أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ديرار عبد السلام - منطق المسؤولية فيما آل إليه حال منظومتنا التعليمية.















المزيد.....


منطق المسؤولية فيما آل إليه حال منظومتنا التعليمية.


ديرار عبد السلام

الحوار المتمدن-العدد: 2262 - 2008 / 4 / 25 - 05:28
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يتضخم اليوم بالمغرب الكلام و الخطاب حول المدرسة و الحال البئيس و المنذر بفادح الآثار على المدى المتوسط، و بأبشعها على المدى البعيد. لا تخلو الجلسات العائلية و الأخرى المتضخمة بالمقاهي من إنتاج فائض للكلام حول المدرسة و معضلاتها و التعليم عموما و الآفات التي حلت به عندنا. كما لا تخلو معظم الجرائد إلا ناذرا من قراءات وتحاليل و خواطر تصب في نفس الانشغالات و الهواجس. و المتتبع الفاحص لمعظم تأويلات و تفسيرات الحال الذي آلت إليه المؤسسة التي يتوقف عليها مستقبلنا الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي و الثقافي-القيمي و حتى الروحي بإجماع مختلف فروع المعرفة الإنسانية المعاصرة الممتدة من الانتروبولوجيا و السوسيولوجيا حتى الاقتصاد و علم السياسة و سوسيو-تاريخية السياسي و سوسيولوجيا و سيكولوجيا الثقافة...، يجد هذا المتتبع نفسه أمام نمطين في تفسير الفاعل المسؤول عن هذا الوضع:
يسارع النمط الأول إلى تحميل المسؤولية كاملة و دون أدنى تحفظ إلى الدولة أو السلطة السياسية بلغة أكثر دقة، على اعتبار أنها هي التي تخطط و تقرر لهذا القطاع و لغيره، وأن خططها و قراراتها المتعاقبة منذ 1956 هي التي أفضت إلى الوضع الكارثي الذي يكتوي المغاربة بناره اليوم. و بناء على ذلك تتم – ضمن هذا النمط الأول من التحليل- تبرئة المشتغلين في حقل التعليم، مدرسين و إداريين من أي شكل من أشكال المسؤولية عما حصل، و كذا تبرئة كل المؤسسات الموازية للسلطة السياسية، أي الأحزاب و النقابات و الجمعيات...، ليبقى المعني و المتورط الوحيد و الأوحد هو هذه السلطة. و للإشارة السابقة لأوانها، فهذا تفسير إن لم نقل أنه غير مسؤول أو تنصلي أو مغالط و مموّه، فهو مغرق في التبسيطية إلى أبعد الحدود كما سنكشف عن ذلك لاحقا.
أما النمط الثاني من التفسير، فيهرع بمكر زائد أو ببلادة فظيعة إلى تحميل المسؤولية كاملة غير منقوصة إلى الفاعلين المباشرين في هذا الحقل، و يختزلهم في الغالب في المدرسيين دون أدنى انتباه إلى الثقل الثقيل الذي باتت تشكله الإدارة في السير الطبيعي و الخلاق لكل التنظيمات و على رأسها التنظيمات المدرسية، و لا إلى المؤطرين التربويين أو المفتشين الذين إما أن يكونوا فاعلا دافعا إلى التجاوز أو آخر يسري منه ثاني أكسيد الموت و التحجر للعملية التعليمية و التربوية . و نجد ضمن هذا التحليل أن السبب البؤري لاستفحال العاهات التي مست منظومتنا التعليمية هو المدرسون الذين انشغلوا عن رسالتهم النبيلة و تاهوا عنها بالتافه و الصغير، و بالتالي فهم علة الداء و لا أحد غيرهم. و للإشارة هنا أيضا، فهذا التفسير- كما سنبين لاحقا- إن لم نقل أنه مغرض و مدلّس و خادع، فإنه هو الآخر في أعلى درجات السطحية و البعد عن ملامسة منطق اشتغال الوقائع على الأرض.
