|
البسيط والهيئة العليا -10- سيرة
ناس حدهوم أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 2292 - 2008 / 5 / 25 - 12:04
المحور:
الادب والفن
البنسيون الجماعي العمالي كان عبارة عن مجمع يختزل كل بؤس الضيوف الذين يقيمون فيه . لذا كان السعر الذي نسدده بسيط جدا ( 55 بسيطة يوميا ) لكل فرد . وهذا المبلغ الزهيد كان يغطي المبيت مع الجموع وكسكروط الصباح ووجبة العشاء المتواضعة .ولا حق للمقيم في اقتراح نوعية الوجبتين . أما الإستحمام فقد كان محددا في مرة واحدة كل أسبوع . أما أي خدمة خارج هذا البرنامج فيجب أن تسدد لكن بثمن أقل مما هو عليه خارج المجمع . كانت أجرة العامل ضعيفة وساعة العمل لا تقل عن عشرة في اليوم الواحد. بينما العطلة تبدأ بعد زوال يوم السبت وتنتهي يوم الأحد . كانت أجرتي كسائر العمال هي ألف بسيطة أو أكثر بقليل أسبوعيا . وكانت المعيشة موازية لتلك الأجرة بشكل دقيق ومحسوم . فبخمسة وعشرون بسيطة تستطيع أن تأخد مكانك في مطعم شعبي بئيس وتتناول صحنا من الحساء أو اللوبياء أو العدس أو الحمص تليها وجبة السمك أو الحم أو البيض بالبطاطس مع قطعة من الخبز وقدح من النبيد بدلا من الماء . كانت إسبانيا تمر بظرف دقيق كانت منغلقة على نفسها ورغم أن الشغل متوفر لأبناء البلد إلا أن الأسرة الفقيرة عليها أن تشتغل بجميع أفراد طاقمها لكي تعيش بشكل طبيعي .والشعب الإسباني كان عليه أن يتحاشى الحديث في السياسة له الحق فقط في الدردشة في الرياضة ولعبة الثيران . ونحن المهاجرون لا يسمح لنا بالعمل إلا في ما هو شاق ومهين أحيانا . وجدنا العمل أنا ورفيقي في ورش لتعبيد الطريق السيار وكان ذلك بضاحية مدريد منطقة تسمى ( arabaca ) وكان علينا أن ننتقل إلى مأوى أقرب من العمل داخل بيت عائلي – زوج وزوجة وطفلين صغيرين وجدتهما – كانت مهمتنا الحفر وشحن التراب على ظهر الشاحنات . كان هناك جيش من العمال على امتداد الكيلومترات بالطريق السيار . وكنا سعيدان بهذا العمل . لكن ما أن مر أسبوع حتى تم فصلنا من جديد والسبب هو نفسه كما من قبل بشركة الفحم إذ لم تكن لدينا تقنية الشحن عندما نلقي بالتراب على ظهر الشاحنة كان يتشتت فيصيب العمال الإسبان في عيونهم بفعل الريح أحيانا أو لعدم إتقان كيفية الشحن .فكان العمال يتبرمون لذا تم فصلنا بعد توصلنا بأجرتنا الأسبوعية . ثم انتقلنا للعمل بأوراش البناء بنفس المنطقة وكانت بضعة شهور كفيلة بتحويلنا إلى عما ل حقيقيين . أقبلت بوادر العام الجديد 1967 فقل العمل وندر من جديد وأصبحنا نفتقده . وكان الفصل شتاءا البرد قارس والجو ممطر وفكرت في العودة إلى الوطن قبل أن أتشرد . رفيقي رفض مما جعلني ذلك أتلكأ في الرجوع وأتردد إلى أن أنهيت بعض المال الذي كان مخصصا للسفر . إنفصلنا أنا ورفيقي وبقيت لوحدي قلقا تملأني الحسرة . دخلت القنصلية المغربية بالعاصمة كانت مكتظة بالمواطنين الراغبين في تجديد جواز سفرهم . كانت المعاملة غير لائقة من طرف القنصلية (التصريف بدلا من الترحيب والمساعدة ) وكان إحتجاج المواطن يزيد العلاقة تأجيجا . بعد عناء وانتظار وصلت إلى الشباك طلبت من الموظف تمكيني من تذكرة السفر للعودة إلى وطني لأنني مشرد وبدون إمكانات مادية . أفهمني الموظف بأن هذه المساعدة تتطلب سحب الجواز مني . وبكل المرارة التي أختزنها في داخلي أخرجت جواز السفر ووضعته بين يديه . كان ذلك مفاجئا له بل وحتى صادما لأن لا أحد يستطيع مقايضة الجواز بمجرد تذكرة السفر ذات الثمن المتواضع آنذاك .فتح الموظف جواز سفري وتفحصه ثم سألني أأنت طالب ؟ قلت بلى سيدي . ما مستواك ؟ قلت - الشهادة الثانوية – وأضفت – حصلت عليها سنة 1963 – إستغرب وأضاف كيف يمكن أن تكون حاصلا على ( البروفي ) وأنت هنا؟ هذه الشهادة قد تمكنك من وظيفة محترمة ببلدك قلت - كما تر ى - إنني هنا . نهض من مكانه ودخل مكتبا قريبا منه لبضع دقائق ثم سمعت عون القنصلية ينادي بإسمي . أدخلني المكتب فإذا بي أمام شخص تبدو عليه ميزة الرئاسة لم أدر إن كان هو القنصل نفسه أم نائبه .