الحرب ضد الارهاب
التطرف الاسلامي يتعايش بانسجام مع اليمين المتطرف الامريكي، فالعدو الاستراتيجي امام الرأسمالية ليس الاسلام السياسي، بل الشيوعية. ويبدو ان امريكا تفضل ان يبقى بن لادن حرا طليقا ليبقى كالفزاعة تخيف به العالم، لتواصل تبرير سياستها الحربية الاستعمارية.
فرحة الامريكان بالعثور على ضالّتهم، صدام، في حين لا يزال بن لادن حرا طليقا، تشير الى ان المطارَد في الجبال ليس عدو امريكا الرئيسي، مع انه هو، وليس صدام، من زعزع امنها وقتّل مواطنيها بالآلاف.
ولو كانت اولوية امريكا العثور على بن لادن، الذي باسم ارهابه تسعى لادخال العالم الى عهد الحروب، لاستثمرت الطاقات البشرية والمالية الملائمة لاطباق الخناق على بن لادن وجماعته. غير انها تفضل توجيه جلّ الطاقات والدولارات للعراق في حين تتلقى افغانستان "الفتافيت". والحقيقة ان امريكا كانت معنية بملاحقة صدام حسين ولم تكن ابدا معنية بملاحقة الحركات الاسلامية التي تتهمها بالارهاب.
في نفس اليوم (14 كانون اول) الذي نشرت فيه "واشنطن بوست" الامريكية في موقعها بالانترنت نبأ اعتقال صدام حسين، ورد في نفس الصفحة نبأ آخر يشير الى ان تنظيم "القاعدة" التابع لبن لادن لا يزال يتلقى الدعم المالي من المصادر التي كان المفروض تجفيفها، حسب تعليمات الامم المتحدة والولايات المتحدة. ويلفت التقرير الى تقصير من الحكومات بضمنها امريكا في فرض هذه التعليمات.
كشف التقرير الذي يعتمد في مصادره على محققين من الامم المتحدة وامريكا ودول اوروبية مختلفة، ان "رجال اعمال اعلنتهم الامم المتحدة ارهابيين منذ عامين، وكان المفروض تجميد ممتلكاتهم، لا يزالون يديرون مشاريع ضخمة ويواصلون السفر بحرية". وفي حين تفتقد الدول الفقيرة الامكانيات المادية لملاحقة الحركات المتطرفة، فان "الدول الغنية تتحجج بانها لا تعرف عن العقوبات شيئا، او انها تعرف ولكنها لا تنفذ لاسباب بيروقراطية".
ويؤكد التقرير انه "طالما لم يتم تجفيف الموارد المالية للقاعدة، فلن يكون بالامكان منع العمليات القادمة".
في التعليق على الاداء الامريكي كشف المحققون: "ان القانون الامريكي نفسه لا يزال غير واضح بالنسبة لكيفية قيام الارهابيين بنقل اموالهم، وان مكتب التحقيق الفيدرالي "اف. بي. اي" المسؤول عن الحملة لمكافحة الارهاب، لم يقم للآن "بشكل منهجي" بجمع وتحليل اية معلومات في هذا الاتجاه".
ورغم ان امريكا تتباهى بتجميد 138 مليون دولار (75 مليون منها تابعة حسب الادعاء الامريكي لطالبان والقاعدة)، وباغلاق ثلاث جمعيات خيرية داخل امريكا، الا ان هذا يبدو نقطة في بحر. وكدليل على عدم نجاعة نظام العقوبات، يورد التقرير موضوع الشركات الكبرى المشتركة التي يديرها رجلا الاعمال يوسف ندى وادريس نصر الدين في اوروبا، اللذين اتهمتهما الامم المتحدة بدعم الارهاب. وتبين ان ندى يتنقل بحرية في اوروبا، وكان هدف سفره الاخير تغيير اسم شركتين تابعتين له لينقذهما من قرار تجميد ممتلكاتهما.
"القاعدة"، يشير تقرير الواشنطن بوست، "ادركت ضعف نظام العقوبات ضدها، وتمكنت من تحويل الاموال التابعة لها في البنوك الى ماس وذهب، الامر الذي يحول دون تجميدها بهذا الشكل".