لننصت إلى العلم و ما يقوله عن الظاهرة عموما قبل أن نعود إلى الحالة المغربية:
فالمدرسة، هذه المؤسسة الحديثة التي جاءت إلينا من وراء البحر شأنها شأن "الحزب" و "النقابة" و "البرلمان" و "الجمعية" و "المقاولة"...الخ، عمرها بمواطنها الأصلية لم يبلغ القرنين بعد، و لينتبه القارئ إلى كوننا نقصد المدرسةEcole، School بمعناها الحديث أي تلك المؤسسة التي تقيمها سلطة محددة، تختار مقرراتها و تفرضها، و تحدد مسالكها و أسلاكها و تؤدي رواتب العاملين بها ...، و لا نقصد أبدا "المدرسة" بمعناها التقليدي التي قد يكون الشرق سبق الغرب إليها.كما لا نقصد تلك "المدارس" التي عرفتها المجتمعات الغربية القروسطية الخاصة بأبناء النبلاء كمجال للترف الفكري المقترن بالثروة و السلطة و الأصل الاجتماعي. إلا أن هذه المنظمة بمعناها الحديث لم تصبح موضوعا للمعرفة العلمية إلا منذ أربعين سنة تقريبا، إذ يرتبط ظهور التفكير العلمي في المؤسسة التعليمية بالحركة الطلابية الشهيرة بفرنسا أواخر الستينات و التي شكلت نقطة انطلاق ما يعرف اليوم سوسيولوجيا المدرسةSociologie de l’école، ثم ما لبثت هذه المدرسة أن أصبحت في أواسط السبعينات موضوعا أساسيا لعلم ثان إلى جانب باقي تنظيمات المجتمع الحديث هو سوسيولوجيا التنظيماتSociologie des organisations .
و من يملك تصورا واضحا عن هذين العلمين أو الفرعين الأساسيين من الأم الكبرى التي هي السوسيولوجيا، يلاحظ بسهولة أنه يتوزع إلى مرحلتين بارزتين، تمتد الأولى من نهاية الستينات و إلى غاية نهاية الثمانينات، لتبدأ الثانية من نهاية الثمانينات و إلى غاية اليوم حيث محاصيلها العلمية الهائلة المثيرة للذهول و التي تعيد المجتمعات الغربية عن آخرها النظر في منظوماتها التعليمية بناء عليها دون أن تعلن عن ذلك في الغالب. اشتهرت المرحلة الأولى بعلماء كبار خلدوا أسماءهم من أمثال بيير بورديو P. Bourdieuو جان كلود باسرون J.C.PasseronوإسطبليتEstablet، و لاباسادLapassade، و جورج سنيدرزGeorges Snyders، و برنشطاين Bernschtein، و بلوودنBlowden ... . و تعرف المرحلة الثانية الممتدة إلى اليوم بأسماء ثقيلة من أمثال أجرناب F.AgernapوكاستF.E.Cast وراترRutter، و ماك ديلMc dill، وماك نيلMcNeil وبروكوفرBrookover، و رينولدزReynolds...
