• حاوره: عدنان حسين أحمد/ برلين
• المخرج د.عوني كرومي لـ ( الحوار المتمدن )
• أرفض أن أموت لأنني أؤمن بأن هناك شيئاً يتحرك.
غالباً ما يلجأ د. المخرج عوني كرومي إلى الموضوعات الكبيرة التي تتصدى للوجود والمصير البشريين عبر مقتربات إخراجية تنسجم مع منهجه العلمي الذي يمزج فيه بين التجريب والمنحى الأكاديمي. فليس غريباً أن يلجأ إلى مؤلفين مسرحيين كبار من طراز برشت أو شكسبير، أو يعتكز على أعمال عالمية ما تزال تهيمن على الذائقة البشرية مثل أبناء وآباء، الرجال والبحر، تساؤلات مسرحية، البطل والريح، المسيح يصلب من جديد، رثاء أور، مأساة تموز، المساء الأخير، الآنسة جولي، مقتل الحلم الثالث ورؤى مسرحية، وغيرها من الأعمال التي تتوفر على بنىً فكرية وفلسفية تنطوي على أسئلة كبيرة مقلقة، ليس للنخبة حسب، وإنما لكل الناس الذين يعيشون فوق هذه المعمورة. تبنى د. عوني كرومي النص المحلي، المشبع بالروح الشعبية، وجعله محوراً لاهتمامه الإخراجي لأنه يؤمن بأن ( الروح الشعبي هو بنية أساسية من بنى الثقافة ) ولهذا سعى في توجهه الإخراجي إلى تحقيق نموذجه الفني المنبثق من عمق التركيبة الاجتماعية العراقية. إن المنهج ( الواقعي – التجريبي ) الذي تبناه د. عوني كرومي يعوّل كثيراً على القيم الجمالية التي يمكن إدراكها في النصوص التي تتناول الواقع الاجتماعي، وتلامس خبرة الإنسان ووعيه وتجربتة الحياتية، وتضيف إليه معرفة جديدة عبر النصوص الشعبية كما حصل في ( ترنيمة الكرسي الهزاز ) و ( بير وشناشيل ) وغيرها من المسرحيات التي كانت تحفر في ذاكرة المشاهد بوصفه عنصراً مبدعاً ومتفاعلاً في العرض. وجدير ذكره أن د. كرومي حاول المزاوجة بين رؤيته الإخراجية الخاصة وبين المدرسة البرشتية التي يعدّها ( من أكثر المدارس فهماً لعصرنا من خلال مدركاتها الفلسفية لمعنى الفن والإنسانية ). في هذا الحوار يسلط د. عوني الضوء على محاور عديدة من بينها الممثل- بوصفه المبدع الأول – والمشاهد بوصفه خبرة إبداعية مضافة، والنص المحلي، وتجربة الورشات والمختبرات المسرحية التي أقامها في عدد من الدول العربية، وسواها من المحاور التي تستحق التأمل وإطالة النظر. كما تنبغي الإشارة في هذا الحوار الشيق الذي دارت وقائعه في ورشة الثقافات العالمية في برلين إلى دور الصديق الناقد ياسين النصير الذي ساهم هو الآخر في إثارة بعض الأسئلة المهمة التي أضافت رونقاً آخر لمتن الحوار:
• فهم الظواهر الغامضة
• لنعد إلى الوراء، إلى ثلاثين سنة خلت، لنبحث عن الكاتب أو الكتاب الأول الذي أحدث انقلاباً في ذائقتك الفنية أو الأدبية. هل لك أن تسلط لنا الضوء على المضمار وأنت تعيش الآن وسط هالة من التألق والشهرة الإخراجية التي ذاعت في داخل العراق وخارجه بعد أن أخرجت أكثر خمسين عملاً مسرحياً؟
