|
حوار التناظر مع الأديب محمود الريماوي
مازن حمدونه
الحوار المتمدن-العدد: 2289 - 2008 / 5 / 22 - 04:40
المحور:
الادب والفن
محمود الريماوى حمل هما مشتركا كبقية أهل فلسطين ، نكبة الاقتلاع والتهجير من بيت السكينة إلى المجهول ..اجتاحت قلوب الآمنين ألما لم يعهدوه من قبل .. سطر الأدب حكايات وقصص أهل فلسطين الذين شرد معظم أهلها ما بين الشتات الداخلي والخارجي ..فمن التهجير إلى النزوح .. حلقات مستمرة من برامج الاستئصال العنصري والفاشي .. حلقة من سلسلة مخلفات عصر الاستعمار المتواكب . بقيت قضية فلسطين محورا للازمات والصراع لم تفك ولن تحل أزمتها مجلس الأمن ولا جمعياته ؛ ولن تفلح كافة برامج التوطين من طمس حق العودة والرجوع لأراضيهم .. أو ان يبقى باب الصراع مفتوحا على مصراعيه إلى أن يشاء الله . في ظل أزماتنا توالدت الحكايات والقصص في كل بيت .. وفي كل زمان ومكان من أهل النكبة حتى اللحظة القائمة !! حين تنعدم الأخلاق وتتحطم المبادئ ، ويضرب بالقيم الإنسانية عرض الحائط ، تغدو كل ممارسة وحشية ضربا من ضروب الحق والعدالة وحماية الأمن .. والديمقراطية ..!! الشوق إلى الأرض الطيبة ... كم تكررت حالة مشهد الأسر الفلسطينية ... فأبو العبد " منذ انطلاقة الألم الفلسطيني بمواكبة النكبة عام 1948 م والأزمات استفحلت في كل البيوت الفلسطينية . أبوالعبد " ذاك الرجل المسن المريض صاحب الجسد المنهك .. والهزيل ، عاد من غربة موحشة في عمل خرج له فجرا حتى يجمع ما تقتات منه أسرته .. عاد لخيمته في نهاية النهار .. ألقى بعقاله وكوفيته بعد نزعهما من على رأسه جانباً .. وتمدد على بطانية أكلها الغبار ، كان قد استلمها في الأمس القريب .. من مجمع الإغاثة الدولية كشاهد على نكبة الشعب الفلسطيني !! هذه المؤسسة التي تم إنتاجها في مجلس الأمن وولدت لتشهد على ويلات الشعب الفلسطيني بعد تشريد معظمه من أراضيهم ..
هذا الرجل "أبو العبد" الذي أطلق تنهيده من داخل صدره حسرة وألما على حال لم يعهده من قبل ، كان واقع المناخ حر لا يطاق في شهر تموز " وفي واقع الحال لا يجرؤ على خلع ثيابه التي كان قد استلمها من وكالة الغوث في الأمس القريب .. فهي مجرد لباس يغطى عظامه وجسده النحيل والهزيل . حتى حركته التلقائية أصبحت محاصرة ولم تعد كسالف عهدها حين كان في بيته قبل التهجير منه ، فهو الان تحت سقف القماش وخيمة بلا أبواب ولا نوافذ ..يقبع في وسط المنكوبين من أمثاله المقتلعين من جذور ترابهم .. رجال ونساء وشيوخ وأطفال مبعثرين من حوله .. قرر ان يتمدد ليريح جسده من تراكم الإرهاق والتعب الذي تسلط عليه على اثر عمل اقتات منه لأولاده في البناء في جبل قريب . خلع حذاءه المدبب .. ومدد رجليه ، لم يجد ما يسند رأسه المتلجلج بالأرق سوى ان يضع يده العجفاء تحتها ..وكف يده التي أصبحت كباطن مبرد مسنن الحواف ..كانت زوجته في تلك اللحظات تشاطر الحديث للنساء المجاورات لخيمتهم ..أثارت حفيظتها غلب الحال من ماء معدم لا يتوفر لهم ..ينتظرون قرارات العودة على أحر من جمر تموز .. يعيشون الغربة والوطن ساكن فيهم وهو على مرمى البصر . كانت ابنته خديجة تتعلم في مشغل قريب لحياكة الملابس ، وابنه حسن .. شاب لم تدعكه المحن .. يقضى مهارة في شرب الشاي ولعب أوراق الكوتشينة مع رفاقه .وتحولت حالته من شدة ضنك الحياة إلى نزق وعصبية ..