لم تكن مسألة الحجاب بالنسبة لجارتي الصغيرة "أمل" قدرا محتوماً لا فكاك منه، لأنه ببساطة لم يُفرض عليها يوماً، بالشكل الذي قد يتبادر للذهن لمعنى "الإكراه"، بل هي تتصور أنها اختارته بمحض إرادتها "الحرة"، رغم أنها حين قررت أن ترتديه كانت لم تزل بعد في التاسعة من عمرها، ولعل المناخ المحافظ الذي نشأت فيه كان وراء الاختيار المبكر، فجميع قريباتها ونساء قريتها في ريف مصر وصعيدها يضعنه كأمر تلقائي، فتعاملت معه "أمل" في بداية الأمر باعتباره "مجرد لعبة" تقلّد بها من هن أكبر منها عمراً، لكن ما لبثت أن انقلبت هذه اللعبة إلى "هوية" ، و"شهادة منشأ"، و"أيقونة مقدسة" فرضت نفسها عليها، وصارت أقوى منها، ومن كل طاقات التمرد في أعماقها، لا سيما بعد أن صارت طالبة في الجامعة، وتفتحت زهورها، واندلعت ينابيعها، وبالتالي انفتحت على عوالم مختلفة، وتمردت، أو بتعبير أدق سعت إلى التمرد على طفولتها وهويتها.
اليوم .. ولسبب ما أو آخر، تريد أمل ان تتخلص من هذا الحجاب، لكن الامر لم يعد مجرد مسألة شخصية يمكن حسمها بقرار فردي، بل تحولت الى قضية عائلية، ورؤية مجتمع، فما ان اخبرت أسرتها بهذه الرغبة، حتى انفجرت أمها في وجهها، فقرار التخلي عن الحجاب اصعب كثيراً من قرار وضعه، و"دخول الحمام مش زي خروجه"، فذلك يعني تحديها للتقاليد والدين وأعراف المجتمع، وهو تحد أكبر كثيراً من قدراتها على المقاومة، لذلك تشعر "أمل" وكأنها ستتعرى إن هي خلعت حجابها، وسيوصمها كل من يعرفها، أو حتى رآها من قبل بأنها صارت فتاة "مبتذلة"، و"مشروع فريسة" له أن ينصب حولها شباكه، ولو صدته بكل قواها، فلن تجد لها نصيراً بين الناس، حتى من سيتقدم لهذه المهمة سيكون هو الآخر ذئباً، "له فيها مآرب أخرى"، إنها باختصار في حالة "دوار إنساني"، لا تعرف لماذا لا يحق لها أن تكون نفسها، ولماذا "دخول الحمام مش زي خرجه"، ولا يزعم كاتب هذه الكلمات أنه يمتلك نصيحة "ذات معنى"، أو يجد تفسيراً مقنعاً يمكنه أن يقدمها لها.
....
في العام 1928 ـ وهو بالمناسبة نفس العام الذي شهد نشأة جماعة الإخوان المسلمين ـ بدأ التحاق المرأة المصرية بالجامعة، حين التحقت خمس فتيات بكلية الطب، وثماني فتيات بكلية العلوم، وأربع فتيات بكلية الآداب، وفي سنوات لاحقة اقتحمت الفتيات كليات الحقوق والتجارة والهندسة والزراعة وغيرها بأعداد أخذت في التزايد باطراد سنوياً، واستمرت دعوات تحرير المرأة في جذب أعداد متزايدة من فتيات الطبقة الوسطى خلال عقود العشرينات والثلاثينيات والأربعينات وما بعدهم، تحت شعار المطالبة بالمساواة في التعليم والعمل، والتخلص من التخلف الذي ظل زمناً طويلاً يحط من مكانتهن الاجتماعية، وحتى الإنسانية.