- ثلاثة كتب أثرّت فيّ تأثيراً كبيراً، وغيّرت مجرى حياتي، وهذه الكتب هي: الكتاب المقدس، ورامبو وغاليلو غاليليه. الكتاب المقدس، وأعني به أبرز الكتب الدينية وهي العهد القديم، والعهد الجديد، والقرآن، ونهج البلاغة. هذه الكتب جعلتني أتعرّف على حياة الإنسان والكون، وأدرك معنى الوجود البشري على سطح الأرض، بل أنها جعلتني أفهم ما كنت أفتقده من الظواهر الحياتية التي تحدث في أماكن وأزمان أخرى، وأكثر من ذلك أنها ساعدتني في فهم الخليقة والنشوء والظواهر الغامضة التي تكتنف حياتنا الاجتماعية. كما حفزتني هذه الكتب أن أطرح أسئلة عديدة، من بينها سؤال الكلمة، وسؤال الفعل، وسؤال البدء. من أين يبدأ الإنسان؟ وأين ينتهي, ولماذا؟ هذه الكتب علمتني اللغة والتاريخ والقص والخواطر والأساطير، وتعرفت من خلالها على نماذج مختلفة من البشر، ونماذج مختلفة من الرموز والدلالات ، الأمر الذي دفعني لأن أبحث عن مكان الإنسان وجغرافيته. هذه الكتب كان لها تأثير أخلاقي وإنساني في تكوين علاقتنا مع الإنسان والمجتمع والوجود. أما رامبو الذي قرأت أعماله لشعرية الكاملة فقد حرضني لأن أبحث في مفهوم الحرية، والتمرد وتحقيق الإرادة لأصل في النهاية إلى فهم وجودي كإنسان. أما غاليلو غاليليه فقد تعلمت منه أول مرة ما معنى أن يكون الإنسان مسؤولاً عن إبداعه وفكره وعمله وإنتاجه. كما علمني معنى صراع المسؤولية بين الإنسان وعطائه، وما زلت حتى اليوم أعيش هذه الإشكالية في جدليتها المعقدة. ومن غاليلو أيضاً تعلمت أن العالم يجب أن يسير ويتقدم، وأن أي توقف في لحظة من اللحظات معناه العجز أو الموت في شخصيتي وإنسانيتي، وأنا أرفض أن أموت لأنني أؤمن بأن هناك شيئاً يتحرك. كما ينبغي أن أذكر بأننا صنيعة الرجال الذين علمونا وأمدّونا بالمعرفة والخبرة، ودفعوا بنا إلى تيار الحياة الجارف.
• صدى التأويل
• لو أردنا أن نقسّم حياتك الفنية إلى مراحل بدءاً من ( فطور الساعة الثامنة ) ( رثاء أور ) ومروراً ب( ترنيمة الكرسي الهزاز ) و ( والإنسان الطيب ) و ( بير وشناشيل ) وانتهاءً ب ( رؤى مسرحية ) و ( السيد والعبد ). ما هي أبرز المحطات التي تؤشر مراحل تطورك الفني؟
- ليس هناك تطور فني ميكانيكي، بل هناك تطور الخبرات، وتطور المشروع الثقافي،( وتطور الانهيار الثقافي ) فحتى الانهيار تطور، مثل ( نمو التخلف ). ثمة اتجاهات عديدة سلكتها خلال مشروعي الفني من أجل إيصال رسالتي الأخلاقية والفكرية للجمهور على اعتبار أن مشروعي الفني هو مسؤولية كبيرة عليَّ أن أحملها على عاتقي، لهذا بدأت في اتجاه البحث في التراث، وتحديداً في التراث المسرحي العراقي وهويته من أجل تقليل التأثيرات الأخرى التي لا تنمّي المجتمع بذاته. إن الظاهرة المسرحية موجودة في كل التشكيلات الاجتماعية، والعراق جزء منها، وإن التقليل من دور المسرح الاجتماعي ووظيفته هو إدانة لكل الناس. فدراسة الظاهرة المسرحية داخل المجتمع وبنيته علّمتني أن هناك شيئاً مهماً في جوهر المسرح هو وجود نموذج ، ولا يمكن أن تقوم دراما بالكون إلاّ على وجود صراع هذا النموذج، وعذاب هذا النموذج، ودمار هذا النموذج، وإعادة الحياة إلى هذا النموذج، لأن هذا النموذج يشكل كل