليس مستحيلاً منطقياً أي أن الطارئ يأتي في غير محله وبمعنى آخر فإن الحادث هو طارئ إذا وقع نتيجة تلاحم سلسلتين من الأحداث موصوفتين بقوانين متنافرة. السؤال الكبير السؤال الكبير هو: هل السير الأساسي للفعل التاريخي والتطور الاجتماعي هو حرفياً خط سير حتمي لا مناص منه أم أنه ليس كذلك؟ وإذا كان كذلك فإن كل زعامة قامت أو ستقوم هي عنصر ثانوي مساعد في تقرير الطابع الأساسي والتاريخي في الماضي والحاضر والمستقبل. وإذا لم يكن حتماً فإن الأمر يكاد يسأل ذاته: إلى أي مدى تكون فيه سجية زعامة معينة مسئولة سبباً ومسئولة أدبياً عن هذا الوضع أو ذاك أو إلى أية درجة وفي أية أنواع من الحالات يكون من المشروع القول أن الزعامة تقرر الاتجاهات التاريخية التي تواجهها وأي نوع من الحالات يكون من المشروع فيه القول أنها لا تفعل ذلك، أي نوع يمكن قصره عليها، على وجه التفرد والامتياز وأي نوع يمكن أن يتم على يد زعماء أو أفراد آخرين؟ ولا يثور اختلاف كبير حول مزايا أو سجايا الزعماء صانعي التاريخ فمن المتفق عليه أن العبقرية شيء فريد ليس له مقياس كمي، ومقياس عظمة البطل يكمن في درجة شعوره ووعيه لما دعي للقيام به. القضية هي قضية ما إذا كان من الممكن أن نعزو إلى عمل شخصيات ذات مواهب أو مراكز فريدة الفضل في تلك التغيرات الواسعة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تميز العهود التاريخية، أو الفضل في تلك الأحداث التي هي نقاط تحول في التاريخ. والظاهرة، كما تكون تاريخية، يجب ن تكون فريدة ولا يمكن استبدال غيرها بها ولا يمكن تكرارها، فكل ما هو عظيم هو ظاهرة انفصال وانقطاع. والدور الذي أعطيناه للرجل البارز أو البطل أو العظيم، لا يكتفي برجال الفكر أو الفعل فحسب، وإن يكن من غير المستبعد أن يكون أبطال الفكر في الوقت نفسه أبطال الفعل وصانعي أحداث، بل ينصرف بصورة رئيسية على البطل صانع الأحداث أي الذي يترك طابع شخصيته الإيجابي على التاريخ وهو طابع يظل ظاهراً للعيان بعد أن يختفي صاحبه عن مسرح الأحداث.وكذلك يجب التمييز بين الشخصيات التاريخية الشهيرة القادرة على أن تحمل الناس على الإيمان بها وبين الأفراد الذين أثروا في الأحداث دون أن يحققوا لأنفسهم شهرة شعبية عظيمة. كما يجب استبعاد مفهوم البطل كرجل صالح أخلاقياً، وليس ذلك لأن الأحكام الأخلاقية غير مشروعة في التاريخ ولكن لأن بعض الأشرار، أخلاقياً، قد حققوا شطراً كبيراً في التاريخ، فما يهم في هذا الشأن هو عملية تكوين التاريخ. ويعاودنا السؤال الكبير بشكل أكثر دقة وتحديداً: هل كان خليقاً بالشيء الذي نعتبره هاماً أن يحدث على كل الأحوال مهما يكن نوع الفرد الذي يؤثر في الأحداث التي أدت إلى ذلك الشيء؟ وهل من الصحيح إطلاقاً القول أن فرداً كان، بصورة رئيسية، مسئولاً عن وقوع ذلك الحدث الهام أو عن عدم وقوعه؟ إن ذلك يقودنا إلى الفراق بين الرجل كرجل أحداث في التاريخ والرجل كصانع أحداث في التاريخ أي الفرق بين الرجل الذي يكون في وضع يؤثر في الأحداث وآخر يفضل طاقاته وملكاته وذكائه الحاد وإرادته القوية وشخصيته يربط بنفسه الحدث ويرتبط به. وهذا التمييز يحاول أن يعدل في الحكم على الاعتقاد العام بأن البطل هو عظيم ليس فقط بسبب ما يفعل ولكن بفضل سجاياه وماهيته. لقد أشرنا آنفاً إلى أن الفعل البطولي لا يمكن أن يعتبر حاسماً إلا عندما تسمح الحالة التاريخية بوجود سبل متعددة كبرى يسير عليها مجرى التاريخ، ومجرى التطور أو التاريخ هذا يجب ألا يفهم على أنه تطور الإنسانية أو الحضارات أو الإنسان وإلا فإننا ننتهي إلى كلية عامة لا تجيب على الغاية من هذا البحث أو كل بحث مماثل وذلك لأن عمر الإنسان وجهد الإنسان وسعيه محدودة بينما عمر الإنسانية وجهد الإنسانية وسعيها و«عقلها» لا يعرف الحدود. إن احتمال وجود بدائل، في حالة تاريخية معينة، محلية أو عالمية ولفترة إنسانية محددة، هو افتراض مسبق لفعل بطولي هام. أما النقطة ذات الأهمية الشاملة بالنسبة لأغراضنا فهي التحقق من وجود مثل بدائل التطور تلك ومن طبيعتها ومدى ديمومته. أما الموقف الذي اتخذناه حتى الآن فهو يلزمنا بالإيمان بأنه كان ولا يزال، في التاريخ، مثل تلك البدائل مشفوعة بنتائج متناقضة معها ولكنها ربما كانت قد أعادت قرير مجرى الأحداث في الماضي ولربما قررت مجرى الأحداث في المستقبل. ومن المقرر وجود حدود للإمكانات، بما فيها حدود التأثير الممكن والمحتمل للفعل البطولي استناداً إلى التسليم بالأوصاف المعممة التي تصف نواميس السلوك الاجتماعي. وحينما يقوم بديل حقيقي فإن الوجود الفاعل الإيجابي لرجل عظيم ربما يكون حاسماً، لأن عناصر أخرى تشترك في تقرير النزاع بين البدائل وقد تكون تلك العناصر أثقل وزناً من عنصر الشخصية. وحينما نكون في وضع يمكننا من التأكيد على أن رجلاً صانعاً للأحداث كان له نفوذ حاسم، في فترة تاريخية معينة، فإننا لا نتخلى عن الإيمان بالعلاقة السببية ولا نعتنق إيماناً بالطارئ المطلق، وإنما السبيل هو الملاحظة بأن اتجاهاً جوهرياً أو رئيسياً كان من شأنه ألا يتحقق لولا وجود هذه الشخصية. يكون الوضع أحياناً أهم من الرجل كما يكون الرجل أحياناً أهم من الوضع وذلك تبعاً لما يتاح له من حرية وبذلك تزداد أهميته أو تتضاءل. وعندما يتحقق نصر عظيم فإن جميع سلاسل النتائج المترتبة عليه تبرز إلى الوجود كما لو أنها لم تتوقف إطلاقاً. وتبرز هنا فرضية: ماذا لو عملت سلاسل الأسباب الأخرى التي لا تكف عن الحدوث فمات البطل الموعود بحادث عرضي أم مرضي؟ ماذا يحدث عند ذلك؟ هل يقف الطلب الاجتماعي داعياً فلا مجيب لندائه؟ هنا لا بد من تقدير مدى الاستجابة فإذا كانت درجة الوعي والكفاءة والإرادة متمكنة من نفر آخر فسيأخذ فرد بارز آخر مكانه فإذا لم يكن هناك فرد آخر تتوافر في الصفات اللازمة ليلتقط الكرة ويصوبها في اللحظة المناسبة فيحدث ما يسمى بالفرص الضائعة. ونادراً ما تغلق عواقب الفرصة المضاعة أبواب الخيار في المستقبل ولكنها تضيق من فرجة هذه الأبواب فلا يبقى مجال كبير للاختيار إلا بين بدائل ملائمة نسبياً، بالقياس إلى احتمالات كانت قائمة بل ضياع الفرصة. وثمة سؤال أخير هل يكون الرجل البديل مساوياً تماماً للأصل؟ والجواب قد لا يكون نسخة طبق الأصل، قد يكون أحسن قليلاً أو أسوأ قليلاً.ودرجة ما هي عليه خلاله ومزاياه ووعيه... لا بد أن تترك سمتها على الأحداث أن خيراً وإن شراً. وفي مثل هذه الحال قد يكون بمكنة الفرد أن يدفع بوعيه إلى الإحساس بالحاجات التي تلمسها قبل غيره وقد يجهضها. الفعل التاريخي من خلال الوعي والإرادة والرغبة الغاية التي يفترض في الإنسان أن يخدمها هي غاية تستنبط وتؤول من الغاية التي يحددها ويحققها لأن البشر لا يصنعون التاريخ إلا إذا كانت لهم أغراض وغايات. وكثير من الشخصيات التاريخية البارزة لم تع إلا قليلاً أو وعت وعياً ناقصاً للمكان الخطير الحافل الذي كانت تحتله في التاريخ ومع ذلك لعبت دورها في مسيرة الإنسان والمجتمعات. ورغم أن جوهر التاريخ يقتضي ألا يتم أمر دون تصميم واع ودون غاية مرجوة فإن فهم التاريخ يستدعي المضي أبعد من ذلك وما ذاك إلا لأن الإرادات الفردية عندما تدخل حيز العمل تنتهي أحياناً كثيرة إلى نتائج غير ما توخته، ولهذا فإن دوافعها ليس لها سوى أهمية ثانوية بالنسبة إلى النتيجة الإجمالية وتبقى معرفة أية قوى محركة تتوارى خلف هذه الدوافع. إن جوهر الماركسية العلمي يقوم على استقلال القوى المحركة الحقيقية في التاريخ بالقياس إلى الوعي (النفسي) الذي يمتلكه الناس. وفي أشكال المعرفة البدائية كان هذا الاستقلال يتجلى، في الواقع، بالطريقة التي كان الناس، من خلالها، ينظرون إلى هذه القوى على أنها شكل من أشكال الطبيعة التي يلاحظونها وعلى أن القوانين التي تحكمها هي ضرب من قوانين الطبيعة (الأزلية).. ولم ينتبه الناس إلى إدراك الصفة التاريخية لهذه الأشكال إلا بعد زمن طويل حفل بجميع النظريات التي تناولت مصادر السلطة والمعين الذي تمنح منه والدور الذي تقوم به. وكل عمل يقوم به الناس يعونه، ولا ريب، ولكن هناك فرقاً بين وعي صحيح ووعي قاصر أو زائف أو تاعس، ومع ذلك فأياً كان شكل الوعي فقد لعب دوره في سياق التاريخ. لقد أخذ الصراع الطبقي، في المجتمعات القديمة، شكل الصراع بين المدينين والدائنين وهذه العلاقة النقدية كانت تنطوي على تفاوت اقتصادي أي تعارض في شروط الحياة أعمق من ذلك بكثير كما أن وعي الدولة كحقيقة كان يخفي وجه الطبقة في المجتمعات القديمة ويمنعه أن يتجلى ويبرز، لذلك لم يكن الوعي ليلتقط إلا ظاهر العلاقات الحقوقية التي تأخذ تبعاً لذلك تمام معناها ودورها. ولكن التطور الذي واكب القرن الماضي والقرن الحالي رفع الوعي إلى منزلة لم يكن بالغها فيما سلف من الأزمان. جميع ما تم في دنيا الإنسان إنما هو صنيع الإنسان: الحروب والثورات وتطور المجتمعات، وإذا كان ثمة من جديد فهو أن الفعل التاريخي اليوم لم يعد مجدياً أو ناجعاً ما لم يرافقه الوعي، ويتوافر عليه عدد من الناس ينطلقون من تحليل الواقع الموضوعي فيصوغون، عن وعي، الأفكار والنظريات والخطط ووجهة السير. وتدخل الأفكار والنظريات هذه في عداد الذاتي في حين أن الممارسة والفعل يترجمان عن الذاتي في الموضوعي وكلا النوعين يمثل (الفاعلية الواعية) وهي خصيصة تميز بها الإنسان من الحيوان. وطبيعة الإنسان التي تستحضر الشامل المشخص أو الكلي تحمل اليوم للوعي معنى جديداً. وإذا كانت الفردية بمعناها الصحيح هي مجموع هذه العلاقات فإن قيام الشخصية الفردية يعني اكتساب وعي هذه العلاقات. وهذه المعرفة ملاء الشخصية وصيرورتها لأن العلاقات الضرورية عندما تعرف بضرورتها تتغير سماتها، ووعي هذه الضرورة يجعل الجهد ناجعاً ومحرراً. إن علم القوانين الضرورية التي تحكم المجتمع جعلت من الممكن استخدامها، عن طريق تطور التقنية، لصالح الإنسان، كما أن علم العلاقات الضرورية في الحياة الاجتماعية والمحصلات الضرورية للعلاقات الاجتماعية وأثرها على الإنسان جعل ممكناً امتلاك الذات والتحويل الناجع للعلاقات الاجتماعية. وهكذا تصبح المعرفة اقتداراً أي حرية. والتبدل الذي يطرأ على الشخصية والناشئ عن وعي هذه العلاقات هو، في الوقت نفسه، تبديل مجموع تلك العلاقات. وما من إنسان يبدل من ذات نفسه أو يغير إلا في نطاق تبديله وتغييره المجموعة المعقدة للشروط والعلاقات التي يظل الإنسان منها في مكان العقدة أو واسطة العقد. وعندما يرد الوعي إلى الكلية الاجتماعية يتكشف أن الأفكار والعواطف التي كان عليها الناس، في موقف حياتي معين، إذا ما تسنى لهم الإحاطة بها وبالمصالح التي تنجم عنها، سواء بالنسبة إلى الفعل المباشر أو بالنسبة إلى البنية المطابقة لهذه المصالح، يتكشف لهم أن هذه العواطف وهذه الأفكار وهذه المصالح الناشئة عنها تمضي كلية في شمولها عواطف وأفكار ومصالح مجموع الطبقة أو الشعب. لقد كان هم البروليتاريا أن ترقب من خلال السياق الموضوعي للتطور ما الذي يسير وما الذي يحدث حتى تستخدمه لصالحها، وهكذا ظلت «الضرورة» العنصر الموجه، وضعياً، هذا التطور. ثم أصبح هذا الموقف، فيما بعد، عائقاً وشيئاً تجب مقاومته. وخطوة خطوة ومن خلال سياق التبدل والتغيير راح هذا العائق يتزحزح تباعاً حتى يأتي اليوم الذي يستبعد فيه نهائياً. إن المعرفة الواضحة لما هو حقيقي، لما يجب أن يحدث، تبقى، رغم كل شيء، قائمة وتظل، رغم كل شيء، الشرط الحاسم والسلاح الأجدى للنضال. وعلى القوانين بعامة وقوانين الاقتصاد بخاصة أن تصبح خادمة للمجتمع الذي يدار بوعي. إن التغاضي عن قوة الأشياء حماقة وغباء ولكن إدراك هذه الحقيقة تجعل مقاومة الأشياء سبيلاً إلى إزاحتها أو تخطيها وليس مجرد الانقياد لها. إن قوانين الاقتصاد التي تحرك المجتمع، متخطية عقول الناس، ينبغي لها أن تتجلى أو تعبر عن نفسها «إيديولوجيا» في عقول الناس بأشكال غير اقتصادية. وكما أن القوى الغريبة الموضوعية التي سادت التاريخ حتى اليوم تنتقل اليوم لتصبح تحت رقابة الإنسان، فإن ما رافق حتى اليوم كمجرد إيديولوجية يمكن أن يصبح اليوم المضمون الخاص بالحياة الإنسانية أي ولادة الإنسان كإنسان. يقول ماركس: «يعتبر الناس، في خلد التعاليم المادية، نتاج الظروف والتربية وبالتالي فإن البشر الذين طرأ عليهم التبدل هم نتاج ظروف وتربية متبدلة، هذه التعاليم تنسى أن البشر، على وجه التحديد والدقة، هم الذين يبدلون الظروف وأن المربي بحاجة، هو نفسه، لأن يتربى». إن التغاضي عن شكل العلاقات الاجتماعية يؤدي إلى جعل التاريخ نهباً لسيادة اللا معقول والقوى العمياء التي تتجسد إما في «روح الشعب» وإما في «الرجال العظام»، وعندها لا يدرك التاريخ عقلانياً وإنما ذرائعياً. وفي هذا الإطار توضع الشخصيات التاريخية، فالشخصية التاريخية لا يمكن أن تفسر من وجهة نظر العالم النفسي وحده ذلك لأن ملامحها العقلية والأخلاقية هي نتاج تفاعل مستمر بين قواها النظرية والعقلية وبين الأحوال الاجتماعية. وليست الأحوال الاجتماعية دائماً مسوغة للعبقرية أو مساعدة لها فقد تكون ساحقة لها ولكنها عندما تكون مسوغة فإن هناك حدوداً لمدى إمكانات الفعل البطولي. ويمكننا الاستدلال على هذه الحدود بين المجموعة المركبة المتشابكة للتقاليد الاجتماعية والعادات والأعراف والأدوات والمناهج العملية والتصادم بين مصالح الجماعات. ومادامت المعرفة هي انعكاس الواقع أو الوقائع في العقل فعبقرية الرجل البارز هي القدرة على اكتشاف الروابط والقدرة على الشمولية وعلى شمول روابط الواقع الاجتماعي التاريخي والممارسة الإنسانية الثورية، ولعل ذلك ما ييسر له حرية العمل ويجعله على إحساس أو شعور بأن لديه خيارات أكثر من مناوئيه وأن له كثر من وجهة مفتوحة على المستقبل، وهذا ما يجعل مثل هذا الفرد صانع وعي وخالق نهضة وبالتالي مؤثراً في الأحداث. ولكن ما من أمر عظيم يتم في التاريخ دون هوى أو شوق ولكن شوق الرجل العظيم الذي يطبع بطابعه الأحداث التاريخية لا يتم إلا بتحسسه الحقائق المستقبلية وبقطعه مع الظروف الراهنة أو القائمة وباندماجه في الخط المشرع للمستقبل. وهذا الشوق يأخذ شكل حقيقة أو فكرة يجد فيها الفرد الامتداد الأدبي والأخلاقي لحاجاته ومتطلباته وغاياته ويصبح الوسيط لمجموع القوى التي تتحرك في الاتجاه التاريخي المصيري الذي يتبناه ويعمل له كما يصبح وسيطاً لمسؤولية ليست مسؤوليته الشخصية إلا بالقدر الذي يجسد فيها المصالح الجوهرية التي تناهت إليه. فثم تداخل بين الذاتية والكلية، ولا تعدو حرية التصرف كونها الضرورة المتضمنة في ذلك التصرف لأن الذاتية إنما تمضي عبر الممارسة فتصبح موضوعية، ما دام الفعل لا يتم في دنيا المجرد وإنما يتم خلال عملية تاريخية تحققها الخلايا الذاتية ومن ثم الموضوعية قبل أن تترجم عن مسيرتها الجدلية حيث تتلاقي الفكرة أو الحقيقة أو المثل الأعلى مع الواقع كما تتلاقى الحرية والضرورة مفضيتين على تركيب جديد يعبر عنه بالحدث التاريخي. وإذا كانت إرادة كل إنسان حرة حرية مطلقة بمعنى أنه إذا كان بوسعه أن يفعل ما يريد فلن يكون التاريخ إلا سلسلة من المصادفات لا تشدها إلى بعضها لحمة أو وشيجة، وإذا جاز ذلك فمعناه أن المضي في هذا المنطق حتى غايته تقويض لكل إمكان لوجود أي قانون عام للإنسانية. ولئن كان ثمة قانون شامل ملزم يحكم أعمال الناس فلا يمكن أن يكون هناك خيار حر، ولئن أخذنا الإنسان كموضوع للملاحظة، من أية وجهة نظر كانت: لاهوتية أو تاريخية أو أخلاقية أو فلسفية نجد أن القانون العام للضرورة يحكمه جميع الكائنات ولكن إذا تفحصناه على وجه مشخص، في مجال وعينا، فلا بد أن نستشعر بأنه كائن حر. لهذا كانت حرية خيار الفرد قائمة بطبيعتها على هذه الضرورة التي يستكين لها ثم ينفذ منها في عملية من الرضوخ والانعتاق تمثل معنى الحرية الإنسانية العميق. وموضوع التاريخ ليس الإرادة وإنما تمثيل هذه الإرادة أو الشكل الذي تتلبسه، والتاريخ يبحث في شكل التمثيل الذي أخذته الإرادة والرغبة اللتان حققتا فيه حل مشكلة التعارض بين الحرية والضرورة، إن العلاقة بين الحرية والإرادة تتناقض أو تتزايد تبعاً للزاوية التي يتفحص منها الحادث أو الفعل ولكنهما تطلان متناظرتين عكساً، وفي جميع الأحوال فإن الحرية تزداد أو تنقص تبعاُ لزيادة أو نقصان مفهوم الضرورة المرتبط بوجهة نظر من يدقق في الحادث أو يتفحصه، وأول قاعدة للدراسة هي العلاقة بين الإنسان والعالم الذي يحيط به والتفهم الواضح لما يعايشه وكذلك العلاقة الآنية التي تشده إلى العالم. وهكذا يتزايد أو يتناقض تمثيلنا للحرية أو الضرورة تبعاً للرابطة التي تشدنا إلى العالم الخارجي. وعلى أية حال فإن الشروط الموضوعية لا تكفي وحدها لتقرر في الحرب، مثلاً، النصر أو الهزيمة إذ لابد من المجهود الذاتي، والمسرح الذي تجري فيه هذه الفعالية إنما يقوم على ما تسمح به الشروط الموضوعية وبذلك يتأكد الجدل الذاتي ـ الموضوعي للتاريخ، فالشروط القائمة تضع حدوداً للإمكانات وعمل الناس صنع التاريخ، كما أن هذه الظروف هي نتاج الممارسة. وقد نستطيع أن نتنبأ بمجيء الثورة أو الحرب ولكننا لا نستطيع دائماً أن نتنبأ بعاقبة الثورة أو الحرب فلقد تتوقف هذه العاقبة على درجة الوعي والإرادة لدى الناس وكذلك سجايا ومناقب وإرادة الشخصيات القيادية البارزة. وكل عمل يستدعي الإرادة ويستدعي الظروف المشخصة أو الموضوعية فتعبئة الشعب مثلاً تصبح من الشروط الموضوعية لأن الشعب هو القوة المحركة وهو صانع التاريخ العام، والجماهير، مع قادتها، هي التي تصنع التاريخ ولكن إذا كانت الشروط الموضوعية غير مهيئة تاريخياً أو أن الجماهير أو قادتها لم تسحن أو لم تتمكن من أن يكون لها وعي ثقافي مشترك فإن الحركة قد تجهض حتى ولو كانت معززة بشهادة تاريخية. الفرد البارز ومفهوم السلطة ولكن أنى للفرد أن يحدث كل هذا الأثر؟ وإذا تجاوزنا المرحلة الإنسانية التي كان فيها الحكام يستمدون عصمتهم من مفاهيم دينية وبالتالي يشعرون الرعية بأن أعمالهم مرضي عنها ومستوحاة من سلطة عليا مجد أن نفوذ الرجال البارزين مستمد من مفهوم السلطة أو الثورة كسلطة مشاققة حتى تستحيل بدورها إلى سلطة تمثلها الدولة. وإذا وضعنا المزايا الشخصية في حيزها الصحيح نجد أن السلطة مستمدة من طبيعة شكل الدولة أو العلاقات الاجتماعية بما فيها العلاقة بين الجماهير والرجل الذي تسلم مقاليد تصريف الأمور فالدولة هي قمة الهرم في البيئة الفوقية والقائد أو الملك أو الزعيم الذي يتسنم ذروتها أو ذروة الشكل الجديد للسلطة المشاققة يجسد ذاتياً وموضوعياً الشكل القائم أو المنشود من العلاقات وهي علاقات موضوعية وبناها بنى أساسية. إن وصول إنسان إلى السلطة يخضع لاعتبارات شتى تبعاً للمرحلة التاريخية أو المستوى الاجتماعي ـ الاقتصادي والحضاري. ولكن ما يعنينا، بالنسبة إلى الفرد البارز، هو مفهوم السلطة لديه والرؤية التي يسرت له أن يكون له دور في سياق الأحداث. والسلطة على صعيد المفهوم التجريبي لا تعدو كونها علاقة تبعية بين إرادة شخص أو أشخاص يفصحون عنها وتنفي هذه الإرادة من قبل أناس آخرين، وحتى تنفذ هذه الإرادة يقتضي الأمر أن يعبر هذا الشخص ا لبارز أو ذاك، بإرادته، عن أمر قابل للتنفيذ وأن يعرف مسبقاً ما هو ممكن وما هو مستحيل فضلاً عن مراعاته جزئيات وتفاصيل لا حصل لها. وبما أن الحادث، في حال نجاحه، يلغي ضمناً ما يعارضه اجتماعياً فمن الطبيعي أن تتوارى تلك الاحتمالات فلا يبقى أمامنا إلا الحادث والإرادة التي أفصحت عن نفسها بمباشرته وإتيانه. إن الشخص البارز يدخل نفسه في حلبة الحادث التاريخي يحكم ما له من سلطة فهو آمر ومشارك والعلاقة بين الآمر والمأمور هي ما تمكن تسميته بالسلطة المعبر عنها بالدولة بكل ما تحتمله هذه الكلمة من مضامين ومعان. والشخصية هذه عندما تؤخذ بمفردها تحمل في ذاتها بعض الاعتبارات التي تبدو أنها قادت فاعليتها الماضية وأنها تبرز فاعليتها الحاضرة وتقودها في مشاريعها المقبلة. الفرد البارز والديمقراطية يذهب بعض الباحثين إلى أنه إذا كان البطل يعرف أنه فرد صانع للأحداث يقرر من جديد مجرى التاريخ فإنه يترتب على ذلك أن يأخذ المجتمع الديمقراطي حذره منه بشكل دائم. ففي المجتمع الديمقراطي بالذات لا تستطيع الزعامة أن تنتحل لنفسها سلطة بطولية، ففي فترات محدودة قانوناً يجب على الحكومة أن تستمد إجازة بقائها من الموافقة التي يعطيها الشعب المحكوم عطاء حراً. وكما كان «التيرانوس» (المستبدون) في بلاد اليونان القديمة يحوزون سلطة الفرد بالبيعة لأنه صرفوا بلاء ما كما فعل أهل طيبة مع «أوديب» عندما ولوه عليهم كملك أو «تيرانوس». فكثيراً ما تتخلى الشعوب عن الديمقراطية بتركيز أشواقها وآمالها في شخص واحد تختاره أو يختار لهم ثم توافق عليه. ولكن، في غالب الأحيان، عندما تزول الديمقراطية فإن المنافع التي من أجلها ضحي بالديمقراطية تتدهور من حيث النوعية دون أن تصبح مضمونة أكثر من ذي قبل. وعليه فإن مفهوم الرجل البارز في ظل الديمقراطية يتحول قليلاً أو كثيراً عن معناه التاريخي فالأبطال في الدولة الديمقراطية يجب أن يكونوا رجال الرأي والتبصر الاجتماعي والإنجازات العلمية والطاقات الفنية والأدبية ذلك لأن هؤلاء الرجال هم الذين يصوغون مثل المواطنين الفكرية العليا وآراءهم الاجتماعية والذين لا يستطيعون أن يحققوا الثمرة المرجوة من الديمقراطية بدون المعرفة والإدراك الحي المتسارع والذوق الرفيع. ومن شأن الديمقراطية وواجبها أن تشجع الاعتقاد بأن الجميع مدعوون لجلائل الأعمال وأن كلهم قد يختارون لها ومن شأن ذلك زيادة الجهود الإضافية التي غالباً ما تحول الوعد إلى حقيقة منجزة. نظرة عامة إلى دور الفرد البارز من خلال الصيرورة والكلية والجدل إن عصرنا ينظر إلى الموضوع نظرة أكمل وأشمل مما عرفته عصور الإنسانية فيما غير من أيامها. إنه عصر الجماهير، عصر الوعي الطبقي، وعي الطبقة التي قدر لها موضوعياً أ، تلغي ما ينافيها لتنتقل إلى مجتمع لا طبقات فيه. عصر الفكر وقد تسلح بالجدل من خلال الصيرورة والكلية ليحل مشكلة التعارض بين الحرية والضرورة، بين الذاتي والموضوعي، بين الفعل الإرادي والفعل الحتمي، بين النظرية والممارسة.. فالمشكلة وإن حافظت على الأساس الذي قامت عليه يزداد وعيها وحلها غوصاً في الأعماق أعماق المجتمع والإنسان والفكر. وأي مجتمع، إذا أخذ ككل أو كبنى اجتماعية متمايزة متكاملة تقوم فيه علاقة محدودة بين الناس على مستوى معين من تطورهم التاريخي ويتم وعيها والوصول إلى تكوين مفهوم عنها. ولهذا السبب فإن حركة المجتمع الإنساني نفسها وفي الوقت نفسه كنتاج للقوى التي انبثقت عن علاقاتهم والتي نأت عن رقابتهم. وما من أمر يتم في عالم الإنسان خارجاً عن التاريخية والصيرورة أياً كان المنهج الفكري أو الإيديولوجي الذي يأخذ به الباحث. والإنسان جزء من الطبيعة ولكن موقفه منها ليس موقفاً تأملياً بل فاعلاً، إذ ليس هم الإنسان تفسير العالم وتأويله فحسب وإنما تبديله وتطويره أيضاً. والمعرفة ليست مجرد تأمل وانتماء وإنما هي رغبة وسلطة لتفسير العالم. وهذه الطبيعة التي يأخذ الإنسان موقعه كجزء منها يظل هل الاقتدار على تطويرها لأنها ليست واقعاً ساكناً سرمدي السكون، فالحركة تتخللها و الإنسان صانع مسهم بقدر كبير، في هذه الحركة وفي وعي التغيير الذي ينتاب الطبيعة. والسؤال الذي يطرح عن دور الإنسان لا يأخذ هنا إلا معنى واحداً، إذ يعني فقط ما يمكن أن يصير إليه الإنسان، وبعبارة أدق ما هو مبلغ الحدود التي يظل فيها الإنسان صانع نفسه. ولا يمكن أن تعرف فردية الإنسان إلا عن طريق مجموع العلاقات الفاعلة التي يقيمها كل إنسان مع أقرانه ومع الطبيعة. وكل فرد يشكل واقعاً محدثاً بمعنى أن الفرد، بالمكان الذي يشغله من الطبيعة والتاريخ والمجتمع، هو المحصلة الفريدة لمجموع هذه العلاقات، ومثل هذا المفهوم هو الذي يعترف للفرد بأوفر قد من التعقيد والثراء، إذ لا تكفي معرفة العلاقات الراهنة في نظام معين، بل تقتضي معرفتها من خلال عملية الخلق. وبذلك لا يمثل الفرد منظومة العلاقات القائمة آنياً فحسب وإنما يمثل. في الوقت نفسه. تاريخ هذه العلاقات التي أوجزت الماضي برمته. وهكذا لا يعود الفرد تجريداً أو مجرد فكرة عامة جوفاء وإنما حقيقة معقدة بوصفه المركز والعقد من العلاقات النشطة في صيرورتها الدائمة. والعلاقات بين الأفراد شأن العلاقات مع الطبيعة ليست علاقات آلية (ميكانيكية) وإنما هي علاقات فاعلة ومتحركة. إن الصيرورة التاريخية تلغي استقلال اللحظات والأوقات وسبيلها إلى ذلك أن تضع، أمام المعرفة، الكلية المشخصة للعالم التاريخي أي النشوء والارتقاء المشخصين الكليين نفسيهما كموضوع لمنهجية يمكن إدراكها، وفي الوقت نفسه فإن العلاقات بين النظرية والممارسة، ومعها العلاقة بين الحرية والضرورة، تأخذ وجهة أخرى فالواقع الذي صنعناه بأنفسنا يخلص عندئذ من أية صفة وهمية، بدرجة أو بأخرى، لقد صنعنا تاريخنا وإذا كنا أكفياء لاعتبار الواقع بمثابة التاريخ فعندئذ نكون قد ارتفعنا إلى صعيد يسمح بالتمكن من الواقع «كصنيع» أنفسنا. وحدة الذات والموضوع، الفكر والكائن، التي أخذ «الفكر» على عاتقه أمر البرهنة عليها وإظهارها يجد هذا الفكر مكان تحقيقه فيها ويجد جوهره في الوحدة بين ما يصنعه الفكر بقوانينه وبين تاريخ الصيرورة الواقعية. إن سيادة الحرية ليست هبة أو هدية تحظى بها الإنسانية الرازحة تحت نير الضرورة والتي تنالها جزاء ثباتها على الأحن أو ثباتها لها أو أنها أعطية من أعطيات القدر، الحرية ليست الهدف فحسب وإنما الوسيلة والسلاح في النضال وبذلك نلمس فيها الإنسانية، من خلال وعي الطبقة المدعوة لنسلم مركز الصدارة أن تأخذ في يدها وبوعي أعنة التاريخ. و تلغى، تبعاً لذلك، «ضرورة» الارتقاء الاقتصادي الموضوعي ولكنها تأخذ جدة الو ضع الأصلية والنوعية. إنها المرة الأولى التي تستطيع دوراً جديداً مختلفاً ووظيفة جديدة مختلفة. وعندما تكشف نواة الكائن كصيرورة اجتماعية يمكن عندئذ أن يبرز الكائن الذي ظل غير واع هذه الحقيقة، يمكن أن يبرز كنتاج للفاعلية الإنسانية كما يمكن لهذه الفعالية بدورها أن تبرز كعنصر حاسم في تطوير الكائن نفسه وتبديله وهكذا يصبح الإنسان ذات الصيرورة وموضوعها وبذلك لا يعود كافياً أن ينعطف الفكر نحو الواقع فحسب بل يصبح لزاماً على الواقع أن ينعطف نحو الفكر. والكلية التي نعتمدها في سياق هذا البحث ليس معناها الكائن في صيرورة تمام العالم وإنما كلية النشوء والارتقاء التي تجري عبر التجربة الاجتماعية والتاريخية كما تتكون وتكشف عن نفسها بالممارسة الاجتماعية ومن خلالها وبصراع الطبقات ومن خلاله، إنها جماع الأحداث المعروفة كلها التي ترد في التحليل الأخير إلى كونها نتاج البشر وتسمى الكلية. وللتاريخ تركيب باطن يرجع إلى تحول الواقع البسيط للظواهر الجزئية ولكل ما يمضي دون توقف وهو لا يصير تاريخاً إلا باتحاد الكلي مع الفردي بحث يتخذ، في ضوئه وكل صفاته، أهمية لا يمكن الاستغناء عنها ويصير كلياً على نحو ما، أي عبوراً يتحقق في الوجود. إن اعتبار الظاهرات الاجتماعية من وجهة نظر فردية لا يمكن أن يقود إلى الكلية وأقصى ما يمكن بلوغه هو إدراك هذا المظهر أو ذاك في مجال جزئي أو إدراك أجزاء متفرقة على شكل «أحداث» لا رابطة بينها وإلى قوانين جزئية مجردة. إن الكلية لا يمكن إبرازها أو عرضها إلا إذا كانت الذات التي تعرضها كلية أيضاً وحتى وتعي الذات نفسها ينبغي لها أن تعي الموضوع ككلية. هذا وأن النظرة إلى الكلية كذات لا يمكن أن تستقيم إلا للطبقات التي تمثلها في المجتمعات المعاصرة. وقد صحح ماركس آراء هيجل التي ظلت تحوم بين وجهتي نظر: «الرجل العظيم» و«الفكرة المجردة» عن الشعب. وتدرك الكلية من خلال الجدل ولا يمكن أن تدرك بدونه ومنذ اللحظة التي تنكر فيها الكلية، بداية ونهاية، شرط المنهج الجدلي ومقتضاه. منذ تلك اللحظة لا يفهم التطور أو الثورة كلحظة ارتقاء ولكن كعمل منعزل عن التطور الكامل، ويصبح صنع «النخبة» أو «القلة». *** ولا يمكننا أن نفهم دور الفرد البارز إلا من خلال الصيرورة والكلية والجدل إذا أردنا أن يظل واقعه ودنياه واقع البشر ودنياهم. إن دور الفرد البارز وتمكنه من صنع الأحداث لا يتم في فراغ أو عزلة وإنما يتم من خلال الواقع التاريخي في تداخل جدلي متصل بالظروف الموضوعية وبالناس الذين يصنعون التاريخ. والفرد البارز من خلال هذه الجدلية ليس مشاهداً حيادياً وليس مشاركاً ومخمراً وفاعلاً من خلال الكلية وبها فحسب، مادام صعوده وارتقاؤه وتطور معرفته، خلل التاريخ ليست سوى وجه من وجوه التطور والارتقاء الواقعيين. إن رجل الفعل البارز هو الشخص الذي امتلك علم الممكن التاريخي وهو بوعيه هذا وسلطته وتمثيله للطبقة أو مجموع الشعب يبدل الوسط أي جماع العلاقات التي يشكل كل فرد جزءاً منها ويشغل فيها حيزه الثابت المتخير. وصورة الفرد البارز من خلال الواقع الجدلي، أي من خلال التداخل بين دور الفرد أو الأفراد، ومن خلال القوى التي انبثقت عن علاقات الناس وخرجت عن رقابتهم، تجعلنا ننظر إلى هذا الفرد البارز بوصفه يشكل جزءاً من كل وهو يؤثر في هذا الكل بمقدار ما يستوعب تأثير الضرورة، في الصيرورة والكلية، ويتكيف بمقتضاه. فدور الفرد من هذه الكلية يظل أبداً سلبياً وإيجابياً في آن واحد بالنسبة على الكل وحركته هدامة ومحافظة معاً بالنسبة على الكل بحيث أنه على علاقة بكل جزء من أجزاء هذه الكلية الاجتماعية. وهو في ظاهر أثره التاريخي نفي لهذا الكل واحتواء له بشكل جديد. وفي هذه العلاقة يعاد بناء الكل بالشكل الذي طبع الأحداث وأصبغ على الفرد دوره وأهميته. والجبرية والقدرية (الإرادية) لا تتعارضان إلا في مفهوم غير جدلي وغير تاريخي. فتبعاً للمفهوم الجدلي في التاريخ فإنهما قطبان يتحدان برابطة من التكامل المتبادل للانعكاسات في الفكر الذي يعبر عن نفسه بوضوح من خلالها. وكل عمل أو فعل هو بذاته ولذاته مزيج وتداخل من أعمال خاصة أو فردية للرجال أو الجماعات ولظروف موضوعية. ومن الخطأ أن ندرك هذا العمل أو الفعل ونتملاه كصيرورة تاريخية واجتماعية «ضرورية» معللة بصورة كافية تماماً أو أنه نتيجة النماذج أو التواصل المختلط لا يكسب معنى وواقعاً إلا إذا أخذ من خلال الكلية التاريخية أي عن طريق وظيفته في سياق النشوء والارتقاء التاريخيين وعن طريق دوره الوسيط بين الماضي والمستقبل، فهو يتناول الضرورة الجوهرية التي من خلالها يتم اللقاء بين النظرية والممارسة وبين الفردي والعام، بني الإيديولوجية السائدة ونقيضها وبذلك يتاح لنفعل الذي يمارسه الفرد البارز أي يعدل، بجانب تعديله في الأحداث. الشخصية المنطوية على هذه العلاقات. وهذه الضرورة أو أية ضرورة يستخلصها الفكر أو يتخيلها لا تعيق سعي الرجل البارز ولا تؤدد قصده ولا تغص من دوره لأنه لولا هذه الضرورة، وهي نظام عالم للحياة والكون وقانون للعقل ما أمكن أن يكون له حيزه أو مكانه، الطبقات الاجتماعية التي تتعاون معها وتستجيب لدوافعها. إن الفعل التاريخي إنما يصدر عن الإرادة البشرية ولكن هذه الإرادة لا ترتبط بالخيار الحر المجرد لأن هذا الفعل ليس ابتداعاً من الفكر الإنساني. وعندما تستقر في الوعي ضرورة عمل ما يصبح هذا الوعي هو الشرط المسبق والضروري للخطوات التالية: «إن العالم يملك منذ عهد بعيد الحلم بشيء يكفيه وعيه حتى يمتلكه في الواقع». ومثل هذه العلاقة فقط بين الواقع هي التي تجعل ممكناً قيام الوحدة بين النظرية والممارسة، بين الفرد وأثره في صنع الأحداث. وعندما ينطوي هذا الوعي على الخطوة الحاسمة التي يقتضيها سياق التطور التاريخي حتى يبلغ غايته، أي عندما يقوم دور النظرية على أن يجعل ممكناً عملية هذه الخطوة، عندها ينبثق وضع تاريخي تصبح فيه المعرفة الصحيحة للمجتمع، بالنسبة لطبقة ما ولقادتها، الشرط المباشر لتأكيد ذاتها في النضال والعمل. وعندما تصبح معرفة الذات، بالنسبة لطبقة ما ولقادتها، معرفة صحيحة للمجتمع كله، وعندما تغدو هذه الطبقة وقادتها، بواسطة هذه المعرفة، ذات المعرفة وموضوعها، تقوم النظرية عندها على امتلاك مباشر وملائم لتطور الثورة الاجتماعية، وعندها تصبح ممكنة الوحدة بين النظر والعمل والانتقال من واقع إلى آخر ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى وهنا يبرز في اللحظات الحاسمة دور الرجال البارزين. *** إن مفهوم «الضرورة» المجرد يؤول إلى الجبرية والجبرية الاجتماعية تفترض وقوع الأحداث حتماً وإلزاماً والمستحيل يصبح شيئاً لم «يئن أوانه». وقد تحدث لينين بحق بأنه لا يوجد موقف يكون بذاته وفي ذاته لا مآل له ولا مخرج منه. واستشهد، لتوضيح فكرته هذه، بالبرجوازية منوهاً بأن البرجوازية، في أي موقع أو حال تكونه، تتوافر لديها إمكانات لإيجاد الحلول، وقد تكون هذه الحلول اقتصادية بحتة. ولكن الأمر لا يقف عند إيجاد الحلول نظرياً بل يقتضي أن توضع في مكانها من خلال الصيرورة والكلية فإذا، خرجت هذه الحلول من عالم الاقتصاد النظري ووصلت إلى الواقع، واقع النضال الطبقي، يظهر عندئذ ما إذا كانت هذه الحلول قادرة على أن تتحقق وتفرض نفسها. وكل طبقة إذا ظلت بمفردها وبذاتها يمكنها أن توجد الحلول ولكن هذه الحلول تتعثر عندما تكون أمامها طبقة أخرى نشأت منها وتحاول أن تكون نقيضها والنفي التاريخي لها، لهذا فالحكم على هذه الحلول لا يمكن أن يستقيم النظر فيه إلا من خلال الكلية. وموقف الفرد البارز، في تمثيله أفكار عصره النامية وآمال ورغائب الطبقة التي ينتمي إليها لا يخرج على هذا المعنى. ومن خلال هذا التوليف يمكن تقدير دوره وتقييم هذا الدور وتحليل ما قام به وما أخطأه وما وافق فيه الصيرورة أو عاندها فيه، وأية قيم كان عليها وما هي حدود مسؤوليته في حال التقصير. إن مفهوماً مجرداً عن الصيرورة، كضرورة، يؤول أيضاً إلى الجبرية كما أن مجرد الافتراض بأن بعض «الأخطاء» أو «مهارة» بعض الأفراد هي الأصل الوحيد للإخفاق أو النجاح، أمر لا يمكن أن يقدم تحليلاً كاملاً وبالتالي لا يمكن استخلاص العبر منه للمستقبل، لأن ذلك يبدو، بقدر ما، «مصادفة» والمصادفات هي عوامل من الدرجة الثانية، كما لو أن فلاناً أو فلاناً وجد تماماً في هذا المكان أ, ذاك فارتكب هذا الخطأ أو ذاك أو قام بهذه المآثر أو تلك. إن الإصرار على الأخطاء وحدها لا يمكن أن يفضي إلى غاية أكثر من التثبت من أن الشخص المعني لم يكن على مستوى الدور المنوط به، وإلى شكل من الفهم للأمور، إذا كان صحيحاًن فل قيمته، ولكنه يظل ثانوياً بالنسبة لتحليل الواقع وتفحص سلاسل الأسباب المعقدة وتصور الوعي والفعل الخارجي في نقاط التقاطع.. الخ. كما أن الأهمية المبالغ فيها التي تنسب إلى الدور الذي قام به بعض الأفراد تدل على العجز عن «موضعة» دور هؤلاء الأفراد وكفاءاتهم لدى قيامهم بأعمالهم بشكل حاسم.