|
رثاء كتبه الاستاذ محي الدين زنكنه
كريم الدهلكي
الحوار المتمدن-العدد: 2283 - 2008 / 5 / 16 - 07:44
المحور:
الادب والفن
عادل كوركيس قديس أخر ، من قديسي المسرح ، يغادرنا ... محي الدين زه نكه نه
صباح اليوم (4-5-2008 ) بعد الساعة الثامنة ، بدقائق ، او قبلها بدقائق .. أو .. أو .. بقرون أو دهور ، لا ادري ، لم أعد أدري ، فقد غابت الدنيا ،بكل ازمنتها و امكنتها عن عينيَ ، أو غابت عيناي عنها ، فالدنيا ،بكل مافيها ما تزال قائمة ، أدركت ذلك بعد هينهة ، و ستبقى و لا تزول ، بل هي لا تهتز و لا حتى تتاثر ، بالفواجع مهما تضخمت و خرجت عن أطارها المألوف و لاشت طبيعتها الانسانية . ماذا يمكن ان يحدث لها ، على اية حال ، و قد ترهلت ... و غدت مشبعة ، حد التخمة و التقيوء بالفواجع .. و الماسي في زماننا هذا الشاذ ... و هي تعيد و تكرر ببرودة صقيعية صدى تلك النبرات المخضلة بالدم ، بدل الدمع ، التي تمتلئ بها و التي سرعان ما تتشربها و تمتصها ... و من ثم تعلنها و تنشرها ، خلال تلافيف الهواء ، و هي تفيض بها .. حد الاختناق .. او تختنق تحت وطاتها ، حد الفيضان ، و تكاد تحترق من لهيب الدموع المدرارة التي تهزَ .. و تخض َ .. و تزلزل نبرات صوت الصديق الصدوق لطيف نعمان و تقطَع اوتاره و تجول في أحشائه بسكين مثلومة صدئة ، يمررها عليها ... جزار فاشي بلا شفقة ... لا يرحم حتى الحيوان ، ناهيك عن الانسان . ليضخ الى الدنيا . و ينقل لي نبا واحدة من اشد الفواجع و أوجعها (و ما أكثرها.. ) التي تلقيتها حتى اليوم ... في عمري المكدود ، الذي بات الزمن القاسي يكوم فوقه ... مصائب فقد الاحبة و فواجع رحيل الاقربين .. و انطفاء الروح في الهياكل البشرية .. التي ما تزال ، رغم ذلك – و اخجلتاه – تدب على اثنتين .. او ثلاث – او اربع ... و هذه المرة .. تكون فجيعتي المرَة بواحد من أكبر قدسي المسرح ، عشقي الدائم ، و من أكثرهم صدقا و أكتواءً بناره المقدسة . و التصاقاً بروحه الخلاقة ... المحلقة في فضاءات الابداع .. انه .. انه الفنان ، المبدع ، المترجم .. و الانسان الاروع .. (عادل كوركيس) .. الذي غاب – و افجيعتاه – عنا .. و الذي يظل رغم ذلك .. حاضرا .. في ذاكرة احبته و اصدقائه و في ضمير المسرح العراقي .. أجل بالامس أنطفا هذا الوهج و كف عن الاشعاع .. و سكت ذلك الانسان المفعم بحب الانسان .. و الوطن ... و خبا ذلك العقل المترع ... بالمعرفة و الثقافة و العلم و الفن .. و المحبة بلا حدود . لقد كان عادل .. – اه ... ما أشق علي ان اراني مضطرا للحديث عن هذا الحاضر الماثل امامي حيا كالغائب . بلغة الماضي ، كان و سواها .. و لكن لابد مما ليس منه بد . أنه بعض من مظاهر قسوة الاشياء حولنا – لقد كان رجل مسرح بالمعنى العلمي و الحرفي الدقيق . أذ كان منذ البداية أحد أكبر عشاقه . و العشق كالقراءة و الكتابة . و ربما قبلهما .. هو الخطوة الاولى الاساس .. لدخول عوالم العلم و المعرفة و الفن و الجمال . و الحافز الاكبر لايقاظ الوعي و تنشيط العقل .. و توسيع مداه .. و فتح مداركه و اطلاقها نحو الفضاءات التي لا يحدَها حدَ. مارس عشقه للمسرح و عاشه حتى النخاع في دراسة منهجية في معهد الفنون الجميلة ببغداد و واصله و عمقه في "براغ" في دراسة جماليات الهندسة المعمارية ، لصيقة الصلة بالمسرح .. ثم في كلية الفنون في بغداد ... و توج عشقه في الاحتراق في اتون المعرفة ، باللغة الانكليزية في كلية اللغات ... و حقق تفوقا عاليا في ذلك كله. و على صعيد العمل .. عاش المسرح .. أخراجا و تمثيلا و ترجمة – أخرج مسرحية " في الخمس الخامس من القرن العشرين يحدث هذا " لمحي الدين زنكنه – و مثل فيها . و ترجم مسرحية " البقرة " لناظم حكمت و أخرجها – و كتب العديد من الدراسات في النقد المسرحي ، تحليلا و تنظيرا مثلما قام بهندسة و تنفيذ الديكور لعشرات المسرحيات و ساهم في تصميم الانارة و أختيار الموسيقى .. بهمة و نشاط و أبداع .. و نكران ذات .. نادر المثال ... و فوق كل هذا و ذاك ، و قبلهما و بعدهما ، كان عادل – آخ من "كان" اللعينة هذه – أنسانا شفافا .. تكاد ترى الدم يجري ، مختلطا بالنيكوتين و الدخان و الشاي ، في عروقه التي لا يكسوها .. سوى الجلد .. بعد ان اكلت جهوده و أنشطته لحمه و لم تترك له سوى الجلد و العظم .
