|
رسالة
صالح محمود
الحوار المتمدن-العدد: 2274 - 2008 / 5 / 7 - 08:11
المحور:
الادب والفن
الإهداء: إلى المهتدين....................
مقدمة المؤلف
و تشدو روحي، من وراء الحجب، و هي سابحة في الملكوت: " من كفر
بالميكانيكا و امن بالإنشاء فقد نجا و اهتدى ". منذ الأزل و إلى الأبد . بحثا عن
وجود وضاء ، صاف كصفاء الجواهر.
ديسمبر 2000
قال الراوي : لاح الجبل العظيم ، سقف العالم ، أبيض ناصعا ، منتصبا بكبريائه ، طودا شامخا في سماء زرقاء، ضمت بين أحضانها شمسا مشعة و فوقه نجوم كالدرر، تبعث بخيوط من نور كأضواء كاشفة.لاح الجبل هائلا و قد غمرت الثلوج أجزاء منه إلا النتوءات الصخرية و كثيرا من الفجوات السوداء اختلفت أشكالها و أحجامها مبعثرة هنا و هناك . أما السفح فقد اشتد انحداره، و أحاطت به هوى سحيقة من كل جانب فضلا عن عضاة مبثوثة و كأنها بثت لحراسته. و ترى الخلائق تهرع هرعا نحو الجبل لا تلوي على شيء دائسة بعضها بعضا ، و يبدأ الصراع المحموم و التكالب للوصول إلى القمة ، فتراها و قد أحاطت بالجبل ، و قد تسلحت بالجبال و الأوتاد ، و تسربت إلى أعلى كاللهب في الهشيم. و يسمع فجأة دوي هائل يزداد وضوحا كلما اقتربت من الأسفل، ثم يلوح غبار أبيض قادم كالإعصار ينحدر بسرعة جنونية محدثا قرقعة ودويا هائلا كقرقعة البراكين و دويها في بداية سورتها و ثورتها . إنه الانهيار الثلجي !!! و لا ينتبه القوم إلى الخطر المحدق بهم مثلهم كمثل الذين ختم على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة . بل يستمر التنافس ، و يبقى الجبل راسيا وقورا. ويقترب الغبار المدمر تدريجيا ، منحدرا نحو السفح الحاد حاملا ثلوجا في شكل بلورات ثلجية غير متماسكة ساحقا كل ما يلقاه في طريقه . ها أن الطامة تحل برؤوس الخلق ، حاملة مزيجا من الألواح الجليدية و جذوع الأشجار و صخور مختلفة الكتل و الأحجام هاصرة كل ما يعترضها. فيضج القوم و تتعالى أصوات الاستغاثة من كل حدب و صوب ، إلا أن الانهيار الثلجي لا يمهل و لايهمل . فيدك الخلق ممن لم يحتموا جيدا أو الذين عجزت قوامهم عن تحمل هذا الهول دكا ، فتكسر أعناقهم و تبعثر أشلاهم ، كما تبعثر الصخور المفتتة . كان ذلك منذ الأزل حين رامت الخليقة صعود الجبل سقف العالم.
* * * * *
و أينما تولى وجهها فثمة ألم يغتصب روحها و يستبيح أمنها و يهتكه ، فتتوه في فصول الضباب الجليدي القارس المشوب بالمجاعة ، و يبعث بها جحيم الأوجاع المارد ليجعل منها خليقة بالانهيار ، و تسجي إلى منشأ الوجود الجاف النهم بعد أن هوت ترانيمها الناهدة و خبا هيامها المشع لتضمحل و تتبخر في الزمن البعيد الهارب . هاهي تستجيب مفعمة بعشق الهروب من الجحيم الملتهب و لفحه الصادي إلى حرية أبدية مرتقبة و سكينة باردة ، و لقد ذوت نفسها و ماتت تحت ضربات الألم المزيف ، وزيف الحقيقة الدامس و هو ما جعلها تقدم على الهروب من البحث و التقصي. و تنشأ العواصف و الأعاصير المدمرة للأركان ، لكن لم تعد لها على أميرة من سلطان تلك التي صارت كخرقة بالية بعد أن اهتز كيانها للأفق البعيد المليء بالزوابع و الرعود اللذين ينذران بالويل و الوعيد. وتشعر بطرق كطرق المطارق و قرع كقرع الطبول فتتصدع و تتهشم و تغور جروحها في أبد وهمي . و يفغر لها الوجود المصطنع فاهه مكشرا عن أنيابه كالضباع الجائعة ، و ينشب فيها مخالبه الكوابيس الفجة و ينفث سموما موغلة في هجر الحقيقة و الانعزال عنها بغير وعي. وترى وحوشا ينبعث منها شرر ملتهب تحيط بها من كل حدب وصوب تتكالب عليها ، فتنهشها نهشا و تمزقا تمزيقا و لا تترك لها فرصة للبحث عن مخرج نوراني روح الأصل في عالم الزيف الساذج. فتصاب آنذاك بذعر مجنون يرسم لها مسار الهروب و الاستسلام المنهزم ، و يتراءى لها السلام في قلب الظلام المدلهم ، و تفر من الحب و الجمال لا تلوي على آثارها المرسومة على صفحات و جذاذات لامعة ناقصة. و تسمع لغوا كالحلم الهادئ . إنها هيفاء . - أميرة، حبيبتي، هل تسمعيني ؟ لكن أميرة كانت تسبح في عالم أمواجه هائلة مدمرة و محرقة و تلتذ لعالم العدم ، فتبحر فيه و تشدو ترنيمة الفناء غير عابئة بهيفاء و صوتها الدافئ. - أميرة، أنا صديقتك وحبيبتك هيفاء. و تمسح هيفاء على شعر أميرة الناعم دامعة العينين كسيرة القلب. - إذا كنت تسمعينني فاضغطي على يدي ؟ !! غير أنها تهاوت جثتها أشلاء، يكاد ينعدم منها ماء الحياة الدافئ. ولا تفتأ هيفاء أن ينشطر قلبها أو يكاد ، فتخرج من الغرفة و الألم يمزقها و قد أصابها يأس و يقين بأن صديقتها تبتعد تدريجيا و إلى الأبد.
* * * * *
تناغمت أصوات الحفارات و الجرافات و الرافعات و قرقعة الحصى في صهريج ضخم لا يفتأ يدور باستمرار ، انسجمت مع أصوات العملة التي تتعالى من هنا و هناك و لغوهم ، وقد انقطعوا عن العالم و اعتكفوا في ركن الحديقة ، هاهم منهمكون في عملهم لا يشغلهم عنه شاغل ، وقد توحدت حركاتهم و انسجمت رغم تنافرها الظاهر . ابتهجت هيفاء لمرأى هذا المشهد إذ كان كخلية نحل ، فالعملة لا يفترون و لا تفت عزائمهم ، و ترى كلا في حركة دؤوبة ناشطة قد تغلب على برد الشتاء القارس و ريحه و أنوائه . - أبي ما الذي يحدث في حديقتنا ؟ - إنه منزل أخيك هيثم الذي سبق و أن تكلمنا في شأنه؟ - أجل ، أذكر ذلك متى سيجهز؟ - قريبا ، وعدني بذلك المهندس مجدي ! أخذت هيفاء بالمشهد ، و لم لا تذهب إلى الحضيرة. - مساء الخير سيدي ! - مساء الخير هيفاء ، إنه لشرف كبير أن تشرفينا في هذا المكان غير المنسجم و غير المتناغم. - لا عليك ، أردت أن أرى أسس منزل هيثم. و دعاها مجدي الذي كان يتابع العمل عن كثب : - يمكنك الاطلاع على تخطيط المنزل. و فتح ملفات و طيات من الأوراق. - هذا هو المنزل ! شاهدت هيفاء أشكال و خطوطا، دوائر و تعاريج، نقاط تكبر و تصغر، لم تفهم معنى كل ذلك، كانت طلاسم !!! هذا هو المنزل كما سيكون بعد البناء، أشار مجدي. و رأت الرسم يستحيل صورة جميلة لمنزل فخم. تهادت في مشيتها بخيلاء بفستانها الحريري الجميل الهفهاف الذي جعلها كالملاك الطاهر الوضاء بابتساماتها الرقيقة الشفافة لاحت من ثغر صغير أحمر قان صففت فيه مجموعة لآلئ اصطفافا كالبنيان المرصوص . اجتازت المصطبة بخطوات منتظمة ثابتة، توحي بثقة كبيرة في النفس، تمشي الهوينى مرفوعة الهامة شامخة، لم تؤثر فيها عدسات المصورين و لا الأضواء الكشافة. أي معنى لحياة بدون ما تحياه، شباب يافع جمال صارخ، ثروة طائلة و نجومية تزداد إشعاعا يوم بعد يوم. و هاهي ترحل بعيدا في فضاء ملئ بالألوان و الورود و الأنوار، هاهي تطير بأجنحة حريرية شفافة، تعتلي صهوة مجدها المتألق المشع على الدوام، لتفوق الحضور فتصبح أجل شأنا منهم. مر العارضات و العارضون على المصطبة مصحوبين بموسيقى تتناهى كالنجوى تزيد الإنسان إغراقا في أعماقه بما حملته من ألحان تمس الوجدان كالوحي، بأضواء خلابة خداعة أضفت على المكان جمالا و سحرا. تجمع المارة حول شاشة عملاقة بصورتها الثلاثية الأبعاد، و علا صوت وقور وهو يردد : "تمتعوا سيداتي" سادتي بعروض أزياء سمراء باستعمال الربو في بداية هذا القرن. كانت هيفاء مسترخية على إحدى الأرائك و هي تستعيد أحداث أحد أفلام الخيال العلمي.