ويدل هذا العجز أيضاً على أن الحكم عليهم يقبل، بقدر مماثل، من الجبرية ما يوازي أو يساوي الجبرية الموضوعية التي تحتوي الصيرورة كضرورة. وإذا تجاوزنا وضع المسألة بالشكل المبسط وأحياناً المشوه لحقيقة الواقع المعقد وإذا رأينا في العمل الناضج الصحيح الذي قام به هؤلاء الأفراد أو التقصير الذي بدر منهم، سبباً يسهم في المجموع فنكون بذلك قد مضينا شوطاً أبعد من تأمل المبرر وتقديره والإمكانات الذاتية لأعمالهم والتي بمقتضاها استطاعوا احتلال المناصب التي كانوا فيها. إلى دراسة الإمكانات الموضوعية التي كانت بحوزتهم أو قيد تصرفهم، وعندئذ ينتقل الموضوع إلى صعيد أعمق، صعيد التنظيم السياسي والوعي العام ووعي الطبقة أو الطليعة وتصادم الأحداث الداخلية والخارجية... وبالتالي سلسلة العوامل التي يسرت وقوع الحادث التاريخي أو حالت دونه... وعندها يكون التقييم لدور الأفراد أقرب إلى الموضوعية لأنه أخذ من خلال الكلية والصيرورة ودرجة الوعي، وهو حكم يجتنب الكثير من عثار الفكر أو الهوى ويجعل مواصلة الجهد لبلوغ أبعد الآمال أو تدارك الفرص الضائعة أمراً ممكناً. نظرة عامة إلى دور الفرد البارز من خلال واقعنا العربي الحديث وتظل لهذا الموضوع أهميته وآنيته كوجه من وجوه الحياة العامة حياة كل شعب فيما تولاه رجاله البارزون فأصابوا فيه أو أخطأوا. ولا يزال تاريخنا الماضي بحاجة لأن تعاد كتابته من وجهة نظر أبناء هذه العصر ويضارعه في الأهمية تاريخنا المعاصر والدور الذي لعبه فيه الرجال البارزون وتقييم ما قاموا به لأن هذا الماضي القريب ألصق بحاضرنا أو أقرب إلى العظة والعبرة والتأمل بغية مواصلة المسيرة. ولا ريب في أن معالجة هذه المشكلة، في تاريخنا المعاصر، أمر يشجر حوله الخلاف ويستحر النقاش لتفرق الآراء والأهواء، ولكن لا ينبغي لذلك أن يصد الباحث عن حقيقة التاريخ القريب وأثره في حياتنا الراهنة ولاسيما وأن ظاهرة خطيرة تستوقف النظر بدأت تلف عالم الفكر لدينا لأسباب لا مجال هنا لاستقصائها ألا وهي إغفال دور هؤلاء الرجال والتقليل من شأنهم أو الانتقاص من قدرهم أو تجاهلهم والتعفية على آثارهم دون تحليل أو تدقيق وإنما بحكم كيفي فردي المنزع مصلحي الغرض يخرج هؤلاء الأفراد من حيز الاهتمام والتقدير والتقييم وحتى من التاريخ. وإن ما حاق بمعظم هؤلاء الرجال ليس سبباً كافياً لهذا التجاهل أو الانتقاص. لهذا لا بد من إعادة النظر فيما أتوه وتمحيص ما تم تجاهله أو الغض منه. وإذا كانت ثمة كلمة عامة تقال، إنصافاً للكثيرين من هؤلاء الرجال فهي أن الأحلام التي حملوها أو حملت لهم لم يكن بالكافي وعيها حتى تتحقق بالفعل لأن للفعل طريقه في وعي الطبقة كذات وموضع للصيرورة، وهو أمر التبس واقعاً وانعكس في الفكر أشكالاً فكان منه التردد وما يخلفه من وعي طبع بطابعه النفوس فلم تخرج عن حيز المراوحة، وكان منه العجز وما أعقبه. لقد وقر في أذهان معظم هؤلاء الرجال العجز المسبق عن التأثير في الأحداث بل صنعها إضافة لما كانوا يمثلونه من وعي مضطرب أو غائم أو متخلف فوقعوا ضحية مؤثرين: قصورهم الذاتي وقصور الوعي العام واضطرابه وتشوهه وذلك لأن بقة جديدة ما لم تعلن في عالمنا عن سر وجودها الكامل لتشكل بوجودها الواقعي ووعيها الانحلال الفعلي للنظام أو الأنظمة التي سبقتها، وبالتالي لم تستقم لها نظرية هادية تكشف عن حقيقتها ومراميها. ولم يرتبط هؤلاء الرجال بالتحول أو الثورة أو بالرغبة في أحدهما إلا بروابط واهية غير مفهومة لم تكن في جوهرها إلا التعبير الواقعي عن الفكر المشوش المضطرب لمعنى الصيرورة مأخوذة بشكل ذرائعي لاعقلاني حاول من خلاله هؤلاء الرجال التوفيق بين المتناقضات من خلال حلول أو ردود فعل تعمل وكأنها مجموعة من المصادفات. لقد مر هؤلاء الرجال كالطيف أو الكابوس، في خيال جيل يتلو جيلاً لا يشعر بالاستمرارية قد شعوره بالانقطاع والانفصام. وككل الأحلام التي لم تتحقق أو الأحلام المزعجة أو أحلام جحا التي نصفها صدق ونصفها كذب، ينأى الإنسان عن استعادتها أو الإشارة إليها في حين أن الحاجة الزمنية تملي بشأنها غير ما يمليه الإحساس المباشرة، ولا بد من استعادتها وتحليلها لأنها مرحلة من حياة الأمة وإن تكن لها نواقصها ومنغصاتها، وهي تمثل مرحلة من مراحل تطور الوعي العام الذي يحتاج، بدوره إلى التحليل والتقييم حتى يستقيم أمره على شكل أصح وأدق وأصفى، ولأن الحاضر لا يلغي الماضي فالماضي بعد من أبعاده وإنما يتجاوزه جدلياً بإسقاط مراث منه واستبقاء ما يعين على مواصلة الطريق. ينبغي لصورة أولئك الرجال أن تظل قيد التأمل والتمحيص فأية ظروف موضوعية أطلعتهم وأية إمكانات كانت لديهم وأية أخطاء ارتكبوها حالت دون نجاحهم، وهل كانت تلك الأخطاء الجسامة بحيث بدلت من سياق الأحداث وكيف تم ذلك، ولم انعدمت القدرة على عدم تمكينهم من ارتكابها، وفي الحال المقابلة لماذا قعدت بهم همتهم عن بلوغ ما كانوا يرجونه مع استجماعهم الرغبة والطموح والرؤية الصحيحة وما هو مكان الحادث العارض أو الطارئ أو الأحداث الخارجية أو المصادفة في تبديل بعض السمات الأساسية أو الجزئية لما كان يؤمل لسياق الأحداث. وتبعاً لذلك فلا مناص من التعرف على جميع الظواهر الإيجابية والسلبية وربطها ربطاً جدلياً بالسياق التاريخي في ملابساته المعقدة وإبراز العلاقة الجدلية بين أثر الفرد وأثر الظروف الموضوعية لوضع الأحداث موضعها من الكلية والصيرورة التاريخية. إن ظاهرة تحميل هؤلاء الأفراد المسؤولية كلها ومن ثم استبعادهم من منال الفكر والتقدير وتناسي ما كان لهم من دور أو أثر أمر ينم على ظاهرة سلبية أو مرضية تشبه فقدان الذاكرة، والطب النفسي يعطينا صورة عن الاختلال الذي يعتري المصابين بذلك، وليس الأثر بأمل ضرراً في حياة الأمم والشعوب. وفضلاً عن ذلك فهذه الظاهرة تخفي وراءها داء أمضى وأدهى إذ تنطوي على النظرة إلى هؤلاء الأفراد بمعزل عن التنظيم السياسي الذي كانوا يتولونه أو الجماعات التي كانت تظاهرهم أو كانوا يمثلونها. وقد أعطت الحياة أكثر من دليل، بلغ حد اليقين، على أن تلك البنيات التي قاموا عليها كانت تحمل بذور الوعي القاصر نفسه والعجز والتردد نفسيهما وكانت تحمل بذور الخطأ الذي ارتكبه هؤلاء القادة. وزوال هؤلاء القادة عن مسرح الأحداث، بسبب أو بآخر، لم يبدل من الأمور شيئاً ولم يقِ من الوقوع في أخطاء مماثلة أو احتمال الوقوع فيها، رغماً أن بعضهم كان يتمتع بشعبية غامرة وبتأييد جماهيري كبير. وهذه الظاهرة تدعو لتأمل درجة الوعي التي بلغتها تلك الهيئات السياسية الوسيطة وحتى الجماهير نفسها وهو موضوع كبير ولكنه يظل جديراً بالدراسة وحاجة ملحة يقتضيها الحاضر كما يقتضيها التطلع إلى المستقبل. إن ربط الخيبات أو النكسات أو المصائب بأفراد معينين يقصد منه أحياناً إخفاء مسؤولية الآخرين، على مختلف المستويات، الذين كانوا يشاركون في تلك القرارات السياسية والاجتماعية أو يدفعون إليها أو يوحون بها أو يؤيدونها. إن المشاركة في الخطأ، بداية أو تقبلاً، ومحاولة التملص من الاعتراف به يشكل وجهاً من وجوه الوهن المعنوي الذاتي وعدم الرغبة في ممارسة النقد الذاتي وبالتالي انعدام الرغبة في تصحيح الخطأ وسد الثغرة التي ينفذ منها مع الرضا بالواقع الآسن الراكد. كما ينوي، علاوة على ذلك، على عملية تمويه أو تضليل عن طريق الإيحاء بأن الحال قد تبدلت أو ستتبدل باستبدال فلان بفلان، أي بزوال «السبب» أو «الأسباب» الداعية لها والتي تتلبس، عادة، شخصاً بعينه أو عدة أشخاص ومن ثم تعطى البراءة للجميع. وهذا الشعور«المريح» أو الضمير «المطمئن» يعفي من محاسبة النفس جميع الذين أسهموا مع «الضحية» في الحياة السياسية من منظمات وهيئات وحتى من جماهير، وبذلك تفتقد العلاقة الجدلية، التي ألمعنا إليها، بين الدور الذي يلعبه الرجال البارزون وبين الواقع وشرائطه ودرجة الوعي لدى المنظمات والهيئات السياسية والجماهير المؤيدة لها. وبالمقابل فثمة سمة عامة تكاد تكون مشتركة بين معظم هؤلاء الرجال البارزين، ولعلها تعود إلى الإيديولوجية الغامرة التي لفت حياتنا حقباً طويلة وعاشت في الضمير أو اللاوعي، والتي تحمل، عند قصور الوعي أو الفعل، هدهدة بالأمل أو الحلم غير المفضي إلى العمل وتأتي تعبيراً عن القصور الذاتي والكوابح والمثبطات الخارجية. وهذه السمة تكتنف المفهوم الذي وقر في النفوس عن رجل الدولة، بما في ذلك نفوس أولئك الرجال البارزين، إن رجل الدولة البارز هو من يتناول الواقع بالتبديل ويمارس فاعليته فيه وهدفه الأول بناء الممكن، ويشعر بأنه مسؤول عن الحسن والسيء، أما من يعتبر نفسه صاحب رسالة علوية يرو، من خلالها، اقتسار الواقع ومحاولة «خلقه» توهماً، فهو يؤمن بالكلية الغيبية وبإمكان بلوغ الإنسان غاية الكمال المثالي دون جهد أو بغائية حتمية لا يمكن في الواقع أن تعيش إذا لم يساعدها على التحقق جهد الناس وسعيهم. الأول يهتم بالأفكار لنفعها والثاني «لحقيقتها» المثالية. وبين الكمال المثالي الذي يتجاوز الواقع تصعيداً وتعالياً وبين مواجهة الواقع واستخلاص الوقائع أو الحقائق القابلة للتحقيق في حياة الناس بون شاسع، ومن شأن الغلو في تعظيم الدور الذي ألقاه «القدر» على عواتقهم ومن شأن استشرائه أن ملك نفوس هؤلاء الرجال البارزين ما يشبه الهوس التنبؤي فطلعوا على الناس بحلة أسطورية كأنها أفلتت من غيابه العصور أو أنها جواب التساؤل الحائر العاجز الكامن في اللاوعي. أما الحلة الواقعية الموضعية فلم يكن متاحاً لها أن تتحقق ويستقيم أمرها ما لم يكن هناك سياق تطوري أو ثوري يمكن تلمسه والاهتداء به. ولقد كان هذا السياق مغيباً أو مطموساً أو جنينياً وفي أحسن الأحوال لم يؤخذ سوى شكل بدوات بدائية. وتبعاًَ لذلك لم تنطبق على أولئك الرجال صفة رجل الفكر العظيم، وهو الذي يهيء أذهان الناس للتغيرات الاجتماعية الثورية التي هي في طريقها إليهم أو رجل الفعل العظيم الذي ينظم النضال بين الطبقات أو الفئات الاجتماعية الموعودة بالمستقبل لتنهض وتربح قضيتها بواسطة الثورة أو أية وسيلة ملائمة أخرى. وقبالة هذه السمة المشتركة ثمة ظاهرة أخرى تستدعي الاهتمام وهي تتعلق بكيفية استخدام الذكاء أو الإرادة، من قبل هؤلاء الرجال، في مواجهة الضرورات الداخلية والخارجية الذاتية منها والموضوعية. إن انتصار الذكاء والإرادة ليس من شأنهما إطلاقاً انتهاك حرمة الضرورات الطبيعية والاجتماعية وليس من شأنها تجاوز ما تقتضيه مواجهتها. وانتصار الذكاء والإرادة يوفر مجهودهما الخاص لقيام بعض الأوضاع التي يستند إليها التحول، تحول ما هو «ممكن أن يكون» إلى ما هو «كائن». وهذا ما نعنيه عندما نقول بشكل رجعي المفعول بأن المستحيل قد تحقق. ولعل من أشد فواجع تاريخنا المعاصر إيلاماً هي الفواجع التي كان يرافقها، بجانب «الأحلام السعيدة»، الصراخ بكلمة «مستحيل» فكأن هناك جبلاً لا مزحزح له، وبسبب من قصر النظر أو الوعي البائس كانت يحشد لها من الطاقات والموارد ما يكفي للانتصار ولكن ذلك لم يكن يتم إلا بعد فوات الأوان. وإذا كان هناك من أمر خلقي يصح في جميع الفترات التاريخية فإن هذا الأمر هو الوعي والفعل في اللحظة الحاسمة أو الملائمة حتى لا تصبح من الفرص المضاعة وما أكثرها في حياتنا. إن فرص الاختيار محدودة واضحة وكل قرار باختيار ينطوي على تشييد جديد لبناء الذات (الكيان الإنساني) والمجتمع والعالم. وإن كل تجربة رشيدة إنما هي تجربة ترشدنا فيها قوانين معروفة قبلاً وتهدف هذه التجربة إلى تحقيق السيطرة والسيادة على المشاكل الملحة. وهذا هو الفعل التاريخي الذي يمكن أن ينظر، من خلاله، إلى دور الأفراد البارزين. المقدمة بقلم إحسان سركيس مصادر (المقدمة) البحث الرئيسية: 1 ـ التاريخ ووعي الطبقة ....... جورج لوكش 2 ـ دور الفرد في التاريخ.......... ج.بليخانوف 3 ـ البطل في التاريخ.......... سيدني هوك 4 ـ مجلة عالم الفكر الكويتية المجلد الخامس العدد الأول 1974. لمحة عن حياة المؤلف ولد «جيورجي فالنتينوفتش بليخانوف» عام 1856 وتوفي عام 1918. ويصح اعتباره واحداً من مؤسسي الماركسية الروس ووجهاً من أبرز الوجوه البعيدة الأثر في الأممية الثانية. وكان لا يزال طالباً ناشئاً عندما انضم إلى الحركة الثورية لجماعة «الناردونيك» أي «الشعبيين» ولكنه بت في حبل صلته بأفكارهم وأسس عام 1883، وهو في المهجر، مع «اكسلرود» و«فيرازاسوليتش» أو منظمة اشتراكية ديمقراطية في روسيا وهي «جماعة تحرير العمل»، ولم يكن بليخانوف شارحاً ممتازاً للماركسية فحسب بل كان تلميذاً موهوباً لماركس ولأنجلز. أتم وزاد في عمق نظريتهما و نافح عنها بطريقة بارعة أصيلة. وعندما شرعت، حوالي عام 1890، النزعة الموصوفة «بالتحريفية» بقيادة «بيرنشتين» في الانتشار وأصبح لزاماً أن يذاد عن أسس الماركسية ضد جميع المقرزمين الذين يدعون «تكميل» الماركسية، كان بليخانوف واحداً من ألمع المتصدين لهذا الاتجاه واضعاً نفسه في خدمة المادية الديالكتيكية. وفي غمرة النضال ضد الانتهازية الأممية وضد أشكالها الروسية كالنزعة «الاقتصادية» و«الستروفية» كان بليخانوف في الصف الأول، وكان واحداً من القلائل البارزين في الحركة الاشتراكية الأممية الذين توفروا بانتظام على الاهتمام بالفلسفة الماركسية. ولم يكن عبثاً أن يوصي لينين بدراسة كتبه الفلسفية بوصفها «كتباً مبدئية لفهم الشيوعية». وحتى المؤتمر الثاني للحزب الاشتراكي الديمقراطي وفي المؤتمر نفسه عمل بليخانوف يداً بيد مع لينين، هذا القائد المنبثق عن الجيل الماركسي الفتي وساهم كلاهما، في بداية هذا القرن، في تحرير الصحيفة الاشتراكية ـ الديمقراطية «الايسكرا» (الشرارة) و«زاريا» (الفجر) التي جعلت أولى مهامها مكافحة اتجاه «الاقتصاديين» وخلق حزب ثوري متماسك موحد. وبعد الانشقاق الذي دب في هذا المؤتمر ـ والذي شهد ميلاد المنشفيك ـ انضم بليخانوف، بعدد تردد كبير، إلى جماعة المنشفيك. واعتباراً من هذا التاريخ اختلف طريق لينين عن طريق بليخانوف. وفي الأعوام الممتدة بين 1908 و1912 تقرب بليخانوف، أحياناً، من البلاشفة وقاد النضال مع لينين ضد النزعة «التجريبية» وجماعة «المصفين». وفي أثناء الحرب الاستعمارية الأولى أعلن بليخانوف، خلافاً لموقف لينين تأييده لفكرة «الدفاع الوطني» هذا الموقف الذي حافظ عليه حتى بعد ثورة شباط 1917. وظل حتى تاريخ وفاته خصماً للنظام السوفييتي ولكنه رفض أثر ثروة أكتوبر أن يتدخل بصورة مكشوفة ضد البلاشفة والنظام السوفييتي. وقد ترك بليخانوف مؤلفات عديدة والكتاب الذي نقدمه للقارئ العربي هو واحد من هذه المؤلفات التي لا تزال تحافظ على تمام جدتها وأصالتها. دور الفرد في التاريخ بليخانوف ـ 1 ـ قرابة عام 1878 كتب الراحل كابليتز[1] مقالاً عنوانه «الذكاء والعاطفة بوصفهما عاملين من عوامل التقدم» استهدف فيه، بالرجوع إلى سبنسر، إقامة الدليل على أن العاطفة تلعب، في تقدم الإنسانية، دوراً رئيسياً بينما لا يعدو دور الذكاء أن يكون ثانوياً وتابعاً لهما تماماً. ورد عليه «باحث اجتماعي مرموق[2]» وتلقى بدهشة هازئة هذه النظرية التي تطوح بالذكاء إلى «مقعد الفارس في السباق».