" أنا أنتمي للجياع ومن سيظل به أمل ويقاتل"
مظفر النواب
يلح هذا السؤال على اليسار المصري منذ فترة ورغم وجود بقايا منظمات سرية تسمى نفسها شيوعية قليلة العدد ضعيفة التأثير ، ورغم وجود العديد من محاولات بناء كيانات يسارية جديدة بفكر جديد ، ورغم الدور الذي تمارسه بعض المراكز الجديدة التي ظهرت خلال العامين الآخرين ، وجهود منظمات المجتمع المدني يبقى السؤال الملح وهو لماذا يظل اليسار المصري تيار هامشي ومشرزم رغم مرور أكثر من ثمانين عاماً على قيام أول حزب شيوعي مصري . وماذا أنجزنا كيسار نحو استكمال رؤية للثورة المصرية ونحن على مشارف العام الميلادي الجديد.
ماذا كسب اليسار المصري عندما أرغم على التحول من الحزب الاشتراكي المصري إلى الحزب الشيوعي المصري لكي ينضم إلى الكومنترن ؟ ولماذا توقفت محاولات سلامة موسى وعلى العناني ومحمد عبدالله عنان وفرح أنطوان وغيرهم لبناء نظرية للثورة المصرية ؟ وما أشبه موقف ذلك الحزب بموقف الاشتراكيين الثوريين اليوم وهم عصبة معزولة محدودة التأثير تستقوي بعلاقتها الدولية على جذورها المصرية؟!!! ألا يدفعنا ذلك لإعادة رصد عناصر اللوحة اليسارية وإعادة تقييم الواقع من اجل تجاوز الأزمة.
لقد صدر خلال عام 2003 تقريرين عن منظمتين شيوعيتين هما الحزب الشيوعي المصري وحزب الشعب الاشتراكي وكلا التقريرين جاء بنفس اللغة القديمة دون اى تطوير وكأن الزمن قد توقف بهؤلاء الرفاق عند الثمانينات ولا يدركون ما حل بالنهر من مياه جديدة وكذلك صدرت دراسة تقيميه عن مجموعة التيار الثوري تحاول تقييم ما حدث ، كما قدم تنظيم الاشتراكيين الثوريين بعض الإسهامات ويحاكم الآن مجموعة منهم بتهمة إنشاء تنظيم شيوعي لأول مرة منذ سنوات طويلة .
هل تعكس هذه التحولات فاعلية في الواقع أم عجز وعدم قدرة على التطوير ورؤية الواقع. هل يفترض أن نستمر في العمل بنفس الأساليب القديمة أم إننا بحاجة إلى تطوير لغة الخطاب اليساري وصياغة رؤية عصرية للتغيير الاجتماعي في عصر العولمة الرأسمالية المتوحشة؟
لقد كشفت وقائع الأزمة عن وجود الماركسية ذات الخطاب القومي التي ترى انه لاصوت يعلوا على صوت المعركة وأن قضيتنا هي فلسطين والعراق في مواجهة قضايا بنها والوراق ( رغم أهمية كلا الطريقين ) وان التناقض الرئيسي مع الإمبريالية الأمريكية؟!!! وأن أهم شئ هو الخروج في مظاهرات حتى لو كانت بالعشرات واعتبار التظاهر أهم أشكال الحركة وتقديس العفوية والركوع أمامها !!! وتيار الماركسية الأصولية الذي لا يزال يردد قال ماركس وقال لينين دون أن يستوعب ما قالاه ودون أن يعيدوا قراءة الماركسية واستخدامها كمنهج في التفكير ومرشد للعمل لا كأقانيم وأيقونات وكتب مقدسة . وتيار يرى أن العولمة قادمة لا ريب فيها ؟ وتيار يبحث عن بناء حركة ديمقراطية أو حركة للتغيير الاقتصادي والاجتماعي.وكلها محاولات مخلصة على الطريق.