انشغل علماء المرحلة الأولى طيلة ثلاثة عقود تقريبا بدراسة و تفكيك أثر العوامل الخارجية المحيطة بالمدرسة أو المقاولة أو أي منظمة مماثلة، و كانت الخلاصات الكبرى لهذه المرحلة تتمحور حول كون مشاكل المنظماتLes organisations تجد تفسيرها خارجها أي في المحيط الذي تشتغل فيه. و فيما يخص المدرسة التي تعنينا أساسا، تم ربط مشاكلها و معضلاتها بعوامل أساسية كلها من خارج المدرسة، هي "السياسي" و "الاقتصادي" والاجتماعي" و "الثقافي": فأبناء الفقراء يجدون صعوبة في تعلم ما تقدمه لهم المدرسة لا لسبب أو أسباب من داخل هذه المدرسة، و لكن لأن ما يحملونه من شرطهم الاقتصادي-الاجتماعي يتعارض و ما يروج داخل جدران هذه المؤسسة، و يتلاءم مع ما يحمله أبناء الطبقة السائدة التي هي من يفرض ما يروّج. والمدرسة لا تمكّن زبناءها من إمكانيات فعلية لتطوير قدراتهم و إمكانياتهم و الذهاب بها إلى حدود قصوى ممكنة، لأنها مؤسسة في يد الطبقة السائدة الجديدة بالمجتمع الجديد،أي في يد "السياسي" لممارسة العنف الرمزيLa violence symbolique و لطبعInculcation استعدادات في الأجيال للقبول بالأمر الواقعStatu quo كما هو، و لتأبيدهPerpétuer. و أبناء الفقراء هم الأكثر عجزا عن التحصيل و التعلم و النجاح لا لأسباب مرتبطة بالمدرسين أو بجودة الإدارة أو أي متغير من داخل المدرسة، بل لعوامل من خارجها، في الأسرة بأبعادها الطبقية و الثقافية... . المهم بالنسبة لهذه المرحلة الأولى أن لا مجال لاستدعاء العوامل الداخلية للمؤسسة أو المنظمة لتفسير معضلاتها.
أما في المرحلة الثانية التي بدأت مع نهاية الثمانينات، فقد انطلق العلماء الجدد من سؤال جديد فتح الباب أمام تطور هائل لعلوم التنظيمات عموما و لسوسيولوجيا المدرسة على وجه التحديد هو: لماذا لا تتخذ المنظمة كموضوع أول للتحليل؟ و فيما يخص المؤسسة التعليمية، يصبح السؤال هو: لماذا لا يكون المدرسون مثلا أو الإدارة التعليمية هم/هي السبب الرئيسي في نتاج التعلم و جودة التعليم؟ لماذا لا يكون سبب نفور المتعلمين من المدرسة هو "المدرس" و "المدير" و "الحارس العام"...قبل أن يكون هو "السياسي" و "الاقتصادي" و "الاجتماعي"...؟؟
و تؤكد الدراسات و تطبيقاتها العملية التجريبية التي ابتدأت مع بداية العقد الأخير من القرن العشرين و تستمر اليوم بضراوة بأستراليا و كندا و انجلترا و أمريكا الشمالية و إسرائيل...، أن المؤسسة التعليمية التي يكون فيها التحصيل المدرسي جد ضعيف و المردودية مزرية و أخلاق المتعلمين رهيبة و المشاكل متفاقمة خلال سنة معينة)2000 مثلا(، تنقلب جذريا قبل متم السنة الموالية)2001( لا لتغيير "السياسي" لاستراتيجيه و حساباته أو "الاقتصادي" لرهاناته، أو لتحول في " الاجتماعي"، بل فقط لتبديل المدرسين السابقين بالمؤسسة، أو جزء منهم ممن يتأكد علميا و عمليا عدم جدارتهم برسالة التعليم و التربية و تمثلهم لذواتهم مجرد موظفين ينتظرون أجورهم الشهرية. و تكاد تغيب معظم المشاكل و تصبح هذه المؤسسة في السنة الثانية)2002مثلا( نموذجا يحتدى به في العديد من الحالات بعد أن شارفت حالة التفكك، حين يتم استبدال الإدارة الجاهلة بأخرى جديرة بالتربية و تتقن علوم التدبير و التنظيمات لا أن يكون المنصب الإداري بالنسبة إليها مجرد مهرب من الفشل الذريع في الفصل الدراسي أو فرصة للحصول على سكن وظيفي يقيها بطش الكراء، طبعا إلى جانب تعويضات أخرى هزيلة و أشياء أخرى تافهة.