فبادرني قائلا - سأساعدك نظرا لكونك تتوفر على مستوى دراسي محترم . سأبعثك إلى السفارة عند المبعوث الثقافي فهو رجل نبيل وطيب وسوف يساعدك لا محالة . شكرته . فأمرني بالإنتظار خارج المكتب ففعلت . رأيت الموظف يكتب على آلة كاتبة ويلتقط المعلومات من جواز سفري ولما انتهى وضع الرسالة داخل ظرف وقفله وختم على الظرف وسلمه إلي . دخلت السفارة المغربية التي كانت على ما أعتقد بشارع ( nuniez de balboa ) سألت عن المبعوث الثقافي . أدخل العون الرسالة وبقيت أنتظر لدقيقة أو دقيقة أو إثنتين بعدها أذن لي بالدخول كان المبعوث الثقافي رجلا في الأربعين من عمره جميل المحيا وأنيق كان المكتب مؤثثا بشكل رفيع يدل على قيمة صاحبه ومعه بعض الأفراد شبابا خمنت أنهم طلبة . ما أن دخلت حتى إنسحبوا معتدرين بأدب فوجدتني وجها لوجه أمام السيد .أمرني بأدب أن أجلس ثم انشغل بقراءة الرسالة وطلب مني مبتسما أن أحكي له مصابي . فحكيت له كيف توفي والدي وكيف جئت لأشتغل بعد انقطاعي عن الدراسة مضطرا من أجل تحمل مسؤوولية أسرتي . وكيف أصبحت مهددا بالتشرد لانعدام الشغل الخ ... قال أنت لا زلت شابا يافعا وأنا سوف أساعدك وأقوم بالواجب فبادرته بالشكر والإمتنان . رن الهاتف فسمعته يشرح كلمات عربية فصحى ويدلل بمصادرها لمكلمه ثم أقفل الخط بهدوء ثم نظر إلي ووضع يده على زر فدخلت سيدة إسبانية في الثلاثين من عمرها طويلة القامة وجمبلة ومهذبة . بادرها باسمها – senorita paz - تحدث اليها بالإسبانية عني وعن ظروفي ومستواي الدراسي وطلب منها أن تبحث لي عن منحة من أجل الدراسة هنا بالعاصمة خرجت لدقائق قليلة ثم عادت مبدية عن أسفها معللة عدم قدرتها على مساعدتي بسبب رأس السنة الذي كان على وشك قائلة بأن الظروف حاليا لا تسمح . فأصر عليها بأدبه المعهود بأن ظروفي صعبة وبأنها يمكن أن تلتجيء للأصدقاء في هذه الحالة (amistades ) لعلهم ينقدون موقفي . أحسست بالخجل والحب معا أمام هذا الرجل الكريم وتراء ى لي كما لو أنه بمثابة والدي . خرجت السيدة ثم بعد هنيهة عادت تحمل بشارة لم تكتمل . سمعتها تخبره بأن هناك منحة ضعيفة تقدر بأربعين بسيطة يوميا بالإضافة إلى وجبة من الأكل يوميا أيضا في معهد لدراسة التصوير بالكاميرات التلفزيونية فأضاف المبعوث الثقافي بأنني يمكن أن أخصص المبلغ للمأوى ولكنني لا أستطيع الصمود بوجبة واحدة في اليوم . تأسفت السيدة وانسحبت . قال لي السيد بأنه سوف يرسلني عند صديق له بتطوان إسمه الأستاذ السباعي وهو مسؤوول بوزارة التربية الوطنية وسوف يساعدني لإدماجي في التعليم كمعلم . شكرته . فأخذ الهاتف واتصل بالقنصلية وطلب منهم منحي تذكرة السفر دون سحب الجواز مني . ثم خاطبني بكلام لن أنساه مدى الحياة قائلا والله العظيم ياولدي لو كان لدي متسعا ببيتي لأخذتك معي إليه بين أسرتي فالله يعلم أن أولادي ينامون على أسرة مثبتة فوق بعضها . شكرته متأثرا ونهض واقفا وصافحني بحرارة مسلما إلي الرسالة التي كتبها بخط يده . عدت إلى القنصلية التي قامت بالإجراءات اللازمة وابتسم الموظف اللطيف في وجهي قائلا لن نأخذ منك الجواز .
#ناس_حدهوم_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مثلا
-
البسيط والهيئة العليا - 9 - سيرة
-
البسيط والهيئة العليا -8- سيرة
-
البسيط والهيئة العليا - 7 - سيرة
-
لحظة ضعف
-
أبو الهول
-
البسيط والهيئة العليا - 6 - سيرة
-
سأكتب قصيدة
-
البسيط والهيئة العليا - 5 - سيرة
-
اللغو
-
البسيط والهيئة العليا - 4 - سيرة
-
البسيط والهيئة العليا - 3 - سيرة
-
أوتار الكمنجة
-
البسيط والهيئة العليا - 2 - سيرة -
-
تيه ومتاهة
-
للاعربية
-
نفاق عل سهول المرآة
-
وادي الزمن الأخير
-
البسيط والهيئة العليا
-
حان la esmeralda
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|