وعندما أتأمل ما تم على مدى العقدين الآخرين وموقفي الشخصي أجد الاتى:
ـ إنني لازلت أعتبر نفسي ماركسياً ولينينياً ولكنني على قناعة تامة بأننا في حاجة لإعادة قراءة الماركسية وتوظيفها في قراءة الواقع المصري وصياغة رؤية عصرية للتغيير الاجتماعي في مصر. إننا بحاجة إلى تجاوز المواضع التي شاخت والاستفادة من التجارب الحية ، خاصة تجاه بعض الموضوعات الهامة مثل ديكتاتورية البروليتارية وبناء الدولة الاشتراكية والحزب الثوري وغيرها من القضايا الملحة.ونحن لسنا وحدنا في هذه المعركة حيث يشاركنا اليساريين العرب وكذلك العديد من اليساريين في العالم من اجل رسم صورة أفضل للمستقبل الذي نحلم به.
ـ اعتقد إننا بحاجة لبلورة رؤية متكاملة للتغير الاجتماعي في مصر معتمدة على كافة الجهود السابقة لليسار المصري وكافة مراكز البحوث والجامعات من اجل صياغة رؤية جديدة للمستقبل.
ـ إنني أرفض فكرة الأحزاب السرية وأري ضرورة بناء حزب يساري علني رغم كل القيود المفروضة حالياً ، حزب يعبر عن جموع الكادحين في مصر ولديه رؤية واضحة للمستقبل.لذلك يجب أن يعتمد الحزب على تجميع القيادات اليسارية الفاعلة في مختلف المواقع وتنظيم جهودها بشكل أكثر فاعلية.
لقد أمضى الشيوعيين المصريين أكثر من ثمانون عاماً في العمل السري زادت من عزلتنا وعمقت الخلافات وجعلت الصراعات الشخصية تطغى وتنفجر المنظمات وتنقسم وتتشرزم دون أسباب معروفة وأصبحنا ندور في حلقة جهنمية من الانقسام والتشرزم في الوقت الذي يمكن فيه انتزاع منبر يساري علني عبر معركة فلن تقدمه لنا الحكومة على طبق من فضة ولن يسمح رفعت السعيد ومجموعته بوجود حزب يساري في ظل انه يعتبر نفسه الممثل الشرعي الوحيد لليسار المصري ووكيلهم العام ، فقيام حزب علني جديد لليسار يحتاج أولا لمقومات نظرية وتنظيمية علينا أن نستجمعها ونستكملها قبل أن نخطوا في هذا الاتجاه.
وعلينا أن نتكاتف جميعا ونضع أيدينا في يد البعض لكي نكسر العزلة ونعلوا فوق خلافاتنا القديمة التي يرجع بعضها لأكثر من ربع قرن ، علينا ألا نحاكم البعض على تاريخهم فقط ولكن على ما يقدموه الآن وما يمكن أن يقدموه في المستقبل ، لنختلف ولكن لنعمل معاً ونمارس خلافاتنا بشكل ديمقراطي معلن يحفظ لكل منا وجهة نظره وفى نفس الوقت لا يقطع خيوط التواصل بيننا باعتبارنا ركاب سفينة واحدة.
لنحتكم إلى الجماهير في أي خلافات بيننا ولنتعلم منهم ، لنعمل بروح الفريق الذي تتكامل بينه الأدوار لا بروح الحلقة والعصبة التي لم نجنى من ورائها إلا العزلة والضعف.
ـ إنني أرى أن الطبقة العاملة الصناعية في ظل التطورات الحالية محلياً ودولياً لم تعد وحدها التي تشعر بالاستغلال بل أتسع المفهوم ليشمل الملايين من أصحاب الدخول الثابتة والفلاحين الفقراء ، وهو تطور ايجابي لصالح التغيير الاجتماعي لو أحسنا التعامل معه والتوجه إليه برؤية واضحة بعيدة عن الضجيج العالي الصوت وباتجاه التراكم الطويل النفس لتغيير الوعي الاجتماعي بشكل جديد ورؤية مختلفة.