* * * * *
أطلت سحر من الشرفة، فلاحت لها المدينة كالمجرة تتلألأ بأنوار خلابة متلاعبة، تتراقص كالسراب مشعة و خافتة، متزاحمة و متناثرة، انسجمت وفق هرمونيا كالسمفونية الموسيقية. طربت وهي تستقبل الفضاء الشاسع الفسيح بنجومه و أقماره و قد كانت منذ هنيهة مع أحبائها. - سيداتي ، سادتي نقيم هذا الاحتفال بمناسبة عيد ميلاد أمنا و حبيبتنا سحر الخامس و الستون. و علت موجة عارمة من التصفيق و الضحك. - الله ! يا أبنائي كم أكون في قمة السعادة حين تكونون حولي، أنا لاشيء بدونكم. - سحر يا أمنا أنت شرف هذه العائلة نحن الذين لا نساوي شيئا بدونك ! - دعنا شهاب من كل هذا، و لنحفل لنغني ونرقص. احتضنت سحر حفيدتها و هي تقدم لها قطعة من مرطبات و جلست على إحدى الأرائك المبثوثة. - ماما أنا لست جميلة...قبيحة !! - و لكنك جميلة حقا سحر. أجهشت البنية بالبكاء، وقد دست وجهها في أحضان أمها. - تذكري أنك تساعدين أصدقائك في الرسم و التلوين. التصقت بأمها فشعرت بالدفء و الطمأنينة تسري فيها سريان الدم في العروق. عادت سحر من ماضي سحيق لم يمحي، و رنت إلى هذا الكون الشفاف بنجومه و أقماره، وانفتحت نفسها على راهن ضاعف إيمانها الراسخ بسخاء الحياة البهية، بعدما رسمت ماضي يبعث على الطمأنينة و الرضى، و مستقبلا ترنو إليه فيرسل إليها عبر الأفق البعيد ومضات من نور، فتذوب نفسها في الحب و الجمال فيها، و تعتلي صهوة الإبداع لتخط للخلق مجدها الذي لا يأفل و لا يمحي، فتسير على هدي خط من نور لا يراه و يبحر بها نحو الشمس الوضاءة فتضيء عبرها حياتها.
* * * * * تاهت في أبعاد الألم و الأوجاع الفجة، وهي تتحسس ساقها المبتورة وانتبذت مكانا قصيا عن الحب و الجمال وضاعت روحها بين ماض مجيد تليد يرقى بها إلى المجد و يجعلها تشعر بالرضى عن ماضيها وحاضرها وتأمل في مستقبل مليء بالألوان و حاضر في زي مارد عبوس يرتدي السوداء و ينذر بالويل و الثبور، وهاهو وبعد أن أنزل بها النازلة صارت على شفير الهاوية السحيقة و قد تلفعت حياتها بالسواد. فلا ترى فيها بصيصا من نور تهتدي به إلى الحياة. لم يعد لها ما به تأمل ، ترجى وتنتظر بعد أن فقدت الحب حين دخل عليها سمير بوجه جامد كالثلج و مشاعر باردة كالصعيق. لم تتوجس أو ترتاب فقد خبرته طيلة سنوات أربعة، لما بنى حبه لها على أسس روحية لا تنفصم عراها. لكن تداعت روحها وهوت بين براثن الألم الموحش حين أخبرها الخبر اليقين: " أتمنى لك حياة سعيدة...". لم تستطع أميرة الإيمان بما سمعت فتهاوت في مهب ألم كلهيب النار صار يلفعها و يصفعها بلا توان. و تتالت الصور و الذكريات فهاهو حفل الخطوبة و كاحتفال الأمراء و الملوك، كانت ليلة لا تمحي. - حبيبتي، هذه الليلة ترسخ حبنا إلى الأبد. - حبيبي، هذه الليلة بداية تاريخي ! - أجل حبيبتي، لن نفترق إلى الأبد. و تتالت الصور، صور الود و الصفاء، أيام الحب و الهناء، الأيام الخوالي، كانا كالعصفورين في الجنة: حب و انسجام، روحا واحدة في جسدين. لقد حبتهما السماء بحبها حين التقيا صدفة. هوت روحها في هوة سحيقة مظلمة ، و ترنحت ثملة و قد سقيت من معين القسوة، وأبحرت في عالم الألم الفسيح الدوامة. ويفعل الألم في أميرة فعل السحر، هاهي تلوح لنفسها و قد وصلت ذروة المجد، و تمضي عليها اللحظات بل الساعات الطويلة وهي سابحة في مزيج من الألوان و الأشكال الفتانة، ولكن تستفيق من غفوتها زائغة العينين عبري تبحر في عالم الوجود طريق الفناء. لاحت غادة ذات مفاتن بعتقها الطويل البلوري الشفاف وجيدها المرمري، و شعرها الحريري الأسود، امتزجت حمرة الورد ببياض الندف في بشرة خديها ، ترفل في الحرير كملاك طاهر طائر، إن روعة هيفاء لم تخفى على الخلق و هذا ما يجعلها تحلق في أبهى الأحلام السحرية. سيطرت عليها مشاعر القوة و العظمة، كان جسدها الأهيف و قد سلطت عليه الأضواء المشعة و الحرير يهفهف كالزهرة ترفل في بتلاتها في أوج نضارتها كان كالجوهرة النفيسة ملفوفة في الحرير، ولا تفتا تغمر بهالة من الإعجاب كلما ظهرت على المصطبة، أي عذوبة روح ورقة نفس و سحر عيون يضاهي عذوبة روحها ورقة نفسها و سحر عيونها، اجل إن جسدها يمثل سمة القوة و العظمة فيها لطالما تملته في المرآة وهي عارية تماما، هو لوحة سرمدية لا تضاهيها أي لوحة. و فجأة وقف الحضور لسحر وهي بين العارضات، شعرت هيفاء بالغيرة تدب فيها و تنشأ نشأة العاصفة.
