|
باب العداوة
سعيدي المولودي
الحوار المتمدن-العدد: 2286 - 2008 / 5 / 19 - 07:29
المحور:
الادب والفن
زعموا أنه لما خلق الله معدن الرايات وبرد الأكوان، واستوى على شفة العرش، فطر الأرض اغتباطا ورمى بها من الأعالي، وتدحرجت لقعر هاوية من خلاء.. ولما شاء لها الرسو، قال لها : لك القرار. واستقرت كالحميم. وكان أن نفخ فيها من روح الماء، ووضع وبنى الهواء والأحجار، وشق الطرق والمسالك، فكانت الممالك ، ووضع في أقصى دنياها امرأتين، افتضت الأولى منهما فضة الشرق، وتذهبت الثانية ذهب الغرب، إذ الغرب غرب. وسمى الأولى"روسيا"، والثانية" أمريكا". وقال لهما : بعضكما عدو لبعض إلى يوم تحين رغبتي، وتشاء رحمتي.
أطلق الله زئير الوقت، واستقامت أحوال الدنيا تحت إمرتهما. كانت "روسيا" امرأة فاتنة غيداء، تملأ صرخاتها عباب القارات، إذ تهتف بريش الفقراء والسواعد المكتوية، يظل مداها النجوم وخطوات الحفاة العائدين، العريقين في غابات الممرات البعيدة، تهذي بأسمائها سفائن المحبة البيضاء والحمراء، وترتوي طيور الهجرة اليابسة. تمر الشهوة من بابها لتسطع في طينة الغيم والعواصف المسقوفة... كانت العزاء للموتى، يغمرهم أرقها القارس، وتملأ بطولاتهم بسواحل من هباء. كان لها الشرق. لما قالت الآلهة للجهات كوني فكانت.إذ الشرق يفتح هوة الكبريت للشمس تجلس في مراياه...
وكانت "أمريكا" امرأة عيناء، مشدودة القوام، شرانية، صقر الغرب، إذ هي خيمات الشمس يلبسها جسد الغروب، تستغرق الأعماق والجزائر المكتوفة، تشرب عرقها وهبوب المعاقل العزلاء، وقوافل الغرباء الذاهبين لغبطة اللون، اللون ذي الخضرة المذعورة يقتلع السنديانة الراكضة، كأنما تأكل دمار الحمى، هذه الغلة، غلة الأرباح والخسارات...
كانت الممالك تصغي لقرة الكون، وتتملى إرادة الله السائبة، تلعب في انفلات المجرات، وكانت كل منهما تملأ مواعد الأرض، تمسك بروعها بجام اليدين وسلاسل القبض، تباهي أو تشاكس وترسم وجهها في كل تين... وكان أن جاءت الحروب سجالا، قاتلت كل منهما في ظهيرة السر والجهر، واشتعلت نكهة العناد، من أخمص الرماد لعترة النجوم، تقول الواحدة: هذا الأبيض، وتقول الثانية عنادا: هو الأسود. تسود الأيام والعلاقات بينهما، وتتساقط أجيال من أجراس،وجبال، وحدود، وأصداء تطير كمآثر المخاض... وسارت بسيرهما الهمم، والقبائل المشتبكة، والأمم المتنافرة، وكان الموالون والأنصار، والعملاء والأتباع، والجواسيس والمرتزقة الأعوان والخونة المتألبون...
كانت"أمريكا" تصعد لجبال من الثأر، وتنادي في العالمين: "روسيا" المرأة الساقطة النبت، الفاجرة، ترضع ريعانها القتل والقهر، وأحساؤها تملأ نخيل الدنيا فسادا، الجاحدة تسرق لبنها من بينها، وتحارب مراسي الآلهة، وتذبح الصلوات، وتهدر حرير الديموقراطيات، الديموقراطيات المعروضة في الطرقات الغريبة يأكل طيبها العادي والبادي وتنام على هدهدتها المستوطنات والمزارع المخصوصبة، والمستعمرات المقمرة.. وكان ذلك يغيظ المرأة "روسيا" فتسرج قوسها للاعتداد، وترسم حدائق الوصل والهجر، توصد باب الوحش والرغبة والريح، وتحاصر لهوها في عقيرة البهو. الغرفة الآهلة بالتبجيل والحروب العابرة، وتنام على رمادها...
