• حاوره: عدنان حسين أحمد/ أمستردام
• النحّات والتشكيلي حسام الدين العقيقي لـ ( الزمان )
• التشخيص عندي ما يزال حياً، ويأخذ حجماً كبيراً في النحت.
إذا كان مبدأ الفنان الإغريقي يعتمد على ثلاثية ( الوضوح، التوازن، التمام ) في العمل النحتي، فإن الإبداع برمته لا يخرج عن إطار هذه الثلاثية مهما تنوّعت المدارس الفنية، وتعددت تياراتها ومناهجها. فثمة خيط خفي يلتمع في كل الفنون الإبداعية إن هي توفرت على مبدأ التناغم أو الانسجام بين المكونات الداخلية التي تشكل متن العمل الفني شخوصاً وأشكالاً من جهة بما يضمن تناغمها العددي الفيثاغوري، وهارمونيتها اللونية التي تقترب في نِسَبها وتوازنها من الأداء الأوركسترالي المحسوب بدقة شديدة الرهافة. إن هذا التناغم هو الذي يفجّر ينابيع الدهشة في مخيلة المتلقي، مثلما يهزّ الهارموني اللوني بصر المشاهد وبصيرته في آنٍ معاً. إن الفنان حسام الدين العقيقي هو نحّات ومصوّر ( رسّام ) متمكن تحيلنا أعماله الفنية مباشرة إلى مفردة ( التوازن ) آنفة الذكر، كما توفّر لنا متعة الاستجابة للشكل والمضمون اللذين يتداخلان مع بعضهما البعض وفق حسابات دقيقة تؤشر على صرامته الفنية في إخراج اللوحة أو المنحوتة على حد سواء. لقد أفاد الفنان العقيقي من أساتذة في أكاديمية الفنون الجميلة، وما يزال يذكر فضل الأستاذ النحّات إسماعيل فتّاح الترك والنحات الكبير محمد غني حكمت، وبقية الأساتذة الكبار الذين وضعوا خطواته في المسار الصحيح. كما أفاد من أساتذته وأصدقائه الفنانين في إيطاليا الذين عززوا توجهاته الفنية، وحفزوا مخيلته على التحليق إلى مدارج الحلم. وللتعرف على جوانب من تجربته الفنية إلتقته ( الزمان ) على هامش معرضه الأخير الذي أُقيم في مدينة دلفت الهولندية، وكان لنا معه هذا الحوار:
• العقول العذراء
• هل لنا أن نتوقف عند المراحل الأولى التي تفتحت بها موهبتك الفنية. وكيف اكتشفت أن في داخلك نحاتاً أو رساماً؟ ومن الذي قادك إلى هذا الفضاء الإبداعي الساحر؟ هل لفتت انتباهك منحوتة ما، أو لوحة فنية ما لتضعك في داخل هذا الإطار الفني الآسر الذي أصبح جزءاً من مكوناتك الشخصية؟
- لقد وُلدتُ في بيت يعمل فيه الأب مصوّراً فوتوغرافياً في الصباح، وصانعاً لتماثيل الزينة في المساء. كان هذا يحدث أمام عيني كل يوم، ناهيك عن مساعدتي المبكرة له في مهنته الفنية التي كان يزاولها في البيت. هذا فضلاً عن امتلاكه دكاناً لبيع صور المشاهير، وصور الملاحم الشعبية المعروفة بطرافتها وجمالها، ولعل أهمها صورة بورتريت للشخصية المعروفة جيداً عندنا في بغداد والمدعوّة ب ( البنت المعيدية ) التي خطفها إنكليزيُّ بعد أن جُنَّ بجمالها غير العادي كما تقول الحكاية التي بلغت حدّ الأسطورة في شيوعها وانتشارها بين الناس. كل هذه الأشياء كوّنت ما يسمى بظاهرة التشكيل. ثم حصلت بعد ذلك حادثة مهمة، وإن جاءت متأخرة نوعماً عن مراحل الطفولة أعلاه، ففي عمر العشرين تحديداً، صادف أن يسافر أخي إلى فرنسا. وعند عودته، جلب معه تقويماً ( روزنامة ) كان يحتوي على صور لأعمال فنية لفناني باريس. وكان من بين هذه الصور صورة ( امرأة تجلس على أريكة ) لهنري ماتيس، ولم يكن يعنني ماتيس هذا بأي شيء، ولكنني أحببت الصورة جداً، وفكرت . . أن هذا عمل جميل جداً، ولكنه بسيط جداً. وقلت في نفسي: إذا كان هذا العمل هو المطلوب لكي يكون المرء فناناً فأنا أستطيع أن أعمل ذلك. وعرفت بعدها بسنوات أن تلك النقطة كانت يوم إصابتي بجرثومة الفن والإبداع التي ولّدت عندي حالة السعادة – الألم التي عشتها، ولا أزال أعيشها حتى يومنا هذا. لقد أخفقت في تلك الأعوام ثلاث مرات في تجاوز امتحان البكالوريا، وعندما وُفّقت في المرة