طموحات الإنسان ويجعله يدرك هذا العالم وظواهره. فاكتشفت من خلال دراستي لمسرح العراق القديم، ومن ضمنها ( مأساة تموز ) امتداداً إلى المسيح ( ع ) وعلي والحسين ( رض ) وإلى اليوم بأن الإنسان يحتاج إلى هذا النموذج من أجل اكتساب المعرفة والخبرة والتجربة، وهذا هو الشيء العظيم في جوهر المسرح. إن الصراع، في الحياة وفي المسرح، لا يقوم من دون حدث أو فعل، وعندما تؤسس هذه الظواهر معناها فهذا يعني أن تمتلك ذاكرة فنية، وذاكرة ثقافية واجتماعية وواقعية معاصرة، والعمل على هذه الذاكرات مجتمعة يعني أن تكتشف أنها موجودة داخل بنية الإنسان. من هنا نبدأ بالتعامل مع هذه الذاكرة الأسطورية والخرافية والاجتماعية، ومع بنيتها الداخلية على اعتبارها معيناً كبيراً يمنحنا لغة جديدة، وأداءً جديداً، وعطاءً جديداً، وأفكاراً جديدة في أن تخاطب ابن هذا العصر لتعطيه درساً كبيراً جداً. المسرح يجب أن يمتلك موضوعة الحرية، الحرية التي أعنيها هنا هي حرية الذات، حرية الإنسان، حرية المجتمع، والتحرر من أشكال النظم والمهيمنات الاجتماعية. فالحرية هي ديدن أساسي بالنسبة لي، ولهذا فإن موضوعة الإنسان في كل الأعمال التي اخترتها كانت تلامس هذا الهم في الحرية، هذه الموضوعة الجميلة والعميقة والتي ربما عزفنا عليها بأشكال مختلفة. من هذه الأشكال أخذ الواقع الاجتماعي المبني على الذاكرة والموصوف بالشعبي حركة المجتمع اليومية التي تتمثل بصراع الإنسان، وعلاقاته المتشابكة مع المؤسسة والثقافة والمعرفة. إن هذه الإشكالية مهيمنة، ولهذا فأنا أعتبر أن جزءاً من الوظيفة الأساسية للمسرح هو عمله على تحريض الإنسان من أجل أن يتحرر من القيود. والإنسان أيضاً مطالب بأن يدرس عالمه، وأن يستوعب ما يحيط به كذات، ثم يعمل في نهاية الأمر على التغيير، والإنسان الذي يستطيع أن يغير هو الإنسان القادر على أن ينمّي حياته وفكره. أنا شخصياً أعمل على رصد الظواهر الاجتماعية في الواقع، وأحاول أن أجد بعض البواعث والمحفزات لإثارة هذه الظواهر مرة ثانية في ذاكرة المشاهد، أو من المحمول داخل المشاهد وأحولّها إلى رموز تستنطق هذا الواقع، وتزيد من فاعليته. المشاهد هو همّي وهاجسي، لأنه بالنسبة لي يمثل، ويتفاعل، ويلعب، يتألم، ويحاور من خلال نموذجه الداخلي. ونحن على المسرح نلعب برموزنا وإشاراتنا ودلالاتنا وعلاماتنا وما نعتقده مخزون في ذاكرة المشاهد لكي نكشف عن الظواهر بحثاً عن تقييم جديد من أجل الوصول إلى القانون الأكثر تطوراً لأي ظاهرة اجتماعية موجودة. هذا الأمر قادني إلى العمل مع النص الشعبي، وفي الوقت نفسه، قادني إلى أن أُسقط الواقع الاجتماعي على جميع النصوص التي أخرجتها من الأدب العالمي فاعتبرت أن تاريخ الصراع مكتوب في خبرة الأدباء الآخرين، ونحن علينا أن نتعلم من تاريخ هذا الصراع الذي استطاع أن ينجزه الأديب العالمي الذي لامس موضوعتنا، ولكن ما قرأته من الأدب العالمي هو ذلك الجزء الذي كان يلح عليّ من خلال واقعي الاجتماعي. فكلما استطعت أن