كان أبو العبد ممدا تحت خيمته والعرق تفصد من وجهه المتوجم .. والعرق يسبح حتى وصل إلى راحة كفه وبلل العرق شعره الكثيف !! وعلى حين غرة سمع صوت المذياع ينشد للقدس ، فتلوى على جنبه الأيمن حتى سمع جسده يفرقع كمطارق اللوز الجافة .. وعظامه تتكسر .. ومفاصله تتنصل ..داهمه النعاس وبدأت تداهم عيناه وأغلق الجفون عن مشاهد الدنيا المحصورة في خيمته .. إلا ان التعب والآلام القدمين تنزع منه رغبته وتشده إلى ألام هو لم يعد قادرا على تحملها . فكلما غلبه النعاس تسيطر عليه هواجس وذكريات .. مازال بيته الذي بناه في قريته أمام مخيلته .. هو في خيمته يمكث وبيته ساكن فيه ! منذ ان هاجر بيته وقريته والإعياء سكب عليه كالمطر في مزاريب فصل كانون الثاني أو شباط . تجاهل المرض الذي بدأ يدب جسده النحيل حتى لو سافر به بلا رجعه .. فنعمة الحياة لم تعد تساوى عنده الموت في شيء ؛ بل قد وجد فيها نعمة أكثر من حياة مغموسة بالموت . في أوج أوجاعه وآلامه تسلل الهواء الساخن المغبر من فتحة الخيمة تلفح وجهه المكدود بعرق دبق غزير .. وكان الأطفال في أوج رعيل وجلبتهم وصراخهم ينتزعون منه راحة الرأس ..كان قد نأى بنفسه على معطف وبري عله يسعفه من بطانيته الخفيفة .. فكان كمن يرقد على لوح من الشوك .. داهمته الأفكار والخيال ليرى أحوال أسرته .. حسن يتسكع مع رفاقه دون شعور بالمسئولية .. وابنه الأكبر مصطفى في الكويت لا يسمعون عنه سوى في العيدين يبعث لهم ورقة خضراء يبددها حسن متى استلمها .. وخديجة مازالت عزباء بلا زواج . أوشكت الشمس على الرحيل في تلك المداهمة من الخيال ، وهو مازال يتقلب بلا فرص للنوم .. كان ذهنه متعبا ومختلطا من إفراط التفكير والتذكر .. وصلت به الذروة وهو ساقط تحت عجيج الاشتباك بين التعب والمرض وهواجس الحال ومستقبل يحبو صوب المجهول . حين سيطر موت الجسد بلا حراك اخلد للذهاب بعيدا في نوم هو قرره ولم ينجح إلا عندما أصبح الجسد في غير مقاومة شدة الإعياء ! علا صوت الشخير كالذبيح .. كالفريسة التي تتلوى في فم نمر او اسد .. ! قرر ابوالعبد حين غادر مخيم "النويعمه" إلى الضفة الشرقية من النهر رغم طولها ووحشة الطريق وأشواكها .سلكها هو وأسرته في منتصف فصل الصيف الحار مشيا على الأقدام ، كان يدفعهم وطأة الموت من خلفهم .. حمم القذائف والنيران .. كانت أريحا من خلفهم تغوص في الدخان الأسود .. كانت الزوجة أم العبد " تجرجر من خلفه وهي بلغت الخمسين عاما ، وكانت خديجة تحمل على ظهرها البطانيات .. وحسن يمشى بنزق وانفعال .. طرح السؤال : لم لا نبقى هناك كباقي المهجرين ؟ أبو العبد لم يجب غير أن عيونه كانت تلمع على أطلال ابنه البكر "عبد" ، الذي نالت منه رصاصه أودت بحياته في القرية من عصابات الموت الصهيونية ... عند مشارف "صويلح" ، على الجانب الشرقي أقلتهم سيارة تراكتور كانت تنقل الناس المفزوعين ، وكان حظ أبو العبد ان جاره السابق سائق التراكتور .. وحين هم بالركوب داهمته صورة الغجر في ترحالهم فغلبته الدموع .. فهو يسافر من المجهول إلى المجهول ...!! مضت سيارة التراكتور بهم في الطرقات تقطع المسافات .. وقلبه مقبوض مختلج كلما مر عن الأشجار لا يعرف ان هي كانت تهرب من أمامهم .. أم هو يهرب أمامها ..!! وصلوا جميعهم المكان .. وفي أوج زوبعة الأحداث فقدوا حسن .. داهمت ثلاثتهم الأفكار والهواجس .. أين حسن خرج ويكاد المساء على حلول الظلام ؟! زادت حيرتهم وإرباكهم كلما اقترب الظلام .. انفض ثلاثتهم بقرار دون مداولة .. خرجت الزوجة والابنة خديجة في الطرقات يبحثون طريق حسن .. انتفض أبو العبد كمن انتفض من بئر عميق ، ومد يده صوب علبه التبغ في الخيمة التي لفها الصمت الموحش .. داهمته الهواجس ان مكروها قد نال من ابنه حسن الطائش . فقام يخطو بتثاقل فصدمت قدماه تنكه الكاز ..