أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد ساحلي - القصّاص















المزيد.....

القصّاص


خالد ساحلي

الحوار المتمدن-العدد: 2296 - 2008 / 5 / 29 - 08:59
المحور: الادب والفن
    


كان يدّرس بنفس المؤسسة، ينادونه بالروسي، لصقت به هذه الكنية فصار يعرف بها يوم كان بفرنسا.

لقد منحه مظهره هذا تقية وَقـتْهُ المتاعب فأنفلت بشكله من مخالب العنصرية وأبعد عيون البوليس عنه. كانت رائحة العنصرية وقتها تفوح من كل مكان إبان الحرب. تعرف على ألمانية شقراء ساحرة في إحدى شوارع المدينة لما كانت تَهََّمُ باستئجار سيارة، كان يقف لجانبها و بلباقة دعاها للركوب، النساء أولا كما تقتضي العادة خاصة مع الآنسات الجميلات الساحرات. لم تكن إلا لتبادله احتراما مقابلا لاحترامه وبلغة فرنسية مكسّرة رديئة شكرته:"ــ شكرا لحضرتك أنت ظريف مهذب." هي ليست فرنسية، بل تأكد أكثر، هي مهاجرة مغتربة كما هو، أحاطها بعينيه المتقدتين النابهتين كنسر، فتحت عيناه باب إعجاب ترجمتها ابتسامته العريضة. هل وقع في حبها بمجرد فتحه باب سيارة الأجرة وركب لجانبها، بمجرد بادلته الاحترام كما يجب؟ عليه اقتلاع الفكرة من رأسه، ولِمَا يقلعها؟ إذا تكلم القدر سكت الإنسان و لو كان يملك كل لغات العالم. حدوث المقدّر لابد منه. تعرّقت جبهته العريضة اللامعة، بيده الخشنة أخرج منديلا أبيضا من جيبه العلوي لهندامه ومسح القطرات المتلألئة على جبينه، فتح زر ياقته، شعر بالقيد في يده، استراح قليلا الآن أو هكذا بدا له أنه مستريح، تنفس أحسن من ذي قبل. كانت السيارة مهترأة تسير ببطء كسلحفاة عجوز، أستحسن الأمر، هي من جهتها استهجنته ، ثارت ثائرتها وقالت: " مركبة يجرها حصان خير من كومة القصدير هذه بمحرك ست أحصنة." نظر السائق في مرآته العاكسة الداخلية و كأنه يتحقق من وجه المرأة وملامحها لتعلق صورتها أكثر بمخيلته، لم ينتبه لها جيدا حين استقلت سيارته وبدا جمالها أكثر وضوحا الآن، سرقت قلب السائق أيضا جعلته يرتعد ويعوي داخله كذئب" يا للفريسة الطرية و لا صيّاد لها ليست امرأة فرنسية بالتحقيق .ربما هي متشردة أو بائعة هوى " هكذا قالها في نفسه. حوّل بصره مجددا إلى الطريق الذي كان ينعرج بين مسافة قصيرة وأخرى في أحياء المدينة الجميلة ذات البناء التقليدي، شعر برغبته في الكلام وما المانع من الحديث إليها، يمكنه فتح موضوع بطرحه أسئلة حول الطقس البارد مثلا أو حول الكلاب المتشردة الكثيرة التي غزت المدينة، أو على بيادين القمامة التي صارت خاوية جرّاء الأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد من جراء الحرب، يمكنه أيضا فتح موضوع حول الصعاليك والمهاجرين وقطّاع الطرق و الخارجين عن القانون في البلاد المستعمرة هناك وراء البحر لجس النبض.هذا الذي حدث لقد اهتدى لهذا وكان قلقا للغاية يلوي بذلك على سماع الجالسة لجانبه و أفلح في ذلك بشكل رهيب حيث جذب انتباهها كما رأى الفتور و الانزعاج من جانب السائق الذي ما شك لحظة في كونه غير فرنسي، التبس عليه تحديد أصله فقد كان يتقن نطق حروف الفرنسية ومخارجها إلى درجة مهارة الفرنسيين أنفسهم. قال له السائق بعدما سكت الاثنان عن حديث تعدى العشر دقائق:" من أي ضاحية أنت ياصديق؟ يبدو أنك روسي وقهقه.