* * * * *
قال الراوي : تواصل تدافع الناس و تنافسهم حد التكالب بين معابر الجبل و ممراته الوعرة المغطاة بالجليد الجاف القاسي و التي تتخللها صخور صلبة برزت منها نتوءات كالخناجر، فجمدت الأكف، و تصلبت الأيدي و صارت كالأخشاب ،نزفت الدماء نزيفا تاركة آثارا حمراء على الصخور. إلا أن الصراع المحموم بقي بلا هوادة، فلا ترى إلا وجوها مرهقة و أجسادا استنفذت طاقتها أو تكاد. هاهي الوجوه محتقنة و العضلات نافرة، و تتعالى غوغاء و ضوضاء، هرج ومرج كاليوم الموعود. و لو سألت أحدهم : - سيدي إلى أين ؟ لأجابك : - أسعى إلى القمة. - و لكن الصعود محفوف بالآلام و الأخطار !!! - دعني و شأني، أريد القمة و أريد البقاء على القمة لأشرف على العالم و أرى الشمس عن كثب. صمت الراوي برهة ثم قال : و فجأة برز أسد الجبال الهصور بروز الطيف من العدم، فحدق في الخلق و في نظراته و عيد بالويل و الثبور و هاهو يهوي بمخالبه الفتاكة على من قدر له أن يكون ضحيته فيغرس فيه أنيابه الحادة و يمزقه تمزيقا، و ينهش لحمه نهشا، بعد أن يكسر عظامه و يرديه إلى العدم. وفي بعض الأحيان لا يزهق الأسد روح فريسته بل يقتصر على اجتثاث جزء منه و يتركه فريسة للألم الفج، يندب حظه التعيس. و لا يفتر الأسد الأبدي المتوحش و لا تفت عزائمه، بل لا يمل اهراق الدم على الدوام، فهاهو يعمل أنيابه معول التهديم في متسلقي الجبل مقيما بذلك مجزرة أبدية لا محدودة. ويضج الناس من هول الفاجعة، فلا تسمع إلا صراخا مفزعا عاليا مستغيثا طالبا للعون و الرحمة، أو صوت جريح يئن أنينا خافتا يقطع الأوصال أو حشرجة محتضر في النزع الأخير مصحوبا بصوت عظام تدق. لكن يا للعجب بقي الأسد الهصور يصول و يجول في الخلق، يزهق الأرواح ويهرق الدماء مقيما مجزرة مخيفة و لا منازل له، لم يجرؤ أحد على الهروب من وجهه، بل واصل الخلق تقدمهم نحو حتفهم. كان ذلك منذ الأزل حين رام الخلق صعود الجبل.
* * * * *
تهاوت أميرة منذ أشهر إلى أعماق الهوة بعد أن شلها الألم الممض، و سد عليها منافذ النور و جعلها تخبط خبط عشواء في بحر أمواجه عاتية عالية كالجبال، أثارتها عواصف هوجاء و أعاصير، فتضاءل نور الحياة، و تسرب ضباب كثيف حجب الحب و الجمال. و تفنيها الأوجاع آنذاك فتذرف دموعا تذيب القلوب، ألما و حسرة على مجد تليد تركها فريسة لحاضر ينهشها كما تنهش الذئاب الفريسة. آنذاك أربد وجهها و خفق قلبها خفقا، و التجأت تحت ضربات الذكرى المتوالية و المتتالية إلى التخدير و النوم العميق، ثم تستفيق فترتج روحها على صفعات لهيب الحقيقة في لون السواد و لفحها. أهملها العالم القاسي الهمجي، تخلى عنها الحب و طرحها طرح الحية ثوبها، أزيحت عن عرشها إلى الأبد. آنذاك ارتاعت نفسها، و أحست بسهام حادة تنفذ إلى مسام جسدها. يهب الألم آنذاك كإعصار مدمر، فتغمض جفنيها. و تفاجأ هيفاء حين ترى صديقتها أميرة خائرة القوى شاحبة اللون ذابلة العينين، جافة الشفتين. - كيف حالك حبيبتي ؟ !! - بخير...أنا خائفة !! ضميني إليك. رددت أميرة وهي مرهقة. - لا تخافي حبيبتي، لن أتخلى عنك حتى تتعافي. احتضنت هيفاء صديقتها التي أجهشت بالبكاء : - أشعر و كأني في كابوس حالك السواد !! - يجب أن تتعافي بسرعة أميرة يجب أن تعودي إلى سالف نشاطك. - أي نشاط تعنين....أنا متعبة.....مرهقة جدا !! - أميرة ماذا تقولين، إنك تسعين إلى تعذيب نفسك !! و غابت هيفاء عن ناظريها بعد ما تحدثا عن الذكريات و الماضي الجميل : - أميرة يجب أن تفخري بما حققته، كنت نجمة ساطعة في سماء المدينة المضيئة. - أجل .....كنت نجمة، و الآن.... ماذا حدث ؟ الآن هوت تلك النجمة، و أفلت إلى الأبد. أحست بوخزة في قلبها و ألم يعتصرها ثم و كأن صوتا يأتي من الأعماق الغائرة، من تخوم الأرض يدعوها : "تعالي إنك متألمة عاجزة، خلصي نفسك من البؤس و الشقاء ". مررت يدها على ساقها المبتورة فزاغت عيناها و خنقتها العبرة، ة انعدمت الألوان و الأصوات، و تباعدت عن الضوضاء و الضجيج و اختفت في طيات ذاتها، و دخلت في عالم فاتر ساكن، دخلت بالمهدئات في نوم عميق. و الآن، هاهي تستجيب مفعمة بشوق غامر للأمن و السلام المزعومين.
* * * * *
سارت هيفاء في الحديقة بعد أن أكلت بشراهة، لم تفكر في كمية الطعام و دسامته بل أحست ة كأنها تخلع عن نفسها العارضة الرشيقة التي يجب أن تحافظ على وزنها، إن الدفء و الحنان اللذان غمرها بهما أبواها، جعلاها تشعر بسعادة غامرة و طمأنينة أبدية. فاللحظات التي تقضيها وسط عائلتها لا تثمن بمتع الدنيا، و هي تردد باستمرار أن قصرها الفخم و أموالها الطائلة و شهرتها الواسعة النطاق لا تساوي شيئا أمام لمسة أو قبلة أو ضمة من أمها و أبيها لأن ما تملكه أشياء جامدة خالية من كل دفء و حنان، و هذا ما يجعلها تزور عائلتها باستمرار حتى تشحن بالحب و الدفء اللازمين. سارت تمتع بالنظر و تقضي بعض السويعات الممتعة، تربت بين أحضان هذه الأسرة و في هذه الجنة الشاسعة التي أولاها والدها كل الرعاية لكي تصبح جنة بحق. وولت وجهها مكانها المميز الذي تلتجئ إليه زمن الارهاق لما احتوته من أشجار باسقة متنوعة و فريدة، و زهور البنفسج و النسرين و السوسن و الورود المتعددة الألوان و الأشكال تنشر أريجها و شذاها في الفضاء الشاسع الواسع. و قد كساها قطر الندى و كأنها بذلك تدعو المفتونين بها إلى التمتع برؤيتها و التغزل بها، هذا فضلا على الأعشاب الخضراء التي غطت مساحات شاسعة من الحديقة في شكل بساط فاتن. كل ذلك جعل مخلوقات رقيقة تؤوبها و تتنقل بأمن و سلام، و تعيش بدعة و طمأنينة. و يتعالى من هنا و هناك شدو البلال و الشحارير و تغريد العنادب و زقزقة أبي الحناء في ألحان امتزجت و انسجمت و تناسقت لتكون سمفونية و كأنها الوحي. و تراقصت فوق الورود الفراشات فرادي و جماعات مزركشة بألوان سحرية، مختالة بحللها الخلابة. أما على الزهور فتسمع طنين النحل يرتع و يتشرف رحيقها ترشف العاشق الولهان رضاب الحبيبة. أخذ المشهد بلب هيفاء و جعلها تشعر بعظمة المقام و جماله. كان الوقت صباحا من صباحات الربيع و قد هب نسيم رقيق الملمس مداعبا بشرتها فانسجمت مع جمال المنظر، و استلقت على الأعشاب الطرية وسط العصافير الجميلة الوديعة و الفراشات الملونة الرقية ، مما زاد المشهد فتنة، الدفء الذي أرسلته الشمس عبر أشعتها التي انسكبت في شكل خيوط مختلفة الأشكال و الأحجام من بين فجوات الأغصان. " ما معنى الجمال " ؟ تساءلت هيفاء منبهرة بما تراه لأول مرة و هي التي قضت فيه طفولتها و جزءا من شبابها، إن هذا المشهد الذي يحتضنها هو الجمال إن ما تراه هو الجمال " أليست هذه المخلوقات الرقيقة و هذه الخضرة اليانعة و بما مثلته من انسجام يعجز عن رسمه أكبر رسامي العالم، و حتى و إن رسمه أحدهم في لوحة محدودة في الفضاء فسيعجز عن جعلها تنبض بالحياة، و عاجز عن تحريك هذه المخلوقات الرقيقة الوديعة ". أي جمال يضاهي جمال وردة بيضاء تكسوها قطرات الندى. أي جمال يضاهي جمال طائر صغير رقيق يشدو بصوت كالوحي. أي جمال يضاهي جمال خطاف يطوف في الوجود جذلا يدعو الانسان لعشق الحياة و التمتع بها. إنها تلمس سر جمال الطبيعة، سر الحقيقة و جوهرها، لقد مست تلك المشاهد شغاف قلب هيفاء. و تمنت أن يضفي و جودها هنا مسحة من الجمال، و لم لا !! إن جسدها رائعة من روائع الطبيعة.
