أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - تلك الرائحة..















المزيد.....

تلك الرائحة..


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2287 - 2008 / 5 / 20 - 10:03
المحور: الادب والفن
    




- طوال الوقت وأنا أفكر بشيء واحد ..



- عيناي..



- لا .. في الأكل .



أشعر بالتعب والضجر والعبثية.. فتصيح أمعائي وتعوي مثل كلب غربة طويلة.. في ساعات الصباح الأولى تراودني



رائحة البيض المقلي وخبز التنور الحار.. بعد الحادية عشرة تفوح رائحة الرز العنبر المصفى.. فأعيش معها وألوب نصف ساعة.. أترك عملي وأدور مثل ثور مجروح في أنحاء المعمل.. أبحث في الزوايا والأركان وصالة الطعام.. ينظر اليّ العمال باستغراب وسخرية وزملائي يعتقدون أنني أبحث عن شيء ويعرضون المساعدة.. وأنا ماض في سبيلي اليومي لا ألتفت.. ماذا اقول.. هل يعرفون الرز العنبر أم هل تشمموا رائحته.. أم خبز التنور.. تنور أمي وهو يخترق عشرات السنين وآلاف فراسخ الطرق والبلدان والبحار.. قولي لي ماذا أقول لهم.. كنت أعلل نفسي بالبحث عن مصدر تلك الرائحة.. فعلت ذلك مدة طويلة قبل أن أتعوّده.. وأتعلّم مساعدة نفسي في تحقيق اكتفاء ذاتي بغلق المناخير واستحثاث خلايا المخ والأعصاب.. أسند ظهري على أكداس البضائع وأسرح.. أسرح ثلاثين عاماً.. وأتذكرك يا حليمة.. أتمنى أن أطير.. مثل بساط علاء الدين السحري وأتناول الطعام الساخن في أوقاته.. في ساعات ما بعد الظهيرة.. حيث يكون الملل على أشدّه تنهصر أمعائي برائحة الحلويات.. أقرر معه التهام أية قطعة حلوى تصادفني.. ثم أتذكر حمية السكري فأطوي أمعائي ثانية مكتفياً بالرائحة السرية وأسكت.. أتشاغل بالعمل وأنظر إلى الساعة عشرات المرات في اليوم الواحد.. أعرف أنني سبق ونظرت اليها قبل دقائق فقط.. وربما خلال دقيقة.. ولكن.. لتطمئن نفسي..



- وعيناي.. نسيت أنك كنت تقول: أفكر بعينيك دائماً.. وعيناك غابتا نخيل....



- هذا كان زمان.. زمان يا حليمة.. زمان كان لكل شيء طعمه.. وذوقه.. أما اليوم.. فقد انتهى كل شيء.. نحن نعيش لنأكل. والحياة بلا طعم أو لون.. لم تبق غير الرائحة.....



- لكن حياتنا الآن أفضل.. ومستوى المعيشة والبيت.. وسائل الراحة والسيارة.. وأطفالنا الذين كبروا..



- صحيح.. صحيح.. كلما زادت هذه الأمور عزلت بين الانسان ونفسه.. وصار لا يفكر إلا بها.. تغيير البيت.. تغيير الأثاث.. تغيير السيارة.. السفر.. ملاحقة الاعلانات وعروض البيع الخاصة..



- عندما ذكرت التغيير.. خشيت أن تقول تغيير الزوجة أيضاً..



- لم لا .. وتغيير الزوج والأب أيضاً.. ألا تلاحظين أن العلاقات داخل الأسرة صارت رسمية وجافة..



- لكن الأولاد يحبونك ياعاصم وليست لهم مشاكل أو تصرفات لا ترضينا..



- هذا محسوب لنا وعلينا.. نحن أيضاً نحبهم وفعلنا كل شيء لكي ينجحوا.. ولكنني أحياناً.. أحياناً. أسأل نفسي.. لماذا نفعل ذلك.. لماذا فعلناه.. ما فائدة الأولاد.. ألم يكن الأفضل لو أننا.. أنت وأنا بلا أولاد.. أو لدينا ولد واحد أو بنت واحدة وانتهى..... كلام..



- ا تفكر هكذا يا رجل.. الناس يحسدوننا على وضعنا..



- يقيناً أنت لم تتغيري.. ولا سنتيم.. من يحسدك في هذه الغربة.. من يعرفك هنا.. الناس هنا لا يفكرون بالحسد.. بل يفكرون بأنفسهم والأستمتاع بحياتهم وأوقاتهم حتى آخر ثانية.. يحسدوننا.. هه..



- أنا لا أريد أن أتغير.. وأريد أن أبقى هكذا ويبقى كل شيء كما هو.. كما كان..



- تعرفين يا حليمة..