وبعد نحو نصف قرن من نهاية قصة أول عالمة ذرة مصرية وعربية، شهد العام 2001 ـ وهو بالمناسبة العام الذي شهد غزوة مانهاتن الشهيرة ـ واقعة لا تخلو من مغزى، حين الغت د. فايزة مسعود، رئيس هيئة الطاقة الذرية في مصر، سفرها الى فيينا لحضور المؤتمر السنوي العام للوكالة الدولية، بسبب ما أسمته حينئذ "تفشي موجة كراهية العرب" في دول اوروبا بعد غزوة أسامة بن لادن، والذين معه، على الولايات المتحدة في 11 أيلول (سبتمبر).
كانت د. فايزة هي السيدة المحجبة الوحيدة في الوفد المصري، وقبل سفرها بساعات اتصلت بالسفير المصري تطلب منه أن يتعهد بتوفير حماية لها من المضايقات المنتشرة باوروبا بسبب الاحداث، قائلة انها كسيدة محجبة تخشى من تعرضها للاذى علي ايدي من يهاجمون المحجبات في شوارع اوروبا، وانها تطالبه بالتعهد رسمياً بتوفير الحماية لها، وكان بديهياً أن يرفض السفير المصري طلبها، مؤكدا انه لا يستطيع ان يضمن لها الحماية طوال فترة وجودها مع الوفد المصري في فيينا، لأنه ببساطة شديدة ليس وزير الداخلية في النمسا، ولا رئيس استخباراتها، وعلى الفور الغت رئيسة هيئة الطاقة الذرية سفرها، وارسلت ابحاث الهيئة مع زملائها، وأجزم أنه لو خيرت الآن بين عملها وتاريخها المهني والوظيفي كله، وبين ارتداء الحجاب لاختارت الأخير، وفضلت البقاء في المنزل، على اقتراف ما تحسبه "أمراً ربانياً" لا يقبل المناقشة ولا التأويل ولا التهاون.
ونحن هنا بالطبع لا نخوض في شأن فقهي بالإباحة أو التحريم أو الفتيا، فهذه ليست صناعتنا، ولسنا من أهلها، بل غاية ما نطمح إليه هو رصد ظواهر اجتماعية قد تكون مرتبطة بمسألة الفتيا، كما هي مرتبطة بمسائل أخرى سياسية واجتماعية واقتصادية، والواضح في هذا السياق ان المحجبات أقل إيماناً بحق المرأة في العمل والترقي لأرفع المناصب الممكنة، فالمرأة في نظرهن مكانها البيت، أما العمل فهو شأن يخص الرجل بالأساس، وحتى الموافقات منهن على مبدأ عمل المرأة، يشترطن أن يكون عملها في مهن معينة بالذات كالطب أو التدريس أو أن تكون المرأة في حالة عوز اقتصادي، إذن فالصراع الذي كان قاده قبل نحو قرن مثقفو ومثقفات الطبقة الوسطى المصرية من أجل خروج المرأة للعمل، تقوده نفس الشرائح اليوم للعودة مرة أخرى إلى البيت والحجاب، وكل المفاهيم والقيم التي حارب وقاتل وناضل آباؤهم من أجل التحرر منها، ومواجهتها وتجاوزها.. فماذا حدث ؟
.....
شاعت في مصر خلال السنوات الماضية قراءة اجتماعية خاطئة تقول إن الحجاب ظل يشكل رسالة لفتيات الريف والأحياء الشعبية، مفادها انهن محافظات ولسن فرائس سهلة، حتى غزا الحجاب بقوة الأحياء الراقية أيضاً، بعد تأثر قطاع لا يستهان به من فتيات تلك الشريحة الراقية بظاهرة "الدعاة الجدد"، مثل عمرو خالد وصحبه الميامين، حتى وصل الأمر لما يمكن وصفه بأن الأمر بات "موقفاً سياسياً"، ولم يعد مجرد خيار شخصي، لا يرقى إلى مستوى الظاهرة الاجتماعية الجديرة بالبحث والتأمل.