ويشير المصدر ان جمعية الحرمين الخيرية التي تتخذ من السعودية مقرا لها، والتي نجحت في تجنيد 30 مليون دولار سنويا، واتُّهمت بتمويل القاعدة، لا تزال تنشط واسست مدرسة اسلامية في جاكارتا العاصمة الاندونيسية. هذا رغم ان السعودية اعلنت في ايار الاخير وقف نشاطها في الخارج. من جهة اخرى تطالب امريكا السعودية بالتحقيق مع رجل الاعمال السعودي، وائل جليدان، الذي لا يزال ينشط ويدير جمعية الرابطة الخيرية في باكستان، رغم ان الامم المتحدة اوصت بايقاف عمله. غير السعودية ترفض الافصاح عن ملابسات التحقيق معه.
وقد كشف مؤخرا عن تحركات تقوم بها السفارة السعودية في امريكا لعقد مؤتمر للعلماء الاسلاميين في تكساس بالولايات المتحدة في 24 كانون اول. وتبين ان بين المتحدثين المركزيين سيكون خطباء وائمة داعمين لبن لادن وللجهاد، بعضهم سيأتي وبعضهم سيتحدث عبر الفيديو من الرياض. هذا ما كشفه لصحيفة الواشنطن بوست (11 كانون اول)، المندوب من طرف امريكا في المجموعة الساعية لاجراء الاصلاحات الديمقراطية في السعودية.
وقد رفضت السفارة التعليق على الامر، وتحججت: "انها لا تستطيع التعليق على امر لم يحدث بعد. واكدت رفضها للتطرف، واشارت الى انه لو تبين انه كان هناك تطرف فستعمل على فحص الامر، بعد المؤتمر". (نفس المصدر)
بن لادن: فزاعة امريكية
بن لادن طليق اذن وصدام في القفص، والسؤال هو لماذا لا تحارب امريكا الارهاب؟ الاجابة الاولى تتعلق بالحرب على العراق: امريكا هي اكثر المستفيدين من الحرب على الارهاب. 11 ايلول كان حجة على طبق من ذهب قدمه بن لادن لامريكا لشن حربها على العراق كمقدمة لادخال العالم لعهد الحروب والهيمنة الامريكية المطلقة.
التطرف الاسلامي يتعايش بانسجام مع اليمين المتطرف الامريكي، لان الاعمال الارهابية تعطي المبرر لمواصلة السياسة الامريكية القمعية تجاه العراق وتجاه الشعوب عامة. كما انه يقوّي مبررات الامريكان للقيام في اماكن اخرى بما قاموا به في العراق، والتحجج بان سياستهم ضرورية للقضاء على الارهاب. ويبدو ان امريكا تفضل ان يبقى بن لادن حرا طليقا ليبقى كالفزاعة تخيف به العالم، لتواصل تبرير سياستها الحربية الاستعمارية.
الاجابة الثانية تتعلق بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. فالعدو الاستراتيجي امام الرأسمالية ليس الاسلام السياسي، بل الشيوعية. وبما ان الاسلام السياسي لا يتعايش باي حال مع الشيوعية، فالبيئة الوحيدة التي يستطيع العيش فيها هي الرأسمالية. وقد قامت امريكا باستخدام الاسلام الجهادي ضد الاتحاد السوفييتي في افغانستان، لذا فليس من مصلحتها محاربته لانه يبقى قوة الردع الوحيدة امام اي حركة تقدمية يسارية او شيوعية.
ارهاب في تركيا والسعودية
الاجابة الثالثة تتعلق بالانظمة: فامريكا لا تستطيع محاربة الاسلام الراديكالي لان هذا يهدد الانظمة المتعاونة معها. ولهذا الامر وجهان:
الاول ان الانظمة تلجأ لاستخدام الاسلام المتطرف، لقمع شعوبها ومنع اي توجهات يسارية عمالية ثورية، خاصة على ضوء الاستياء العام من الاوضاع المزرية. الشهادة الافظع على كيفية استخدام الاسلام الاصولي ضد التحركات اليسارية هو ما كان في تركيا التي تعرضت لعمليات انتحارية في تشرين ثان الاخير. مقال في واشنطن بوست (24 تشرين ثان) كشف ان المنتحرين الاتراك انتموا الى تنظيم حزب الله (لا علاقة له بحزب الله اللبناني) الذي تأسس في الثمانينات ونشط كحركة سرية شرقي تركيا.