ــ روسي، أه نعم روسي الأصل. قالها وهو يضمر الكذب داخله جراء الظن من كونه بوليسيا متخفيا في صورة سائق أجرة، يجب أخذ الحذر والحيطة فالبوليس و الجند رمة منتشرون كالكلاب. قال سائق الأجرة: ــ"أين أنزلك يا سيد؟


ــ في الحي التاسع حي جان دارك القديسة.


ــ وأنت سيدتي؟


ــ نفس الحي شكرا.


صدفة عجيبة رتّب لها القدر و لا شك، ابتهجت أسارير وجهه و انطبع الارتياح عليه ولاح خيط نور للحظ.أوصلهما السائق و أنزلهما في الشارع نفسه.


ــ هنا توقف من فضلك، كم أجرك؟


ــ عشر فرنكات للواحد.


دفع الأجرة نيابة عنها وحمّحم لما رفع يده اليمنى و قبضها نحو فمه:" أين وجهتك يمكنني إيصالك إن شئت هذه طريقي في أي اتجاه تمضين؟


ــ في هذا الاتجاه




كانت لهما نفس الوجهة وكانت هذه الصدفة فاتحة العلاقة بينهما كللّت بالزواج، تعرف عليها أكثر تعرفت عليه أكثر، عرف أنها ألمانية، عرفت أنه بربري أشقر، يتقن التمويه اتقاء للعنصرية والاضطهاد، حتى أنها عرفت انخراطه في صفوف الثورة ومكّنته من تمرير السلاح كم من مرة.صارت قضيته قضيتها، لربما فعلت ذلك نصرة للقضايا العادلة للشعوب أو بطابع الانتقام. عرفت كل هذا بعد زمن طويل لماّ عدت من فرنسا بعد قضائي فيها خمس سنوات مدرّسا للمهاجرين العرب مبعوث الدولة. عرفت في الحي الذي سكنته بفرنسا حكاية شبيهة بالأسطورة عن مقهى القصّاص. لمّا رجعت للوطن عيّنت في العاصمة، هناك تعرفت على الروسي، كان أستاذ فرنسية في نفس المدرسة التي أعمل فيها، يوم سألني عن الحي الذي اشتغلت فيه بفرنسا أخبرته عن الضاحية وعن العنوان أيضا، ابتسم وقتها ولم يسألني بعدها أبدا. بطابع الفضول عرفت عنه شبابه. كان عاملا هناك وأنه تزوج من ألمانية، حكا لي عن مقهى القصّاص وكيف أكترى غرفة في ذاك النزل القديم لسنتين حتى ألفه الجميع و أطمئنوا إليه. كان المشرف على النزل وعلى مقهاه صاحبه المسمى القصّاص، الرشاش لا يفارقه أبدا، كان صهر محافظ شرطة الضاحية قرّبه إليه، كان واشيا حقيرا ألحق بالكثيرين الأذى من قتل و تصفية وسجن. كان عين الشرطة السرية يستقي المعلومات من المهاجرين الذين يشم فيهم رائحة انتمائهم للحزب. طالت إقامة الروسي في النزل، صار يسامر القصّاص، يسكره فيفضي إليه بأسراره. في إحدى ليالي الشتاء دبّر خطة للتخلص منه بعدما جاءته التعليمات من القيادة للإجهاز عليه، قتله في ساعة متأخرة من الليل كان الصمت حينها ثقيلا يخيّم على الحي ولا تُسمع إلا قطرات المطر. فرّ مع زوجته إلى حيث أفراد الحزب الذين قطعوا بهما الحدود إلى ألمانيا ومن هناك لم يسمع لهما خبر إلا بعد الاستقلال. لقد كان الروسي بطل المهمة الصعبة. الحكاية رواها لي بتفاصيلها حتى عايشت أحداثها واقتربت بخيالي ولامست حقيقتها فسكنتني.