- ماذا يا عاصم..



- أحس أنني شخت بسرعة..



- شخت أم تغيرت بأثر الغربة..



- كلاهما.. الغربة قربتني من الشيخوخة والشيخوخة جعلتني أتغير في كل شيء..



- أخاف أن تتغير عليّ..



- لماذا لا تفكر المرأة إلا بنفسها.. عندما تكون مع الرجل..



- أليس هذا هو الحبّ..



- الأنانية وجه من وجوه الحب.. تعرفين.. أعتقد.. أن المرأة أصلح للسياسة من الرجل..لأنها تستطيع تغطية مراميها بكلمات جميلة وبراقة..



- أحيانا تذهب بك الأفكار بعيداً يا عاصم..



- الدنيا هي التي أخذتنا بعيدا.. جعلتنا بعيدين عن كل شيء.. أبسط الأشياء التي عشناها والتي عشنا معها وعليها صارت بعيدة..



- كلامك وراءه أشياء كثيرة.. لماذا لا تتحدث بصراحة من غير لف ودوران..



- أنني أقول ما أشعر به الآن وبعد قليل قد أقول شيئاً آخر عندما تتغير مشاعري ووجهات نظري.. حياتي كلها عشتها وضحيت بها من أجل موقف واحد.. ّأما الآن.. فلا أهمية لأي موقف.. ما هو الموقف.. أستغرب كيف لم أنتبه لذلك طيلة حياتي السابقة.. هل كنت أحمق يا حليمة.. أم أن حياتنا الجديدة جعلتنا حمقى..



- أنت تتشاءم لأنك تفكر كثيراً..



- هذا صحيح.. ولذلك أهرب للأكل.. التفكير في الأكل يسهل الهروب من التفكير..



- هل تذكر ما قلته لي ذات مرة.. في أول وصولنا هنا..



- قولي ببساطة.. لم أعد أتذكر شيئاً ألبتة..



- عندما قلت أن علينا أن نقرر بوضوح.. أما أن نتفاعل ونندمج في المجتمع الجديد.. أو نعيش في الماضي والذكريات ونبقى غرباء على هامش هذا المجتمع..



- على هامش المجتمعين.. السابق والجديد، ويبدو أننا فشلنا في القرار فبقينا غرباء.. مثل قصة الغراب.. تعرفين قصة الغراب ها.. الغراب ابن عمنا.. ابن عمنا الخالد.. من لا يعرفه....



- أنهض لأعمل لك الشاي..



- في البدء علينا ان نحسم مسألة الطعام.. أم أنك نسيت سؤالك الأبدي كل صباح.. ماذا نطبخ اليوم.. بعد أن نحسم رائحة المطبخ العراقي ننتقل إلى رائحة الشاي..



- لدينا هيل جيد.. جلبته معي من بريطانيا العام الماضي.. سأصنع لك شاياً بالهيل..



- الشاي الوحيد الذي تملأ صدري رائحته هو شاي أبو علي.. شاي أبو علي البصراوي على التنكة.. أعظم شاي في العالم.. حتى شاي أمي لا {يقارشه}، الله يذكرك بالخير يا أبو علي أينما كنت..



كنا نتجمع متلاصقين بالحائط على الرصيف الضيق.. منتظرين دورنا على استكانات الشاي المحدودة.. نمسك الاستكان بكلتا يدينا وندسّه بين شفاهنا بحب وتلذذ.. نشمّه.. نتنفسّه.. نلعقه.. نمصّ حافة الاستكان المشبعة برائحة الشاي المعتقة.. نتشرّبه قطرة قطرة.. وننتظر استقرار القطرة في قاع المعدة لتصعد رائحتها إلى المرئ وتخرج من الخياشيم.. كم من الذين شربوا شايك يتذكرونك.. كم من الذين مروا من شارع الوطني في العشار ولم يتبركوا بمذاق شايك.. بعد عشر سنين عدت إلى البصرة.. أيام الحرب.. ووجدتك هناك.. اختفت ضحكتك.. غابت سوالفك.. صمتك كبر.. ولكن الشاي.. ورائحة الشاي بقيت.. وبقي أوجاغ الفحم والتنكة.. عندما تصل إلى أسد بابل.. أسد بابل في العشار في مقدمة شارع الوطني.. تدق رائحة الشاي في الأنف.. شاي أبو الهيل.. شاي على التنكة.. أين هو اليوم يا ترى.. هل ما يزال.. هل يحافظ أحد على ذلك التقليد الحميم والراسخ.. ليبقى الأوجاغ متقداً ورائحة الشاي فائحة.. هل ما يزال يستخدم الفحم أم استبدله بالرصاص والشظايا.. حربان وحصارات لا تنتهي.. ماذا فعلت بتلك المدينة وما أبقت منها.. شارع الوطني وتمثال السياب والكورنيش وأسد بابل وساحة ابو شعير.. آه يا حليمة.. لو تعرفين جمال تلك الأيام.. ايه..