ومع ذلك فقد كان على حق في دفاعه عن الذكاء ولكان أحسن صنعاً لو أنه، عوضاً عن الغوص في هذه المسألة التي أثارها كابليتز، أبان أن أطرحها بهذا الشكل ليس مقبولاً ولا ممكناً. والحقيقة أن نظرية «العوامل» لا سند لها، في حد ذاتها، لأنها تفصل، بطريقة كيفية، مختلف أشكال الحياة الاجتماعية، بعضها عن بعض، وتقننها على شكل قوى خاصة تشد، من جهات مختلفة وبدرجات متفاوتة من النجاح، الإنسان الاجتماعي إلى طريق التقدم. وهذه النظرية، بالشكل الذي أوردها به كابليتز تفتقر أكثر إلى الأساس لأنها تحول إلى أقاليم اجتماعية خاصة، لا هذا المظهر أو ذاك من مظاهر فاعلية الإنسان الاجتماعي وإنما مختلف نواحي الوعي الاجتماعي. وتلكم هي، في الحقيقة، الغاية في التجريد، ويكفي أن نتجاوزها حتى نلج عندئذ عالم المجرد الصارح الهازل. وكان حقاً على هذا «الباحث الاجتماعي المرموق»أن يسترعي انتباه كابليتز وقراءه إلى ذلك. ولو أنه أبان في أي تيه من التجريد ضل كابليتز في سعيه لإيجاد «عامل» يسير التاريخ لكان أسهم في نقد نظرية «العوامل» نفسها، وهو أمر يبدو لنا حالياً على جانب كبير من الفائدة. ولكنه لم يكن ليرقى إلى هذه المهمة لأنه، نفسه، يقر هذه النظرية ولا يمتاز عن كابليتز إلا بانعطافه نحو الانتقائية التي تبدو، بموجبها، جميع العوامل على مستوى واحد من الأهمية. ولا تلبث انتقائيته هذه أن تتجلى بوضوح تام في هجومه على المادية الديالكتيكية، هذه النظرية التي تضحي، على حد قوله، بجميع العوامل في سبيل العامل الاقتصادي محيلة دور الفرد في التاريخ إلى العدم. ولم يدو بخلد هذا «البحث الاجتماعي المرموق» أن المادية الديالكتيكية غريبة في نظرية العوامل هذه وأن من قصور التفكير المنطقي أن يذهب الاعتقاد بالمرء إلى حد اعتبارها بمثابة اليقينية. ولنلاحظ أن خطله هذا ليس نسيج وحده بل قام به الكثيرون ومازالوا يقومون به وسيقومون به حتماً حتى زمن طويل.. لقد اتهم الماديون بـ«اليقينية» في زمن لم يكن قد قام لديهم بعد مفهوم ديالكتيكي عن الطبيعة والتاريخ.ولنكتف، دونما حاجة إلى استرجاع الزمن السحيق، بالإشارة إلى النقاش الذي شارك فيه برايس[3] العالم الانجليزي المعروف بريستلي[4]. لقد ظن باريس، في معرض تحليله نظرية بريستلي، أنه وفق إلى البرهان على أن المادية لا تأتلف مع فكرة الحرية وأنها تنفي كل فاعلية فردية مستقلة. وقد أجاب بريستلي، مستشهداً بالتجربة العملية بقوله: «حتى لا أتكلم عن نفسي فبودي الإشارة إلى أنني لست أكثر الحيوانات تراخياً وكسلاً، ولكن أين توجد قوة في التفكير وقدرة لا تغالب وصلابة لا تلين ولا تكل في متابعة الأهداف الهامة إن لم تكن عند المؤمنين بالضرورة». ويعني بريستلي بكلامه هذا الفئة الدينية الديمقراطية المدعوة «بالمسيحيين الجبريين»[5]. ولا ندري ما إذا كانت هذه الشيعية نشطة حقاً كما يعتقد بريستلي أحد أتباعها، ولكن ذلك على جانب قليل من الأهمية. من المؤكد أن مفهوماً مادياً عن الإرادة ينسجم تماماً مع أكثر الفاعليات العملية نشاطاً. وقد لاحظ لانسون أن: «جميع التعاليم التي اقتضت المزيد من الإرادة البشرية افترضت، مبدئياًن عدم أهلية هذه الإرادة فاستبعدت بذلك الاختيار الحر وألقت بالعالم في أحضان الجبرية.»[6] ويخطئ لانسون إذ يعتقد بان كل استبعاد لما تواضع الناس على تسميته بحرية الاختيار يؤول بالضرورة إلى الجبرية. ولكن هذا الخطأ لم يمنعه من التنويه بظاهرة تاريخية لها أهميتها القصوى: إذ يظهر لنا التاريخ أن الجبرية نفسها أبعد من أن تصبح، في بعض الحالات، عائقاً في طريق العالية العملية ولعلها تحولت، فلي بعض الأحيان، إلى نقيض ذلك، إذا أصبحت الأساس النفسي الضروري للعمل. ويكفي أن نستشهد بجماعة المتقشفين الذين تجاوزوا، من حيث الشدة والقدرة، جميع أحزاب انجلترا في القرن السابع عشر، كما أن المسلمين الأوائل أخضعوا لسلطانهم، في فترة قصيرة من الزمن، مساحات شاسعة تمتد من الهند إلى إسبانيا., وأشد ما يخطئ أولئك الذين يعتقدون بأنه يكفي الاقتناع بأن حادثاً لامناص من وقوعه حتى تضمحل لدينا كل مكنة نفسية للمساهمة فيه أو مقاومته[7]. هل يكون عملي حلقة ضرورة في سلسلة الحوادث الضرورية التي لا بد من وقوعها؟ إن المسألة كلها تكمن في هذا السؤال، فإذا أجبت بنعم فإن ترددي سيكون أقل وعملي أكثر إصراراً. وليس في هذا الأمر شيء من الغرابة فعندما نقول إن فرداً ما يعتبر عمله حلقة ضرورية في سلسلة الأحداث الضرورية، التي لا بد من وقوعها، فإننا نقصد، بخاصة، إن عدم توافر الإرادة الحرة، بالنسبة إليه، مماثل لاستحالة العطالة المطلقة، لأن عدم توافر الإرادة هذا ينعكس في ذهنه على شكل من استحالة التصرف خلاف ما ينبغي له القيام به. وتلكم هي حالة فكرية تصدق فيها كلمات لوثر: «إنني هنا ولا يسعني أن أمضي أمراً خلاف ذلك». وبفضل هذه الحالة الفكرية يعطي الرجال الدليل على القدرة التي لا تغالب ويقومون بالاكتشافات المدهشة. كان هملت يفتقد هذا النصاب لهذا لم يكن بمستطاعه إلا أن يكتئب ويغوص في لجح تأملاته ولم يكن بوسعه القبول بفلسفة تكون فيها الحرية ضرورة في شكلها الواعي. وقد صدق فيخته حين قال: «لهذا الإنسان هذه الفلسفة». ـ 2 ـ حمل بعضهم عندنا، على محمل الجد، فكاهة أبداها ستاملر[8] في معرض إشارته إلى التناقضات المستعصية على الحل، حسب ادعائه، والتي تشمل عليها بعض التعاليم السياسية والاجتماعية في الغرب وبودنا الكلام على تعليله لظاهرة كسوف القمر. هذا التعليل يعتبر بحق إيغالاً في اللامعقول. فمن بين الشروط الواجب توافرها ليتم هذا الكسوف لإمكان لإرادة الإنسان ولا يمكن لها ذلك بحال من الأحوال. ولهذا السبب وحده فإن فكرة وجود حزب يساهم في كسوفات القمر لا يمكن أن تعيش إلا في مأوى للمجانين. وحتى إذا كان عمل الإنسان يشكل أحد الشروط المطلوبة فيما من أحد، وإن تاق لرؤية الكسوفات، يساهم في هذا الحزب إذا اقتنع أن هذه الكسوفات ستتم بالضرورة دونما حاجة لمساعدته. وفي هذه الحال تقتصر «يقينيته» على انتكافه عن القيام بعمل نافل وبالتالي عديم الجدوى.وتصرفه هذا لا علاقة له البتة باليقينية بمعناها الحقيقي. وإذا أردنا أن ينتفي التعارض مع العقل، في مثال الكسوف الآنف الذكر، فعلى الحزب المشار إليه أن يعدل من حركة الكسوف بصورة أساسية. ولنتخيل أن القمر يمتلك وعياً والوضع الذي يأخذه في القضاء. عند الكسوف، يبدو له نتيجة لإرادته الحرة، وإن هذا الوضع، علاوة على ما يتيحه له من ترضية عميقة، لا غنى عنه ليتم له هدوءه الفكري، ولذا فهو يستهدف «باشتياق» إشغال هذا المكان[9]. وبعد أن نتخيل كل ذلك فعلينا أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: وأخيراً إذا اكتشف القمر الحقيقة وهي أن إرادته و«مثله الأعلى»لا يحددان حركته في الفضاء الكوني بل تحدد، حركته، على العكس، إرادته و«مثله الأعلى» فماذا يستشعر عندئذ؟ استناداً لأقوال «ستاملر» تجعله هذه الحقيقة عاجزاً، حتماً، عن الحركة أو يتخلص من هذه الورطة عن طريق ضرب من التناقض المنطقي، بيد أن مثل هذه الفرضية محرومة من أي أساس. ويستحيل هذا الكشف، بالنسبة للقمر، إلى موضع صوري يكون مبعثاً للسآمة وسبباً في بليلة معنوية تضع في مشاققة «مثله الأعلى» والحقيقة الحركية. وإذا ما افترضنا، آخر الأمر، إن «حالته النفسانية» ستكون مشروطة، بتمامها، بهذه الحركة فعلينا عندئذ أن نستقصي، في هذه الحركة، أسباب البلبلة التي تحيق به. ويكشف لنا التمحيص الدقيق أن ما يشكو منه القمر هو أن إرادته ليست حرة عندما يكون في الأوج والأمر خلاف ذلك عندما يكون في الحضيض فقد استحال الظرف نفسه إلى سبب صوري من الهناءة والارتياح المعنوي. وما لم تجر الأمور على العكس فقد يتراءى لنا أن ارتياحه متوافر عندما يكون في الأوج لا في الحضيض لأنه يعثر، كل حال فمن المؤكد أن مثل هذا التوافق ممكن الوقوع تماماً وأن الشعور بالضرورة يتسق تماماً مع الفاعلية العملية في المنتهى حدتها. ومهما يكن من أمر فهذا ما يلاحظ، حتى الآن في التاريخ. فمنكر وحرية الاختيار غالباً ما يبزون معاصريهم بقوة الإرادة ويكلفونها أقصى ما تطيق حتى تبلغ غاية وسعها. والأمثلة عديدة ومألوفة تماماً. ولا يسعنا أن نغض الطرف عنها كما فعل «ستاملر» إلا إذا رفضنا عامدين مواجهة الحقيقة التاريخية كما هي عليه في الواقع. وهذا الاستبعاد المتعمد شائع الوقوع عند الذاتيين لدينا[10] ولدى بعض صغار البرجوازيين الألمان مثلاً غير أن هؤلاء البرجوازيين الصغار والذاتيين ليسوا رجالاً وإنما هم ظلال كما يصفهم بيلينسكي[11]. ولندقق، عن كثب، في الحالة التي تكون فيها أعمال الإنسان الماضية والحاضرة والمقبلة غير بادية إلا من خلال الضرورة. لقد علمنا، آنفاً، أن الرجل، في مثل هذه الحال، عندما يخال نفسه مبعوث العناية الإلهية.. أو موضع اختيار القدر النافذ كنابليون أو الناطق باسم حركة تاريخية لا تقاوم كبعض الساسة في القرن التاسع عشر، يعطي الدليل على إرادة تبدو وكأنها قوة من قوى الطبيعة نفسها، قادرة أن تنثر، كقصور من الورق، جميع العوائق التي تقام في طريقها من أمثال هاملت ومن هم دونه في مراكز القصبات[12]. ولكن ما يهمنا في هذه المناسبة هو جانب آخر: عندما أشعر أن إرادتي ليست حرة وأجد نفسي، في عجز تام، ذاتي وموضوعي، عن العمل خلاف ما فعلت تبدو لي عندئذ أعمالي كأحب عمل ممكن لدي إذ تتماثل عندئذ في ضميري الضرورة والحرية وكذلك الحرية والضرورة. وانقضاء حريتي يكمن في ما معناه: إنني لا أستطيع أن أفصم عرى هذا التماثل بين الحرية والضرورة بجعلي إحداهما تعارض الأخرى ولا يمكن أبدأ أن أشعر إكراه الضرورة ل أن غياب الحرية هذا ليس، في الوقت نفسه إلا تعبيراً تاماً عنها وملازماً لها. قال «سيمل»[13] أن الحرية لا يمكن فهمها إلا بمعارضتها بعائق ما. وعلى ذلك لا يمكن إدراك كنهها إلا بمعارضتها بفكرة القسر. وهذا التفكير صائب بالبداهة ولكننا لا نستطيع، انطلاقاً من هذه الحقيقة الأولية، أن نطرح جانباً الفكرة القائلة بان الحرية هي الضرورة التي وعيناها والتي تشكل أحد الاكتشافات الفذة التي توصل إليها الفكر الفلسفي. إن ت عريف «سيمل» ضيق محدود فهو لا يأخذ الحرية إلا مواجهة بعائق خارجي. وما دام لا يستهدف غير هذه العوائق فإن قضية تماثل الحرية والضرورة تصبح واهية. إن اللص ليس حراً في سرقة منديلك الجديد إذا منعته من ذلك وما دام لم يتغلب على مقاومتك بطريقة ما. ولكن بجانب هذا المفهوم عن الحرية، البسيط والسطحي، يوجد مفهوم آخر أعمق غوراً بما لا يقاس، ولا يمكن أن يقدم لمن يمتنع عليه التفكير الفلسفي. وحتى الذين يناقشون بطريقة فلسفية لن يقيض لهم إدراك ك نهه إلا إذا نجحوا في تجاوز الثنائية وأدركوا، من جهة أخرى، إن لا وجود بين الذات والموضوع لتلك الهوة السحيقة التي يتوهمها الثنائيون. يضع الذاتيون الروس مثلهم الأعلى الطوباوي أمام حقائقنا عن الرأسمالية ولا يعدونه إلى غيره. وهكذا غاص الذاتيون في مستنقع الذاتية. والمثل الأعلى الذي يأتم به من يسمون أنفسهم «الأتباع»[14] الروس يبدو أبعد كثيراً من الواقع الرأسمالي من المثل الأعلى الذي يأتم به الذاتيون. ومهما يكن من أمر فلقد عرف «الأتباع» كيف يعثرون على الجسر الذي يربط المثل الأعلى بالحقيقة الواقعة، وقد وصلوا إلى ما يسمى النظرة الوحدانية. وتبعاً لآرائهم هذه، فستنتهي الرأسمالية، تبعاً للتطور الذي تمضي فيه، إلى نفي نفسها، وبذلك يتم تحقيق مثلهم الأعلى، مثل «الأتباع» الروس وغيرهم.. وتلكم هي الضرورة التاريخية، و«التابع» نفسه أداة من أدواتها وليس بوسعه أن يكون غير ذلك سواء بسبب وضعه الاجتماعي أو بسبب صفاته الأخلاقية والعقلية المنبثقة عن هذا الوضع. وثمة أيضاً مظهر من مظاهر الضرورة. وبما أن وضعه الاجتماعي يحبوه هذه الصفة لا غيرها فسبيله إلا يكون أداة هذه الضرورة ورهينها فحسب بل يود بشوق أن يكون ذلك ولا يسعه ابتغاء وجه آخر، وهذا مظهر من مظاهر الحرية المتولدة عن الضرورة وبعبارة أدق الحرية المتماثلة مع الضرورة أو الضرورة التي استحالت حربة[15]. وهذه الحرية هي أيضاً الحرية المواجهة للقسر والمعارضة أيضاً لشكل من القيود. إن التعاريف العميقة لا تنفي التعاريف السطحية بل تكملها وتحتويها. وبهذه المناسبة ما هو العامل القسري أو القيد الذي يمكن أن يكون موضع بحثنا؟ هذا الأمر واضح جلي والكلام هنا قاصر على المانع المعنوي الذي يشل الإرادة لدى نفر لم يتخط الثنائية بعد وعلى القيد الذي يشكو منه الذين لم ينصبوا بعد الجسر فوق الهوة التي تفصل المثل الأعلى عن الحقيقة الواقعة. ومادام الفرد لم يظفر بهذه الحرية نتيجة مجهود شخصي شاق من التفكير الفلسفي فلن يتوصل إلى هذه الحقيقة ويغدو الألم الذي يحيق به عبارة عن الجزية المخجلة التي يؤديها للضرورة الخارجية التي تعترضه. وبالمقابل فهو يحيا حياة جديدة رحبة لأمراء فيها طالما يزيح عن كاهله هذا الإكراه أو هذا النير المؤذي الذي ينال من قدرته وعندها تغدو فاعليته الحرة التعبير الواعي الحر عن الضرورة. وتصبح هذه الفاعلية قوة اجتماعية لا شيء يمنعها من أن تتفجر: على المروق المخادع كالصواعق السماوية ـ 3 ـ نعيد القول بأن وعي الضرورة الملازمة لحادث ما ليس من شأنه إلا أن يزيد في طاقة الشخص الذي يواجه هذا الحادث فيتجاوب معه ويعتبره نفسه إحدى القوى التي تحدد وجوده. فإذا تربص الشخص، بعد وعيه الضرورة التي تحدد ذلك الحادث وشبك ذراعيه ووقف يتأمله فإنه يبرهن عن جهل فاضح بالرياضيات. وحقيقة القول هي أن نفرض أن الظاهرة (آ) يتحتم وقوعها إذا توافرت مجموعة شروط معينة نرمز إليها بحرف (س)، وقد أوضحت لي أن بعضها من هذه الشروط قد تم توافرها وأن البقية ستحصل في الوقت (ن). وبما أنك أقنعتني بذلك فسأواجه الحادث متسائلاً: (كل شيء على ما يرام!) وأنام ملء جفوني حتى يحين اليوم السعيد فيتحقق الحادث وفق تنبؤاتك.. فعلام تكون النتيجة؟ من بين مجموع القيمة (س) وهي الشروط الواجب توافرها حتى تحدث الظاهرة (آ) أدخلت فاعليتي أيضاً وسأرمز إليها بحرف (د). ولما كنت مستسلماً للرقاد لدى حلول الوقت (ن) فإن مجموع الشروط اللازمة لوقوع الظاهرة الملمع إليها لم يعد (س) وإنما (س ـ د)، وهذا ما يبدل الوضع. ويجوز أن يحل آخر مكاني وقد يكون مستسلماً للعطالة ولكن المثل الذي ضربه له استرخائي واستخلص منه أن العطالة أمر مشين، قد حرك فاعليته. وفي هذه الحال تحل القوة (ب) مكان القوة (د)، فإذا كانت القوة (ب) مساوية للقوة (د) (د = ب) فإن مجموعة الأسباب الضرورية لإنجاز الظاهرة (آ) تبقى مساوية لـ(س) وتقع الظاهرة من تلقاء نفسها في الوقت المحدد (ن). ولكن إذا لم تكن القيمة التي تمثلها قوتي معادلة للصفر وإذا كنت كفؤاً وماهراً وما من شخص آخر يقوم مقامي فتكون عندئذ قيمة (س) ناقصة لم تكتمل وستتحقق الظاهرة (آ) في زمن متأخر عن الوقت الذي افترضناه آنفاً أو تتم بصورة ناقصة أو لا تتم البتة. وهذا الأمر بين الوضوح فإذا فاتتني هذه الحقيقة أو تخيلت أن القيمة (س) ستبقى (س) حتى بعد إخفاقي فما ذلك إلا لأنني أجهل قواعد الحساب. هل أكون أنا الوحيد الذي يجهل قواعد الحساب؟ فعندما أنبأتني بأن مجموع الشروط (س) سيتم الحصول عليه في الوقت (ن) لم تشر إلى أنني سأذهب وأنام حالما تنتهي محادثتنا. لقد كنت على يقين بأنني سأعمل، حتى النهاية، لإتمام الظاهرة (آ). وقد اعتمدت على قوة كان لزاماً عليك إلا تعول عليها كثيراً بدلاً من قوة أخرى كان من واجبك الاعتماد عليها، وبالتالي فقد أخطأت أنت أيضاً في الحساب. ولنفرض أنك لم ترتكب أية هفوة وكنت مرتقباً حدوث كل شيء فإليك ما كانت ستؤول إليه حساباتك: لقد ذكرت أن مجموع الأسباب (س) سيتحقق في الوقت (ن) ومن جملة هذه الشروط الضرورية فإن قعودي يمثل قوة سلبية كما يمثل الأثر المثير وهو الذي يشبع الطمأنينة في قلوب الرجال الأشداء الموقنين أن اتجاهاتهم ومثله العليا ليست إلا تعبيراً ذاتياً عن الضرورة الموضوعية، يمثل القوة الإيجابية. وفي هذه الحالة يتحقق مجموع الأسباب (س) في الوقت المحدد من قبلك وتتم الظاهرة (آ). وهذا يبدو واضحاً. ولكن إذا كان واضحاً فلماذا اضطربت للفكرة القائلة بضرورة وقوع الظاهرة (آ)؟ ولم تبدت لي وكأنها تحكم علي بالعطالة؟ ولم جعلني التفكير فيها أنسى المبادئ الأولية في الحساب؟ لا ريب في أن ظروف ثقافتي كانت تجعلني أحمل في نفسي ميلاً إلى العطالة وأن محادثتنا كانت القطرة التي صبت في كأس دهاق، وتلكم هي المسألة بكاملها. إن الشعور بالضرورة لم يكن من شأنه إلا تهيئة المناسبة اللازمة ليتحقق استرخائي وقصوري المعنوي. ولم تكن الضرورة سبب ذلك وإنما يكمن السبب في التربية التي أصبتها. وهكذا نرى أن الرياضيات علم مفيد جليل القدر يحسن إلا تغرب قواعده عن البال وبخاصة عن بال السادة الفلاسفة. ولكن كيف يؤثر الشعور بضرورة وقوع حادث ما على رجل قوي الشكيمة، ينظر إليه شذراً ويناصبه العداء؟ إن الأمور هنا تتحول قليلاً عن مجراها. يمكن كثيراً أن يضائل هذا الشعور القدرة على المقاومة. ولكن متى يقتنع معارضو الحادث بأنه ضرورة لا محيص عنها؟ إن الشعور حتمية وقوع الحادث وانعدام مقاومة معارضيه ليست سوى تعبير عن قوة الأسباب المظاهرة له والتي تطوي في عدادها شعور العجز الذي يحسه المعارضون. غير أن القدرة على المقاومة لا تتضاءل عند جميع خصوم الحادث فهي تزيد لدى بعضهم بتأثير من شعورهم بحتمية وقوعه وتكون مقاومتهم عندئذ عبارة عن قدرة اليأس. ويعطي التاريخ بصورة عامة وتاريخ روسيا، بصورة خاصة، مجموعة من الأمثلة التثقيفية. ولنا الأمل في أن يستذكرها القارئ بنفسه. وهنا يقاطعنا «كارييف، رغم أنه لا يشاطرنا الرأي في وجهة نظرنا عن الحرية والضرورة ولا يقرنا في ميلنا إلى «اندفاع» الرجال المتحمسين الأشداء، ويستقبل بترحاب الفكرة التي عرضناها في هذه المجلة[16]، وهي أن بإمكان الفرد أن يكون قوة اجتماعية عظيمة ثم، يتساءل مزهواً هذا الأستاذ الفاضل: «طالما رددت ذلك». وهذا القول حق لا مراء فيه أن «م.