|
المجنون
على أحمد على
الحوار المتمدن-العدد: 2287 - 2008 / 5 / 20 - 06:56
المحور:
الادب والفن
- التمعت عينان خلف شاهد أحد القبور وراحتا تنظران في حذر وخوف واضطراب وترقب الرجل الذي راح يتلفت حوله في خوف وذعر ، ثم أخرج من حقيبته الصغيرة معولا وراح ينبش في أحد المقابر التي كان من الواضح أنها أغلقت حديثا ثم مد يده بحرص وراح يعبث هنا وهناك ، حتى توقفت يده عن الحركة ، ثم جذبها للخارج في شدة .. لتخرج وقد أطبقت على فك من الأسنان الذهبية .. ورفعه أمام عينيه في فرح ثم توجه إلى أحد الجدران المتهدمة ، وحفر حفرة صغيرة وضع فيها طاقم الأسنان الذهبية بعد أن نزع عنه الأنسجة التي علقت به وهو يخرجه غير باد على وجهه أي نوع من التأفف أو الرهبة أو احترام لحرمة الموت .. فقط وجه جامد وكأنه يلبس قناع يخفي انفعالات وجهه أو كأن نفسه تحجرت فأقفرت من الانفعالات ، فلم تعد تلقي بها على صفحة الوجه .. فما الوجه إلا مرآة للروح وساحة لعرض انفعالات النفس ، وفجأة .. سمع الرجل صوت مرتفع يصرخ : " مين ؟ " كان صوت الخفير المكلف بحراسة القبور قد لمح ظلا يسعى بين القبور .. قالها الخفير بصوت عال أجش مذعور وهو يرتعد من الخوف محاولا التماسك وكل الحكايات الخاصة بالجن والعفاريت تجول بذهنه ، وما أن قالها حتى ارتعدت فرائص اللص وفر هاربا تاركا الطقم الذهبي مخبأة بجوار الجدار المتهدم . - واخذ الخفير يجوس هنا وهناك إلى أن أحس بوكزة في ظهره فكادت روحه تصعد إلى بارئها وتجمد الدم في عروقه ، ولكن وفي لمح البصر وجد صاحب الوكزة أمامه وهو يضع يده في فمه وعلى وجهه ابتسامة طفولية وقد ارتدى جلبابا فضفاضا وعلى رأسه عمامة كبيرة التهمت جبهته بالكامل وغطت بعض أجزاء من حاجبيه فتنفس الصعداء ، ثم استعاد حزمه مرة أخرى قائلا في نفسه : " المجنون " ثم رفع صوته محاولا أن يجعله عاليا قدر ما يستطيع وقد هدأ وزال عنه خوفه قائلا : " بتعمل إيه هنا يا وله يا مجنون ؟ " فاتسعت ابتسامة المجنون في مرح طفولي وقال بكلمات ممطوطة وعلى وجهه ظهرت أمارات السذاجة : " الحرامي .. الحرامي .. " وهنا أمسك الخفير شاربه وأخذ يفتل فيه وهو يقول وقد حاول جاهدا إكساب صوته هيبة ووقارا : " متخافش مفيش حرامية ولا يحزنون .. انت جعان يا وله ؟ " فهز المجنون رأسه بشكل طفولي .
* * *
- المجنون ليس اسمه الحقيقي بالطبع وإنما هو اسم حركي أطلقه أهل البلدة عليه ، أو هي صفته وحالته التي صارت اسما له التصق به فكان بديلا عن اسمه الحقيقي ، أما ذلك الاسم الحقيقي فلم يعد أحد يذكره ولم يعد أحد يأبه بأن يذكره .. وأمثال هذا المسكين ترى في عيونهم عمقا من الطبيعة وسطحية من التفكير ، فالتفكير قد يؤدي بالإنسان إلى أمرين لا ثالث لهما .. إما الكفر أو الجنون . - أما الأولى فلم يصل إليها ذلك الرجل ولكنه لحق بالفئة الثانية ، ترى في عيونهم المتسعة براءة طفل ليس في قلبه حقد ، فهم في عمقهم وسطحيتهم كالبحر .. ترسو في قيعانه حبات اللؤلؤ ولا يمنع ذلك من أن تسير على سطحه السفن ، يتصرف وينفعل كطفل .. طفل بجسد رجل فيورث في القلب شعورا بالعطف والشفقة والرحمة ويورث في قلوب بعض القساة السخرية والرغبة في الإيذاء وما أكثرهم في عالمنا هذا . - المهم .. نعود إلى حادثة السرقة ففي الصباح الباكر تجمهر الفلاحون والناس جميعا حول المقبرة المكسورة وهم يلعنون ذلك الذي احترف كسر المقابر ويصفونه بأبشع الكلمات وأقذع الألفاظ ، وهنا انتهز شيخ البلدة الفرصة ليذكر الناس بالعقوبة الدنيوية وعقاب الآخرة لنابش القبور .. البعض ذهب إلى الرجل قد أصيب بلوثة عقلية فراح ينبش القبور وخاصة أن هذه ليست المرة الأولى التي تحدث في البلدة الوديعة الآمنة والبعض الآخر ذهب إلى أن هذا الرجل كافر يريد أن يعيث فسادا في الأرض ، قبض على الرجل وتم تسليمه للبوليس ، وفي قسم الشرطة بعد " علقة ساخنة " اعترف بذنبه ولكنه لاحظ أنهم لا يعرفون شيئا عن الطاقم الذهبي فلم يتحدث عنه وأعلن توبته أمام شيخ الجامع ، وتم ترحيله إلى المركز وبدأ الناس يتلهون في حياتهم العامة وينسون الأمر برمته إلى أن انتبه الناس ذات يوم على صراخ وشجار عند القبور فاجتمعوا ليشاهدوا ما يحدث فقد كان الخفير يمسك المجنون ويحاول تطويقه والمجنون يرغي ويزيد ويضرب الأرض بكلتا قدميه ويحاول أن يميل بجزعه الأمامي ليهرب من الخفير وسطه إلى أن حانت من الخفير غفلة فانفلت المجنون وركض نحو القبر الذي كان اللص قد نبشه مؤخرا وفرد قبضته عن الطاقم الذهبي ، وكان الناس قد تجمهروا حول المجنون وهو جاث بجوار المقبرة ويحاول إدخال يده في نفس الفتحة التي صنعها اللص وهم ما بين ضارب كف بكف ، ومحوقل ، وممصمص للشفاه ، وما أن أتم المجنون مهمته حتى رفع إليهم وجهه ووضع أصابعه في فمه وعلت وجهه ابتسامة طفولية ساذجة وقال لهم : أصله كان خد سنانه .
#على_أحمد_على (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجنيه
-
ذهب
-
يزيد
-
الميت ...سابقا
-
الخالد
-
من العالم الاَخر
-
مذكرات معتقل
-
سالومى
-
رسالة من عاشقة
-
النبي
-
السقوط
-
الثلاثاء الأبيض
-
الجريمة الكبرى
-
الحسن الأليم
-
محراب العشق
-
أسطورة من كتاب الغرام
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|