الخلاصة الأساسية التي تهمنا عند هؤلاء العلماء الجدد هي أن أثر العوامل الخارجية، أي التي من خارج المؤسسة أو المنظمة) السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي...( يصبح ثانويا متى كانت العوامل الداخلية إيجابية، و تكون تلك العوامل الخارجية هي الفاعلة و الموجهة و الراسمة للإمكانيات و الحدود حين تكون العوامل الداخلية مشلولة: مدرسة بمدرسين يتمثلون ذواتهم أرقام تأجير و عاملين بالإدارة/أرقام تأجير أيضا و محرومين من كل معرفة علمية حول منطق اشتغال المنظمة المدرسية، و حول آليات تصحيح مواطن الضعف و الخلل) عوامل داخلية مشلولة( ، تتحكم فيها بالضرورة و توجهها العوامل الخارجية. و أخرى بمدرسين/مربين فعليين يقدسون رسالتهم و يطورون ذواتهم لامتلاك الزاد الضروري الذي يؤهلهم لمعالجة كل حالة مهما كان وضعها و لا مجال في قاموسهم لعبارات مشينة من قبيل: "هذا تلميذ مشاغب" و "هذا لا رغبة عنده في التعلم" و "هذا مجرم"....و "المقرر لا يساعد على تحقيق المطلوب"...، لأنها عبارات تسيء إلى صاحبها من دون أن يعلم لأنها تفصح عن عجزه و هوانه أمام ما يفترض فيه امتلاك حلول له، في هذه المدرسة الثانية يصبح أثر العوامل الخارجية ثانويا مهما كان معيقا و خبيثا و مهما كانت رهاناته مرادفة للعرقلة أو حتى الدسيسة.

و الآن، يسهل ضبط منطق المسؤولية فيما آل إليه حال منظومتنا التعليمية بكثير من الثقة في الإفلات من التجني على طرف أو جهة أو فاعل دون آخر، أو تبرئة هذا الطرف أو ذاك دون سند.
فالسلطة السياسية مسؤولة، لأنه إذا كان من طبيعة المؤسسة التعليمية بالمجتمعات الحديثة التي انبثقت فيها كون الطبقة السائدة توظفها لممارسة العنف الرمزي و التحكم في توزيع الخيرات الرمزية بهدف ضمان إعادة إنتاج نفس علاقات القوة داخل المجتمع، فإن هناك خطوطا حمراء لا يمكن لتلك الطبقة أن تتجاوزها، كأن تمضي بالعنف الرمزي إلى حدود قصوى تمنع انبثاق المواطن أو تمس بالحد الأدنى من الخيرات الرمزية الضرورية لكل مواطن لكي لا يختل نسيج العمران، أو تسمح بالتسيب أو تكون هي فاعلته داخل المؤسسات التعليمية، ما دام في حكم اليقين كون مستقبل المجتمعات في العصر الحالي مشروط بنوعية و جودة نسق التعليم.أما السلطة التقليدية عندنا، فقد تمادت في ممارسة العنف الرمزي)الذي هو حقها ما دامت تسود( إلى حد تحطيم كل الخطوط الحمر الممكنة، دليلنا القاطع على ذلك مضامين مقرراتنا التعليمية من الابتدائي حتى الجامعي التي تنفر المتعلمين منها و تضع المدرس النمطي أمامهم في العديد من الحالات في مواقف تدعو للشفقة.
و السلطة السياسية مسؤولة لأنها هي التي تسكت منذ 1956 عن وضعية مراكز تكوين المدرسين بمختلف أصنافهم، و الحال أن هذه المراكز بالمجتمعات الحديثة تفرض نفسها – نتيجة حيويتها العلمية و المعرفية- ملاذا لكل الباحثين عن حلول و أفكار إبداعية من تنظيمات أخرى من خارج حقل التعليم، و حتى مؤسسة التكوين الوحيدة التي تمكنت من التهيكل بإمكانياتها الذاتية و هي المدرسة العليا للأساتذة بالرباط)سابقا( سمحت تلك السلطة بتفكيكها بدعوى إحداث كلية محلها)كلية علوم التربية حاليا(. و هي أيضا التي أحدثت- ضمن حسابات الهاجس الأمني الأعمى و الضيق- كليات و مراكز جامعية لا تستجيب في الغالب لمقتضيات ما هو مطلوب من مثل هذه المؤسسات. و هذه السلطة هي التي جاءت بالنظام الجديد لمراتبية العاملين في قطاع التعليم في أواخر التسعينات و الذي شكل ضربة موجعة لهذا الحقل الحيوي من خلال جعله الأقدمية معيار المعايير في الترقية، مما حول العديد من المدرسين إلى شبه عجائز تعد السنوات و الشهور و الأيام المتبقية و اللازمة و التي يلزم تجرع انتظارها للانتقال من سلم إلى سلم و من أجر إلى أجر و من تسمية إلى أخرى، فتشتتوا و تاهوا عن الرسالة، و منهم من جنّ من فرط الانتظار، و غابت بشكل شبه كلي جحافل المدرسين المترددين على الكليات لاستكمال تعليمهم و الذي كان يجد صداه في جودة ممارستهم لمهمتهم، ما دام المعيار يقصي ذلك تماما.