أقرأه من أدب شكسبير أو برشت أو كازنتزاكيس أو ألبير كامي هو في الحقيقة الجزء الذي كان يلح عليّ من ظواهر المجتمع الواقعي. فلهذا السبب لم أنظر إلى الأعمال كقيم متحفية أو أدبية أو أكاديمية، وإنما نظرت لها على أنها تستطيع أن تشفع لي في تجسيد رؤيتي للظواهر التي لم أدركها، ولم أستطع أن أعبّر عنها، فكانت وسيلتي للتعبير هي ما أنجزه الفكر الإنساني. ولهذا فإن كل الأعمال التي قدمتها كانت عراقية بمعنى ما بغض النظر عن المؤلف أو البلد أو المجتمع الذي كتبت فيه. فنحن اليوم لا نعيش مع شكسبير، وإنما نعيش مع تأويل 400 سنة من شكسبير، فشكسبير قد يكون إنساناً مجهولاً يعيش صداه في ذاكرة الواقع المؤولة، مثلما يعيش الكتاب المقدّس الذي بلغ عمره أكثر من 2000 سنة وما زال يعيش على صدى التأويل. ومن هذا المنطلق كانت كل الأعمال بالنسبة لي هي أعمال اجتماعية شعبية تلامس حس وواقع هذا الإنسان. في بعض الأحيان كنت أنحو إلى اللغة المحكية من أجل الاستفزاز والاستثارة، وفي بعض الأحيان كنت أُبقي على اللغة العربية من أجل زيادة تغريب الظاهرة، وعدم دفع الإنسان في جانبه العاطفي أو الحسي مع النص. فاللغة بالنسبة لي في بعض الأحيان كانت تلعب دوراً من الأدوار في تغريب الأحداث في نظر المشاهدين عندما تخلق مسافة من البعد، أما في بعض المسرحيات التي كنت أريد أن ألغي المسافة واحوّل الإنسان إلى مشارك في الحدث، كنت أسعى وأطمح بشغف شديد لتحقيق واحد من ثلاثة أشياء، إما أن أعرّق النص، أو أن أقدم النص باللغة المحكية، أو يتم إعادة تأليف النص من جديد.
• الارتجال والحفر المعرفي
• هل يمتلك مشروعك الفني أسساً نظرية، أم أنك تنطلق من رؤية مسبقة، ثم تأتي النصوص لتحقق جزئية من جزئيات هذا المشروع، أم أن العمال هي التي تفرض طبيعة تناولها وإخراجها وإنتاجها؟
- إن أول شيء يأخذني هو الموضوعة الملحة عليّ كأزمة إنسانية وجودية في الواقع، فإذا ما توفرت هذه الموضوعة، شرط ألا تكون ذاتية. وإذا كانت ذاتية، فينبغي أن يتحول هذا الهم الذاتي إلى نموذج لهموم الناس ومعاناتهم. فالهم الذاتي يموت إذا لم يتحول إلى هم جمعي. إن ما يهيمن عليّ دائماً هو الإحساس اليومي لحركة الحياة بما فيها من صراع وألم وخوف ودمار وهيمنة وقلق وعدم استقرار. فعندما أجد نصاً من النصوص يسلط الضوء على هذه الهموم الكبيرة أختاره من دون تردد. وعندما أختار النص أجد نفسي أمام مسؤوليات متعددة، منها مسؤولية جمالية وفكرية واجتماعية وسياسية وذاتية. ثم أبدأ بإعادة تنظير الأشياء بهدف الحفر في التجربة، وقد يكون هذا الحفر حفراً معرفياً، أو حفراً في التجربة الاجتماعية، أو حفراً في ذاكرتي أو في ذاكرة الناس. إن الهم الأول والأخير بالنسبة لي هو أن أبدأ من منطلق الحرية، وأعظم منطلق للحرية هو الارتجال. والارتجال هو الوسيلة الأولى التي تجعلني لا أتحدث في مكان ما، أو في زمان ما، أو عن نموذج ما. هذه هي بعض الأسس النظرية التي تشجعني لاختيار العمل، ثم تأتي التفاصيل الأخرى.