* * * * * أحاطت بها مخلوقات ملائكية طائرة، أخذت تغرف الماء المقدس و تسكبه في رفق على جسدها الوضاء العاري. ثم أخرجتها من نهر الخلود و ألبستها فستانا أبيض طويلا موشحا بأنفس الأحجار الكريمة، و صففت شعرها الطويل الناعم، ووضعت فوقه إكليلا براقا، زين بأجمل الورود و أندرها. ثم برزت مرآة سحرية، أين ظهرت هيفاء و قد أحاطت بها هالة من نور، عند ذلك شعرت أنها تحلق في الفضاء و قد أحاط بها الملائكة من كل جانب، ترشها بأطيب العطور. ثم هاهي تنزل بسلام لتنتصب على عرشها العظيم المحلى بأنفس الأحجار الكريمة و أثمنها من در و ياقوت و لؤلؤ و زمرد. و هتف هاتف أن الملكة المقدسة قد حلت، فظهرت أمامها مخلوقات ذات وجوه جميلة و أجسام كاملة تحمل أطباقا حوت أشهى الأطعمة و ألذها و أكوابا فيها شراب غريب عجيب. صفف كل هذا على طاولة طويلة كالنهر و عريضة كالبحر. ثم حولت ناظريها لتكتشف أن الورود و الأشجار و الماء و السماء قد تعانقت و اتحدت لتكون الفردوس. وجاء الملاك المقدس ليرتل صلاة الجمال و الخلود، فارتمت تلك المخلوقات الجميلة ركعا سجدا بين يدي هيفاء. ووقف الملاك الأكبر المقدس حاملا كأسا من ذلك المشروب العجيب المقدس، و أعطاه لهيفاء مرتلا الصلاة : "تعاليت أيها الجسد، اشرب شراب المجد و الخلود، طهر أجسادنا من شوائب النقص و الفناء واجعلنا بعظمتك ندرك الخلود السرمدي، أنت النقي الصافي الجوهر." وعند انتهائه شربت هيفاء، فقام بقية الملائكة و شربت، و بدأت المأدبة المقدسة. تصاعدت أنغام عذبة بأصوات لم تألفها من قبل و ظهرت أمامها فجأة هالة عظيمة من نور. فتحت عينيها، كانت أشعة الشمس ساطعة، حتى أنها لم تستطع فتحهما إلا بصعوبة. وصوت خادمتها يلح عليها بالنهوض بعد أن فتحت النوافذ و أزاحت الستائر. - صباح الخير سيدتي، تأخر الوقت و أمامك يوم حافل بالعمل. - أين أنا و أين كنت ؟ !! - أنت في قصرك سيدتي و كنت نائمة !! - لا...، كنت في الجنة، أبعدك الله عنها و أدخلك جحيمه !! - سيدتي، تأخر الوقت، فالساعة حوالي التاسعة و النصف، أنسيت عرض الحادية عشرة ؟ أزاحت هيفاء الغطاء بسرعة لتنزل على عجل من سريرها. - ياه أحضري الإفطار لو سمحت !! - حاضر سيدتي... !
* * * * * سبحت سحر في مزيج من الألوان المشعة بعد أن شعرت بترانيم الكواكب و الأجرام مرسلة، فحلقت روحها و قد احتضنتها اهتزازات القوة، واختلجت بحب قوي لا ينفصم للعالم و أشعت على الكون كمصباح منير، و حلقت حولها كائنات نورانية تهدهدها في رفق و لين، و فتحت لها المعاريج على مصراعيها لتلج عبرها إلى الحقيقة فتعب عبا و تنهل نهلا. و تجول في الوجود بناظريها نظرة الظفر بسلالة الحب الأزلي و تولي وجهها مغتبطة و في كفها تستعر نورا و بهاءا، فتنشر أشرعتها لتبحر في ومضة اللذة الأزلية للروح و قد أفنت الزمان و المكان و أذابتها فناءا و ذوبانا. و تعود و قد غمرت برداء مشع من الحب للعالم بريئة من حقيقتها منذ الأزلية الأبدية، ولا تفتأ ترنو بفتونها للألماس، فتنشره و تبعث به في زي رقيق شفوف إلى عالم الأرض، فيرشقونها و يضفون عليها رداء العظمة بعد أن غزلت لنفسها زي الجمال و الخلود. و لا تستكين روحها و لا تفت عن التقصي و هي غامرة الهيام الذي لا ينصب معينه للوجود، فهاهي ترقص على إيقاع ترانيم النور رقصة الجذل و يدها ممدودة إلى الشمس و هي تنظر إلى الأسفل و كأنها تصدح فتقول " هكذا ينفى التسربل"
* * * * *
و الآن هاهي تولى وجهها وجهة الصوت المفعم بالسكون الأبدي مستجيبة بعد أن ألهب الجحيم المستعر جسدها و تركها هباءا منثورا. لن تقوى على التضليل و الخداع، فروحها تاهت في صحراء الظلمات و نفسها تهشمت على صخور الحقيقة المريعة، لقد صارت كسفينة تمزقت أشرعتها و تحطمت سواريها في عرض بحر ثائر، في جو عاصف لا ينفذ منه النور. لا...لا...لن تقوى على متون أمواج كالجبال ساحقة، هل من المجدي الإيمان بعالم لا يحمل في أعماقه إلا اللهيب، أي معنى لعالم ينتفي فيه النور. و أشاحت بوجهها عن النور المشع و هي بريئة شفافة كالثلج، وولجت دواميس الظلام لا تلوي على قوالب نخرها السوس و عششت فيها العناكب أذاقتها ألوانا شتى من الأوجاع، بعد أن شيدت لها صرحا عظيما شامخا، أسكنتها إياه، لكن كان الصرح واه، خداعا كالسراب، لقد قد من ورق و ألم ولم يصمد لأول هبة نسيم، وبدأ النور يخبو و الظلام يسود. "وداعا أيها العالم، كنت وردة رقيقة مشعة، فعشقتني و فتنت بي، وتنشقت عبيري العطر، و ركعت على ركبتيك أمامي مقسما أنك ولهان متيم و صحت صيحة عشق و فتون. - أيتها الزهرة الجميلة البهية، أنا عبد لك ولجمالك فسبحانك. ثم اعتليت مصطبة، و أعلنت أنني أجمل وردة. ثم توجتني ملكة الورود قاطبة، ووضعت فوق رأسي تاجا مرصعا. و بدأت استهلاك حسني ورقتي وترشفت رحيقي، فلم أمانع لأنني علمت أن جزءا العطاء عطاء أكبر وأعظم و لعلمي أني محور الرحي فلن تنأى عني و لن تزور. و قطفت ثماري اليانعة، فقلت في نفسي : "لست سوى شجرة مثمرة آتت أكلها بعد كد هائلين من لدن العالم فلن أحول دونه و الثمار و ليهنأ بها." و داعا و قد فاضت فيك السرادق بلهيب النار، اصطليت بها حقبة من الدهر و لم أع، وتغنيت بي و في أعماق و هادك نار تلظي لا يصلاها إلا الأشقى. جعلت فداك، لم تكن تنطق إلا بسهام تنفذ إلى مسام النفس الرقيقة، ولا تؤتي عملا إلا لتؤجج النيران في السرادق، كان عطاؤك أيها العالم قيودا من حديد كبلتني و قيدت روحي التواقة إلى الانتشار في العوالم، و الولوج إلى أدغال المجاهيل، و جعلتني ملكة في قصر مغزول في صحراء قاحلة لا تؤوبها إلا الضواري و السباع، معتمة لا ينفذ النور إليها و أصبت مني أيها العالم حتى التخمة مترنما أنشودة الحب و العشق و الهيام، لقد كان حبك و عشقك و هيامك مناورات في متاهات الواقع محبوكة، حتى تتمكن من إنفاذ سهام الغدر المسمومة فطوبى لك ثم طوبى !!! . لم أكن أعي بأن استلامي الكامل للفيض بالحب للملكوت كجوهرة تعطي لمن يراها بريقا كبريق كواكب المجرة سيرتد نحوي خناجر يمزق ذاتا رقيقة بلا هوادة. أجل أيها العالم حين تداعيت كوردة عصفت الرياح الثائرة فتحطم عودها، توليت عني و عبست بعد أن كانت ابتسامة الصفاء و الرضى تملأ وجهك، و ارتديت سحنة وحش نهش جسدي الهش بأظافره المسمومة و تركتني فريسة للكوابيس الفجة، بعد أن عزلتني و ضربت علي حصارا حتى فنت نفسي لفقدانها لشحنات الهيام المنير. و قلت لي : " لقد ذهب أريجك فلتذهبي إلى الجحيم، حين ذاك ذوت نفسي و تهاوت ركاما في الصحراء جرداء بمنأى عن الضجيج دامسة. " وداعا أيها العالم." قالت ذلك واكتنفها الظلام و السكون الجليدي، و قد انتكست روحها بعد أن لوى عنها العالم و جعلها تلوذ بالصمت المطبق، و أطبق عليها الصوت النائي، و هو يفتح لها أبواب الهدوء و السكون الجليدي الأبدي.