الرابعة كان أهلي قد غسلوا أيديهم مني. ومنذ تلك اللحظة تحققت حريتي في اختيار ما أشاء من مستقبل. وهكذا اخترت أكاديمية الفنون الجميلة. في أكاديمية الفنون الجميلة عرفتُ أن الشاب العشريني الذي اعتقد أن صورة ماتيس هي صورة سهلة الصنع قد اكتشف وبطريقة عملية ومجهدة أن الوصول إلى ذلك المستوى يحتاج إلى قطع طريق طويلة وشاقة جداً، ويتطلب جهوداً فكرية وجسدية كبيرة، كما يحتاج إلى إثارة أسئلة وأجوبة وخصومات وتقاطعات واكتشافات واخفاقات. ولعل كل هذا الجهد هو الذي يصنع الفنان كي يكون قادراً على رسم صورة ربما تقترب من صورة ماتيس الباهرة. في فترة الدراسة تعرفت على إسماعيل فتاح الترك، النحّات المعروف الذي كان يُلهب عقولنا العذراء بأفكاره الحديثة الجريئة التي كانت تتحرش بكل الأشياء، الجنس، الحرية، الدين، وليس الفن الحديث فقط. في تلك الفترة تعرفت على أستاذنا الفاضل محمد غني حكمت الذي زوّدنا بأسرار النحت المهمة، ولعل هدوءه المعروف كان ضرورياً كبديل بنّاء للاندفاع الذي كان يولّده الترك عندنا. هذا ما عرفته بعد ذلك بسنوات عندما عرفت ما هو ممكن، وما هو غير ممكن. وربما كان صخب الحياة السياسية في العراق في السنوات 1968 –1972 قد شغلنا بعض الشيء عن الإمعان في العمل، والتعمّق في البحث الذي استطعت أن أعوّضه عندما رحلت عن بلدي إلى إيطاليا التي تُعد أكبر مرجل للفن العالمي ناهيك عن أن ذلك البلد هو متحف كبير واسع تحس فيه بالاختيار الجميل في كل شيء، العمل، السكن، المأكل، المشرب، فضلاً عن روح الشرق التي تطبع الحياة العامة فيه، الأمر الذي سهّل عليّ العيش لسنوات طوال فيها.
• تقنية النحت الملون
• بدأت حياتك الفنية نحاتاً، لكنك نشطت في التصوير أيضاً. كيف تفسر هذا التداخل بين النحات والمصوّر فيك؟ وهل تعتقد أن المنحوتة بأبعادها الثلاثة أسهل في الوصول إلى ذهنية المتلقي من اللوحة ذات البعدين المعروفين، ناهيك عن الأساليب الفنية الحديثة التي قد تقف حائلاً أمام المتلقي غير المتخصص؟
- لا أرى فرقاً كبيراً بين عمل النحات وعمل المصوّر بالألوان نظراً للتقارب الكبير في وسائل وأدوات التعبير. فضرورة أن تكون مخططاً جيداً بالأسود والأبيض تكاد تكون واحدة بالنسبة للنحات والمصوّر بالألوان. كما أن مسألة الخط الخارجي، ومسألة الفراغ والكتلة ووجود منظور، أو عدم وجوده هي مسائل مطلوبة ومفردات يعيشها النحات والمصوّر على حد سواء. ونتيجة لهذا الاستنتاج لا أجد ما يمنع النحات من أن يكون مصوراً ملوناً. ولقد كان لاكتشافي تقنية النحت الملون أو ( الرسم الملون بنسيج من مواد مختلفة بارزة ) وهي تقنية مارستها منذ الأعوام 1982 – 1983 وحتى الوقت الحاضر كانت حلاّ مريحاً لهذه المسألة. ويظل الترحال من بلد إلى آخر، وعدم الإحساس بالاستقرار من الأسباب الهامة لانتقالي إلى التصوير الملون حيث أن النحت يتطلب مكاناً خاصاً له مواصفات معينة لم تتوفر لي بسهولة أنا المسافر قسراً. أما مسألة الأبعاد في العمل التشكيلي وسهولتها فأنا أرى أن النحت يتطلب وبإلحاح قدرة إضافية يجب توفرها عند المتلقي يخلقها النحات بطريقة أقوى منها في التصوير الملون، ألا وهي مسألة توازن العمل النحتي المُدوّر أو عدمه، والتي لا تحسّها بقوة في اللوحة، حيث أن اللون ومساحاته تعطيك قدرة في اللعب في توزيع الثقل، وبالتالي التوازن المطلوب في أي عمل تشكيلي. في حين أن مسألة الأساليب الفنية الحديثة ووقوفها حائلاً أمام المتلقي هي قضية عامة تخص مجالات الإبداع كلها. وسوف تظل هذه القضية قائمة حتى يتأتى للجميع فرصة وإمكانية الاستمتاع بالمعرفة والفنون، وهذا ما ندعوه بديمقراطية الثقافة، وهذه الديمقراطية هي حلم بعيد المنال ما دام نظام الطبقات قائماً.