- تذكر أنك وعدتني بالسفر إلى البصرة..



- لكم تمنيت أن أعيش فيها.. أن يكون لنا منزل صغير وحياة بسيطة..



- سوف أبقى زعلانة عليك كلما تذكرت..



- معك حق.. ولكن البصرة تغيرت يا حليمة.. بعد الحرب لم تعد البصرة بصرة.. الحواجز الرملية وآثار القصف والحفريات والأنقاض في الشوارع .. آثار الخراب والدمار في كل مكان.. والنخيل بلا رؤوس، ممتدة أعناقه كأنها تكلم السماء.. تصوري غابات حمدان مسكونة بالجيش والدبابات وقواعد المدفعية المضادة للطائرات.. أشعر بوخزة في صدري كلما تصورتها..البراضعية والسراجي وحمدان حتى أعماق أبي الخصيب.. ملايين النخيل تعرضت للموت والدمار والاهانة.. حرب غبية وقصف أعمى حاقد على الطبيعة والوجود.. الحرب حوّلت البصرة إلى مدينة أشباح.. منذ اليوم الأول اعلنت منطقة عسكرية ساقطة وأهلها هجروها وهاجروا.. وصار سعر البيت ابفلس.... في تلك الأيام تمشيت في البصرة أبحث عن ملامحها التي شوهتها الحرب.. بين مدة وأخرى تدوي صفارة انذار.. وأحيانا تتساقط القذائف بلا صفارات.. البصرة كانت الأسخن بين جبهات المعارك ولم يتوقف عنها القصف منذ ايلول 1980 حتى احتلالها في مارس 2003.



- أحببت البصرة من كثرة ولعك بها.. واذا رجعت ذات يوم فلا بد أن أذهب اليها وأتوقف عند كل ركن تحدثت عنه..



- ستجدين أن كل شيء تغير.. وربما تتهمينني بالكذب والتزوير.. ستجدين أن رائحة الموت والبارود غطت على رائحة الجمال الحقيقية.. وطعم الأشياء غادرها مع مواكب المغادرين في بلاد الله.. ان الجمال والرائحة والطعم التي أحدثك عنها انما هي راكزة في الذاكرة يا حليمة.... هل تعتقدين أن الرائحة يمكن أن تولد من الخيال..مستحيل.. ولكن ما يهمّ.. حتى لو كان من صنع الخيال.. فهو الذي يجعل الحياة محتملة.. لا أعرف كيف استطعنا مواجهة كل ذلك دون أن نفطس أو نفقد أنفسنا..



- قبل قليل قلت انك تغيرت..



- صحيح.. تذكرت.. ولكن لم تغيرني الحرب.. غيرتني الغربة..



- إذن الغربة ألعن من الحرب..



- معك حق يا حليمة.. تعرفين.. أحياناً أغبط نفسي.. لأنك قربي.. ماذا كنت سأفعل بدونك..



- هل تحبني يا عاصم..



بدا عاصم مستغرقاً مسترسلاً مع نفسه قبل أن ينتبه اليها وهو يغالب التعب..



- هذا السؤال يهيج أشياء كثيرة يا حليمة.. لماذا تكررينه دائماً..



- لأنني أريد أن أعرف.. والدنيا لا تمنحنا الأمان..



- أليس المفروض أن أعرف أنا أولاً.. حتى أقول لك ذلك..



- مرة أخرى تتهرب من الجواب..



- ألم أقل أنني أحتاجك ولا أستغني عن وجودك قربي.. يكفي أنني لا أكرهك.. ألا يكفي هذا؟..



وديع العبيدي



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قبل أن تبرد!
- رباعيات
- مثلَ عُودٍ يَحترقُ..
- شجرة اصطناعية
- العولمة (و) العمال.. حركة المفاهيم والتحديات
- ذاكرة السور
- لم تفرغ الكأس..
- مسكين من لا يعرف الحبّ
- أب
- لاجئ لدبليو ه. أودن
- (أطلس الغبار).. بين قلق المحلي وإشكالية العولمة
- - ظاهرة الهجاء في الشعر المعاصر-
- قصيدة [الوعل].. دراسة صوتية – سوسيولوجية في مادة الأسى
- أيام سائطة..
- أحلام مكّيسة
- المرأة العربية.. خطوات جريئة إلى أمام (2)
- المرأة العربية.. خطوات جريئة للامام.. (1)
- ضفاف داخلية
- صورة تخطيطية في حديقة
- النون : أيّ سرّ في هلالك وهلاكك؟


المزيد.....




- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - تلك الرائحة..