* * * * *
قال الراوي : و تلوح الخليقة في صراع دائرة رحاه لا تنتهي، مع منعطفات الجبل و متاهاته في سبيل الوصول إلى القمة و كأن مغناطيسا يجذب الخلق جذبا نحوها فتسعى الخلائق سعيا دمويا للوصول إليها. و فجأة تنشأ و تتفاعل لتصبح ضبابا يتكثف شيئا فشيئا كدخان بركان في بداية ثورته و سورته، و ماهي إلا سويعات حتى يتضخم و يغمر كامل السفح و يبدأ في الصعود إلى الأعلى، و يقترب مدلهما كالإعصار، فها أن البرق يذهب سناه البصر و يسمع للرعد هزيم كانفجار البراكين، و لاتفتأ أن تتضح جلية الأمر على عواصف مدمرة كجحيم النار. و تزمجر العواصف و تتسارع ملعلعة بين نتوءات الصخور و فجوات الجبل، و تهب ريح صرصر عاتية، و يتعالى هزيمها كعواء الذئاب الجائعة. و قد حملت في طياتها مزيجا من حبيبات الثلوج اللاذعة و الجافة فتصفع الخلق صفعا، و تتراكم في شكل ثلوج تتمسك بالركب، و برد قارس حاد ينفذ إلى الأجساد كنفاذ الإبر في مسام الجسد فكان الخلق كلما خطى خطوة إلى الأعلى، الا و الأرياح تقهرقه إلى الوراء فتجمدت الدماء في العروق و صارت الأطراف كالأخشاب و وهنت القوى و خارت، و تمزقت الأثواب و هكذا فرض الجو الثائر على الخلق الانحناء و الانكفاء على الوجوه كالسجد، بعد أن حجب الضباب الممرات و المعابر نحو القمة فعلا العويل و الصراخ المكتومين و دست الوجوه في الجليد، و تصاعد الشهيق و النشيج، و كتمت الزوبعة الماردة الهادرة الأنفاس و النبض فترى القوم صرعى و كأنهم أعجاز نخل خاوية. و هكذا بعثرت الجثث و قد حنطتها الثلوج. و لا تفتر العاصفة و لا تفت عزائمها بل تبقى بثورتها و سورتها كسرادق من نار بقسوتها و حدتها، و يسود الظلام فجوات الجبل تدريجيا و يغمر الخلق المكلوم المتألم و الذي أسلم جزءا كبيرا منه روحه إلى هوة العدم هربا من السعير المتأجج و في هذه القتامة لا يسمع إلا التأوهات العميقة من الألم الممض الحاد العميق أو زفرات محتضر تقطعت أنفاسه. و وقف الجبل راسيا وقورا لا يضطرب ساخرا بالعاصفة الثائرة المنتحبة بشموخ و كبرياء منذ الأزل و إلى الأبد. وحين أدبر الليل و أسفر الصبح و قد خيم الهدوء على المكان دبت حركات ثقيلة بطيئة مصممة متحدية إنها البشرية تعمل الأصابع من جديد في ثقوب الصخور و نتوءاتها و في ألواح الجليد الصماء اللاذعة، تسعى سعيها المحموم المعتاد نحو القمة. لقد مس البشرية بأس و ضر شديدان لكنهم لا يعون، و إذا قلت لهم آمنوا كما آمن النجوم اغتر جلهم بها لهم من قوة الأجساد و بريق العيون. فمن كفر بالشمس و آمن بالجبل صار كهشيم محتضر، هم يسعون بلا وعي إلى انتثار النور و تشتيته بلا جدوى. كان ذلك منذ الأزل حين رامت الخليقة الوصول إلى قمة الجبل، سقف العالم.
* * * * * و أبحر مجدي في عوالم الحقيقة المدلهمة بإجحاف الواقع و تباعد عن الوجود، و فصل عنه فصلا و سبح في المحيط الشفاف الهادئ سبحا، و انتشر في الملكوت انتشار الروح تعقبا للجمال و العظمة و الكشف عنها و تجسيمها و يتسامى عن الخلق و يغدوا ساحرا ماهرا أو عملاقا جبارا يستوعب الزمان و المكان و يختزلهما في ومضة، فيصبح الكون ملكا له و تحت إمرته و يوغل في الأدغال سالكا مسالك شديدة الوعورة و الخطورة في رحلة بحث مضنية عن مكامن الكنوز في جرأة وثبات. و يتيه في محيط شاسع واسع من الألماس و ينتقي رموزه انتقاء، و ينهمك في تكوين ما غنمه و هاهو ينكب على خلقه انكبابا، هو يروم إخراجه في أجمل صورة، هو يروم لخلقه أن يكون متناسقا أنيقا مميزا في هذا العالم. و لا يفتأ ينظر إلى خلقه بعين فاحصة مدققة و لا يفتأ أن يبتسم ابتسامة الرضى الخفية شحنت حبا و عشقا و شموخا ،ثم هاهو يتسامى عن الخليفة، و يستحيل روحا شفافة. - هذه سيدي المجرة، ستكون مغلقة من جميع المنافذ، سيشحن إليها الأكسجين من الأرض حتى وقت لاحق. - و لكن لا تحتوي منازل؟ - أجل ستنعدم منها، ستثبت الأرائك و الأسرة في كل مكان بين الجنائن للإنسان الذي لن يحتاج إلى الملابس لأن الهواء سيكون مكيفا على الدوام. - و الجسد؟ !! - سيتدني !! و تجيش نفسه فيستوي على العرش و يحشر و ينادي في الخلق بصوت يرتج له ارتجاج الكون على وقع الوحي. " أيها الخلق : أيهما أبقى الله أم فرعون أنا أم الهرم الأكبر أيهما أجمل الله أم فرعون أنا أم الهرم الأكبر". فيخر الخلق ركعا سجدا : " عفوك أيها الخالق، قد ظلمنا أنفسنا، إنا كنا في ظلال مبين. سلام عليك يوم ولدت و يوم تموت و يوم تبعث حيا" بعد إذ تمكن من قشع الضباب الذي يحجب الجمال و الخلود عن الأفئدة و الأبصار.