انحنت على التراب المتيبس في الخيمة الجديدة .. أشعل السراج .. استشعر ان في الأمر شيئا .. فهو المرار لم يفارق زبده منذ الصباح الباكر .. أم العبد وخديجة تأخرتا ولم تعودا إلى الخيمة .. خرج يسأل عنهما الجيران .. أجابه جار له أبو يوسف " : انه شاهدهما في الطريق معا تبحثان عن ابنهما حسن ..وانه كان قد شاهد حسن وهو مهندم ببدلة العسكر وسلاحه على كتفه ..!! طمأنه أبو يوسف ان ابنه معه الأخر .. وحثه لهما بالدعاء بالحماية والسلامة .. انسحب أبو العبد إلى بطن الخيمة ولم تعد عتمة ووحشة الظلام ترهقه قدر إرهاق الهواجس التي تنخر عظامه ..استرخى وسلم أمره إلى الله .. وخلد للنوم في سكينة بعد علق خياله كيف تحول حسن من متسكع إلى فدائي قلبه عامر بالمقاومة والنضال!! هذه حكاية وقصة من قصص المنكل بهم في ارض فلسطين .. صراع دام بين الحق والشر مع غياب عدالة فصلت حلتها جبروت الاستعمار في موكب لم تنته أطرافها .. في ظل كتابتي لهذه القصة في أوج النكبة من العام الحالي 15/5/2008 م .. بعد مضي ستين عاما على نكبتنا ، تطل علينا رأس أفعى رقطاء ..من داخل كنيست المغتصبين ..يبارك لهم اغتصاب وطني .. وتشريد شعبي .. ويعزيهم بسفاحيهم الذين قضوا قتلى .. ويوسمنا بالإرهاب ونحن ضحية اغتصاب الأرض والتاريخ ..بقدم الفخر والمؤازرة للجلاد .. كلمات رجل انتهك العدل والحق والكرامة في بلاد العرب .. ورسم الموت في شوارع وحارات العراق وأفغانستان .. فم بالك هذه ديمقراطية وعدالة رعاة الأبقار على طريقة أمريكا الحاضر .. فهي امتداد أمريكا الأمس في الصين واليابان !!! فلا عجباً لأجدب من سلالة الأجداب !!
#مازن_حمدونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدرسة الحوار المتجدد - حوار التناظر مع الأديب فضل الريمادوي
-
حوار التناظر مع القاص محمود سيف الدين الإيراني
-
مدرسة الحوار المتجدد - حوار التناظر مع الأديب الشاعر عمر شبا
...
-
مدرسة الحوار المتجدد - حوار التناظر مع الأديب الكبير عمر حمّ
...
-
مدرسة الحوار المتجدد - حوار التناظر مع الأديب الكبير عمر حمّ
...
-
مدرسة الحوار المتجدد-في ربوع الأدب السياسي- حوار التناظر مع
...
-
في ربوع الأدب السياسي- حوار التناظر مع الأديب الكبير جبرا إب
...
-
في ربوع الأدب السياسي - حوار التناظر مع الشاعر معين بسيسو
-
في ربوع الأدب السياسي - مشهد عزف منفرد على قماش الخيمة !!
-
في ربوع الأدب السياسي - حوار التناظر مع الأديب القاص زكي الع
...
-
حوار التناظر مع الأديب الشاعر توفيق زياد
-
في ربوع الأدب السياسي - حوار التناظر مع الأديب القاص صالح أب
...
-
في ربوع الأدب السياسي - حوار التناظر مع الأديب الشاعر سميح ا
...
-
في ربوع الادب السياسي -حوار التناظر مع الأديب الشاعر محمود د
...
-
في ربوع الادب السياسي - حوار التناظر مع القاص عمر حمش
-
المنطار كائن في المكان ... هل غادر المكان
-
ظلام دامس في وجدان وفاء سلطان فاض إدراكها
-
حوار التناظر
-
هل يستيقظ الفلسطيني أخيراً؟
-
حوار التناظر مع الأديب غريب عسقلاني... ما لم يقله غريب عسقلا
...
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|