وكانت "روسيا" تهتف في سواد البرية: "أمريكا " المرأة السافلة، الزانية، الطاعون، لا يأتيها الأمان من الجهات، تضاجع المال وريش الهوان، وتشيد بلورها على الغدر والإغراء، الآكلة خزف الدنيا.. لها الموت. في كل ربوة تغرس أظفارها.كل العهر هي معينه ومرتعه، أصل كل بلاء، لها الويلات، الفناء لها و لكل الغروب...
كانت "روسيا" تبني قوارب من نجاة، ومدنا وقرى، وأنظمة من الألوان تتعب في المقامات المريرة. تقول: إني يمامة تتسول سقوف السلم، أتسقط مداه، في شروقي تجري هذه المحبة متعة الصبايا في الأرصفة والجسور... تقول لها "أمريكا": أنا العقاب.لهذه الأرض اهتراؤها. من كان للحرب فهو أهل لها.... تطبق الواحدة منهما ستائرها، تختلي بنفسها، وتعود لاعتلاء الأسواق، وتقول: بعض من الحرب، لن تأكل غفلة السلم. السلم هذه الجنازة المفردة..
كانت "روسيا" تعتصم بحبال من ماء، تفتح رخامها للعساكر المارقة، والفقراء اللقطاء، والثعابين الزاحفة، تقطع خريرها الفاصل بينها وبين القطاف، ضاجعها كل قاطعي طريق، وأضرمت الشهوات في الماء الواعد، لكن الغواية كانت تسرق خطوها، تأكل النوى وترمي القشور دون انتهاء، نسيت أنها امرأة العبور، فارتوت من الوهن، وسقط من أعطافها البريق... وكانت "أمريكا" تصعد لسطح بيتها، وتعيرها بقلة ذات اليد، ومتاع الدنيا، بالقش وبالفقر، والجوع والبرد... وكان ذلك سببا في نشوب كثير من الحروب، وذهاب الكثير من الموتى..
وزعموا أنه بعد ملايين السنين، ضاقت إرادة الله، غضب، وقال لدابة القحط: اهبطي لهذه الممالك، وائتيني برأس هذا الشرق "روسيا" هذه المرأة الماردة، تغري الجواري بالقصور، والحمائم بالنسور، والعبيد بالأحرار، ولا ترهب شوكتي. فنزلت دابة القحط، أكلت المدائن والأمصار، والدول والأبراج والأنظمة، ويبست أغصان الشرق. وجاءت "روسيا" وقوافل الشبق الدفينة تعانقها، وقفت بباب "أمريكا" تستجدي، وكأنها تطلب صفحها، وتمجد عهدها... يومها قال الرب: ـ لتنقرض هذه العداوات، إنها تؤلمني.
1991.
#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ذكر ما جاء في باب التفويت
-
باب التدشين
-
لماذا تأسيس نقابة بالتعليم العالي
-
بصدد الجدل الدائر حول الإطار النقابي للتعليم العالي: -إصابة
...
-
في أن تحويل إطار نقابة التعليم العالي إلى -جمعية- أمر مقصود
...
-
في حضرة الإمام مولانا الغلاء
-
في الحاجة إلى تأسيس نقابة للأساتذة الباحثين بالتعليم العالي
-
رسالة مفتوحة إلى الوزير الأول
-
ما تحت جلباب الإصلاح الجامعي ( 1 )-المراقبة- و-المعاقبة-المس
...
المزيد.....
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|