ـ إن الكفاحات الاقتصادية والأعمال الإصلاحية البسيطة قد تكون الطريق الرئيسي للالتقاء بالكادحين في مختلف ربوع مصر وتغيير وعيهم الاجتماعي ، كما أن مختلف القضايا التي قد تبدو بعيدة عن التناقض الرئيسي مع الإمبريالية الأمريكية والمؤمرات الخارجية وإسقاط النظام الرأسمالي التابع والانشغال بمعركة من يرث الحكم رغم أنها جميعاً موضوعات هامة ولكن كيف يتم ترتيب أولويتنا الكفاحية في ظل قدراتنا الحالية. كيف يمكن أن أصف شخص بأنه يساري أو بأنه ثوري لمجرد انه يتظاهر ضد الحرب في العراق أو يحضر ندوات في حزب التجمع أونقابة الصحفيين بينما لا يتحرك تجاه أكوام القمامة أمام منزله أو المطبات التي تملئ الشارع الذي يسكن فيه أو في مواجهة ضغط بعض المدرسين على أبنائه لأخذ دروس خصوصية ، أليست هذه الانفصالية هي احد أسباب ضعف وعزلة اليسار . أليس العزوف عن دخول المعارك الصغيرة باعتبارها أعمال إصلاحية بانتظار المواجهات الساخنة في المعارك الكبرى هي احد مظاهر تخلفنا.
لا يزال البعض يترفع على الأعمال الإصلاحية والنضالات الاقتصادية رغم أهميتها في بناء الوعي الثوري ومحاولة جر أي جهود حقيقية للتغيير في اتجاه المواجهات والصدمات التي لا نملك القوى والطاقات اللازمة لجعلها أكثر فاعلية. وتحويل أي حركة لمواجهة سياسية بغض النظر عن حجم قوانا أو موازين القوى وكأنها كلمة نقولها ثم نذهب لمنازلنا مرتاحي الضمير وهذا هو قمة النضال .
ـ إنني أرى جهود متفرقة حققها اليسار على مدى مسيرته يمكن الاستفادة من بعضها في بناء الرؤية الجديدة للتغيير الاجتماعي أو نظرية الثورة المصرية.
ـ إنني أرى عشرات الحلقات اليسارية التي تبحث عن مخرج ولكنها لا زالت أسيرة المواقف القديمة والشخصية والخلافات الذاتية وكلها تكرار لنفس الجهود بما يحد من قدرتها على التأثير بينما يمكن لو توحدت أن تشكل قوة لا يستهان بها في اتجاه التغيير المنشود.
إذا كانت علاقات اليسار ببعضه البعض تقوم على فكرة الاستبعاد والحلقات النقية ولا تقبل بوجود الآخر اليساري أو الحوار معه إذا لم يكن موافقاً على كامل توجهاتي، أليس ذلك هو الاستبداد بعينه.
ألا يخجل البعض وهو يهاجم استبداد الحكومة بينما يمارس أحط أنواع الاستبداد بين رفاقه بل وداخل أسرته ، أليس هذا الفصام سبباً رئيسياً لعزلة اليسار وضعفه. ولنتساءل كم من المعارك الكفاحية فشلت بسبب الخلافات الشخصية والذاتية وأخرها معركة مواجهة قانون العمل الجديد ، هل جلست الفصائل والحلقات لتعرف لماذا فشلت في مواجهة القانون وكيف تبنى الجسور لكي لا تتكرر المأساة مرة أخرى ، وكيف نتعامل مع بعضنا البعض على برنامج الحد الأدنى في مواجهة الاعتداءات المتكررة على الحقوق والحريات . أم إننا نصر على السير بنفس الرؤية القديمة لتستمر مسيرة الفشل والعزلة .
ـ إنني أرى النظام الحاكم هو نظام الاستبداد والفقر والتبعية وأي محاولة للدخول في تحالفات أو أعمال مشتركة مع هذا النظام أو حزبه المشبوه هي تجميل للوجه القبيح وحرف للمسار وشغل الجموع عن قضية البناء إلى قضية التغيير القادم من أعلى والذي لن يكون سوي صورة أكثر تشوهاً لما هو قائم.