كارييف» وجميع الذاتيين طالما نسبوا إلى الفرد دوراً هاماً في التاريخ. لقد غير العهد الذي كان فيه مثل هذا القول يقرب إليهم الشبيبة التقدمية ويحببهم إليها، تلك الشبيبة التي كانت تتعشق بنبل القيام بعمل يخدم المصلحة العامة، معولة في بلوغ ذلك على المبادهة الفردية. ولكن لم يقبض للذاتيين أصلاً أن يطرحوا بطريقة سليمة مسألة دور الفرد في التاريخ لأنهم يضعون قبالة قوانين الصيرورة التاريخية للمجتمعات عمل «الأفراد ذوي الفكر النقاد» موحدين بذلك شكلاً جديداً لنظرية العوامل. فالأفراد ذوو الفكر النقاد يشكلون أحد العوامل التي أملت حركة التطور المذكورة كما أن القوانين التي تحكم هذه الحركة تشكل العامل الآخر. ويترتب على ذلك إيغال في اللامعقول يمكن السكوت عليه إلى حين مادام اهتمام «الأفراد» الفعالين منصرفاً إلى المسائل اليومية العملية ولا يمكنهم، بالتالي، الاهتمام بالفلسفة. ولكن الهدوء الذي ساد بين عامي 1880 و1890 أتاح للأشخاص القادرين على التفكير فرصة التأمل الفلسفي رغماً عنهم. ومنذ ذلك الحين راحت التعاليم الذاتية تتقصف من جوانبها كافة واستحالت هباء شأن الرداء الشهير الذي تحدث عنه غوغول. ولم يفد الترقيع شيئاً وانفض الناس من حول النظرية الذاتية، الواحد تلو الآخر، شأن من يبتعد عن تعاليم لا تستطيع مطلقاً الوقوف على قدميها. وكما يحدث في مثل هذه الحالات، فقد آل رد الفعل ببعض خصومها إلى الغلو في المنهج المعاكس. وإذا كان بعض الذاتيين، في ابتغائهم أن ينسبوا إلى الفرد دوراً متعاظماً في المسيرة التاريخية يرفضون أن ينزلوا النشوء والارتقاء التاريخيين للإنسانية على حكم القوانين، فإن بعض خصومهم الجدد يجهدون ليثبتوا أن الحركة التاريخية تخضع في مسيرتها لقوانين معينة، فكأنهم نسوا أن الرجال هم الذين يصنعون التاريخ وتبعاً لذلك يقوم الفرد، حتماً، بدوره التاريخي. لقد اعتبروا الفرد هملاً لا قيمة له.ونرى، من الوجهة النظرية، إن هذا الغلو لا يمكن أن يغتفر شأنه شأن ما انتهى إليه الذاتيون المخلصون لذاتيتهم. وليست تضحية الموضوعية في سبيل الركس (النقيض) بأوفر أسا من تناسي الركس في سبيل الموضوعة. ولن نصل إلى وجهة النظر الصحيحة إلا عندما نتمكن من أن نجمع في التوليف أقسام الحقيقة التي يحتويها الموضوعة والركس. ـ 4 ـ مضى زمن طويل وهذه المسألة تملك علينا اهتمامنا ومنذ زمن بعيد ونحن راغبون في دعوة القارئ إلى تدارس هذه المسألة معنا. وقد أقعدتنا عن قصدنا بعض المخاوف لاعتقادنا بأن قراءنا ربما يكونون قد توصلوا إلى حلها بأنفسهم، فيكون اقتراحنا قد قدم بعد فوات الأوان. أما اليوم فقد استبعدت هذه المخاوف لأن المؤرخين الألمان كفونا مئونتها، ونقول ذلك على سبيل الجد. ونعني بذلك الخلاف المستحر نسبياً حول دور الرجال العظام في التاريخ والذي استأثر باهتمام المؤرخين الألمان. وكان بعضهم أميل إلى اعتبار النشاط السياسي الذي مارسه هؤلاء الرجال السبب الرئيسي والأوحد في مسيرة الحركة التاريخية بينما يجزم الآخرون بأن ذلك المفهوم محدود المدى وأن على علم التاريخ أن يراعي لا فاعلية الرجال العظام فحسب وإنما مجموع الحياة التاريخية. وكارل لامبراخت[17]، مؤلف كتاب تاريخ الشعب الألماني الذي نقله عن الروسية م.نيكولايف أحد ممثلي هذا الاتجاه، وقد اتهمه خصومه «بالجماعية» وبالمادية ووضعوه، وياللهول، على صعيد واحد مع «الملحدين الاجتماعيين الديمقراطيين» وذلك طبقاً للعبارة التي استخدمها، هو نفسه، في ختام مناقشته. وتقنع مراجعة مؤلفاته بأن اتهام هذا العالم المسكين لم يكن له سند أو أساس في الواقع. وكان علينا أن نلاحظ، في الوقت نفسه، أن المؤرخين الألمان ليسوا بالقدر الذي يؤهلهم لأن يحلوا مسألة دور الفرد في التاريخ. ونظن أن من حقنا الافتراض بأن بعض القراء الروس لم يتوصلوا بعد إلى حل هذه المسألة. لهذا فلا يزال هناك بعض الفائدة، من الناحيتين النظرية والعملية، في التصدي لهذا الأمر. لقد تناول «لامبرخت» مجموعة من الآراء التي صدرت عن بعض رجال الدولة البارزين والتي تظهر مدى ما بلغه عملهم بالقياس إلى الوسط التاريخي الذي تم فيه هذا العمل. ولكنه اقتصر، في رده، على إيراد بعض الخطب وذلك في معرض الحديث عن بسمارك فهو يردد الكلمات التي قالها المستشار الحديدي في ريخستاخ ألمانيا الشمالية في 16 نيسان 1869: «سادتي، ليس بوسعنا أن نتغاضى عن تاريخ الماضي ولا أن نصنع المستقبل. أريدكم أن تتجنبوا الوقوع في الخطأ الذي يحمل بعضهم على تقديم عقارب الساعة ظناً منهم بأن ذلك هو السبيل إلى التعجيل في انسياب الزمن.إنهم غالباً ما يبالغون في مدى تأثيري في الحوادث التي استندت عليها، ومع ذلك فلن يطوف بمخيلة إنسان أن يسألني صنع التاريخ. إن هذا الأمر جد مستحيل بالنسبة إليّ حتى ولو أسهمتم معي فيه، مع العلم أن بوسعنا معاً مقاومة العالم بأسره. ولكننا لا نصنع التاريخ وعلينا ارتقابه حتى يصنع نفسه. نحن لا نعمل في إنضاج الثمار عندما نقربها من حرارة المصباح إذا اقتطفناها فجة قبل أوانها، وكل ما نقوم به، في هذه الحال، هو الحيلولة دون نموها وبالتالي إتلافها.» ثم يعدد «لامبرخت»، بالرجوع إلى «جولي»، آراء بسمارك التي طالما نادى بها والتي لا تخرج، في معناها عما يلي: «ليس بوسعنا صنع الحوادث الجسام بل علينا التوافق مع السياق الطبيعي للأشياء مستهدفين الاستثبات مما هو تام النضج». ويرى «لامبرخت» في هذا القول حقيقة بعيدة القرار أو الحقيقة بعينها. ولا يمكن للمؤرخ، تبعاً لمفهومه هذا، أن يفكر خلاف ذل إذا رام تعمق الأحداث دون اقتصاره على فترة قصيرة من الزمن. أكان بوسع بسمارك أن يعود بألمانيا إلى نظام الاقتصاد البدائي؟ طبعاً لا لأن ذلك مستحيل عليه حتى وهو في ذروة نفوذه. إن الشروط التاريخية العامة أقوى من الأفراد الأقوياء، وتغدو سمة العصر، بالنسبة إلى الرجل العظيم، «ضرورة معطاة تجريبياً». وهكذا يصف «لامبرخت» نظريته بالشمولية. ومن اليسير أن نتلمس ناحية الضعف في هذه «الشمولية». إن آراء بمسارك التي أ,ردها بنفسه جد قيمة باعتبارها وثائق نفسية، ويجوز ألا نحس بأي ميل إلى العمل الذي قام به المستشار الألماني ولكن ذلك لا يبيح لنا التق ليل من أهميته والإدعاء بأن بسمارك يتميز بعقيدته «اليقينية». لقد كان لاسال يفكر ببسمارك عندما قال: «إن خدام الرجعية ليسوا محدثين بارعين فحسب، ومن نعم الله كون التقدم يعتمد قليلاً على أمثال هؤلاء الخدام». إن هذا الرجل، وقد تمتع في بعض الأحيان، بقدرة حديدية حقة، يعلن نفسه عاجزاً أمام سياق الأمور الطبيعي ويعتبر نفسه، بلا مراء، أداة بسيطة من أدوات الصيرورة التاريخية. ويدل هذا الأمر، مرة أخرى، على أن بإمكان المرء النظر إلى الأحداث في ضوء الضرورة وأن يكون، في الوقت نفسه. على جانب عظيم من القدرة. ومن هذه الناحية فقط، تغدو آراء «بسمارك» هامة ومفيدة. ولكن يستحيل أن نجد فيها جواباً على ماهية دور الفرد في التاريخ. وتبعاً لما يقوله «بسمارك» نجد أن الحوادث تصنع نفسها وليس بمستطاعنا إلا التأكد مما أعدته لنا. ولكن كل عمل. عندما يتحقق، يشكل هو أيضاً حادثاً تاريخياً. فبم تمتاز، إذن، هذه الأحداث التي تتم من تلقاء نفسها؟ الحقيقة أن كل حادث تاريخي أو قريب منه، يؤمن، على وجه التأكيد؛ لبعض الناس اجتناء الثمار اليانعة من التطور السابق كما أنه، في الوقت نفسه حلقة في سلسلة الحوادث التي تهيء ثمار المستقبل. فكيف يمكننا أن نضع هذه الأعمال قبالة السياق الطبيعي للأشياء؟ لقد أراد «بسمارك»، على ما يبدو أ، يقول بأن الأفراد أو الجماعات التي تلعب دوراً في التاريخ لم تكن لها ولن تكون لها القوة الغالبة، وهو أمر لاريب فيه، ولكننا نروم تقدير قوة الرجال هذه والتي هي، على وجه التأكيد، غير مفرطة في قدرتها كما نروم الإلمان بالملابسات التي تنمو من خلالها هذه القوة أو تتضاءل ولا يجيب «بسمارك» ولا العالم المحامي عن نظرية «الشمولية» في التاريخ الذي يستشهد بأقواله على هذا السؤال. والحقيقة أن بوسعنا العثور، لدى «لامبرخت»، على نصوص أكثر جدية. فهو يورد مثلاً الكلمات التالية التي قالها «مونود» أحد المؤرخين العلميين البارزين والمعاصرين في فرنسا: «لقد تعودنا أن نتعلق، في التاريخ، بالمظاهر البراقة المدوية والقصيرة الأجل، التي تلازم الفعالية الإنسانية، من حوادث عظيمة أو رجال عظام عوضاً عن أن نصر على الحركات العظيمة الوئيدة التي تنتاب المؤسسات، وعلى الشروط الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل القسم الهام والدائم في التطور الإنساني، الذي يمكن تحليله بالتأكيد، وبطريقة تقربه من القانون. إن الحوادث والشخصيات البارزة لهي شارات ورموز لمختلف فترات هذا التطور. ولكن معظم الظاهرات، التي توصف بالتاريخية، هي بالنسبة إلى التاريخ الحقيقي كنسبة الأمواج التي تطفو على سطح البحر إلى الحركة العميقة الدائمة للمد والجزر، فهي، أي الأمواج، تتلون لفترة من الزمن، بجميع ألوان الضوء، ثم تتناثر على الشاطئ دون أن تخلف منها شيئاً». إن «لامبرخت» يعلن استعداده لتأييد مضمون هذا النص ومن المعروف أن العلماء الألمان يكرهون الإقرار بالموافقة على ما يقوله العلماء الفرنسيون والعكس بالعكس. لهذا يشير المؤرخ البلجيكي «بيرين»، في المجلة التاريخية إلى هذا التماثل في الأفكار بين «مونود» و«لامبرخت» ويخلص إلى ما يلي: «إن التقاء عالم فنرسي بعالم ألماني له مغزاه، فو يقيم الدليل على الاتجاه التاريخي الجديد قد ملك زمام المستقبل». ـ 5 ـ إننا لا نشاطر «بيرين» الأمل الذي يهدهده، إن المستقبل لا يمكن أن يكون ملك نظريات مبهمة مشوشة كنظريات «مونود» وبخاصة نظريات «لامبرخت». ومن الملائم طبعاً الترحيب بالاتجاه القائل بأن موضوع التاريخ، بخاصة، إنما هو دراسة المؤسسات الاجتماعية والشرائط الاقتصادية. إن هذا العلم سيخطو خطوات واسعة إلى الأمام عندما يسود هذا الاتجاه نهائياً. ولكن «بيرين» يخطئ أولاًَ عندما يحسب أن هذا الاتجاه حديث العهد. لقد ظهر في ميدان العلوم التاريخية، عام 1850، أقطاب مثل غيزو وميني وأوغستان تييري وأخيراً توكفيل وغيرهم وكانوا الممثلين اللامعين لهذا الاتجاه في حين أن أفكار مونود ولامبرخت ليست إلا نسخة شاحبة عن أصل قديم ولكنه قيم ومرموق. ومن جهة ثانية، فمهما سمت أفكار غيزو وميني وبقية المؤرخين الفرنسيين فقد خلفت نقاطاً كثيرة يلفها الظلام. ولا نجد فيها جواباً دقيقاً وشافياً لمسألة دور الفرد في التاريخ. ومهما يكن من أمر فعلى علم التاريخ أن يجد حلاً لهذه المسألة إذا أراد ممثلو أن يتخلصوا من العصابة التي تحجب عنهم الرؤية، إن المستقبل سيكون رهن المدرسة التي ستقدم، فيما تقدمه، أفضل الحلول لهذه المسألة. إن وجهات نظر غيزو وميني والمؤرخين الآبرين أتباع الاتجاه نفسه، إنما هي رد فعل للأفكار التي تناولت التاريخ والتي تميز بها القرن الثامن عشر، لقد كانت نقيض تلك الأفكار. وفي خلال القرن الثامن عشر كان هم المشتغلين بفلسفة التاريخ أو يردوا كل شيء إلى الفاعلية الواعية للأفراد. صحيح أن هذه القاعدة كان لها بعض الاستثناءات فأفق فيكو ومونتسكيو وهردر[18] مثلاً كان أوسع مدى من ذلك. بيد أننا لا نتكلم على الاستثناءات لهذا نرى أن معظم مفكري القرن الثمن عشر كانوا يفقهون التاريخ على النحو الذي ذكرناه. واستناداً إلى وجهة النظر هذه نرى، من الشيق، معاودة قراءة الآثار التاريخية التي كتبها مابلي مثلاً. وتبعاً لما يقوله مابلي فإن مينوس هو الذي أوجد الحياة الاجتماعية والسياسية وحتى الأعراف نفسها لسكان جزيرة كريت، وأن ليكورغ أدى الخدمة نفسها بالنسبة للآسيدومون. ولئن كان الاسبارطيون «يزدرون الثروات» فما ذلك إلا بفضل ليكورغ الذي «دخل أفئدة المواطنين وخنق فيها جرثومة حب الثروة[19]». وإذا كان الإسبارطيون قد انحرفوا عن الطريق التي خط معالمها لم الحكيم ليكورغ فما ذلك إلا نتيجة خطأ ليزاندر الذي أكد لهم «أن تغير الأزمان والمناسبات يتقاضاهم عبقرية وسياسية جديدتين»[20]. إن المؤلفات التي تمليها مثل هذه العقلية ليست لها أية صلة بالعلم. فهي تكتب كالمواعظ وغرضها استخلاص «الدروس الأخلاقية» وقد هب المؤرخون الفرنسيون في عهد الرستوراسيون (عودة الملكية) في وجه هذه المفاهيم. وبعد الأحداث الجسام التي اختتم بها القرن الثامن عشر أصبح من المستحيل، قطعاً، التصديق بأن التاريخ هو من صنع شخصيات يتفاوت حظها من القيمة والنبل والمعرفة، شخصيات توحي، وفق أهوائها، إلى كتلة جاهلة طيعة ببعض العواطف وبعض الأفكار. وفضلاً عن ذلك ففلسفة التاريخ تجرح كبرياء الطبقة الوسطى التي يتسم بها المنظرون البرجوازيون.إنهم ينصاعون للعواطف التي تبدت، ابتداءً من القرن الثامن عشر، لدى ظهور الدرامة البرجوازية. وحتى تمكن معارضة المدرسة التاريخية القديمة يستعيد تييري الأدلة والبراهين والحجج التي أتى بها بومارشي وآخرون غيره في معارضتهم المدرسة الجمالية القديمة[21] وأخيراً فإن الأعاصير التي عصفت بأرجاء فرنسا قد بينت بجلاء أن سياق الحوادث التاريخية أبعد من أن يحدد بعمل الرجال الواعي. وهذه الظروف كانت كافية لتهيئة الأفكار لأن تتقبل وقوع الحوادث وفق ضرورة ضمنية تعمل بصورة عمياء، شأن القوى الطبيعية، ولكن على توافق مع بعض القوانين التي لا محيص عنها. ومما هو جدير بالملاحة، رغم أن أحداً لم يعره انتباهاً حتى الآن، هو أ، المفهوم الجديد عن التاريخ بوصفه ارتقاء تحكمه القوانين، قد طبق بدقة من قبل المؤرخين الفرنسيين، في عهد الرستوراسيون، وضمنوه مؤلفاتهم عن الثورة الفرنسية وهذا ما أظهرته مؤلفات مينيي وتييري. إن شاتوبريان يصف المدرسة التاريخية الجديدة بالجبرية ويعدد في الموضوعات التي يثيرها ما يلي: «على المؤرخ الآخذ بهذه الطريقة أن يروي الفواجع دون حقد أو غضب وأن يتكلم على الفضائل دون ميل أو هوى، وأن يرمق بعين الحيدة المجتمع وكأنه خاضع لبعض القوانين التي لا تقاوم والتي معها كل شيء وفقاً لما يجب أن يحدث[22]». إن هذا القول خطأ محض، فالمدرسة الجديدة لا تتقاضى المؤرخ مطلقاً أن يلتزم الحيدة إزاء الأحداث. إن أوغستان تييري يعلن بوضوح أن الميول السياسية، بشحذها ذهن الباحث، يمكن أن تساعده على اكتشاف الحقيقة[23]. ويكفي أن نتنقل في أرجاء المؤلفات التاريخية التي كتبها غيزو وتيير ومينيي حتى نلمس تعاطفهم الحار مع البرجوازية في صراعها ضد الارستقراطية، المدنية والدينية، وفي تصميمها على سحق مطالب البروليتاريا النامية. ومما لا جدال فيه أن المدرسة التاريخية الجديدة قد ظهرت بين عامي 1820 و1830، في الفترة التي غلبت فيها الارستقراطية على أمرها، على يد البرجوازية، وإن تكن لاتزال تحاول استعادة بعض امتيازاتها القديمة. ومن بين الاعتبارات التي أخذ بها هؤلاء المؤرخون نلمس الشعور بالفخر لظفر الطبقة التي ينتمون إليها. وبما أن البرجوازية لا تعرف مجاملة الفروسية في مناحي عواطفها، فإننا نعثر، كثيراً، في براهين أبرز علمائها، على قسوة في الحكم على المغلوبين. ويقول غيزو في كراس جدلي له: «إن الأقوى يمتص الأضعف وله الحق في ذلك». ولكن موقفه من الطبقة العاملة ليس بأقل قسوة. إن هذه القسوة التي تتزين أحياناً بالحيدة هي التي أوقعت شاتوبريان في الخطأ. وعلاوة على ذلك لا نعلم كيف ينبغي فهم الصيرورة التاريخية في خضوعها للقوانين. وأخيراً يمكن أن تبدو المدرسة الجديدة آخذة بمبدأ الجبرية لأنها في محاولتها إثبات وجهة نظرها القائلة بأن التاريخ تسيره قوانين معينة قد قللت من اهتمامها بالشخصيات الكبيرة[24]. ويصعب الإقرار بذلك على أناس تشربوا الأفكار التي جاء بها القرن الثامن عشر عن التاريخ. ولهذا السبب ترامت الاعتراضات من كل جانب على هذه المدرسة التي انفرجت فيها ثغرة من التناقض لم تسد بعد كما سلفت الإشارة. وفي كانون الثاني من عام 1826 كتب سانت بوف في مجلة «ليغلوب» بعد ظهور الجزأين الخامس والسادس من تاريخ الثورة الفرنسية لمؤلفه تيير بأن الإنسان، نتيجة المؤثرات التي يتعرض لها في كل وقت، قادر أن يدخل في سياق الأحداث، بقرار إرادي، قوة جديدة غير متوقعة من شأنها، في حالات كثيرة أن تعدل كثيراً في هذا السياق فتملي عليه وجهة أخرى. وهذه القدرة تتأبى على القياس لخصيصة التحول فيها. ولا ينبغي أن يفهم أن سانت بوف يرى أن هذه القرارات الإرادية» تتم دونما أسباب تقتضيها. كلا، إن ذلك لدليل على السذاجة. وقصاراه الإشارة إلى أن الخصائص الثقافية والأخلاقية التي يتصف بها الإنسان والتي تلعب دوراً متفاوت الأهمية في الحياة العامة: (كمواهب الفرد ومعارفه وروح التصميم وعدم التردد والشجاعة أو الجبن لديه) لاتعدام أثراً ملموساً تحدثه في سياق الأحداث وخاتمتها. ولا تفسر هذه الخصائص بالقوانين العامة التي تحدد تطور الشعب فحسب ولكنها