و هذه السلطة هي التي تسكت اليوم عن مهازل ما يدعى بالتكوين المستمر أو تكوين العاملين بالإدارة التعليمية، إذ تسند مهمة التكوين لمن لا علاقة له بالمطلوب منه ضمن حسابات ضيقة، و يطلب من المكونين الاشتغال على مواضيع كبرى تقتضي شهورا في أنصاف أيام و تقويم المعنيين بها عند نهاية كل نصف يوم !!، فيشعرون بالزيف و الاسمية فيما هم موضوعه، و هم الذين تكبدوا في سبيل ذلك معاناة السفر من مناطق بعيدة إلى حيث مقرات الأكاديميات، و في ذلك الكثير من الأذى لمؤسساتنا التعليمية.
و السلطة السياسية هي التي وفرت شروط عزل أبناء كل شريحة اجتماعية في مدرسة خاصة بهم ضمن تمييز ينذر بفادح العواقب. و هي التي هيكلت بشكل عجيب كل الشروط لإبعاد أبناء الفئات الميسورة من الاشتغال في حقل التعليم و جعله "مهنة" أبناء الكادحين، و الحال أن مدرسا من موقع اجتماعي متميز لمتعلمين محرومين فيه منافع لا تحصى و متعددة الأبعاد للأفراد و المجتمع بكل مكوناته، و على مستقبله أيضا. و هي نفسها التي تحدت مدارس اسمية بالقرى لا تصاحبها أي من منجزات الحداثة المرتبطة بها، مما يجعلها شذوذا بالبنيات الاجتماعية-المجالية التي توجد بها و يحكم بالإقصاء على زبنائها ما دام التعارض صارخا بين هذه المؤسسة و الشروط الاجتماعية و النفسية التي تحيط بها. و هي التي لا تنظر للتعليم الخاص الذي يتسع بوثيرة سريعة إلا من زاوية تخفيفه من ثقل ميزانية قطاع التعليم على الدولة... .ثم إن هذه السلطة مسؤولة عن التردي و النقص الفاحشين في البنيات التحتية الضرورية للعملية التعليمية-التربوية عموما.

قد يكون من الصعب حصر كل ألوان و أشكال مسؤولية السلطة السياسية عما آل إليه حال منظومتنا التعليمية، لأنها متعددة و متجددة لا تعرف التوقف، قد يكون آخرها إسناد مهمة التدريس بالكليات و المعاهد العليا لأي كان ، و هي الظاهرة التي تفاقمت بعد الفراغ الذي خلفته عملية "المغادرة الطوعية" الملغومة، و كذا مع إقرار حصص "التواصل" بمعظم الكليات. ثم إلحاق مئات حملة الشواهد العليا المعطلين بفصول التربية دون أدنى فكرة عن علوم التربية و فنون بناء الإنسان، و هو حكم عليهم بالتخبط.