********** لم اره يوماً يخاصم احداً، مع انه كان شديد الصدق مع نفسه و مع الاخرين ... و لكن بلا عناد و لا تعصب و في مبداية عالية و خصوبة فكرية طرية دائماً و روح الديمقراطية مفتوحة . أذ كان يقابل من يختصم – او بالاحرى ، من يختلف معه في الراي ، فهو ما كان يعرف ان يخاصم احداً – بنقاش معرفي هادئ ... لين .. و لكن ، في الوقت نفسه ، صارم .. لا ينافق و لا يهادن و لا يساوم .. كنت أقول له مازحا ، و جادا الجد كله ، و انا اعني كل حرف أقوله : - ياعادل انت لست مسيحيا .. انت المسيح نفسه !!! و كان ثغره المتواري عن الانظار ، يفتر عن ابتسامة خجول .. تخترق ، بضعف و هشاشة ، شعرات لحيته الكثة .. التي أطالها ، في البداية ، منجاة له من مطاردات ميليشيات الجيش اللاشعبي ، و صياديه الماكرين .. و عيونهم الواشية المبثوثة في كل مكان .. مثل روائح المزابل النتنه و هوائها العفن الفاسد ... ثم ثم لم يلبث ان تعلق بها و رباها .. فاضفت عليه فعلاً هيئة قديس في القرن العشرين و الحادي و العشرين .
********** قلت له ذات مرة مداعبا ... و كان قد عاد طالباً مثابراً ، بعد ان انهى دراسته للمسرح في كلية الفنون بتفوق . كالعادة ، في كلية اللغات / اللغة الانكليزية – و كان على اعتاب الستين او دونها بقليل : -ألا قل لي ياعادل ... ماذا تفعل بلحيتك هذه . اذ تدخل المحاضرة ( الصف ) أطلق هذه المرة ضحكة عالية صافية ، صفاء روحه التي لا تشوبها شائبة و قال : -اتركها خارج الصف ... ثم راح في قهقهة ... بمرح .. و هو يضيف : -أتدري ، ابو ازاد ، ذلك أمر .. لم أفكر فيه حتى الان .. ها ها ها .. ********** عاش عادل كوركيس سنوات الظلام كلها . في العراق و لم يهادنها قط . ابت عليه غيرته ووطنيته و انسانيته و تقدميته ان يصالح .. او يتصالح مع قوى الظلام و الموت .. و عانى جراء ذلك ماعانى من جوع و فقر و ملاحقات .. و لكنه ظل ، صامدا ، ابيا، شامخا .. قويا ..محاربا ... مقاوما .. بفنه ...بعلمه حتى تهاوى كل الاقزام تحت الاقدام طوبى لعادل ، طوبى لهذه الروح الشجاعة ، الخلاقة، المودعة في ذلك الهيكل .. النحيف ، النحيل . و هو يشع .. يعمل بدأب .. يتعلم و يعلَم .. يكتب و يخرج و يمثل .. و يترجم روائع المسرح العالمي .. يهندس .. يدوكر .. الخ .. يساهم .. بكل ما يستطيع . في صياغة الضمير الوطني للانسان العراقي .. و للانسان في كل مكان .. يرفده و يسبقه من فيض عطائه ... بايات الابداع و الجمال .. ********** بلا دموع .. و لا بكاء .. و لا نحيب .. أقول لهذا الانسان الفريد ... وداعا ايها العزيز .. أو .. أو ... الى اللقاء .. من .. يدري .. من يدري ...ماذا يجري في هذا الزمن الشقي .. و ماذا يتنظر الواحد منا .....
محي الدين زه نكه نه 4-5-2008 [email protected]
#كريم_الدهلكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من وسط الركام شباب بعقوبه ينهضون من جديد
المزيد.....
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
-
نقل الموناليزا لمكان آخر.. متحف اللوفر في حالة حرجة
-
الموسم السادس: قيامة عثمان الحلقة 178 باللغة العربية على ترد
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|