مدينة بوجودها دائماً وإلى درجة بعيدة، للفعل الذي تمكن تسميته: مصادفات الحياة الخاصة. ولنورد بعض الأمثلة التي تصور هذه الفكرة والتي تبدو مع ذلك واضحة من تلقاء نفسها. حدث في أثناء حرب وراثة النمسا أن أحرزت الجيوش الفرنسية انتصارات مؤزرة كان بوسع فرنسا معها أن تلزم النمسا بالتخلي عن قسم كبير من بلاد البلجيك الحالية، إلا أن لويس الخامس عشر لم يقتضها ذلك لأنه كان يحارب، على حد قوله، بصفته ملكاً لا تاجراً. ولكن لو كانت صفات لويس الخامس عشر على غير ما كانت عليه لأمكن أن تتسع رقعة فرنسا الأمر الذي يفضي إلى إحداث تعديل في سياق التطور الاقتصادي والسياسي لهذه البلاد. ومن المعلوم أن فرنسا كانت، في أثنا حرب السنوات السبع حليفة النمسا، وكانت مدام بومبادور، كما يقال: تساهم، بدور فعال، في دفع فرنسا للاشتراك مع النمسا في حربها لأن مدام بومبادور املأت فخراً عندما وصفتها ماري تيريز، ذات المكانة السامية «بابنة العم» و«بالصديقة الوفية» وذلك في الرسائل التي كانت تبعث بها إليها. ويجوز القول بأن لويس الخامس عشر لو كان أكثر تماسكاً وتشدداً في أخلاقه وأقل استرسالاً واستسلاماً لمحظياته لما كان بوسع مدام بومبادور أن تقوم بمثل هذا التأثير في سياق الأحداث ولكان بالإمكان أن تأخذ وجهة أخرى. ولنتابع: لقد كانت حرب السنوات السبع وخيمة العواقب على فرنسا وتكبد قوادها هزائم مخزية. وكان سلوكهم أبعث على الدهشة والاستغراب، إذ أطلق الدوق ريشيليو لنفسه العنان سلباً ونهباً وكان سوبيز وبروغلي يتنابذان بلا انقطاع. وهكذا عندما هاجم بروغلي العدو قرب ولينجنكهوس لم يحمل سوبيز بدوره كما كان متفقاً وكما كان ينبغي له أن يفعل فاضطر بروغلي أن يحارب وهو يتراجع[25]. وكانت مدام بومبادور، في ذلك الحين، تحامي عن سوبيز الذي أظهر عجزاً فاضحاً. وهنا يمكن القول أيضاً لو أن لويس الخامس عشر كان أقل اندفاعاً وراء شهوات وكانت محظاياته بعيدات عن الشؤون السياسية لما أمكن أن تأخذ الحوادث هذا الشكل المفجع بالنسبة إلى فرنسا. ويؤكد المؤرخون الفرنسيون بأنه كان على فرنسا أن تتجنب الحرب في أوروبا وتوجه جهودها إلى البحار لتدافع عن مستعمراتها ضد إنجلترا، فإذا لم تكن قد فعلت ذلك فالخطيئة هي خيطئة مدام بومبادور الخالدة التي كانت تود أن تدخل السرور إلى قلب «صديقتها المخلصة» ماري تيريز. إن حرب السنوات السبع قد أفقدت فرنسا أفضل مستعمراتها، وقد ترك ذلك الحدث، ولا ريب، أعظم الأثر في تطور العلاقات الاقتصادية لهذا البلد. إن أثرة امرأة واحدة تبدو هنا وكأنها «عامل» مؤثر في التطور الاقتصادي. هل ثمة حاجة إلى أمثلة أخرى؟ سنورد أيضاً مثالاً صارخاً مستمداً من حرب السنوات السبع نفسها. ففي آب عام 1761 تمكنت القوات النمساوية أن تتم اتصالها بالجيش الروسي في سيليزيا وتم لها أن تحتوي، ضمن هذا الطوق، فريدريك بالقرب من ستريغو. وكان وضع الملك البروسي ميؤساً ولكن الحلفاء تأخروا في مهاجمته، فبعد أن بقي بوتورلين[26] أكثر من عشرين يوماً ساكناً لا يريم حراكاً أمام الخصم ترك سيليزيا نفسها ولم يبق إلا قسماً من قواته لدعم القائد النمساوي لودن. واحتل لودن مدينة شوويبيتز القريبة من معسكر فريدريك غير أن هذا النجاح ظل عديم الجدوى. فماذا كان يحدث لو كان بوتورلين أمضى عزيمة؟ أو لو هاجم الحلفاء فريدريك دون أن يتركوا له الوقت الكافي حتى يتحصن في معسكره؟ يجوز أن يسحق جيشه ويجبر على الخضوع لجميع مطالب الظافرين. وقد حدث ذلك لشهور خلت من وقوع حوادث غير مرتقبة منها موت الامبراطورة إليزابيت، وقد عدلت تلك الحوادث فجأة وبصورة عميقة الوضع القائم لمصلحة فريدريك. ولرب متسائل يقول: ما الذي كان يحدث لو أخذ مكان بوتورلين قائد أكثر حزماً كسوفوروف[27] مثلاً. ويورد سانت بوف في معرض تحليله آراء المؤرخين «الجبريين» فكرة ثانية خليقة بأن تسترعي انتباهنا. ففي مقالته المشار إليها عن كتاب تاريخ الثورة الفرنسية لميني يميل إلى الإفصاح عن أن سير الثورة الفرنسية ومآلها لم يكونا منوطين بالأسباب العامة التي اكتنفتها فحسب وبالميول والأهواء التي أهاجتها بدورها، ولكنها كانت مشروطة أيضاُ بمجموعة من الحوادث الجزئية التي تستعصي على انتباه المؤرخ، وهي إذا صح القول ليست معدودة من جملة الأحداث الاجتماعية. وقد كتب في هذا المعنى مبيناً أنه بينما كانت تلك الأسباب «العامة» تعمل عملها من حيث الأثر والسياق لم تكن القوى الطبيعية والفيزيولوجية معلقة بلا عمل فقد حافظ الحجر على ثقله النوعي والدم على جريانه في العروق. فلو لم تود تلك الحمى اللاهبة بميرابو ولو أن آجرة أو انفجاراً دماغياً أودى بحياة روبسبير أو أن رصاصة أصابت بونابرت أفلا يتغير وجه الأحداث؟ أو كان بالمستطاع أن يظل اتجاهها ضمن النهج الذي أخذته دون تغيير؟ وهل نجرؤ على الجزم بأن الخاتمة ستكون هي نفسها؟ ونتيجة لوجود عدد كاف من المصادفات المماثلة يمكن للنتيجة أن تجيء على غير الشكل المحتوم الذي يدعيه بعضهم. ومن حقنا قبول هذه المصادفات لأنها لا تستبعد الأسباب العامة التي نجمت عنها الثورة ولا الأهواء التي احتوتها تلك الأسباب. ثم يذكر المثال المعروف عن أنف كليوبترا فلو كان أقصر قليلاً مما كان عليه لتغيير وجه العالم. وحتى يصل إلى نتيجة، مع اعترافه بأن العديد من البراهين تدور في صالح النص الذي أورده مينيي. يشير إلى أن خطأ مينيي راجع إلى اعتباره عمل الأسباب العامة وحده هو الباعث على نتائج ساهمت في إيجادها جملة من الأسباب المغمورة الغامضة التي تصعب الإحاطة بها. إن تفكيره الصلب يبدو وكأن يرفض الإقرار بوجود شيء لا يرى له نظاماً أو قانوناً. ـ 6 ـ هل تقوم اعتراضات سانت بوف على أساس؟ إنها تنطوي على جانب من الحقيقة، ولكن ما هو هذا الجانب؟ لا بد لإبرازه من تفحص الفكرة القائلة بأن الإنسان كفوء «بقرار إرادي» لأن يدخل على سياق الأحداث قوة جديدة تستطيع تعديلها بشكل ملحوظ. وقد قدمنا آنفاً عدة أمثلة تبدو كافية لتوضيح ما رمينا إليه. فنتأمل. لا أحد يجهل أن قدرة فرنسا العسكرية، في زمن لويس الخامس عشر، ما انفكت تتدنى باطراد. وقد لاحظ هنري مارتان أن الجيوش الفرنسية، في أثناء حرب السنوات السبع، كانت تجرد خلفها أرهاطاً من المومسات والتجار والخدم وتضم من جياد الجر والنقل ثلاثة أضعاف ما تضمه من جياد الركوب. ووضعها هذا يذكر إلى حد بعيد بعصائب داريوس واكسيركيس أكثر مما يذكر بجيوش تورين وغوستاف أدولف[28]. وقد كتب أرشينهولتز في تاريخه، عن حرب السنوات السبع أن الضباط الفرنسيين غالباً ما كانوا يبارحون مراكزهم ليذهبوا على القصبات ويرقصوا هناك. وكانوا لا ينفذون أوامر رؤسائهم إلا عندما يروق لهم ذلك. وهذه الحالة المؤسفة إنما ترد إلى انحطاط طبقة الأشراف التي مازالت متمكنة من ناصية المناصب الهامة في الجيش كما يعود إلى الفوضى الشاملة التي كانت تلازم «النظام القديم هذا النظام الذي يسير بخطى حثيثة نحو الكارثة». فهذه الأسباب العامة، بمفردها، كافية لأن تجعل حرب السنوات السبع تسير في غير صالح فرنسا. ولكن منالمؤكد أن قصور القواد أمثال سوبيز كان من شأنه أن يزيد في احتمالات الهيزمة التي لحقت بفرنسا والتي تبتعثها الأسباب العامة. وبما أن سوبيز مدين بمنصب القيادة لمدام بومبادور فعلينا الاعتراف بأن المركيزة، المأخوذة بالخيلاء، كانت أحد «العوامل» التي زادت من فعل الأسباب العامة ذات الأثر المفجع بالنسبة لفرنسا في حرب السنوات السبع. والنفوذ الذي كانت تتمتع به المركيزة دي بومبادور لم يكن راجعاً إلى قوتها وحدها وإنما كان ناجماً عن سلطة الملك الراضخ لمشيئتها. وهل يمكننا القول بأن خلال لويس الخامس عشر كانت ما هي عليه، ضرورة، بالنظر للسياق العام الذي أخذه تطور العلاقات الاجتماعية في فرنسا؟ قطعاً لا. إن السياق التاريخي سيظل ماضياً في نهجه، ويجوز أن يشغل مكان لويس الخامس عشر ملك آخر لا يؤثر النساء إيثاره لهن، ولعل سانت بوف يقول عندئذ بأن ذلك قد تم نتيجة لفعل الأسباب الفيزيولوجية الغامضة، وسيكون على حق في ما يقوله. وإذا كان الأمر كذلك فمن طبائع الأمور أن مجرى حرب السنوات السبع وخاتمتها قد أثرتا في تطور فرنسا الاقتصادي، هذا التطور الذي كان من شأنه أن يأخذ وجهة أخرى فيما لو أن حرب السنوات السبع لم تحرم فرنسا من معظم مستعمراتها. ولكن ألا تتعارض هذه النتيجة مع الفكرة القائلة بأن التطور الاجتماعي يتم وفق قوانين محددة؟ الجواب قطعاً: لا، فمهما بدا فعل الخصائص الفردية، في الحالة المذكورة آنفاً، ثابتاً لا ينازع فيه، فمما لا ينازع فيه أيضاً أن هذا الفعل لا يمكن أن يتحقق إلا في شروط اجتماعية محددة. وبعد هزيمة «روسباخ» بلغ حنق الفرنسيين على حامية سوبيز مبلغاً لا حدود له. وكانت تتلقى كل يوم عدداً من الرسائل المغفلة المليئة بالسباب والتهديد. وقد أثر ذلك في مدام بومبادور وحرمها الرقاد[29] ومع ذلك فلم تكف عن حماية سوبيز، وقد أشارت عام 1762 في رسالة بعثت بها إليه إلى أنه لم يحقق الآمال المعقودة عليه وتضيف إلى قولها هذا ما نصه: «لا تخش شيئاً سأرعى مصالحك وسأحاول أن أعيد الصفاء بينك وبين الملك»[30]. وهكذا نراها لا تكترث للرأي العام فلمَ كل ذلك؟ من الثابت أن مرد ذلك يرجع إلى أن المجتمع الفرنسي، آنئذ. لم تكن لديه الوسائل الكفيلة بإرغامها على الاكتراث له. ولكن لماذا لم يستطع المجتمع الفرنسي أن يحملها على الاكتراث له؟ لقد حال دون ذلك تكوين المجتمع الفرنسي الذي يرجع بدوره إلى علاقة القوى الاجتماعية القائمة في فرنسا يومئذ. ويتضح، بالتالي، بهذه العلاقة، لماذا أمكن لشخصية لويس الخامس عشر ولرغائب محظياته أن تترك أثراً مفجعاً في مصير فرنسا. ولو أن هذا الاستسلام للنساء كان خصيصة من خصائص الطباخين أو السواس في البلاط لا خصيصة من خصائص الملك نفسه لما كان له أي أثر تاريخي. ومن الجلي أننا لا نهتم لهذا الضعف إلا بقدر المكانة الاجتماعية التي يشغلها من ابتلي فيه. ويدرك القارئ أن هذا التعليل يمكن أن ينطبق على جميع الأمثلة الواردة آنفاً. ويكفي أن يبدل ما ينبغي تبديله كأن يضع «روسيا» مكان «فرنسا» و«بوتورلين» مكان «سوبيز»...الخ وعلينا ألا نعيد ما سبق بيانه. ونخلص إلى أن الأفراد، بفضل الخصائص والميزات التي يتمتعون بها يمكنهم أن يؤثروا في مصير المجتمع. ويمكن أن يكون أثرهم شديداً إلا أن إمكان هذا التأثير وكذلك الساعة أو مداه محددان بتنظيم المجتمع وبعلاقات القوى الاجتماعية. إن سجايا الفرد ليست «عاملاً» من عوامل التطور الاجتماعي إلا بمقدار ما تسمح العلاقات الاجتماعية بذلك ويبقى هذا العامل ما سمحت به هذه العلاقات وبالشكل الذي تبيحه. من الممكن أن يتعرض علينا بأن الأثر الذي يحدثه الفرد إنما يعود إلى مواهبه! نحن على وفاق في الرأي غير أن الفرد لا يستطيع إبراز مواهبه إلا عندما يحتل في المجتمع مكاناً يتيح له ذلك. فلماذا وجد مصير فرنسا نفسه في يد رجل تنقصه الأهلية اللازمة وتنعدم فيه الرغبة لتكريس نفسه للصالح العام؟ إن ذلك يرد إلى التنظيم الاجتماعي، فالتنظيم الاجتماعي هو الذي يحدد، في كل حين، الدور وبالتالي الأهمية الاجتماعية التي يمكن أن توسد إلى بعض الشخصيات الموهوبة أو عديمة الأهلية. ولكن إذا كان دور الفرد مرتهناً بالتنظيم الاجتماعي فأنى للتأثير الاجتماعي، المشروط بهذا الدور، أن يناقض الفكرة القائلة بأن التطور الاجتماعي يسير وفق قوانين ثابتة؟ إن هذا الدور لا يتعارض والمفهوم المشار إليه وإنما هو وجه من أوجه التعبير الصارخة عنه. وتجدر الإشارة إلى أن إمكان تأثير الفرد في المجتمع، هذا الإمكان الذي يحدده التنظيم الاجتماعي، يفتح الباب واسعاً أمام تأثير ما يسمى المصادفات على المصير التاريخي للشعوب. إن شهوانية لويس الخامس عشر كانت نتيجة ضرورية لتكوينه الشخصي، ولكن ذلك، بالقياس إلى السياق العام للتطور الفرنسي، كان مجرد مصادفة. ومع ذلك فقد ترك هذا التكوين الشخصي أثره في مستقبل فرنسا وكان أحد الأسباب التي حددت هذا المستقبل. إن موت «ميرابو»، كان بالبداهة، نتيجة تطور مرضي يخضع لقوانين الطبيعة، ولكن ضرورة هذا التطور لا علاقة لها بسير التطور العام في فرنسا. لقد نجم الموت عن بعض الصفات التي تتميز بها البنية العضوية لذلك الخطيب المفوه وللشروط الفيزيائية التي تسرب، من خلالها، الداء إليه. وهذه الصفات وهذه الأسباب لا تعدو كونها مجرد مصادفات بالقياس إلى سير التطور العام لفرنسا. ومع ذلك فقد ترك موت «ميرابو» أبلغ الأثر في سياق الثورة اللاحق، وينبغي إدراجه في عداد الأسباب التي استدعت تلك الثورة. إن عمل الأسباب العرضية لأيرزوابين في المثل المضروب عن «فريدريك» الذي نجا من المأزق الذي وقع فيه نتيجة تردد «بوتورلين». ولكن تسمة «بورتورلين»، بالنسبة إلى التطور العام لروسيا، لا يعد وكونه أمراً عرضياً، بالقدر الذي سلفت الإشارة إليه، وبدهي أن هذه التسمية لم تكن لها أية علاقة بالسياق العام لتطور بروسيا. ومع ذلك فثمة ما يدعو للافتراض بأن تردد «بوتورلين» هو الذي أنقذ «فريدريك». ولو كان «سوفوروف» مكان «بوتورلين» لأمكن أن يبدل هذا من تاريخ بروسيا. وتبعاً لذلك نرى أن مصائر الأمم مرتهنة بالمصادفات التي يمكن أن نسميها مصادفات من الدرجة الثانية. كان هيجل يقول: «كل ما هو قام ينطوي على عنصر من عناصر المصادفة». ففي مجال العلم لا ينصرف اهتمامنا إلا إلى الشيء «التام» لهذا يمكننا القول بأن جميع ظاهرات التطور التي يدرها العلم تنطوي على عنصر من عناصر المصادفة. ولكن ألا ينفي ذلك إمكان المعرفة العلمية للحوادث؟ قطعاً لا، لأن المصادفة ظاهرة نسبية، فهي لا تبدو إلا في نقاط التقاطع التي تتصالب فيها ظاهرات التطور الضرورية. إن ظهور الأوروبيين في أمريكا كان بالنسبة إلى سكان المكسيك والبيرو مجرد مصادفة بمعنى أنه لم يتأت عن التطور الاجتماعي لتلك البلاد. غير أن الشغف بخوض البحار، هذا الشغف الذي استحوذ على الأوروبيين في الغرب، في نهاية القرون الوسطى، لم يكن مصادفة وكذلك السهولة التي كانت قدرة الأوروبيين تحطم بها مقاومة السكان الأصليين. ولم تكن نتائج فتح المكسيك والبيرو من قبيل المصادفات لأنها نجمت عن محصلة قوتين: الوضع الاقتصادي للبلاد المحتلة، من جهة، والوضع الاقتصادي للفاتحين من جهة أخرى. وهاتان القوتان ومحصلتهما يمكن أن تكون موضوع دراسة علمية دقيقة. إن المصادفات التي رافقت حرب السنوات السبع تركت أبلغ الأثر في تاريخ بروسيا. غير أن هذا التأثير، لو وقع في مرحلة أخرى من مراحل تطورها، لأمكن أن ينتهي إلى نتائج أخرى. وهنا أيضاً كانت نتائج المصادفات محددة بمحصلة قوتين: الحالة الاجتماعية والسياسية التي تسود بروسيا، من جهة، وحالة الدول الأوروبية التي كانت تبسط نفوذها عليها، من جهة أخرى. وهنا أيضاً نجد أن عامل المصادفة لا يحول دون القيام بدراسة علمية للظاهرات. نحن نعلم الآن أن الأفراد يتركون غالباً أبلغ الأثر في مصير المجتمع، غير أن هذا الأثر إنما تحدده البنية الداخلية لهذا المجتمع وموقع هذا المجتمع من المجتمعات الأخرى. ولكن هذه الفكرة لا تستنفد مسألة دور الفرد في التاريخ، وعلينا الآن تناول الموضوع من منحى آخر. لقد كان «سانت بوف» يحسب أن جملة من بسائط الأسباب الغامضة، تشاكل الأسباب التي ألمع إليها، يمكنها أن تهيء للثورة الفرنسية نتيجة مناقضة للنتيجة المعروفة.وذلك خطل فاح. وبالغاً ما بلغ تداخل الأسباب السيكولوجية والفيزيولوجية البسيطة فلم يكن بمستطاعها أن تستبعد الحاجات الاجتماعية الجسيمة التي اكتنفت الثورة الفرنسية. وطالما أن هذه الحاجات لم تلب فما كان بمقدور الثورة أن يهدأ لها أوار في فرنسا. وحتى يمكن لهذه الحركة أن تؤول إلى نتائج مغايرة لما هو معروف، كان حتماً عليها أن تحل مكان الحاجات الراهنة حاجات جديدة مغايرة لها. وبدهي أن أي اجتماع لتلك البسائط من الأسباب لا يمكن أن يوجد تلك الحاجات. لقد قامت دواعي الثورة الفرنسية على طبيعة العلاقات الاجتماعية نفسها بينما بسائط الأسباب التي يفترضها «سانت بوف» لا يمكن أن تكمن إلا في الخصائص الفردية التي يتصف بها الأفراد. وفي واقع ما بلغته قوى الإنتاج يكمن السبب الأول للعلاقات الاجتماعية، وهي لا ترتهن بالخصائص الذاتية، لهذا الفرد أو ذاك، إلا بمقدار ما يكون هؤلاء الأفراد أقدر على إحكام الفن التطبيقي والإتيان بالمخترعات والمبتكرات. وليست هذه الخصائص هي كل ما فكر فيه «سانت بوف»، ولكن ما من خصيصة أخرى، يمكن استحضارها، بقادرة أن تؤثر مباشرة في حالة القوى المنتجة، وبالتالي في العلاقات الاجتماعية التي تحدد وجودها أي في العلاقات الاقتصادية التي تبتعثها. وبالغاً ما بلغت الخصائص الفردية لشخص ما فليس بإمكانه أن يلغي العلاقات الاقتصادية القائمة إذا كانت تلك العلاقات تتوافق وحالة القوى المنتجة. إن خصائص الفرد الشخصية تجعل صاحبها أقدر على تحقيق الحاجات الاجتماعية الناشئة عن العلاقات الاقتصادية القائمة أو معارضتها. وهكذا كانت فرنسا، من الوجهة الاجتماعية، بحاجة قصوى، في نهاية القرن الثامن عشر، لأن تحل مكان المؤسسات السياسية البائدة مؤسسات أخرى أكثر انطباقاً على نظامها الاقتصادي الجديد. إن أنجع رجال السياسة المرموقين، في ذلك الحين، هم الذين استطاعوا، أكثر من سواهم، الإسهام في تحقيق هذه الحاجة الملحة. ولنسلم بأن «ميرابو» و«روبيسبير» و«بونابرت» كانوا من هذا النفر من الناس، فما الذي كان يحدث لو أن الموت المبكر لم يختطف «ميرابو» ويقصه عن مسرح السياسة؟ أكان الحزب الملكي الدستوري يستمر طويلاً محافظاً على قوته؟ وهل كانت مقاومته للجمهوريين تشتد عنفاً واحتداماً؟ تلكم هي المسألة. ما من «ميرابو» في الدنيا كان بوسعه أن يحول دون ظفر الجمهوريين. إن قوة «ميرابو» تكومن في تأييد الشعب له وثقته به. والشعب يريد الجمهورية والبلاط يستثيره بإصراره على الدفاع عن النظام القديم، وعندما يحيط الشعب علماً ويقتنع بأن «ميرابو» لا يوافقه في نزعاته الجمهورية فسوف يكف عن تأييده، ومن المحتمل أن يفقد هذا الخطيب المفوه كل نفوذه قبل أن يصبح، بلا ريب، ضحية من ضحايا الحركة التي جاهد عبثاً لإيقافها. ويصدق هذا القول أو ما يقاربه على «روبيسير». ولنفترض أنه كان من حزبه على جانب من القوة لا يمكن أن تتوافر لشخص سواه. ولكن ذلك لم يكن ليجعله قوة الحزب كلها. فلو أنه قتل في كانون الثاني من عام 1793 نتيجة لسقوط آجرة عليه، لحل مكانه شخص آخر حتى ولو كان دونه من عدة وجوه، ولن تكف الأحداث عن السير وفاق ما كانت ستصير إليه وفي الاتجاه نفسه. وما كان بمقدور الجيروندين، حتى في هذه الحالة، تحامي الهزيمة التي حاقت بهم، ويمكن أن يفقد حزب روبيسبير السلطة في زمن أقصر، وعندئذ ما كنا نتحدث عن الحركة الانقلابية التي جرت في شهر ترميدور بل كان بوسعنا أن نتحدث عن الحركة الانقلابية التي جرت في شهر فلوريال أو بريليال أو مسيدور. وقد يوجد من يقول بأن «روبسبير» في حركته الإرهابية الصاخبة كان أبعد من أن يؤخر في سقوط حزبه بل لعله كان قد عجل فيه. ونحن هنا لا نناقش هذا الاحتمال ولنفترض أنه يقوم على دعائم راسخة. وفي هذه الحالة يتم سقوط حزب روبسبير لا في شهر ترميدور بل في شهر فريكتيدور أو فنديمير أو برومير. وسيتم سقوطه عاجلاً أو آجلاً. وكان ذلك أمراً مقضياً لأن طبقات الشعب التي كان يرتكز عليها هذا الحزب لم تكن مهيأة لأن تمكث في الحكم طويلاً. وعلى كل حال فلا يمكن الكلام هنا على نتائج «مناقضة» للنتائج التي أسهم عمل روبسبير العنيف في إيجادها. ولا يزيد على ذلك افتراضنا أن رصاصة قضت على حياة نابليون في معركة «أركول». إن ما قام به في معارك إيطاليا وغيرها كان بوسع قواد آخرين أن يقوموا به. وقد يتحقق ذلك بمواهب أدنى نسبياً دون أن يستتبع إحراز انتصارات مؤزرة. غير أن الجمهورية الفرنسية كانت ستخرج ظافرة، على كل حال، من الحروب التي خاضتها، لأن جنودها كانوا أفضل جنود أوروبا قاطبة. وأما ما يتعلق بانقلاب 18 برومير وأثره في حياة فرنسا الداخلية فنجد، هنا أيضاً ووفقاً للاحتمالات كافة، بل أن السياق العام والنتائج الناجمة عن الأحداث، ستكون، من حيث الأساس، النتائج نفسها التي تمت تحت حكم نابليون. إن الجمهورية التي تلقت الضربة القاضية في 9 ترميدور كانت سبيلها الاحتضار البطيء. وستعجز حكومة الإدارة (الديركتوار) عن إقرار النظام وهو ما ترومه البرجوازية قبل كل شيء بعد أن خلعت نير الأنظمة الأخرى. وكان يلزم لاستتباب النظام «سيف ماض» على حد تعبير «سييز». وفي سبيل إيجاد هذا «السيف المحسان» انصرف التفكير إلى جوبيرت ولكن جوبيرت قتل في «نوفي» فجرت على الألسنة أسماء مورو ومكدونالد وبرنادوت[31]، ولم يذكر اسم نابليون إلا مؤخراً. ولو أن نابليون قتل كجوبيرت لما كان موضع بحث ولكان عثر على «سيف» آخر. وغني عن القول أن الرجل الذي توصله الأحداث إلى مقام الديكتاتورية يترتب عليه أن ينزعه، بلا هوادة، إلى السلطة وأن يدوس ويسحق، دون رحمة أو شفقة، كل من يقف في طريقه. وكان بونابرت يتمتع بإرادة حديدية ولا يدخر وسعاً للوصول على أهدافه. ولكنه لم يكن أوحد ع صره في الأنانية والقدرة والمواهب والطموح. والمكان الذي نجح في إشغاله لم يكن بالمقدر له أن يظل شاغراً. ولنفترض أن قائداً آخر تسنم هذا المنصب وكان أكثر إيثاراً للسلم ولم يؤلب عليه أوروبا. ثم قضى نحبه في قصر التويلري بدلاً من جزيرة سانت هيلين، وعندئذ ما كان بمقدور آل بوربون أن يعودوا إلى فرنسا. وهذه النتائج، بالنسبة إليهم، تغدو مغايرة لما حدث فعلاً.. أما إذا أخذت القضية بالنسبة إلى سياسة فرنسا الداخلية، فلن تختلف النتائج عما تم فلاً إلا بالقدر اليسير. لأن هذا «السيف الماضي» بعد أن يستتب النظام وتتأكد سيطرة البرجوازية، لا يلبث أن يتعبها مدفوعاً باستبداديته وبالعادات المستحكمة في نفسه من حياة الثكنات. وعندئذ تقوم حركة ليبرالية كالتي حدثت في عهد «الرستوراسيون» ويشتد النضال شيئاً فشيئاً. وبما أن «السيوف المواضي» تفتقر إلى المرونة فمن المحتمل أن يرقى «لويس فيليب» الفاضل عرش أبناء عمومته الأعزاء لا في عام 1830 وإنما في عام 1820 أو في عام 1825. وهذه التغيرات التي تطرأ على سياق الأحداث كان من شأنها أن تؤثر، إلى درجة ما، في الحياة السياسية الداخلية لأوربا وبالتالي في حياتها الاقتصادية. ولكن النتيجة النهائية لم يكن بمقدورها، بأي شكل، أن تجيء «مناقضة» لما حدث. ويمكن للأفراد ذوي النفوذ، بفضل الخصائص الفكرية وبفضل صفاتهم الذاتية، أن يعدلوا في الملامح التي تتلبسها الأحداث وبوسعهم أيضاً تغيير بعض نتائجها الخاصة. ولكنهم لا يستطيعون تغيير الاتجاه العام المحدد بقوى أخرى. ـ 7 ـ وهاكم أيضاً ما تجب ملاحظته. إننا، في مناقشتنا دور الرجال العظام في التاريخ نقع فريسة خطأ في التقدير نرى من المفيد استرعاء انتباه القارئ إليه. عندما أخذ نابليون علا عاتقه القيام بدور «السيف الماضي» المدعو إلى إنقاذ النظام الاجتماعي نحى عن القيام به جميع القواد القادرين على إتيان ما فعله بما يماثله أو يقاربه. وعندما دعت الحاجة الاجتماعية لديكتاتور عسكري أوحد، صلب العود، حالت الهيئة الاجتماعية دون إشغال هذا المكان من قبل القواد العسكريين الآخرين الموهوبين. ومنذ ذلك الحين حالت قوة هذه الهيئة دون ظهور مواهب من الطراز نفسه. ومن هذه الناحية جاء خطأ التقدير الذي ألمعنا إليه. إن قدرة نابليون الشخصية تبدو لنا مبالغاً فيها كثيراً لأننا ننسب إليه كل القوة الاجتماعية التي دفعت به إلى المكان الأول وأيدته بدعمها. ولئن تبدت لنا قدرته الشخصية خارقة، فما ذلك إلا لأن القدرات الأخرى لم يقيض لها أن تخرج من عالم القوة إلى عالم الفعل. وعندما يطرح هذا السؤال: ما الذي كان سيحدث لو لم يظهر نابليون؟ تتيه مخيلتنا في تأملاتها وتتراءى لنا الحركة الاجتماعية التي ترتكز عليها قوته مستحيلة التحقق بدونه. في تاريخ التطور الثقافي للإنسانية يغدو من الندرة بمكان أن يطمس نجاح فرد المعية فرد آخر. ونحن، دواليك، عرضة للخطأ في التقدير الذي نوهنا به. فعندما يطرح الوضع الاجتماعي أمام ذوي الفكر ا لناطقين باسمه جملة من المهام تجتذب هذه المهام انتباه بقية الأدمغة المفكرة حتى تتحقق. وعندما تتحقق ينصرف انتباههم إلى مواضيع أخرى. وحينما ينجز الشخص الموهوب (آ) المهمة (س) ينصرف انتباه الشخص (ب) إلى مهمة أخرى هي (ع). وعندما يطرح هذا السؤال: ما الذي كان يحدث لو أن (آ) قضى نحبه قبل أن ينجز المهمة (س) فقد يتخيل المرء، لأول وهلة، أن سمط التطور الفكري قد انفرط عقده، وننسى أن موت (آ) يجعل (ب) أو (ج) أو (د) يأخذ كل منهم على عاتقه إتمام هذه المهمة. وبذلك يستمر عقد التقدم بالرغم من موت (آ) السابق لأوانه. وثمة شرطان لا بد من توافرهما حتى يتمكن شخص موهوب، يتمتع بخلال معينة، منم أن يحدث بواسطتها تأثيراً عميقاً في سياق الأحداث. ينبغي لهذا الشخص، أولاً، أن يستجيب، بفضل مواهبه، أكثر من سواه لحاجات الزمن الاجتماعية. وبدهي أن نابليون لم يكن بمقدوره أن يصبح امبراطوراً فيما لو أوتي بدلاً من العبقرية العسكرية عبقرية موسيقية كبتهوفن. وينبغي ثانياً ألا يقف النظام الاجتماعي القائم عائقاً أمام الفرد الحائز على الأهلية التي تستدعيها الفترة الزمنية المعينة. ولو أن النظام القديم استمر خمساً وسبعين سنة أخرى لما زاد اعتبار نابليون بعد موته عن كونه لواء مغموراً أو بالأحرى العميد نابليون[32]. وفي عام 1789 كان القواد «دافو» و«ديزي» و«مارموت» و«مكدونالد» برتبة ثانية وكان «برنادوت» برتبة رقيب. وكان «هوش» و«مارسو» و«ليفيفر» و«بيشفر» و«ناي» و«مسينا» و«مورا» و«سولت» في عداد صف الضباط. وكان «أوجيرو» مدرباً في لعبة المبارزة بالسلاح و«لان» صباغاً و«غوفيون سان سير» ممثلاً و«جوردان» بائع حوائج نسائية و«بيسبير» حلاقاً و«برون» طوبوغرافياً و«جوبيرت» و«جينو» طالبين في كلية الحقوق و«كليبر» مهندساً معمارياً. ولم يكن «مورتيه» قد أدى بعد خدمته العسكرية في الجيش[33]. ولو أن النظام القديم قد امتد إلى يومنا لما كان ليدور في خلد أحد منا أن الممثلين والطوبوغرافيين والحلاقين والصباغين والطلاب في معهد الحقوق وبائعي أدوات الزينة، سيصبحون من العسكريين البارزين وأصحاب النفوذ في فرنسا وفي نهاية القرن الماضي[34]. لقد لاحظ ستندال أن رجلاً ولد في السنة التي ولد فياه «تتين» أي عام 1477، بوسعه، خلال أربعين سنة، أن يكون معاصراً «لرافييل» الذي توفي عام 1520 و«لينارد دي فنسي» المتوفى عام 1519، وأن يقضي سنين طوالاً مع «كورييج» المتوفى عام 1534 و«ميكيل انج» المتوفى عام 1563، ولن يزيد عمره عن 34 سنة عند وفاة «جيورجيون» ويمكنه أن يتعرف على «تنتوري» و«باسانو» و«فيرونيز» و«جول رومان» و«اندريا ديل سورتو»، وباختصار يجوز أن يصبح معاصراً لمشاهير الرسامين الإيطاليين ما خلال المنتسبين منهم إلى مدرسة «بولوني» والذين ظهروا بعد مضي قرن من ذلك التاريخ. وبالمقابل يمكننا القول أن شخصاً ولد في السنة نفسها التي ولد فيها «رومان» كان بوسعه أن يتعرف على جميع مشاهير الرسامين الهولنديين[35] وأن شخصياً له مثل عمر شكسبير كان بمقدوره أن يكون معاصراً لمجموع المسرحيين العظام[36]. ولو لوحظ منذ زمن بعيد أن الرجال الموهوبين يظهرون حيثما تكون الشروط الاجتماعية ملائمة لنموهم وهذا يعود بنا إلى القول بأن كل موهبة تظهر، أي تصبح قوة اجتماعية، لهي ثمرة العلاقات الاجتماعية. وعندئذ نستطيع أن ندرك، كما قلنا، لماذا لا يتمكن الرجال الموهوبون إلا تعديل السمة الخاصة للأحداث لا السياق العام لها. ذلك أن هؤلاء الرجال أنفسهم لا يوجدون إلا بفضل هذا السياق العام، ولولاه لما كان بمستطاعهم أن يتخطوا العتبة التي تفضل الممكن عن الواقع. ومما لا ريب فيه أن ثمة موهبة وموهبة وقد قال «تين» بحق[37]: «عندما تدفع حضارة جديدة فناً جديداً في طريق التطور. يتوافر عشر من الموهوبين الذين يعبرون نصف تعبر عن الفكرة العامة ويحتويها إثنان أو ثلاثة من العباقرة الذين يعبرون عنها بتمامها». «عندما تدفع حضارة جديدة فناً جديداً في طريق التطور. يتوافر عشرة من الموهوبين الذين يعبرون نصف تعبير عن الفكرة العامة ويحتويها إثنان أو ثلاثة من العباقرة الذين يعبرون عنها بتمامها». وإذا ما عملت أسباب آلية أو فيزيولوجية، لا علاقة لها بالمسيرة العامة للتطور الاجتماعي والسياسي والثقافي في إيطاليا، على قتل «رافاييل» و«ميكيل انج» و«ليونارد دي فنسي» في المهد فلابد أن ينتقص ذلك من كمال الفن الإيطالي. ولكن اتجاهه العام، في فترة عصر النهضة، كان سيظل على نهجه، لأن هذا الاتجاه لم يوجده «رافاييل» أو «ميكيل انج» أو «ليونارد دي فنسي» وإنما كانوا التراجمة الصادقين عنه. ولا ريب في أن كل مدرسة تنبثق عن شخص عبقري تحمل أتباعه على أن يبذلوا قصارى جهدهم ليمتلكوا أقل طرائقها شأناً. ولئن طوى الموت مبكراً «رافاييل» و«ميكيل انج» و«ليونارد دي فنسي» فلابد أن يترك موتهم نقصاً في الفن الإيطالي الملازم لعصر النهضة يؤثر بدوره، وبشدة، في عدد من الخصائص الثانوية التي يشتمل تاريخه عليها. غير أن هذا التاريخ ما كان ليتبدل إذا لم تتم، خلال التطور الثقافي لإيطاليا، تغيرات ترجع إلى الأسباب العامة. ومما لا شك فيه أن الفروق الكمية تنتهي إلى أن تصبح فروقاً نوعية. وهذا المبدأ يصدق في كل مكان وآن وهو يصدق على التاريخ نفسه أيضاً. أن تياراً فنياً لا يمكن أن يخلف أثراً بيناً إذا كان تضافر الشروط غير الملائمة من شأنه أن يودي بعدد من الأشخاص الموهوبين، الواحد تلو الآخر، وكان مقدراً لهم أن يعبروا عنه. ولكن موتهم المبكر لا يمنع هذا التيار من أن يجد تعبيراً له، إلا إذا كان مدى عمقه قاصراً عن استشارة مواهب جديدة. وكما أن العمق الملازم لكل اتجاه أدبي أو فني يتحدد بمقدار ما يبلغه من مدى بالنسبة إلى الطبقة أو الفئة الاجتماعية التي يعبر عن أذواقها وبالدور الاجتماعي المعد لهذه الطبقة أو هذه الجماعة، فلا بد له أن يرجع كل شيء، في نهاية التحليل، إلى سير التطور الاجتماعي وعلاقة القوى الاجتماعية. ـ 8 ـ وهكذا فالخصائص الفردية التي يتصف بها الرجال العظام تحدد السمة الخاصة للأحداث التاريخية. والمصادفة، بالمعنى الذي أخذنا به، تلعب دوراً ما في سياق هذه الأحداث التي تحدد الأسباب العامة، في النهاية، اتجاهها، أي تطور القوى المنتجة وبالتالي العلاقات التي تقوم بين الناس وتحددها هذه القوى. إن الظاهرات الناجمة عن المصادفة والخصائص الفردية التي يتسم بها الرجال البارزون لهي أظهر وأبين من الأسباب العامة التي يقتضي كشفها الغوص في الأعماق. إن القرن الثامن عشر كان قليل الاهتمام بهذه الأسباب العامة، لهذا اعتمد تفسيراً للتاريخ السلوك الواعي و«أهواء» الشخصيات التاريخية. وكان فلاسفة هذا القرن يجزمون بأن التاريخ كله كان سيأخذ وجهة أخرى نتيجة لأضأل الأسباب شأناً فيما لو أن «جوهراً فرداً» راح يمرح في دماغ حاكم ما. وتلكم هي فكرة طالما ترددت في سعر نظام الطبيعة. إن الزائدين عن الاتجاه الجديد في العلوم التاريخية يميلون إلى القول بأنه، رغم جميع «الجواهر الأفراد» لا يمكن للتاريخ أن يشق له طريقاً غير التي سار خطاها. وهم في سعيهم لاستجلاء عمل الأسباب العامة، جهد المستطاع، أغفلوا دور الخصائص الفردية التي تتسم بها الشخصيات صانعة التاريخ. ونتيجة لذلك فإن وجود بعض الشخصيات مكان شخصيات أخرى، أكثر أو أقل كفاءة، لا يبدل شيئاً في سياق التاريخ[38]. وعندما نقبل بمثل هذه الفرضية يترتب علينا بالضرورة الاعتراف بأن العامل الفردي لا يلعب مطلقاً أي دور في التاريخ وأن كل أمر مرده إلى عمل الأسباب العامة، إلى القوانين العامة للصيرورة التاريخية. وهذا الرأي لا يترك أي حيز للشق الصحيح الذي تحتويه الفكرة المعارضة. لهذا تحافظ تلك الفكرة، إلى درجة ما، على مبرر لوجودها. إن العداء بين هذين المفهومين قد اتخذ شكل مشاققة تشكل أحد طرفيها القوانين العامة ويشكل عمل الأفراد شقها الثاني. وإذا ما أخذنا بوجهة نظر الطرف الثاني تراءى لنا التاريخ وكأنه سلسلة من الحوادث العرضية. وإذا ما أخذنا بوجهة نظر الطرف الأول نرى، حتى السمات الخاصة للحوادث، مشروطة بتأثير الأسباب العامة ولا علاقة لها بالخصائص الفردية التي تتصف بها الشخصيات التاريخية. وينجم عن ذلك أن هذه السمات قد تحددت بالأسباب العامة ولا يمكن أن يطرأ عليها أي تعديل ولو اختلفت الشخصيات. وبذلك تستحيل النظرية إلى الجبرية. وهذا ما لم يغب عن أذهان خصومها: إن «سانت بوف» يقابل المفاهيم التاريخية لدى «مينيي» بمفاهيم «بوسييه» الذي يعتقد أن القوة التي يشترط أثرها الحوادث التاريخية تأتي من علٍ هي تترجم عن الإرادة الإلهية. ويفتش «مينيي» عن هذه القوة في الميول البشرية التي تتجلى في الحوادث التاريخية، بطريقة تمليها الضرورة شأنها شأن قوى الطبيعة. وكلاهما يعتبر التاريخ سمطاً من الحوادث ولا يمكن، بأية حال، أن يكون على غير ما كان عليه. وكلاهما آخذ بالجبر، وفي هذا المجال يقترب الفيلسوف من الكاهن. وهذا اللوم يظل له ما يبرره مادامت هذه النظرية التي ترى أن الأحداث الاجتماعية تخضع لقوانين معينة، ترد إلى الصفر إثر الخصائص الفردية في تلك الأحداث التي يطبعها بها الرجال العظام في التاريخ. وينبغي لهذا اللوم أن يزداد مادام مؤرخو المدرسة الجديدة، شأنهم في ذلك شأن مؤرخي وفلاسفة القرن الثامن عشر يعتبرون الطبيعة البشرية المرجع الأعلى الذي تصدر عنه وترضخ له جميع الأسباب العامة للصيرورة التاريخية. ولما كانت الثورة الفرنسية قد أبانت بأن الحوادث التاريخية ليست مشروطة بالسلوك الواعي وحده فقد وضع «مينيي» و«غيزو» ومؤرخون آخرون من المدرسة نفسها، على الصعيد الأول دور الأهواء التي تستبعد غالبة رقابة الوعي. ولكن إذا كانت الأهواء هي السبب الأخير والأعم للحوادث التاريخية فلم لا يكون لها أن تأخذ خاتمة مغايرة