وتبين ان السلطات التركية "العلمانية" شجعت التنظيم الاسلامي المتطرف في المنطقة الشرقية من البلاد وغضت الطرف عنه، واعتبرته اداة جيدة لحربها القذرة ضد حزب العمال الكردستاني، بزعامة عبد الله اوجلان، الذين طالبوا بحق تقرير المصير. التنظيم الاسلامي المعروف باعماله الوحشية، وتنسب له آلاف اعمال القتل، تسلم اسلحة من الحكومة التركية. فقط بعد تراجع في عام 1999، بدأت السلطات التركية تلاحق حزب الله.
اما الوجه الثاني لعلاقة الانظمة بالاسلام الجهادي، فيكمن في كونه جزءا من ايديولوجية النظام، فاذا ضُرب الاسلام الجهادي ضُرب النظام نفسه. وهذا ما يفسر عدم تعاون السعودية في مكافحة الارهاب للنهاية، رغم تعرضها عدة مرات لعمليات ارهابية راح ضحيتها مواطنون سعوديون، في الرياض في 12 ايار (مايو) التي راح ضحيتها 34 شخصا، ثم مرة اخرى في الرياض ومكة.
مقدم حلقة "بلا حدود"، احمد منصور، وضع الامور على النحو التالي: "غلاة الوهابيين، دعاة التكفير، متغلغلون في الدولة. والدولة تعتبر انها اذا ابعدتهم فانما هي ستسقط لانهم الركن الذي تركن اليه". (الجزيرة نت، 5 تشرين ثان)
ويبدو ان نخبة المحافظين الجدد في ادارة بوش هي الاخرى تفهم نقطة ضعف السعودية. ففي مقال ورد باحد صحف هذه النخبة "ويكلي ستاندارد" بعنوان "وجهان للسعودية"، جاء التحديد التالي: "ان للنظام السعودي ركنان: الاول هو الوفاق الاجتماعي الذي يفرض توفير التعليم، الصحة، العمل... مقابل الولاء للعائلة المالكة؛ ولكن المشكلة ان هذا الركن انهار بسبب التراجع الاقتصادي. من هنا تضطر الرياض للاعتماد كمصدر لشرعيتها على الركن الثاني، وهو الوفاق السياسي الديني المنعقد بين آل سعود وآل عبد الوهاب السلفيين الذين يشكلون الاساس لنهج بن لادن". (30 حزيران)
ديمقراطية غير واقعية
الاجابة الرابعة، لماذا لا تستطيع امريكا محاربة الارهاب؟ تكمن في بيئة التخلف التي يعيشها العالم العربي، والتي تشجع نمو الافكار المتعصبة والمتطرفة. وتبين (الجزيرة نت، 11 آب 2003) ان وضع التخلف وصل الى الحضيض: 25-30% بطالة، و70 مليون عربي امي، و74 مليون عربي من اصل 290 مليون يعيشون تحت خط الفقر. هذه ليست بيئة ملائمة لنمو الديمقراطية التي تعد امريكا بها العالم العربي، بل هي انسب لنظام قبلي. لذا فان كل فراغ سيملأ فورا بالاسلام التقليدي، وليس جديدا علينا ان المعارضة الوحيدة في العالم العربي هي المعارضة الاسلامية.
الحقيقة ان امريكا لا تريد الديمقراطية بل تسعى لتكريس التخلف في مستعمراتها. أي تحرك تحرري في الوضع العربي لا بد ان يسعى الى التقدم للامام، بينما ما يميز الحركات الاسلامية هو الانغلاق والسعي لعزل العالم العربي عن التقدم، وعن الحركات التقدمية المربوطة بالطبقة العاملة في العالم، مثل الحركات الكبيرة المناهضة للعولمة وللحرب الامريكية على العراق.
لسنا وحدنا نعاني من امريكا، بل تعاني معنا شعوب من مختلف الديانات والقوميات. ما علينا فعله هو مد الجسور بيننا وبين هذه الشعوب والحركات التقدمية، بهدف بناء وحدة عمالية فلاحية عالمية ضد امريكا. العداء لامريكا يمكن ان يكون مفتاحا لحلول ايجابية يطرحه الساعون وراء التغيير. ولكن اذا رُوّج للعداء بهدف شطب كل ما هو تقدمي، والقضاء على كل المكتسبات بحجة انها من "الغرب"، فان هذا العداء سيقودنا حتما للتدمير الذاتي.