وتعال نذهب إلى ما هو أبعد، فقد أمسى من الواضح تزايد إقبال الفتيات مؤخراً على ارتداء الحجاب في مصر في المجتمعات الحضرية، وبين فتيات الأسر الاكثر ثراء في الطبقة الوسطى، واللواتي كن يخرجن قبل عقود قليلة إلى الشوارع بتنورات قصيرة وصدور مكشوفة، ويرتدين مثل فتيات باريس ولندن وروما في زمن الأناقة الأوروبية، وقبل غزو "الكاجيوال" الأميركي.
الآن تغير الحال تماماً، فجولة قصيرة في أي من الجامعات المصرية، أو عبر دواوين الحكومة أو حتى الأندية الاجتماعية الراقية وبالطبع شوارع "وسط البلد"، أو ضواحي "مصر الجديدة"، "المعادي"، "المهندسين"، "الزمالك"، الأكثر رقياً في العاصمة الكوزموبوليتانية المتوحشة، سيكتشف المرء ـ لو كان يحتفظ في ذاكرته بصور ومشاهد للمدينة ذاتها في أربعينات وخمسينات وستينات وحتى بداية سبعينات القرن المنصرم ـ أنها تسير حثيثاً صوب الخلف والتخلف والاختلاف وربما .. الخلافة، من يدري ؟!
انها باختصار شديد صورة مأساوية رسمها مسبقاً كهنة السماء ووكلاؤها الحصريون، ولا يكفون عن إطلاقها في وجوه قطاعات عريضة من صغار الموظفين والتكنوقراط وطلاب الجامعات، وصغار التجار والحرفيين، الذين يكتوون يومياً بنار الفقر والأسعار المرتفعة، والجنيهات القليلة التي تطارد حاجياتهم الأساسية فلا تكاد تلحق بها، ولا يجدون في النهاية إلا المزيد من الحرمان، إنه جمهور مذعور يختنق داخل دائرة الأزمات المتواصلة، يخاف الغد ولا يعرف أي تهديدات جديدة يحملها له، يبحث عن حل يداعب أحلام الخلاص الفردي لديه وتحقيق بعض المكاسب، حل لا يصطدم مع التكوين النفسي المحافظ بل يقدم المسوغ التنظيري للجمود الفكري، وليس هناك من يقدم حلولاً تحافظ على الامتيازات المتخيلة، وتغازل نزعات حب التملك والفردية سوى الجماعات الإسلامية بطريقتها الديماجوجية التي تقدم للرجال مفهوما للرجولة يسبغ عليهم في كثير من الأحيان صفات أنصاف الآلهة الأذكياء كاملي العقول، في مقابل جهل ونقص عقل النساء، وبالتالي المطالبة بأحقيتهم في السيادة أو "القوامة"، سمها ما شئت.
........
ربما يخرج علينا نفر من "أسطوات" تكريس التخلف، وتبرير التطرف، و"باش كتبة" تسويغ الديماجوجية، وترويج الدكتاتورية، ليقولوا إن هناك قطاعاً عريضاً من منتسبي "الوسطية الإسلامية"، وهي إشارة إلى جماعة "الإخوان المسلمين"، ودلالة على أدبيات الجماعة "المحظورة"، التي حسمت مسألة عمل المرأة منذ عقود مضت، وقدمت نماذج حية يحتج بها، وتقطع الطريق على الانتقادات التقليدية من جانب من يصفهم "منظرو الإخوان" بأعداء الدين والتدين، ودعاة "التغريب والتفسخ والإباحية".
والرد ببساطة، نعم قد يسمحون بعمل المرأة، ولكن الأهم هو: متى، وكيف، وأين، وفيم؟، إنها التفاصيل ـ حيث تسكن الشياطين ـ وهنا تتساءل وترد الباحثة المرحومة سناء المصري في دراستها الهامة حول رؤية الجماعات الإسلامية للمرأة، قائلة:
ـ بعد تجريدها من الحقوق السياسية كحق الانتخاب والترشيح وحقوق الترقي حتى المناصب القيادية.