للنهاية التي نعرفها، فيما لو توافر لها رجال أكفاء قادرون على أن يوحوا إلى الشعب الفرنسي بميول تكون نقيض الميول التي كانت تحركه. لقد كان من شان «مينيي» أن يجب: بأن ميولاً أخرى لم يكن بمقدورها أن تحرك الفرنسيين نتيجة لطبيعة الخلال البشرية نفسها. وهذا صحيح من جهة. بيد أن هذه الحقيقة تتسم بالجبرية الصارخة لأنها تعود وتزعم أن تاريخ الإنسانية محدداً سلفاً، حتى في أدق جزئياته، بالخصائص العامة للطبيعة البشرية. وتنشأ الجبرية هنا من احتواء العام للخاص وعلى كل حال فتكلم هي النتيجة لهذا الشكل من الاحتواء. ولرب قائل يقول: «مادامت جميع الأحداث الاجتماعية محددة بالضرورة فليس لعملنا أي اعتبار». إنها كلمة حق عدل بها عن قصدها، إذ كان من الواجب القول: إذا كان العام يقرر كل شيء فينجم عن ذلك أن الفردي، بما فيه وجودي ليست له أية أهمية. وهذا الاستنتاج صحيح وإن كان استعماله يمضي على غير ما أهل له. وليس له أي معنى تطبيقي للمفهوم المادي الحديث عن التاريخ حيث يترك حيز للعمل الفردي. بيد أن تطبيقه على آراء المؤرخين الفرنسيين في فترة «الرستوراسيون» له ما يبرره. ولم يعد بوسعنا اليوم أن نعتبر الطبيعة البشرية السبب النهائية والأعم في مجال الصيرورة التاريخية. وهي إذا كانت ثابتة لا تتبدل فليس بوسعها أن تفسر سياق التاريخ المتبدل وإذا كانت تتبدل فمن البدهي أن هذه التبدلات نفسها تغدو مشروطة بالصيرورة التاريخية. وعلينا اليوم أن نعترف بأن السبب النهائي والأعم للصيرورة الإنسانية في التاريخ يكمن في تطور القوى المنتجة التي تحدد التغيرات المتتالية في العلاقات الاجتماعية بين الناس. وبجانب هذا السبب العام نرى أسباباً خاصة أي الوضع التاريخي الذي يتم، من خلاله، تطور القوى المنتجة لشعب ما والذي يرجع، بدوره وفي النهاية إلى تطور القوى نفسها لدى الشعوب الأخرى، وهذا ما يردنا إلى السبب العام نفسه. وأخيراً فإن أثر الأسباب الخاصة يتمه عمل الأسباب الفردية أي عمل الخصائص الشخصية لرجال الدولة ومجموع «المصادفات»، وبفضلها تأخذ الأحداث أخيراً ملامحها الفردية. ولا تستطيع الأسباب الفردية أن تعدل بصورة أساسية عمل الأسباب العامة والخاصة التي تحدد، بالتالي، اتجاه وحدود الأثر الذي تخلفه الأسباب الفردية. ومهما يكن من أمر فمن المؤكد أن التاريخ سيأخذ ملامح أخرى فيما لو استعيض عن الأسباب الفردية التي تؤثر فيه بأسباب أخرى من المرتبة نفسها. إن «مونود» و«مبرخت» يسترسلان في استشفاف كل شيء من خلال الطبيعة البشرية. وقد صرح «لامبرخت» مراراً بأن يعتبر البسيكولوجيا الاجتماعية سبب الأحداث التاريخية. وهذا خطأ فادح ومن مغبته أن الرغبة، المستحبة في حد ذاتها، ينبغي لها أن تأخذ بعين الاعتبار الحياة الاجتماعية بكاملها. وهذا من شأنه الإفضاء إلى انتقائية جوفاء بقدر ما هي منتفخة. أو الإفضاء، لدى من أعمق تفكيراً، إلى براهين كالتي أوردها «كابليتز» في كلامه على الأهمية المقارنة للذكاء والعاطفة. لنعد إلى موضوعنا. إن الرجل العظيم يعد عظيماً لا لأن صفاته الشخصية تطبع الأحداث التاريخية بطابعها الخاص بل لأنه يتحلى بصفات تجعله أقدر من الآخرين على الاستجابة للضرورات الاجتماعية العظيمة في عصره. تلك الحاجات التي تتأتى عن الأسباب العامة والخاصة. إن «كارليل» في كتابه المعروف عن الأبطال يسمي الرجال العظام البادئين. وتأتي هذه الكلمة في موضعها تماماً. نعم إن الرجل العظيم هو البادئ لأنه يرى أبعد من الآخرين ويتشوف بقوة أكثر منهم. إنه يجد حلاً للمسائل العلمية الراهنة بقدر ما يطرحها التطور الثقافي المتقدم للمجتمع، وهو الذي ينبه إلى الحاجات الاجتماعية الجديدة، التي خلفها تطور العلاقات الاجتماعية في داخل المجتمع، ويأخذ على عاتقه أمر تحقيقها. إنه بطل، لا بمعنى أنه قادر على إيقاف أو تعديل السياق الطبيعي للأشياء بل بمعنى أن عمله هو التعبير الواعي والحر عن سياق هذه الأشياء الضروري وغير الواعي. وكل أهميته تكمن هنا وكذلك قوته. ولكن هذه الأهمية جبارة وهذه القوة هائلة. ما هو السياق الطبيعي للأحداث؟ كان «بسمارك» يرى أن ليس بوسعنا أن نصنع التاريخ بل علينا الانتظار حتى يصنع نفسه. ولك بفضل من يصنع التاريخ؟ إنه يصنعنا بفضل الإنسان الاجتماعي وهو «العامل» الوحيد. إن الإنسان الاجتماعي يخلق علاقاته الخاصة أي العلاقات الاجتماعية. ولئن أوجد، في فترة ما، هذه العلاقات بدلاً من تلك فلا يتم ذلك، بداهة، دون مسببات. وحالة القوى المنتجة هي التي تقدم السبب وما من رجل عظيم يستطيع أن يفرض على المجتمع علاقات لا تتلاءم أبداً مع حالة القوى المنتجة أو لم يئن بعد أو لم يئن بعد أوان تلاؤمها. وبهذا المعنى يغدو متعذراً عليه أن يصنع التاريخ إذ يصبح كمن يقدم أو يؤخر عبثاً عقارب ساعته. فليس بمقدوره أن يعجل في سير الزمن وليس بمستطاعه أن يعود به القهقري. وهنا كان «لامبرخت» على حق تماماً، فما كان بوسع «بسمارك» وهو في أوج عظمته، أن يعود بألمانيا إلى حالة الاقتصاد البدائي. إن العلاقات الاجتماعية منطقها: فما دام الناس يعملون معاً، وفق علاقات معينة، فهم يشعرون ويفكرون ويعملون بالضرورة تبعاً لطريقة واحدة. ولن يكسب رجل الدولة شيئاً إذا خاض معركة ضد هذا المنطق. والمنطق الطبيعي للأشياء، أي هذا المنطق نفسه عن العلاقات الاجتماعية، يقضي على جهوده قضاء مبرماً. ولكن إذا استطعت أن أحيط علماً بالاتجاه الذي تأخذ فيه العلاقات الاجتماعية طريق التبدل، نتيجة التغيرات التي تطرأ على التطور الاجتماعي والاقتصادي للإنتاج، فبوسعي عندئذ أن ألم بالاتجاه الذي تتعدل طبقاً له، وبدورها، البسيكولوجيا الاجتماعية. ويصبح لدي، حينئذ، إمكان التأثير في هذه البسيكولوجيا أن التأثير في البسيكولوجيا الاجتماعية معناه التأثير في الأحداث التاريخية. وتبعاً لذلك أستطيع، بوجه من الوجوه، أن أصنع التاريخ ولست بحاجة لانتظاره حتى «يصنع نفسه». يعتبر «مونود» أن الأحداث والشخصيات التاريخية، الهامة حقاً، إنما تقوم على كونها إشارات ورموزاً لتطور المؤسسات والشروط الاقتصادية. الفكرة صحيحة ولكن طريقة التعبير يخالطها شيء من عدم الصحة. ونظراً لكونها صحيحة فمن الخطأ أن يعارض عمل الرجال العظام «بالحركات الوئيدة» لتلك الشروط والمؤسسات. إن تغييراً متفاوت البطء ينتاب «الأسباب الاقتصادية»، ويرغم المجتمع، بصورة دورية، على تطوير مؤسساته عاجلاً أم آجلاً. إن هذا التطور لا يتم من «تلقاء نفسه» بل يستلزم دائماً تدخل الرجال الذين توضع أمامهم المسائل الاجتماعية الهامة. والرجال الذين يسمون عظاماً هم الذين يساهمون أكثر من الآخرين في إنجاز هذه المهام. أجل، إن إنجاز مهمة ما لا يعني مطلقاً أن يكون الإنسان «رمزاً» أو «علامة» للمهمة التي تحققت. ولئن كان «مونود» كما يبدو لنا، قد أقدم على مثل هذه المعارضة، مأخوذاً بفتنة كلمة: وئيدة، فإن هذا الوصف أثير إلى الكثيرين من التطوريين المعاصرين. وهذا النمط مفهوم من الجهة البسيكولوجية: فهو ينشأ، بالضرورة، في الوسط الذي يشعر بالاعتدال والدقة في تحديد الأمور. ولكنه، من الوجهة المنطقية لا يقوى على الصمود أمام النقد، كما أظهر «هيجل» ذلك. إن ميدان العمل الواسع لا ينفسح أمام «البادئين» والرجال العظام وحدهم وإنما ينفسح أمام جميع الناس، أمام الذين يملكون عيوناً للنظر وآذاناً للسمع وقلباً لمحبة القريب. إن مفهوم العظمة نسبي. «وليس للإنسان حب أعظم من أن يهب حياته في سبيل إخوانه»[39].
[1] ـ كابليتز: (1848 ـ 1993) كاتب شعبي روسي. [2] تنصرف الإشارة هنا إلى ن.ميخائيلو فسكي (1842 ـ 1904) الباحث النظري لجماعة الشعبيين الأحرار في روسيا. وقد رد على كابليتز لدى صدور مقالته في مجلة «الملاحظات الأدبية» عام 1878. [3] ـ برايس (ريتشارد(:اقتصادي وناشر انجليزي (1723 ـ 1791). [4] ـ بريستلي (جوزيف): فيزيائي وكيميائي إنجليزي وفيلسوف مادي (1723 ـ 1804). [5] ـ إن هذا المزاج من المادية واليقينية الدينية يمكن أن يدهش فرنسياً في القرن الثامن عشر أما في انجلترا فليس ثمة ما يدعو للدهشة، لقد كان بريستلي نفسه رجلاً متديناً (الحقيقة على هذا السفح من البرينة والخطأ على السفح الآخر). [6] ج ـ لانسون: تاريخ الأدب الفرنسي باريس 1896 صحيفة 446. [7] ـ من العلوم أن تعاليم كالفن تقضي باعتبار أ‘مال الناس محددة سلفاً بالإرادة الإلهية ووفقاً لهذه التعاليم فإن الله يصطفي بعض خدامه لينقذ الشعوب المضطهدة بدون حق. وكل شيء يحمل على الاعتقاد بأن كرومويل كان يعتبر نفسه صنيعة من صنائع الله، فكان لا ينفك يردد، بصدق طبعاً، أن أعمال كانت ثمرة الإرادة الإلهية، وكل ما قام به كان مصبوغاً، مسبقاً، بلون الضرورة. ولم يكن هذا الاعتقاد ليقعد به عن التطلع إلى انتصارات جديدة وإنما كان دعماً لمجهوده الذي لا يقهر. [8] ـ ستاملر (رودلف) (مولود عام 1856): فيلسوف من المدرسة الكانتية الجديدة، ينكر وجود قوانين تحدد التطور التاريخي. [9] ـ وذلك كما لو أن البوصلة تجد لذة في التوجه بأحد طرفيها إلى الشمال، لأنها تعتقد بأنها تدور مستقلة عن أي سبب آخر، دون أن تلاحظ الحركات غير الملموسة للجاذبية المغناطيسية. (ليبنيتز ـ تيودسي ـ لوزان 1740 ـ ص598). [10] ـ يقصد هنا الشعبيين الروس: ب.لفروف وب.ميكايلوفسكي و ن.كارييف وآخرين. [11] ـ ف. بيلنسكي (1811 ـ 1848) ناقد وناشر روسي مرموق. [12] ـ وهاكم مثالاً آخر يبرز بوضوح حدة العواطف التي يتسم بها هذا النفر من الناس. فقد كتبت ريني دي فرانس دوقة فيرات (ابنة لويس الثاني عشر) إلى معلمها كالفن ما يلي: «كلا لم أنس أبداً ما كتبته لي من أن داود قد كره أعداء الله كرهاًَ مميتاً. ولا أبتغي مخالفة ذلك أو مناقضته. ولئن علمت أن الملك والدي والملكة والدتي والمرحوم الأستاذ زوجي وجميع أولادي سيعاقبون من قبل الله فسأبغضهم وأمقتهم مقتاً مميتاً وأتمنى لهم الجحيم مثوى..الخ» فأية قوة ضارية لا تقاوم لا يكون كفاء لها هؤلاء الناس المفعمون بمثل هذه العواطف؟ ومع ذلك فهم ينكرون حرية الاختيار؟ [13] ـ سيمل ـ جورج (1855 ـ 1918) فيلسوف وباحث اجتماعي ألماني مثالي النزعة ومن أتباع كانت. [14] ـ الأتباع الروس: وهكذا كان يسمى الاشتراكيون الديمقراطيون الروس، أتباع ماركس، بغية تضليل جهاز الرقابة. [15] ـ تستحيل الضرورة إلى حرية. لا لأنها تتوارى بل للسبب الوحيد هو أن تماثلهما «الداخلي» الكامن قد تجلى أخيراً. (هيجل). [16] ـ «المجلة العلمية» حيث ظهر هذا الكتاب عام 1898 يحمل اسماً مستعاراً لمؤلفه هو: أ.كيرسانوف. [17] ـ لامبراخت كارل (1856 ـ 1915) مؤرخ ألماني برجوازي ومؤلف تاريخ ضخم عن ألمانيا. [18] ـ فيكو: فيلسوف ونؤرخ إيطالي جاء في النصف الأول من القرن الثامن عشر. مونتسكيو: عالم اجتماعي فرنسي جاء في الفترة نفسها. فيردر: فيلسوف ومؤرخ ألماني جاء في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. لقد جهد هؤلاء في مؤلفاتهم حتى يقيموا الدليل على أن التطور التاريخي يخضع لقوانين محددة وحتى يظهروا أن سير الأحداث التاريخية لا يتعلق لا بإرادة الملوك ورجال الدولة والحكام ولابرغائبهم. وظن فيكو أنه عثر على هذه القوانين في تناوب الازدهار الاضمحلال يعتور الأمم، على التوالي، في دورة التاريخ الخالدة، هذه الدورة التي تقررها الإرادة الإلهية.وحاول مونتسكيو وهيردر أن يقيما الدليل على هذه القوانين بالأثر الذي تخلفه في المجتمع العوامل الطبيعية وبخاصة الإقليم والبيئة الجغرافية. [19] ـ الآثار الكاملة للكاهن مابلي، لندن 1789 الجزء الرابع الصفحات 3، 4، 32، 192. [20] ـ المرجع نفسه ص109. [21] ـ قارن أولى «الرسائل عن تاريخ فرنسا» مع دراسة للنوع الدرامي الجدي في الجزء الأول من الآثار الكاملة لبومارشي. [22] ـ آثار شاتوبريان الكاملة عام 1836 الجزء الأول ص340. ونسترعي اهتمام القارئ إلى الصحيفة التالية إذ يحسبها القارئ وكأنها كتبت من قبل م.ميكايلوفسكي. [23] ـ «اعتبارات ملحوظة عن تاريخ فرنسا» الكتاب المتمم لـ«قصص عن زمن الميرفنجيين»، باريس 1840 ص82. [24] ـ ففي مقالة كرست للطبعة الثالثة لكتاب «تاريخ الثورة الفرنسية» لمينيي بين سانت بوف الموقف الذي يقفه المؤرخ من الأفراد: «ولدى رؤيته الاهتياجات الشعبية الواسعة العميقة التي يترتب عليه وصفها ومشاهد العجز والعدمية التي تتردى فيها أسمى العبقريات وأشرف الفضائل، في الوقت الذي تنتفض فيه الجماهير، أخذته الشفقة على الأفراد ولم ير فيهم، وقد نظر إلى كل منهم على انفراد، إلا الوهن ولم يعترف لهم بأي عمل مجد إلا باتحادهم بالجمهور». [25] ـ ويزعم آخرون أن الخطيئة لم تكن خطيئة سوبيز وإنما خطيئة بروغلي الذي لم يشأن ينتظر زميله حتى لا يشاطره شرف النصر. ولا أهمية لذلك لأنه لا يبدل شيئاً من طبيعة الأمور. [26] ـ بوتورلين. أ (1694 ـ 1768) فيلد مارشال قاد الجيش الروسي خلال حرب السنوات السبع (1756 ـ 1763). [27] ـ سوفوروف (1730 ـ 1800) القائد الروسي الشهير. [28] ـ «تاريخ فرنسا» الطبعة الرابعة، الجزء الخامس عشر ص520 ـ 521. [29] ـ «مذكرات مدام هوسيه» باريس 1824 ص181. [30] ـ «رسائل المركيزة دي بومبادور» لندن 1782 الجزء الأول ص92. [31] ـ «الحياة في فرنسا خلال الامبراطورية الأولى» بقلم الفيكونت دي بروك. باريس 1895 صحيفة 35 ـ 36 والصفحات التالية. [32] ـ ومن الممكن أن يتوجه نابليون على روسيا، كما دار بخلده لسنوات خلت من نشوب الثورة. وهناك كان من المحتمل أ، يوجه ضد الأتراك أو ضد الجبلين في القوقاز. ولكن ما من أحد كان يقدر أن هذا الضابط الفقير، ولكنه الكفوء، كان بإمكانه أن يصبح سيد العالم لو ساعفته الظروف. [33] ـ «تاريخ فرنسا» لمؤلفه: ت.دوري. باريس 1893 الجزء الثاني من 524 ـ 525. [34] ـ في أثناء حكم لويس الخامس عشر، توصل شخص واحد من الطبقة الثالثة هو «سيفري» إلى رتبة لواء. وأصبح الوصول إلى الوظائف العسكرية بالنسبة إلى رجال هذه الطبقة أمراً أعسر منالاً في أيام لويس السادس عشر. رامبو: «تاريخ الحضارة الفرنسية» الطبعة السادسة، الجزء الثاني. ص226. [35] ـ «تاريخ الرسم في إيطاليا» باريس 1892 ص 24 ـ 25. [36] ـ «تربورش» و«بروور» و«رامبراندت» ولدوا عام 1608. «أورمان فان استاد» و«بوث» و«فرديناندبول» ولدوا عام 1610. «فان ديرهيلست» و«جيرار دوف» ولدا عام 1613، وولد «ميتز» عام 1615 و«رومان» عام 1920 و«ويننسك» و«ايترونجن» و«بيناكر» عام 1621 و«برجهيم» عام 1624 و«بول بوتر» عام 1625 و«هان ستين» عام 1626 و«روبسدايل» عام 1630 و«فان ديرهيدن» عام 1638 و«هوبيما» عام 1638 و«ادريان فان دين فيلد» عام 1639. إن «شكسبير» و«بومونت» و«فليتشر» و«جونسون» و«ووبستر» و«ماسينجر» و«فورد» و«ميدلتون» و«هيوود» ظهروا معاً أو واحداً أثر واحد مشكلين جيلاً مفضلاً ازدهر ازدهاراً واسعاً على أرض أخصبتها جهود الجبل السابق. (تين: تاريخ الأدب الإنجليزي) باريس 1863 الجزء الأول من 467 ـ 468. [37] ـ تين: «تاريخ الأدب الإنجليزي» باريس عام 1863 الجزء الثاني ص4. [38] ـ وهذا ما يمكن استخلاصه عندما يشرع في البرهنة، حيال هذه الناحية، على أن الأحداث التاريخية تخضع لقوانين معينة. ولكن عندما تكون بعض هذه القوانين ترجيعاً محضاً للأحداث بنسب إلى العنصر الفردي أهمية مبالغ فيها، وما يهمنا هنا هو التحليل لا القصص. [39] ـ من إنجيل القديس يوحنا.
#بليخانوف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
-
تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل
...
-
في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو
...
-
التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل
...
-
السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي
...
-
الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو
...
-
بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
-
محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان
...
-
المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
-
القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟
...
المزيد.....
-
مقدمة في -المخطوطات الرياضية- لكارل ماركس
/ حسين علوان حسين
-
العصبوية والوسطية والأممية الرابعة
/ ليون تروتسكي
-
تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)*
/ رشيد غويلب
-
مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق
...
/ علي أسعد وطفة
-
من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين
/ عبدالرحيم قروي
-
علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري
...
/ علي أسعد وطفة
-
إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك
...
/ دلير زنكنة
-
عاشت غرّة ماي
/ جوزيف ستالين
-
ثلاثة مفاهيم للثورة
/ ليون تروتسكي
-
النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج
/ محمد عادل زكى
المزيد.....
|