• مطاردة المعارض
• ما الذي أفدته من الدراسة في إيطاليا؟ هل كونت لديك أسلوباً ما نستطيع أن نرده نقدياً إلى المدارس النحتية المعروفة إيطاليا؟ ومن هم الأستاذة أو الفنانون الإيطاليون الذين تركوا بصماتهم على علك الفني؟ وهل تعتقد أنك تخلصت الآن من مؤثراتهم ورؤيتهم الفنية؟
- ربما كانت إيطاليا هي المرحلة الأولى للنضوج الحقيقي وللتخلص من مفاهيم كثيرة عن العمل الفني، وكذلك لتثبيت وتأكيد مفاهيم ومفردات أخرى جديدة. في إيطاليا لا تعدّك المدرسة لكي تكون فناناً، بل أن معايشة الواقع الفني، ومطاردة المعارض والمهرجانات الفنية واللقاءات المتواصلة مع فنانين مختلفي المشارب والاتجاهات. هناك تعيش الأساليب الحديثة واتجاهاتها وأشخاصها، وليس أن تقرأها في كتاب مترجم أكلت الترجمة المتواضعة نصفه، وأكلت الطباعة المحلية نصفه الآخر. هناك عرفنا أن ( الواقعية الاشتراكية ) هي ليست الوحيدة في العالم، بل هناك واقعيات مختلفة، همومها مختلفة، وأدواتها مختلفة. تعرفنا على الواقعية النقدية، وأخرى وجودية، وثالثة سحرية . . الخ وكان لكل منها مذاقاً خاصاً يجد له موقعاً في أحاسيس الشاب القادم من الشرق. ناهيك عن التيارات الحديثة المختلفة التي لم تكن تعبأ بالواقع وهمومه، ذلك الواقع الذي كلن ديننا وديدننا آنذاك. ومن الطريف القول أن الأستاذ الفنان الذي اخترته لإتمام دراستي معه لم أجد له في روحي وإحساسي مكاناً واسعاً، ولكنه مع ذلك يظل أستاذاً كبيراً، ويظل بقية الأساتذة الذين كانوا أحياء في تلك الفترة أساتذة كباراً مثل جاكومو مانزو، موناكيزي ومارينو ماريني. وكنت محظوظاً لأنني كنت أتردد على مشاغلهم، وأستمع لبعض ملاحظاتهم عندما تتوفر لي الفرصة، وبقيت مخلصاً وبطريقة ملحة لأسلوب جاكومو مونزو الذي لم يفارقني حتى اليوم. أما مسألة التخلص من تأثير كبار نحاتي العالم الذين عايشتهم في نشأتهم ومعارضهم فهو موضوع غير وارد لأنني منذ الصغر كنت بمكان لا يسمح به ضميري الإدعاء بذلك. ويكفيني شرفاً أنني تأثرت بهم، ومازالت تأثيراتهم باقية عندي.