* * * * * دمرت صديقتها أميرة تدميرا، زارتها منذ الصباح الباكر لكن لا جديد بل على عكس ذلك، قد غابت نهائيا عن الوعي و لم يبق من أنفاسها إلا نبضا ضعيفا ورأت جثة ممددة على فراش المرض، جثة بلا حول و لا قوة تهاوت كخرقة بالية. شردت هيفاء مهمومة مغمومة، لقد صارت مهملة منذ فترة لا تهتم بعملها رغم الإغراءات. آثرت أن تسخر جزءا كبيرا من وقتها لمساعدة صديقتها على الخروج من محنتها. لقد تضاعف حزن أميرة على ما فقدته من مجد و حظوة و ازداد خوفها و قلقها على مصيرها، كل ذلك جعلها تتقهقر و تزهد في الحياة. ليس في الحياة ما يشدها إليها، فقد فقدت حبها إلى الأبد. إنها تزحف تدريجيا نحو الأفول التام. و مرت في خيالها صور الموت و مراسم الدفن، وخيل إليها أنها ترى أميرة مسجاة برداء أبيض و قد أبحرت في عالم أسود مجهول و هاهي جثها قد تهاوت بلا حراك. بعد قليل سيوارى هذا الجسد الأهيف في غياهب الظلمات بلا حول و لا قوة. لم تفكر هيفاء يوما في هذا العالم، كانت بعيدة كل البعد عن كل ماهو سكون، أجل كانت غارقة في مباهج الحياة، مال، شهرة، حب، لم يخطر لها يوما هذا الخاطر. لأنها لا تجد في بعض الأحيان الوقت لقضاء شؤونها المستعجلة. إن حياتها كلها حركة، تمتع بالحياة بكل ما فيها من ملذات، كالنحلة التي تترشف على الدوام رحيق كل الأزهار. ماتت أميرة و انتهت و لم يبقى منها غير جثة هامدة باردة، و هذه الجثة ستقبر و تنسى ملامحها، و داخل القبر سيتآكل هذه الجسد تدريجيا ليصبح هيكلا، و هذا الهيكل سيستحيل عظاما نخرة متناثرة. و ترى هيفاء أميرة قد بقيت ذكرى عند من عرفها، و هذه الذكرى بدورها و بمرور الزمن ستمحى و كأنها لم تكن. أجل كل نفس ذائقة الموت، فالإنسان يتجه نحو الموت منذ الولادة. وهي نفشها ذائقة الموت، يعني هذا الجسد الأهيف المتناسق، و الوجه الصبوح سينتهي حتما. كيف يمكن لجسد كجسدها أن يتآكل و يذوب كالشمع. إنه جواز سفرها نحو المجد و الشهرة، كيف يمكن أن يقضي الموت على جمال صارخ جعل الناس يقفون له إجلالا !! كيف يمكن لهذا الجسد المياس أن تأكله الديدان !! ......الديدان !! .......إنها تفضل أن تأكله النار على أن تأكله الديدان القذرة. شعرت بمرارة و حزن، بالضعف و الخوف. كانت جالسة على أطلال تلك اللوحة السرمدية، إذ صارت الأشجار صفصف قعقع و أصبحت الورود هشيما تذروه الرياح و لاح وجه السماء كالرصاص، ومرت بذاكرتها صور تلك الجنة بما فيها من ألوان زاهية مشعة، و مخلوقات رقيقة جميلة و النسمات الرقيقة التي دغدغت و جهها و أوراق الأشجار التي رقصت جذلى معبرة عن الوقوع في غرامها. و الشمس التي أرسلت بنورها و نشرته على الكون فتسلل من بين فجوات أغصان الأشجار الوارفة. أجالت النظر، فوجدت المكان قفرا و قد خيم عليه صمت ثقيل كصمت القبور و حزن دفين عميق شامل كحزن أم ثكلى. كان بإمكان تلك اللوحة و بما تضمنته من دقة في الخلق وروعة في الابتكار أن تكون لوحة أزلية سرمدية لو التقى عظماء رسامي العالم لما رسموا جزءا منها بجماله و حياته النابضة. لقد مرت تلك اللوحة و بقيت خواء.
* * * * * ورأت ويا لهول ما رأت ملائكة كاللؤلؤ المنثور على عروشها و حولها الخليقة تنحني لها بالورود و الرياحين و تنظر إليها في شغف و فتون، ثم لا تفتأ تلك الملائكة أن يذهب نورها هباء منثورا فتظلم و جوهها و تضمحل هياكلها، حين ذاك لا يتورع الخلق أن يسقطها عن عروشها و يرمي بها في سرادق من نار، ثم ينتقي ملائكة أخرى من بينه و ينصبها على العروش العظيمة الموشاة بالحجارة الكريمة من در و ياقوت و زمرد بدلا عن الأولى. و سارت هيفاء تضرب في مدينة قدت جدرانها من فولاذ صلب جامد و جاف، احتدت زواياها و عبدت طرقاتها و أنهجها، و بعثت فوانيسها الفاترة بنور خافت بطيء حتى لتخال نفسك في مقبرة. و يستوقفها فجأة مشهد عجيب غريب، اقشعر له جسدها، عملاق يتلاعب بدمى متحركة كالماريونات ثم لا تفتأ تلك الدمى أن تهيم بذلك العملاق الجبار و تفتن، و تسقط ركعا سجدا تتضرع له. و جرت مذعورة مهزوزة المشاعر لا تلوي على شيء بين الممرات الخالية من الحياة و نبضها. و يتناهى إلى سمعها أصوات الميكانيكا الناشزة الموحشة فتتضاعف غربتها، عزلتها، و يتمكن الخوف منها. هامت في المدينة الغريبة المظلمة، و شعرت بالاختناق يسري فيها سريان النسغ في الجذوع. كان الفضاء يعبق بروائح كريهة عفنة لكثرة المستنقعات و العفن، و رنت إلى السماء لتبحث عن الجمال، فلم تجدها بل رأت غيوما مدلهمة تحجب السماء الرقيقة الزرقاء، و تتساقط دموع هيفاء و هي عبرى ملتاعة و تاهت في العتمة و تضاعف صوت الميكانيكا فتضاعف شعورها بالوحشة و الغربة. و ريعت حين رأت فتاة برصاء و حيدة، أخذت على عاتقها رسم الزهور على الجدران في المدينة الجافة فالتف حولها الخلق. - ما أجمل ما ترسمين !! - إنها الزهور ة الورود. - أين توجد ؟ !! - نجدها خارج المدينة. و نظر الناس بفتون إلى الزهور تارة و إلى الفتاة طورا آخر، مبتسمين مشرقين، ثم مافتئ الناس أن رفعوها على أعناقهم حتى تتمكن من رسم زهور أجمل و أكبر، متسائلين : - هل هناك الزهور فقط خارج المدينة ؟. - هناك الفراشات الجميلة أيضا. فازداد الخلق عشقا و شغفا بالفتاة البرصاء !!! ولت هيفاء هاربة و دمعها يرفض زخات متتالية و هي مرتاعة متسائلة : " أين أنا ؟ و لماذا أنا هنا ؟". و تسارعت خطاها، تجري على غير هدى في مدينة تصاعدت من بين جنباتها أبخرة و أدخنة زادت في عتمتها. و تراجعت فجأة و الهلع يرميها بسهام حادة ترتج لها ارتجاجا، لقد تجمع خلق كثير في ساحة واسعة في هرج و مرج، لغو و جدال يحتد تارة و يلين أخرى، و بين ذلك الحشد و كأنه يوم الحشر اعتلى أحد المجانين مصطبة و غمغم بكلمات مبهمة لم تفهم هيفاء منها غير:"من كفر بالميكانيكا و آمن بالإنشاء فقد نجا و اهتدى." و حين حولت ناظريها رأت أجساما مضيئة تطير من بين الحشد فتهتك تلك الغيوم، التي تحجب السماء و تخترقها محدثة فجوات و قد انبعث منها النور فيضئ المكان للخلق و رأت فيما رأت، تلك الفتاة البرصاء تتحول إلى جسم مضيء فيخترق الحجب و يهتكها و يفعل مثل سابقيه مخلفا دائرة من نور تنير بقعة في المدينة. لم تتمالك هيفاء نفسها ان صرخت : - إنها أشعة الشمس !! . فالتف حولها ذلك الحشد. أضافت - أجل ! خارج المدينة، هناك الشمس المشعة. - ماذا تقصدين ؟ !! - أن أشعة الشمس – لو هتكنا هذه الغيوم المد لهمة و خرقناها. - ستضيء لنا المدينة و سنشعر بالدفء. لم يفهم ذلك الحشد شيئا بل وقف باهتا، أضافت : - أجل، حين تغمر أشعة الشمس المدينة سيصبح سكانها سعداء، و سينشدون. - كيف ذلك؟ !! و في الحين بدأت هيفاء تشدوا بصوت شجي مفرح، فأشرقت الوجوه و علتها الابتسامة. و غمر الناس هيفاء بنظرات عشق و هيام، و أحست بأنها تعلو على الخلق و تطير و تتحول إلى جسم مضيء. و في نظرة خاطفة، شاهدت ضوءا يتسرب إلى الأسفل و قد رسم فيه "هيفاء" بحروف من نور. و رأت ذلك المجنون يطير معها و جسده مشع وهو يردد "من كفر بالميكانيكا و آمن الإنشاء فقد نجا و اهتدى ". أجالت النظر في محتويات الغرفة مارة بصورتها العملاقة و قد ارتدت فستانا أسود اللون و قد طرز بحزام و طوق أبيضين بعد ليلة ليلاء من الكوابيس، و هي نتيجة معقولة لإدمانها على أفلام الخيال العلمي.