حدث أمر غريب فيما بعد جعلني أنسى اسم القصّاص وحكايته ألى الأبد. يوم استقبلت الخال فرحات القادم من بلجيكا.أخذني في جولة معه بسيارته البيجو إلى مدينتنا القديمة حيث مسقط رأسه. راح يتفقد الأمكنة و الأصدقاء القدامى. كان أحد رفاقه الأوفياء عمي رابح الإنسان الطيب الثوري كما قال لي. جلسنا في مقهى شعبي ألتفت من حوله أصدقائه الكثر، راحوا يتذكرون أيام شبابهم ومغامراتهم وجنونهم. لمّا تفرق الجميع بقى عمي رابح مع الخال فرحات. لم أتفوه ببنت شفة في حضرتهم وهم يسترجعون ذكرياتهم. ولحماقتي وجدتني أتفوه بذكر اسم القصّاص الذي شغلني كثيرا قائلا للخال فرحات: "ــ على فكرة، أتعرف يا خالي فرحات حكاية القصّاص ألم تكن وقتها في فرنسا في الجبهة؟ بغضب نهرني ، هدير صوت غاضب، احترت في أمري، لفّتني الدنيا، أصابني الدوار لو انشقت الأرض وابتلعتني لكان أرحم لي من صراخه في وجهي بهذه الطريقة أمام عمي رابح. الخال فرحات لم يعاملني هكذا و لو مرة واحدة في حياتي، طردني من مجلسه كما يطرد الكلب السارق بذنبه: " ــ قم أغرب وجهك عني، انتظرني في السيارة."




أذعنت للأمر كالطفل الصغير، كان سني وقتها تعدى الخامسة والثلاثين.تحرّقت لهفة في عودة الخال حتى أتحرى سبب غضبه عليّ، كان القلق يلدغني كثعبان قاتل، الحيرة جعلت نبضي يزداد حتى تعرّقت، رأيت احمرار وجهي في المرآة العاكسة داخل السيارة. أخيرا ها هو الخال قادم بعدما تصافحا الصديقان وتعانقا، رأيته ينظر في ناحيتي بعينين يتطاير منهما الشرر والغضب، فواهات جحيم، فتح الباب، جلس وضع يده على المقوّد، أغلق باب السيارة بقوة كاد ينزع المقبض، صراحة لم أجرأ على النظر في عينيه و أدري أني لست مذنبا وقلت:ــ ماذا قلت يا خال حتى فعلت بي ما فعلته؟ قال وهو يضرب على المقود بيده التي كسا الشيب شعرها مفرغا غضبه:


ــ لم تجد ما تقوله غير حكاية القصّاص؟ لما لم تسألني حين كنا معا طول الطريق؟


ــ الحكاية يا خال بالكاد يعرفها الجميع


ــ نعم يعرفها الجميع، هل تعرف من صار مكان القصّاص بعد قتله؟


ــ الصدق لا أعرف


ــ عمك رابح الذي كان معي هو من أخذ مكانه، كان في صفه و صديقه في حزب المـ....قبل أن يصير في صفوف الجبهة..وهناك من كانوا في الجبهة صاروا مع..... و......وبعدما..... اختلاف..... حزب.... أعرفت الآن بأنها كانت أيام فتنة وشقاق، دع الفتنة تنام في مرقدها يا ولدي و لا تيقظها لقد هدأت النفوس والله كفيل بالمغفرة والصفح عن الجميع . لا أحد يكره وطنه يا بني كلنا معرضون للخطأ لسنا ملائكة بعض التاريخ يا ولدي يسكت عنه.


عدت للعاصمة آخذا العبرة وفي ذهني صورة ابن خلدون حين التقى تيمور لنك زعيم التتار مقدما له الهدايا داعيا له بالنصر و الظفر


خالد ساحلي



#خالد_ساحلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حقيقة الفكرة ، فكرة الحقيقة. 6
- الفكرة و الآخر 5
- امتزاج الفكرة صانعة أعمدة الحكمة 4
- الامتزاج ... مقالات في أصل ونشأة وطبيعة وظيفة الفكرة
- السفينة التي لا تحترق
- الامتزاج في الحياة القصيرة
- غامر و أقترب من الشمس أكثر
- الأخ الذي يشبهه كثيرا
- شبح منتصف الليل
- قفازان قصص قصيرة جدا
- مع الأميرة في منتصف الليل
- x قصص قصيرة جدا
- تمثال الجندي المجهول قصة قصيرة جدا
- صاحب الوجه المرن قصة قصيرة
- الأصبع و الذباب قصة قصيرة
- الرجل الصالح
- المهاجر قصة قصيرة
- قصص قصيرة جدا الحكواتي
- ورثة البخيل
- قصص قصيرة جدا


المزيد.....




- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد ساحلي - القصّاص