• فنان تشخيصي
• خلال إقامتك الطويلة في ليبيا، وتدريسك في كلية الفنون بجامعة الفاتح، ما هي المعطيات التي توفرت لديك في تطوير تجربتك الفنية على صعيدي النحت والتصوير؟ ما حدود الإفادة من الثيمات والمفردات المكانية الليبية في عملك الفني؟ وهل كنت تستعين بالذاكرة كثيراً لتصور ما هو مخزون فيها من الثيمات العراقية التي كانت تلح عليك وتجبرك على العودة إلى المضارب الأولى؟
- بما أنني، ولفترة ليست ببعيدة، كنت بطريقة أو بأخرى فناناً تشخيصياً في نحتي ورسمي، فهذا يعني أن تفاصيل الحياة اليومية أينما كانت تعنيني بشكل من الأشكال، كالعمارة الشعبية الليبية، الصحراء الليبية، اللباس الليبي المتميز عند الرجال والنساء، الأسواق الشعبية وغيرها فهي مفردات غنية جداً بالمواضيع والألوان الدافئة. وليس بالجديد الحديث عن جمال ( الجرد ) لباس الرجل، و ( الفرّاشية ) لباس المرأة في ليبيا، إذ أنها مفعمة بالألوان العميقة، ناهيك عن أنها تشكل كتلاً غاية في الجمال والخصوصية، ولا يمكن أن تمر على عين الباحث الجاد بسهولة من دون أن تترك أثرها على عينه وذهنه ومخيلته التي تترجمها لعناصر تشكيلية مفيدة وجميلة. أما بالنسبة للمواضيع العراقية وإمكانية الاستفادة منها فلا أدعي أنني استطعت أن أحقق ما حققه الرواد العراقيون جواد سليم، فائق حسن،شاكر حسن آل سعيد، ولكنني أحترمها وأجلها لأنها تراث العراقيين الجميل في العصر الحديث، وأتمنى أن أقترب منها ولو قليلاً.
• الدفاع عن النفس
• في معرضك الأخير ثمة إحالات حروفية ( كاليغرافية ) لجمل وقصائد بعضها مقروء ومكتمل المعنى، وبعضها غير مقروء. ما الذي تبغيه من هذه الإحالات؟ وهل أن الحروفيات هي مجرد خطاب بصري أم أنك تبتغي شيئاً آخر أبعد من المعاني الكامنة في هذه الحروفيات وما تنطوي عليه من خطاب بصري؟
- في عام 1973 وفي زيارة للنحات مانزو لاحظ الرجل الكبير لهاث الشاب العراقي المتحمس وراء الأساليب الأوربية الحديثة، وإعجابه الشديد بها، وتعظيمه لها، وما حققته من إنجازات. قال الفنان الذي يعتبر شيخ النحاتين الإيطاليين آنذاك للشاب العراقي: ( انظر إلى وطنك وتراثه ). لم يعِ هذا العشريني خطورة ما قاله ذلك الرجل الحكيم العارف إلاّ بعد سنوات طوال، وكان يعتقد أن المقصود هو فقط نحت الآشوريين والسومريين والبابليين، بل تأكد له أنه لا يمكن أن تكون فناناً جيداً من دون أن تربط نفسك وبطريقة عضوية مع العناصر التي فتحت عينيك عليها، وعشت شبابك وتجاربك الأولى معها والتي هي أساس كل الأشياء. إن ظهور بعض العناصر والمفردات الشرقية العربية في عملي هي قضية منطقية، وتأتي كنتيجة واضحة لما قلته أعلاه، ولعل ظهورها وبالشكل الأخير هي محاولة غير واعية لتأكيد هويتي العربية في المهجر. عندما أصبح كل ما يحيط بي أوربياً غربياً، وهي إحدى وسائل الدفاع عن النفس وتأكيد الذات. وبالنسبة للإحالات الحروفية فهي مجرد خطاب بصري لما يحويه الخط العربي من جمال ومتعة ناهيك عن كل ذلك فأنني لا أريد أن يقول الناس هنا من حولي في هولندا ( هذه بضاعتنا رُدّت إلينا فما عندكم أنتم أيها العرب ). ومن الضروري الاعتراف الآن إن التشخيص عندي مازال حياً ويأخذ حجماً كبيراً، وخاصة في مجال النحت، فمازلت أحنُّ إليه وبطريقة ملحة، كلما نادتني ذكرياتي في إيطاليا ونحتها الجليل.
• الفنان في سطور
• من مواليد بغداد عام 1946 .
• خريج أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد عام 1971.
• خريج أكاديمية الفنون الجميلة في روما عام 1974.
• عمل أستاذاً في كلية الفنون بجامعة الفاتح بين الأعوام 1981 – 1999.
• أقام عدداً من المعارض الشخصية والمشتركة في روما ودوسلدورف وصنعاء وطنجة وطرابلس وفادنكس فين ودلفت في هولندا.