* * * * *
وتناهى إلى سمعها و هي تجتاز النفق و الذي يلوح في نهايته نور وردي – صوت دافئ كمصباح منير أو كشلال ماء عذب دافق فاض ماؤه على صحراء قاحلة : "أميرة أنا صديقتك هيفاء، أعلم أنك تسمعيني، أن الشمس مازالت تنير العالم تبعث فيه الدفء بأشعتها، إن الطبيعة مازالت تتوشح بوشاح الجمال كالعروس، لم يحزن العالم لفقدانك، بل ها إن الحياة بنبضها و نورها، بجمالها و قبحها، بلينها وحدتها في سيرورتها الأبدية الأزلية، لم تتلحف بالسواد حدادا عليك و لم تبتئس من أجلك". كان ذلك في إحدى الصباحات المشرقة، حين خرجت تجري كمن أصابه مس من الجنون لتستقل سيارتها الرياضية الخفيفة و هي تتساءل : " كيف غابت عني هذه الفكرة النورانية". و طول الطريق كانت تردد بأنها ستنقذ صديقتها أميرة من الموت، ستقوم من سريرها، ستعود إلى سالف نشاطها، ستعود نجمة كما كانت أو أقوى من ذي قبل عن طريق الحقيقة لا عن طريق الزيف و الوهم. كانت السيارة تسير على مهل في طريقها نحو قصرها الفخم في إحدى الضواحي الراقية. - سيدي الطبيب إن أميرة زهدت في الحياة بسبب إحاءات متكررة بأنها أصبحت عديمة الجدوى في الحياة. - أجل و ربما ازداد شعورها بالغربة حين تخلى عنها أصدقاؤها. - سيدي الطبيب، أن الحب الذي يربطني بها قد يكون ذا جدوى في هذه الظروف ! . - أجل فهي في حاجة إلى الثقة و الأمن من جديد و هذا لا يحدث إلا بالدفء الإنساني. مرت سيارة السوداء الخفيفة بشوارع المدينة المضيئة بنورها الساطع الخلاب كالسراب، لم يكن بمقدورها أن تكتشف ما اكتشفته لو لا ذلك الشيخ الأسمر الذي بقي يعمل في واحته مستنبطا طرقا جديدة في عمله و هو في العقد التاسع من عمره. مرت بسيارتها و قد لاح على إحدى جوانب الطريق ثلة من الغواني، أما في الجانب الأخر يلوح جامع الفضلات الليلي. وتساءلت في قرارها :" أي فضل لجامع الفضلات الليلي أمام....الغواني ؟ !! . " أي معنى لحياة بلا معنى ". آنذاك انغمست في لجة من الأفكار و التساؤلات و هي تشاهد ذلك الرجل الذي تحصل على تشريف و تمجيد و هو في الخامسة و الثمانين، رجل تركت السنون آثارها على وجهه و شعره الأبيض و ظهره المنحني هذا فضلا على صوته المتهدج، لقد تآكل جسده فكيف حقق المجد و الشرف. غزتها الأفكار عنوة و برزت لها كأطياف أو كأعاصير، عصفت بها و هزت معتقداتها و شككتها في كل شيء. أجل صارت ترى نفسها طفلة آمنت بأفكار طفولية بدائية، سطحية و زائفة تنهار كورق الخريف بهبوب نسمة. - أجل سيدي الدكتور إن الدفء الإنساني يمكن أن يكون أنجع من الطرق العلمية الجامدة الجافة. و استدارت لتبدأ إيحاءاتها لصديقتها : "صباح الخير أميرة أنا صديقتك هيفاء، جئت لأقول لك أنني في حاجة إليك فعودي إلي، عودي إلى الحياة ". آنذاك شعرت أميرة بأن روحها توقفت عن الزحف إلى الأمام لتصغي إلى كلمات رقيقة دافئة تنفذ فيها نفاذا.
* * * * * قال الراوي : تهللت الأسارير بشرا و هي ترى الصخور التي توجت القمة في شكل إكليل رماديي اللون عن كثب، أجل أن القمة على مرمى حجر من المتسلقين، و برزت الصخور الصلبة الصقيلة بأذنابها و نتوءاتها الحادة كالخناجر معلقة. تزاحم المغامرون و تداحموا من جديد في سبيل الوصول إلى القمة. لقد تناسوا ما اعترضهم من أهوال جعلهم كعصف مأكول، لأنهم آمنوا بأن القمة ليس من السهولة الوصول إليها بغير ألم، فترى الوجوه عليها غبرة ترهقها قترة من الكرب و الفواجع. و تعلو ابتسامة الأمل و الرضى رغم الألم شفاه المغامرين. وحين ينظر أحدهم إلى أسفل السفح، يرى حفرا و هوى سحيقة عميقة محفوفة بالعضات الهائلة و أرضا قاحلة لا خضرة فيها فيسعى سعي الملاحق من عدوى مبين إلى الأعلى و تتحسس الأيدي المهترئة بأصابع تعرت عظامها أو تكاد فجوات الصخور الملساء و ثقوبها لكنها لا تقوى على الصعود، لقد مرت بآفات و بأعاصير جعلتها حطاما. إلا أنهم لا يستسلمون بسهولة، فتراهم عن بعد يتسربون على الصخور كأسراب نمل مبعثرة، متعلقين بنتوءات الصخور الملساء و فجواتها. لكن يا للمفاجعة !! ماذا يحدث ؟ !! . إن الخلائق تتساقط كأوراق الخريف، حين تزل الأقدام على الصخور الصلبة الملساء، فتتهاوى الجثث من عليائها، و يسمع تدحرجها السريع و ارتطامها بالصخور، فتتهشم تهشيما و تتبعثر أشلاء، و يتناهى إلى المسامع صراخ فزع و رعب، و صيحات ألم تقطع الأوصال و تتساقط كتل مخضبة بالدماء قد خلت من الحياة و القوة نحو الهوة السحيقة.
