|
السياق الجمالي للعقاب .. قراءة في أقلب الإسكندرية على أجنابها لمهدي بندق
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 2287 - 2008 / 5 / 20 - 06:56
المحور:
الادب والفن
تحتل فكرة العقاب حيزا كبيرا في اللاوعي الجمعي للإنسان ، و كذلك النصوص الأدبية ، و التاريخ ، و الدراسات الثقافية ، و التفكيكية المعاصرة ، بل إنها تمتد من الشعور بالدونية أمام قوة الطوطم في النقوش الجدارية القديمة ، حتى تضخم عقدة الذنب ، و تناميها شكليا دون ذنب حقيقي داخل الإنسان المهمش في المجتمع المعاصر . ارتبط مفهوم العقاب في التراث الإنساني بالجسد ، و الممارسات الجنسية ، و الموت ، و نقصان المال ، و الرغبة الدفينة في قتل الأب أو الأم ، و التكفير عن الذنب الأول First Sin ، و تكوين الجهاز النفسي انطلاقا من تقمص الأب عند فرويد ، و تناقضات عملية تفكيك المركز في علاقتها بالإيروس عند جاك دريدا . و يمكننا قراءة ديوان " أقلب الإسكندرية على أجنابها " لمهدي بندق – الصادر عن دار تحديات ثقافية بمصر – من خلال إعادة إبداع مهدي بندق لفكرة العقاب في سياق جمالي جديد يكتسب من الماضي قوة الانسحاق الإنساني حتى تبلغ ذروتها فيما يتجاوزها ، و هو السياق الجمالي للعقاب ، و فيه نلمح طاقة خفية صامتة تنبع من المحو ، و التدمير المستمر للأنا شكليا ، في صورة عبثية تحمل تاريخ الذنب دون الذنب نفسه . ما يهمنا إذا هو المعنى الثقافي الجمالي المنتج للتو من اكتمال المحو عند مهدي بندق ، و لكن لا يمكن إنتاج هذه الدلالة في القراءة دون المرور على لغة فرويد التأويلية للجهاز النفسي ؛ فهو يرى أن الأنا الأعلى يغوص في أحشاء الهو ، إذ إنه مضطر إلى أن يتصل به ؛ لأنه وريث عقدة أوديب ، و هو أبعد عن النظام الإدراكي من الهو ، و أكثر ارتباطا بالدونية ، و عقدة الذنب ، و الماضي ، و التوحد بسلطة الأب ( راجع – فرويد – محاضرة تمهيدية جديدة في التحليل النفسي – ت عزت راجح – مكتبة مصر – ص 60 و 72 ) . إن قوة المنع الكامنة في الأنا الأعلى عند فرويد ، تتحول عند مهدي بندق إلى سلطة ثقافية لا حدود لها بحيث تترك الأنا ، و قد تم استبداله تماما بالفراغ . هذا الفراغ هو أثر المعاقبة ، و الذات التي تخلصت من هامشيتها عن طريق إدراكها لجماليات المحو في القصيدة . و لأن الأنا الأعلى يقهر الانجذاب الإيجابي ، أو السلبي نحو الأنوثة ، فقد تعقدت علاقة المتكلم بالأنثى / الإسكندرية ، و الأنثى / القصيدة ، فنراه يتطرف في الاتجاهين الجنس ، و قتل الأم ، أو الأب معا كنوع من مقاومة الأنا الأعلى الثقافي ، و ممارسة الرغبة الدفينة في تدمير القوة ؛ و لهذا نراه يتماس مع أوديب ، و أوريست ليحقق الخطيئة ، أو يقتل كليمنسترا ليستعيد قوة أجاممنوم الأب في اتجاه مضاد للأبوية المطلقة ، و تنتصر قوة المحو كحل أخير في الديوان لسلطة العقاب ، و ذلك بتحويلها إلى قوة جمالية . لقد ارتكز الأدب الروائي و الشعري الحديث على الرغبة في اختفاء الذات التي تنتظر العقاب ؛ فبطل الجريمة و العقاب لدوستوفسكي حريص على أن لا يرى أبدا ، و بطل الحمامة لباتريك زوسكيد يخاف من الحمامة ، و أخيلتها المزعجة لوحدته السرية ، و كذلك نلمح في الشعر آلام بودلير الملحة ، و جحيم رامبو ، و غيرهما . و لكن