ـ وبعد تجريدها من الأسلحة التي يمكن أن تدافع بها عن شروط أفضل للعمل كحق الإضراب والتظاهر، فإذا كانوا يحظرون تلك الحقوق على الرجال فما بال موقف النساء، إنهم لا يتورعون عن وصف النساء المشاركات في أي تظاهرة أو إضراب بالسافرات الفاجرات كما رأينا من قبل عشرات المرات.
ـ ثم يسمحون بعمل المرأة بعد تحديد وظائف بعينها للنساء ، كالتوليد والتمريض والتدريس والحياكة والتطريز، ولا يخفى على أحد أن تلك الأعمال ذات طابع خدمي، وهي تصنف في أدنى السلم الاجتماعي، فإذا كانت تتطلب قدراً من التعليم فهو تعليم نوعي يختلف عن نوع التعليم الذي يتلقاه الرجال، لذلك نجد أن حسن البنا* يطالب بـ " إعادة النظر في مناهج تعليم البنات ووجوب التفريق بينها وبين مناهج تعليم الصبيان في كثير من مراحل التعليم"، وبالطبع فإن نوع التعليم المفضل لدى "الإمام الشهيد"، هو الذي يؤهل بعض النساء لأن يكن خياطات زوجات الزعماء، وهوانم الإسلاميين، ولأن يكن طبيبات وممرضات هؤلاء النسوة، (حسن البنا - أصول دعوة الإخوان المسلمين - الرسائل الثلاث - ص120).
..........
إنه نموذج "المرأة الوعاء" الذي تبشر به بإلحاح جماعات الإسلام السياسي، على اختلاف مشاربها، وتنوع خطاباتها، بدءاً من "أم الجماعات"، أي الإخوان المسلمين، وصولاً إلى عصابات "التكفير"، التي قد تخبو حيناً، لكنها لا تلبث أن تظهر حين تواتيها الظروف، مروراً بالجماعة الإسلامية والجهاد والتبليغ والدعوة وكل المنظمات والحركات التي تلحق بها صفة "السلفية"، ناهيك عن حالة "الدروشة الشعبية" التي يبدو أن الحكومات الفاسدة المترهلة باتت تروج لها، حينما أصاب الضمور خيال القائمين عليها من الساسة الذين أكل الدهر عليهم وتجشأ، والتصقوا بمقاعدهم، واستنفذوا كل فرص الرسوب في الداخل والخارج، في الحرب وفي السلام، في السياسة والاقتصاد، فاستدعوا هذا النموذج البائس، الذي لا يتسق حتى مع تراثهم الشخصي، لكنهم لا يتورعون أبداً عن اللجوء لأي سلاح يكفل لهم أن يظلوا للأبد جاثمين على حاضر الأمم والشعوب ومستقبلها، الذي يصادرونه أيضاً لصالح الأنجال والأحفاد، إنه الاستبداد الذي لا يتجزأ، ولا يقبل القسمة ولا يحتمل الانتقائية، وكما يقول رجال البحث الجنائي "فتش دائماً عن المرأة"، ليس في الجريمة فقط كما يروج أعداؤها، بل في سياق تقويم أي مجتمع، وأي حضارة، فوضع المرأة هو ميزان الحكم على الأمم والشعوب والحضارات، وهو أحد المعايير الحاسمة لتحضر ذلك المجتمع، أو تخلف تلك الحضارة.
والله المستعان
......
حاشية:
ولي في طريق الشوق والليل نائمٌ
معالمٌ تخفى تارةً .... وتلوحُ
ولي في مقام الوجدِ حالٌ ونشوةٌ
بسر الهوى تغدو .. وفيه تروحُ