* * * * * كانت الأعاصير قد اقتلعت هيفاء من جذورها بعد أن زعزعت أسسها، لما تيقنت بأن ما كان نورا مشعا هو في الأصل ظلام دامس، و ما كان جمال صار قبحا. إن الألم الذي أردى صديقتها إلى الحضيض و أودى بها إلى هوة العدم أو يكاد كان ماتاه عجب و كبر و ليس مجدا و خلودا، إن جمال الروح و فتنتها أوسع و أشمل من أن يكون محدودا في هذا العالم، وهل من الصحة في شيء أن يكون هذا الفضاء و هذا الزمان بهيمنتها الوهمية يمثلان الحقيقة. إن الزوائل تهترئ و تفنى و هذا ما يحول بينهما و تحقيق اللذة المطلقة، إن الفناء يسير يحدوه النور المموه، ثم يرتد خاسئا تغمره العتمة و السواد. إن الفناء لا يقدر على بناء صرح المجد و الجمال على خلاف النور المتوهج على الدوام. لقد كانت هيفاء مكبلة بأغلال خفية جعلتها مستهلكة أو في طريقها للاستهلاك كالثوب الذي يجعل منه ممسحة حينما يهترىء، أو كعقب السيجارة التي تداس بعد امتصاصها بشهية، أو حتى تلك المومس العجوز التي تصبح مهملة بعد أن كان الحرفاء يتكابلون عليها عندما كانت شابة. لقد أسر ذلك الشيخ – و قد وشح صدره و هو في الخامسة و الثمانين و سام المجد و الشرف قلب هيفاء، و انبجس بواسطته قبس من نور و اتسع شيئا فشيئا إلى أن صار ينبوعا من الحب نبع من الأزل و سار نحو الأبد، و فاض الينبوع في قلب هيفاء فغمرها، وسبحت في لجته الفياضة، مما جعلها تخترق الستائر السميكة المزيفة في كون فتان يرقص على إيقاع النور، يبعث في الأفق أريجا يعبق جمالا و فتنة، يشع أملا بل يقينا، و يصير الطريق واضحا جليا قد خلا من العوائق. و تطير هيفاء في الأفق البعيد حالمة كالملاك حين جعلها ذلك الشيخ ترى الوجود من جانبه الحقيقي. حينها أدركت أن الوجود أخاذ يحمل في طياته من وجهه المشرق مسالك المجد و الخلود. و الذين انقطعت بهم السبل، فزلزلت كياناتهم و دمرت بنيانهم هم في الأصل لم يصلوا إلى الحقيقة بل كانوا في ظلام يعمهون. " إن السكون الدامس الذي منحك السلام الموهوم و به انعزلت عن الصراع... في سبيل المجد و الخلود أو البحث عن سبيلهما لهو في الحقيقة الهزيمة التي زجت بك وراء الستائر بعيدا عن الأضواء و قد ألقيت لواء الشجاعة". و لعل أميرة قد تناهى إلى سمعها صوت كألحان شجية أو كترانيم الملائكة من علو مصحوبا بقبس من نور كخيط من شعاع الشمس، جعلها تشعر بالدفء، و ترفض دموعها شوقا و هياما بذلك الصوت المشحون حبا.
* * * * * لما انتشت روحها بالبهجة حين ابتسم لها الوجود بثغر وردي و أنار لها النور الساطع الطريق لجنانه، فظهرت لها فراديس فيها من التيجان و لاتيجان الأكاسرة و من العروش و لا عروش الأباطرة. استيقظت، إذاك بدأ الجليد الكاتم للأنفاس. و الذي غمرها – يضمحل و الضباب الذي غشى روحها يتبدد و انكسرت قيود الزمن الفاجر. و لعل قد تناهى إلى سمعها ألحان عذبة كترانيم الملائكة من علو تدعوها إلى الصعود و بقبس من نور كخيط من شعاع الشمس جعلها تشعر بالدفء. و تذرف الدمع عشقا للصوت الدافئ الحنون الذي ينبعث كمصباح منير يحل محل الظلمات العابسة، أو كشلال ماء عذب دافق فياض، غمر صحراء نفسها القاحلة. " و لقد رأيت سبيل الخلاص ليس بالانسحاب و الارتداد و قد أعلنت الهروب و الهزيمة بل عبور ساحة الوغى و البنود خفاقة على صهوة الشجاعة و الجرأة في سبيل الأبد". حين تبددت الغشاوة، تحررت من أغلالها كعصفور تحرر من قفصه السجن، وطار يملا الوجود شدوا وسحرا. اشتعل قلبها بفيض هيام لنفسها و للعالم. كان صوت هيفاء يلين حينا و يشتد أخرى يخفت حينا و يرتفع أخرى، كانت تدعو صديقتها و بكل إصرار إلى العودة و الصعود. تدفقت الينابيع الدافئة من جديد في جداولها الجافة و اتخذت مسارها نحو الصحاري القاحلة المقفرة، فاضت فيها و غمرتها وروت عطشها الصادي. الآن انكشف الوجه الخفي للوجود و صارت ترقص و تترنم بهيام غامر للوجود. أخذت طريقها نحو الأفق الذي تطل منه الشمس تسعى إلى احتضانها. كانت سيارتها الرياضية تنهب الطريق نهبا." أي معنى لحياة بلا معنى " غمغمت هيفاء و هي تسترجع صور جامع الفضلات الليلي. و على مقربة منه شرذمة من المومسات. " لم أكن أرى في انعزالك و همودك ضرب من الاختيار الهادئ و لذلك هتكت حجبا كانت تحملك و أنت في سنة من النوم العميق، ترتجفين فرقا من الإيقاع اللامنسجم حبلى بالأوجاع."
* * * * *
قال الراوي : بعد أن أغرق في التفكير برهة و هو ينظر في شرود: ها أن المغامرين يعملون بكل ما أتوا من قوة و من رباطة جأش ليصلوا إلى القمة، و حين تخلصوا من الصخور كتخلص الحامل المعسر من جنينها، كان جلهم قد قضى نحبه ولم يصل إلى القمة إلا أفراد. كانت الأرض طينية زلقة لماعة، ولم ينتبه المتسلقون إلى ذلك إذ كان همهم التمتع برؤية النجوم التي انتشرت في السماء كاللؤلؤ المنثور، و النظر إلى الشمس عن كثب و حين أرادوا الوقوف على أرجلهم و قد بدأ الهواء ينعدم، فكنت آنذاك تسمع الشهيق و النشيج، والصدور تعلو وتنخفض بسرعة، حين ذاك انزلق منهم الكثير، تساقطوا كتساقط الصخور المفتتة من علو، و هووا في الهوة السحيقة المظلمة و قد ضرب عليهم الظلام و السكون. و لكن يا للعجب ها أن ثلة من المغامرين يضيؤون بقوة كمصابيح منيرة، ثم يخبون بالسرعة التي أضاؤوا بها، ويذهب نورهم، و يصبحون كتلا سوداء متفحمة، ثم تتبخر تلك الكتل في الهواء و تذروها الرياح فتضحي تلك الأجسام المياسة القوية منعدمة و لا أثر لها في هذا العالم و لا تذكر بعد ذلك إذ لم تستطع درأ الفناء عن نفسها. سكت الراوي هنيهة ثم استأنف الحديث و في صوته كنبي مرسل: وفجأة تحول بعض المغامرين إلى أجساد كوكبية زرقاء مضيئة أبدية. وتصعد تلك الكواكب النورانية إلى السماء وتأخذ مكانها كنجوم بديعة كاللؤلؤ المنثور على مقربة من الشمس أنارتها بنورها الوهاج و قد مر عبرها في شكل خيوط مشعة تضيء متاهات الجبل و دروبه المظلمة ليتمكن المتسلقون من المرور فيه بسلام. لقد وصلت تلك النجوم إلى لحظة الإشراق و أصبحت منائر تهدي إلى الشمس. لقد مات خلق كثير ودفن في الهاوية السحيقة، وقد ضربت عليهم الذلة و المسكنة إلى الأبد لأنهم نظروا إلى الجبل فكان صراعهم معه متعبا، مرهقا، منهكا. بينما نظرت النجوم إلى الشمس فأخذتهم إليها دون إجهادا أو عناء و أصبحوا رسلها. ثم أضاف: كان ذلك منذ الأزل حين رام الخلق صعود الجبل والوصول إلى القمة، و لن يبقى ذلك إلى الأبد فمتى نفخ في الصور، فإن الشمس ستكور، و النجوم ستنكدر والجبال ستسير والعشار ستعطل و الوحوش ستحشر و البحار ستسجر. - وأين يكون الإنسان؟ - سينتشر في المجرة و يضمحل في الكون ليكون الكون. - ستزول السجون إذن ؟ ! - أجل ! و القبور ستبعثر.
بين أكتوبر 1999 و نوفمبر 2000
ملاحظة : نشر هذا النص سابقا بعنوان " الصعود إلى القمة "
#صالح_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسطورة التأله الجزء السابع
-
أسطورة التأله الجزء السادس
-
أسطورة التأله الجزء الخامس
-
أسطورة التأله الجزء الرابع
-
أسطورة التأله الجزء الثالث
-
أسطورة التأله
-
أسطورة التأله الجزء الثاني
-
أسطورة التأله الجزء الأول
-
إنبعاث الأنسان عبر الموسيقى بتحرير الحركة
-
الإنسان الفسيفساء
-
حقيقة النقطة والحرف في تجربة أديب كمال الدين الشعرية
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|