و التنظيمات الموازية للدولة مسؤولة هي الأخرى عما آل إليه الوضع، فالأحزاب التي شاركت في ممارسة السلطة منذ 1956 وظفت التعليم توظيفا سياسويا ضيقا عوض أن يكون الجوهري فيه و الذي يضمن ارتقاء الوطن بانبثاق مواطنيه و ارتقائهم، موضوع إجماع لا يمكن التفريط فيه أو السكوت على المس به كما هو منطق الأمور بالمجتمعات الحديثة. بل تنحدر الأمور عندنا بشكل مخز إلى حد تدافع بعض العاملين بقطاع التعليم إلى الحزب الذي يوكل لوزير منه كرسي قطاعهم، نتيجة الانتظارات اللامشروعة و التي باتت مألوفة، و هي قصص يتنابز بها المدرسون و الإداريون خصوصا.
و النقابات مسؤولة لأنها ظلت على الدوام تختزل معضلات التعليم في أجور العاملين به، متسابقة بذلك في كسب مشاعرهم لاستمالتهم ، و مضحية بالجوهري الذي يلزم أن يكون من الأولويات و الذي هو جودة التعليم و مدى فعاليته. و هي التي تحصل على التفرغ التام من أعباء التدريس لانتهازيين في العديد من الحالات، و لمكاسب أخرى غير مشروعة ) انتقالات غير مستحقة، تكليف بمهام اسمية تعفي أصحابها من فشلهم الذريع أمام تلامذتهم، مناصب إدارية غير مستحقة...(، مما يضخم مشاعر الغبن التي تنعكس سلبا على منطق اشتغال الحقل ككل.
غير أن مسؤولية الأحزاب و النقابات تدخل ضمن صميم مسؤولية السلطة السياسية، مادام المفروض فيها تطبيق القانون و الضرب على أيدي و رؤوس المخلين به، خصوصا حين يتعلق الأمر بمن يفسد من إطار يفترض فيه العمل في خندق استقامة الأمور لا إفسادها، و يكون جرمه بأثر مضاعف و شديد التعطيل.
إلا أن كل ذلك لا يشفع في شيء أبدا في تبرئة الفاعلين الأساسيين في المنظمة المدرسية، أي المدرسين و العاملين بالإدارة و المؤطرين التربويون، ما دام القانون العلمي يقول أنه مهما كان فعل وأثر العوامل الخارجية التي فصلنا آثارها، فأن مفعولها يصبح لاغيا أو على الأقل يفقد الكثير من وقعه و تحكمه في مسار الأمور، متى كانت العوامل الداخلية إيجابية/غير مشلولة:
فالمدرسون مسؤولون عما آل إليه الوضع)طبعا دون تعميم(، لأن المفروض فيهم ألا تجرفهم سلبية العوامل الخارجية و أن يصمدوا أمام كل الزلازل الواردة، كأن يستمروا في عشق الكتاب و المجلة رغم الآذان المسموم بأن الأقدمية هي معيار المعايير. و الحال أن حجم طبع الكتب و المجلات و توزيعها عندنا بحجم الفضيحة الأخلاقية لنا كلنا في كل مواقعنا و نذير لنا بما لا يحمد مصيره، والكتاب أحسن زينة في البيت حتى و إن لم نقرأه !!. والأساتذة الذين يبتزون تلامذتهم ضمن ما يسمى بالساعات الإضافية مخربون حقيقيون ، و عدم معاقبتهم و السكوت عليهم مشاركة لهم في الجرم، و الأساتذة الجامعيون الذين يعهرون طالباتهم ، وصفهم بالمجرمين لا يشفي الغليل و لا يخمد النار و الغليان في الصدر، و الأستاذ المكون بمركز للتكوين الذي يكتفي بتوزيع ما يسميه عروضا على طلبته المغلوبين على أمرهم أمامه ما دام مصيرهم بين يديه، و يتفرغ للارتزاق بمؤسسات للتعليم الخاص عديدة تحول مدخوله الشهري إلى شبه مقاول، و للتغطية على سلوكه الدنيء و المخرب، ينصب نفسه بدعم من نظرائه زعيما نقابيا أو جمعويا أو كلها مجتمعة. فيسود الزيف و تتفاقم مشاعر الإحباط عند كل نظيف.