المتكلم عند مهدي بندق قد فرض عليه المحو قبل أن يتقمص قوته الجمالية ، فجاء الانفصال بين الحالتين كبيرا ، و مجسدا لحالة مريرة من الصراع غير المبرر بين الأنا و السلطة ؛ و لهذا كان التحول باتجاه المحو أكثر براءة ، و إيغالا في الأداء لا التأمل البطيء لعمليات الانعزال ، و الاختفاء الاختيارية التي كشف عنها الأدب الأوربي . في نص " عيون المطر " يستشرف المتكلم البهجة الموعودة ، كفضاء يتحد فيه بالقصيدة خارج الغياب ، و التمرد معا ، و لكن الذات الأخرى بما تملك من قوة شعرية ، و كونية معا تنبع من الإحساس بالتمرد ، و الانسحاق معا لتتجاوزهما في سياقهما الجمالي الذي يرتبط عند الشاعر باستدعاء صور الخصوبة مثل الأنوثة ، و المطر ، و الانطلاق المميز للغرائز ؛ يقول : " حتى انقسمت اثنين / فواحدٌ هو للغياب ِ من الولادةِ للوفاةِ فلا يُحِسُّ الكارثة / وواحدٌ يلقى بيقظته المسوخ... برحيق الخطر../ فمالك لا تـُطلقين القصائد َ سهما ً فسهما ً/ إلى أن تُطل من الصخر ِ يوما ً / عيون ُ المطر " . الشعور بالانقسام يجسد الصراع بين العقاب ، و ما وراء العقاب من تمرد بهيج يسهم في إعادة تكوين المتكلم باستمرار انطلاقا من صخب التحول ، و الصراع ، و التفكك . و في نص " ظل الملك " تأتي عقدة الذنب شكلية ، و فارغة من مضمون الجريمة ، و العقاب معا ، و كأنها إعادة تأويل لمأساة أوديب ، في اتجاهين : الأول : ارتباط التاريخ الأوديبي بلحظة نشوء المتكلم في القصيدة ، و كأنه حمل جرم أوديب دون أن يعيش تفاصيل المأساة ، و من ثم تتكرر دائرة العقاب شكليا ، و تاريخيا ، و نصيا في الوقت نفسه بحيث تشكل بداية مستمرة لتوحد الأنا بالظل ، أو الهامش . الثاني : توليد القصائد من داخل حالة الخضوع ، و الهامشية ، و من ثم تناميها جماليا كسياق مضاد للعقاب من خلاله . هل يستعاد أوديب بصورة تمثيلية جمالية مجردة ليتمرد على تاريخه ؟ أم أنه يحاول قتل المعرفة في ذاته من خلال الآخر لكي يستبق قتل الأب ؟ يقول : " القطاراتُ خادعة ٌ كلها / (نحن نعلمُ) / أوراقنا مِزَقٌ كلها / (نحن نعلمُ) / بينا ترفرفُ منا القبورُ/ وراء ظلال القطار الأخير / قال لي غامضًا:أنت لم تقتل الأبَ عند الحدودِ / ولم تستبح غرفةَ الملِكةْ / فاجلس إلى ظل نخلتك البدويةِ بين / غيوم البلاء ِ/ ورَتِّلْ قصائدك المستديمةََ / يشتد عودُ التسلط فيها / ويرتدْ غصنُ الخضوع إليك خيوطًا " . إن استعادة مهدي بندق لتراث الإدانة من الفن ، و التاريخ تؤكد مقاومة البعد الجمالي لحتمية العقاب الشكلي الموروث في الوعي ، و اللاوعي . هذا البعد الجمالي يشكل إشارة ثقافية لرغبة خفية في التمرد ، و هدم المركز مثل التي نجدها داخل كل من أوريست ، و إلكترا باتجاه الأم كليمنسترا . يبدو هذا واضحا في نص " كرمة الإدانة " ، يقول : " أسأل ُ عن سيِّدٍ تنكَّرَ / (في هيئة سيف ودرع) / بينما هو في داخله مُزْنَة ٌ/ تقطـِّرُ الضياءَ في العيون المطفأة / سألتهم عنه / فثبّتوا مفاصلي / في اللحم بالحديد / في الغداةِ / سوف أذبح كليتمنسترا .. لكي يعود لي أبي / وها أنذا ألطمُ وجه شقيقي / ليدرك الجمالَ المختبئَ الأزليَّ / في طلحةِ العصيان " . لقد اقترن ذوبان الجسد ، و اختفائه الأولى بتنامي الحنين الدفين للخطيئة / قتل