ـ يضيع اليسار الجزء الرئيسي من طاقته الكفاحية في الصراع اليساري اليساري أكثر مما نضعه من اجل الصرع الطبقي ، كما أن الجميع يدور في نفس الحلقة اليسارية وبنفس الشخوص الذين تجاوزت أعمار بعضهم السبعين وكان مصر بلد عقيم بينما هناك طفل جديد يولد كل 28 ثانية وهناك عشرات الاحتجاجات كل يوم لا نسمع سوى عن أبرزها.
ـ يصر البعض حتى الآن على العمل داخل حزب التجمع ويراهن على إمكانية العمل فيه رغم المواقف الثابتة والمعلنة للحزب كجزء من النظام القائم لن تنفع معه الجهود اليسارية وسيظل ساحة للصراع اليساري واستنزاف الطاقات لكي لا يتم توجيهها في المجرى الصحيح أو لمواجهة بناء يساري مستقل.
ـ إنني أرى أن مصر ليست منفصلة عن العالم وان علينا أن نندمج ضمن الحركة العالمية لمناهضة العولمة الرأسمالية المتوحشة وأن تكون لدينا رؤية واضحة للتعامل مع كافة التيارات الموجودة داخل الحركة العالمية . فقد أثبتت الحركة العالمية خلال دعمها للانتفاضة الفلسطينية ورفض الحرب في العراق أنها تملك قوة كبيرة هي قوة ملك كل الشرفاء في العالم .
كما أن الحركة الاجتماعية في بورت الليجرى وجنوب إفريقيا واللقاء القادم في الهند كلها تحركات على طريق تشكيل أممية جديدة علينا الاندماج فيها.لتوحيد المواقف ورص الصفوف لا للبحث عن التمويل الأجنبي وتسويق المواقف لنقبض الثمن لنجعل اندماجنا في الحركة العالمية جزء من البحث عن حلفائنا في هذه المرحلة وشركاء القضايا المشتركة لا مجرد البحث عن التمويل الأجنبي.
إن التمويل السوفيتي لم يحول الأحزاب الصغيرة إلى أحزاب فاعلة ولم يقضى على القبلية في اليمن الجنوبي ، ولم يصنع حركة ثورية نتيجة لغياب الرؤية ، على عكس الثورة الفلسطينية التي كان الدعم الاجنبى لها داعم نحو المزيد من العطاء . فالقضية لا يجب أن تختزل في مجرد التمويل ومصادره بقدر ما تتوقف على رؤيتنا ومشروعنا والى أين سيوجه التمويل وهل سيؤثر على توجهاتنا أم لا؟!! إن القضية كبيرة وتشاركنا فيها منظمات المجتمع المدني وعلينا ألا نخجل من مناقشتها بوضوح ووضع معايير معلنه وواضحة للجميع في التعامل مع هذه القضية . ولكن يبقى السؤال هل نلحق بقطار العولمة أم سننتظر حتى يتخطانا ؟!!!
لقد أضعنا العديد من السنوات في صراع يساري يساري وسقط العشرات من بين صفوفنا بين قتيل ومريض ، ولم يبقى لدينا متسع من العمر للتجارب والمماحكات ، كما لم تعد لدينا صحة تتحمل صراعات الديوك التي لاتثمن ولاتغنى من جوع ولا للبطولات الزائفة بين نصف حفنة ثوريين في بلد تعداده سبعين مليون مواطن ، إننا بحاجة لإعادة صياغة وبناء لأنفسنا بشكل جديد ، محتاجين إلى نوع من أنواع جهاد النفس ، محتاجين لأن نكون على مستوى اللحظة ولا نحاكم بعضنا البعض على أساس مواقف مسبقة ، إننا بحاجة إلى تنظيم مثل سفينة نوح يمكن أن يضم من كل زوجين أثنين ويتيح للجميع الفرصة في عرض وجهة نظره والتعبير عن رأيه ، إننا لن نرغم السلطة على التغيير الديمقراطي إذا لم ننجح فيه بيننا ، وإذا لم تتكامل جهودنا من أجل مستقبل أفضل فلا نلوم بعد ذلك إلا أنفسنا.
4/1/2004