و الأستاذ الذي تتكلس معارفه لعدم تجديدها و يصيب مداركه الضمور، فيقف مكرها عاجزا أمام تلامذته، و حين يجدهم لا يتعلمون بل تتقهقر أخلاقهم باستمرار تحت وطأة عجزه و ضياعه، لا يتردد في نعتهم بأبشع النعوت ضمن آليات لثقافة العجز التي ترمي التنصل من المسؤولية و تحميلها للآخرين ، هذا النمط من الأساتذة مسؤول بشكل كبير عما آل إليه الوضع، لأن لا مسوغ يشفع له عدم امتلاكه الزاد العلمي الضروري لتربية و تعليم تلامذته لا تحميلهم وزر فشله و استقالته من مهمته. و التبرير بالشرط المادي لهذا الأستاذ واه بكل المعايير ما دامت ساحة "النضال" من أجل تغيير ذلك الشرط ليست هي الإساءة للمتعلمين، و التي لا يدرك هذا المدرس أن إدمانه عليها و استسلامه لها يفقده كل قيمة و يوفر السياق الضروري و المناسب للإمعان في المس بشرطه لا أن يخدم تحسينه. ثم إن هذا النمط من المدرسين لا يمكن الرهان بأي حال من الأحوال على كون الزيادة في أجرته ستجد لها صدى في فعاليتهم و تخلصهم من حالهم. و نجزم بأن هذه واحدة من التحديات الكبرى التي يلزم ألا تغيب عن كل إرادة حقيقية لإصلاح منظومتنا التعليمية يوم تتوفر.
و رجل أو امرأة الإدارة التعليمية اللذان تورطا في هذه المهمة المركزية للاشتغال الطبيعي و المنتج لكل مؤسسة تعليمية و لكل تنظيم، أو ورّطا هذه المهمة بهما، ، هربا من العجز المبين في الفصول الدراسية، أو طمعا في سكن أو تعويضات أو كلها مجتمعة و دون أدنى اعتبار لكون الإدارة هي أولا علوم يلزم التسلح بها، تتيح لصاحبها معرفة دقيقة و عميقة بالمنطق الداخلي لاشتغال المؤسسة أو المنظمة، و بآليات تنشيطها و بعث الحيوية فيها و دفعها إلى الخلق و الإنتاج و التجاوز، و بأخرى لتصحيح مواطن الضعف و الخلل، هذا النمط من الإداري و الإدارية مسؤول عما آل إليه الوضع لأن المفروض فيه ألا يقبل الاختزال و التقزيم في مجرد مصرف للأمور الإدارية الروتينية بالمعنى الضيق و الذي ينعكس تحجرا و شحوبا على المؤسسة ككل، بل أن يعمل من أجل امتلاك الزاد العلمي الضروري المرتبط بحقول الإدارة و التدبير ليشمخ و تسري الحياة و الحيوية منه و به إلى كل جوانب الحياة اليومية للمؤسسة التي هو قائدها.

نخلص إلى أن المسؤولية فيما آلت إليه أحوال منظومتنا التعليمية يتقاسمها طرفان على قدم المساواة: السلطة السياسية و المشتغلون في حقل التعليم، مدرسون و إداريون و مؤطرون تربويون. و مسؤولية الطرف الأول ثابتة بالحجة و الأدلة، و إلا فكيف نفسر تعاقب خطط و مشاريع عديدة منذ 1956، رفعت كلها شعارات إصلاح التعليم ) الجمعية الملكية لإصلاح التعليم، مناظرات إيفران الأولى و الثانية لإصلاح التعليم، الميثاق الوطني لإصلاح التعليم،....الميثاق الوطني للتربية و التكوين، المجلس الأعلى للتعليم (، و التعليم ماض في الانحدار باستمرار، مما يدفع إلى العديد من التساؤلات و الكثير من الريبة.