مركزية الأم المسيطرة ، و من ثم محاولة استبدالها وفقا لقوة العقاب المتجدد الذي يشبه المركز ، و لكن في صورة نصية و ثقافية مضادة . إن الرغبة المزدوجة في الاندماج بالأم ، و تدميرها أو استبدالها تبلغ ذروتها في نص " أقلب الإسكندرية على أجنابها " فالمتكلم يكتسب وجوده في العالم انطلاقا من أنوثة المكان ، و أخيلته ، و لكن هذا التوحد ينطوي على رغبة في المحو ، و الحذف أيضا باتجاه تلك القوة التي صارت جزءا من المتكلم يكشف عن تعالي الوعي و انهياره معا ؛ يقول : " أنا هذي المدينة ُ في زجاجة / رسالتها التي لا ُتقرأُ ، انبقعتْ بلحمِ غلافها الأختامُ ، ترحلُ في سفينة بعلها الأعمى/ غَْررّتْ بي/ هذه الإسكندرية ُ في الصبا / أوعزتْ أنْ سوف تأتي بالأحبة / ثم ولت / مثل وجهٍ ذاب في فنجان قهوته الصباحية /أتلف التذكارَ صحوٌ فاترٌ منه " . تلتحم الإسكندرية بأنوثة مجردة تكمن فيها الذات المتجاوزة للتهميش ، و لكن في سياق التناقض التكويني بين القتل و التوحد ، الانسحاق و الرغبة في استبدال القوة . و في نص " الكمائن " يقترن التفرد ، و الاختلاف بحتمية المحو ، و كأن الأخير يمارس دوره منذ البداية ، منذ أن قرر المتكلم أن يحفر الأثر / الذات أو القصيدة . هذا الأثر علامة للتمرد ، و ما يتبعه من هدم للمركز ، و تحقق المتكلم ، و هو علامة نهايته ، و عقابه المتجدد ؛ يقول : " مثل قطار ذي دخان أسود كنت / وذات يوم قلت أخرج قليلا ً عن القضبان / .. قطار ذي دخان خرج قليلاً عن القضبان / فكان ضروريا ً أن تؤدي الممحاة ُ وظيفتها " . و في نص " جاء دوري " يتسع الفضاء المتجاوز للذات المعاقبة ليحتوي قوة الأنوثة ، و جماليات الموسيقى الكامنة في ضربات القدر لبيتهوفن ، و بحيرة البجع لتشايكوفسكي ، فتبرز أمامنا دائرية المحو وحدها في المشهد ، و قد حولت تاريخ القهر إلى جمال لا مرئي . محمد سمير عبد السلام – مصر
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الآلية .. و العمل الإبداعي
-
إعادة اكتشاف روح الأشياء .. قراءة في بريق لا يحتمل لسمر نور
-
الصيرورة الإبداعية للزمن .. قراءة في فوق الحياة قليلا ل .. س
...
-
الشخصية في تحول .. قراءة في عمرة الدار ل .. هويدا صالح
-
العابرون ، و تبدل حالات الوعي
-
وعي طيفي مثل وهج الموت .. قراءة في عادات سيئة ل جمانة حداد
-
براءة الجسد ، و مخاوفه .. قراءة في كوب شاي بالحليب ل محمد جب
...
-
ظلال تتجاوز صمت الأشياء .. قراءة في سوف تحيا من بعدي لبسام ح
...
-
خوف الكتابة
-
التكوين الحدسي للمكان .. قراءة في قصص دوريس ليسنج
-
ما بعد الحداثة في ديوان شطح الغياب للشاعر مهدى بندق
-
القصيدة في نشوء آخر .. قراءة في شطح الغياب لمهدي بندق
-
تجاوز ما بعد الحداثية ، أو التفاعل المفتوح بين المحلي و العا
...
-
الزمن الآخر للظل .. قراءة في مهمل لعلاء عبد الهادي
-
أحلام الجسد البهيجة .. قراءة في مأوى الروح لمحمد عبد السلام
...
-
إعادة إبداع الإنسانية
-
عبث ما بعد الحرب ... قراءة في رواية بلا دماء
-
طيف الأنوثة المستعادة .. قراءة في هيكل الزهر ل فاطمة ناعوت
-
دالي .. حلم النص و أسطورة الفوتوغرافيا
-
جماليات الاختفاء عند مكسويل كوتزي
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|