أما مسؤولية الطرف الثاني، فمؤكدة علميا، ما دام القانون العلمي المجرب في مجتمعات مختلفة و متنوعة، من مستويات اقتصادية-اجتماعية تمتد من أغنى البلدان إلى أفقرها، و من ثقافات تمثل كل ثقافات الدنيا...، يؤكد أن العوامل الخارجية للمؤسسة التعليمية لا تكون هي الفاعلة و المؤثرة – مهما كانت بشعة و مهما كان ثقلها- إلا إذا كانت العوامل الداخلية سلبية و مشلولة. هذا لا ينفي كل تأثير لتلك العوامل الخارجية إلا أنه يصبح ثانويا حين يجسد المدرسون و العاملون بالإدارة فعلهم اليومي باعتبارهم مقدسين لرسالتهم ، مستشعرين جسامتها و بؤريّتها، مصرين على تملك الزاد الضروري الذي يؤهلهم للتعليم و التربية مهما كانت الإكراهات.
و للإنصاف، فإن مسؤولية المدرسين و الإداريين العاملين بالقرى و التجمعات المهمشة و المعزولة تبقى أقل من مسؤولية العاملين بالمدن، ما دام ثقل العوامل الخارجية في الحالة الأولى أثقل من كل ما يمكن تصوره. و نجزم أنه لو أتيحت للعلماء الذين خلصوا إلى القانون الذي اعتمدناه في التحليل إمكانية ملامسة الحجم المهول لثقل تلك العوامل الخارجية عندنا بعالمنا القروي، لكانوا عدلوا في قانونهم و جعلوه أكثر تواضعا !! و لكان لحالنا شرف المساهمة في تعديل القوانين العلمية !!. و مع ذلك، فليس في حكم المعدوم أن نصادف معلما بقسم دراسي اسمي على رأس جبل يمارس رسالته باعتبار ذاتي رائع و فعالية ذاتية قد لا نعثر على نظير لها في العواصم، يملك المؤهلات التي تمكنه من أن يغرس في تلامذته تقاطيع مشاريع مواطنين بتنمية ميتا-معرفهم الضامن لنموهم و تربيتهم حسب الخلاصات الكبرى للعلوم المعرفية المعاصرة، فيعشقونه و يعشقه أهلهم فيزداد شموخه و اعتزازه بذاته و يتسع إصراره على إبطال مفعول العوامل الخارجية المحبطة، لأنه يدرك في آخر التحليل أنها لا يمكن أن تكون إلا كذلك ضمن الشروط العامة للمجتمع و لسيرورة تطوره.



#ديرار_عبد_السلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سذجان و حذقان
- الغير مألوف في المألوف أو نقد الحياة اليومية
- مفهوم -الحقل- عند بيير بورديو - القوة الإجرائية و الفعالية ا ...
- لماذا تمكن محمد شكري و محمد زفزاف من انتزاع العالمية؟
- الشرقاوي و الرؤوس
- في ضيافة الفلسفة بالمعنى الجديد -قراءة في كتاب عبد السلام بن ...
- صغار المفسدين و كبائرهم


المزيد.....




- المدافن الجماعية في سوريا ودور -حفار القبور-.. آخر التطورات ...
- أكبر خطر يهدد سوريا بعد سقوط نظام الأسد ووصول الفصائل للحكم. ...
- كوريا الجنوبية.. الرئيس يون يرفض حضور التحقيق في قضية -الأحك ...
- الدفاع المدني بغزة: مقتل شخص وإصابة 5 بقصف إسرائيلي على منطق ...
- فلسطينيون يقاضون بلينكن والخارجية الأمريكية لدعمهم الجيش الإ ...
- نصائح طبية لعلاج فطريات الأظافر بطرق منزلية بسيطة
- عاش قبل عصر الديناصورات.. العثور على حفرية لأقدم كائن ثديي ع ...
- كيف تميز بين الأسباب المختلفة لالتهاب الحلق؟
- آبل تطور حواسب وهواتف قابلة للطي
- العلماء الروس يطورون نظاما لمراقبة النفايات الفضائية الدقيقة ...


المزيد.....

- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ديرار عبد السلام - منطق المسؤولية فيما آل إليه حال منظومتنا التعليمية.