• فن المكان
• نحن نعلم أن مفردة المكان أثيرة لديك. كيف تفلسف المكان؟ وكيف تتعامل معه ضمن إطار الفلسفة الواقعية، آخذين بنظر الاعتبار أنك خريج ألمانيا الديمقراطية سابقاً، حيث برشت ومسرح الواقعية في صدام مباشر مع التيارات الفلسفية الأخرى؟
- المسرح هو فن مكاني، أو دعني أقول عن المسرح هو فن المكان، لأنه يعتمد على التشكيل والبصر والمشاهد الذي يعد عنصراً صانعاً وفاعلاً ومشاركاً. أنا أوضح المساحات المكانية في عروضي المسرحية توضيحاً فنياً وجمالياً في ذات الوقت، لأن المكان يوضح الشخصية، يفسرها، ويعمق حضورها. إن لغة المكان متغيرة من مسرحية إلى أخرى، وهذا يعني أنني لا أتعامل مع المكان إلاّ وفق بنية النص، وفي كل عمل أنظر إليه بعين مختلفة. أنا أسعى لاكتشاف المكان، والمكان هنا ليس بالمعنى الديكوري، بل كفضاء للحدث، وللوجود البشري، ولتأويل كل الأحداث التي أقدّمها أنا. المكان بأبعاده الواقعية هو لغة تقربني من الناس، لأنني لا أميل إلى تغريب المشاهد، ولا إلى إلغاء حواسه وخبرته، بل بالعكس أحاول أن أجعله قريباً من خلال تقديم مَشاهد سبق وإن عاشها أو أحبها أو تعرف عليها. وكل عرض له مكانه وزمانه الخاص، ومع ذلك أعتني بتفاصيل المكان، وأميل كثيراً إلى الأمكنة المظلمة والمنزوية إلى حد ما، كما في مسرحيتي ترنيمة الكرسي الهزاز، وبير وشناشيل، وهذا يعني أنني لا أرى الحقيقة دائماً في الضوء، ولابد من البحث عن أبعادها المخفية عن البصر.
• اكتشاف النفس والتجربة
• لقد صرحت غير مرة بأنك لست المبدع الأول، والمبدع الأول من وجهة نظرك هو الممثل. هل لك أن تعزز هذا الرأي؟
- الممثل عندي هو فكرة قبل أن يكون شخصية تحمل اسماً. كما أنني أعتقد أن حرية الممثل على المنصة هي أرقى كثيراً من تصور فردي واحد لأنه كلما ازدادت التصورات، وتراكمت الخبرة، كلما ازدادت صعوبة ومتعة المشاهد، لأن المشاهد لا يقف أمام خبرة لفرد واحد، وإنما أمام خبرات، فلهذا يتعب المشاهد، ويجتهد ويتأمل من أجل اكتشاف تركيبة الخبرات، ثم يبدأ هو بإلقاء خبرته الذاتية وقراءة العمل بصيغة إبداعية. ولهذا فإن كثيراً من الأعمال ملكت صدى أكبر مما كنا نتوقعه لأن ارتجالنا لم يكن محدداً بنموذج ميت، وإنما بنموذج متحرك دائماً. ومن هنا تبدأ قدرة الممثل. وأنا في تصوري لا أمتلك ممثلاً ما لنموذج ما، بل أمتلك ممثلاً يستطيع أن يمثل كل الأدوار، وأن يجسد جميع النماذج، وكأنه يقدم نفسه وخبرته وتجربته للواقع وللنص وللرؤية الكامنة ككل من أجل أن يفجر ذاته، ويهب ذاته للآخرين، لأنني أعتقد أن المسرح هو أن يهب الفنان نفسه لإسعاد المشاهد الذي ينتظر منه لحظة الإدهاش والفرح والاكتشاف. الاكتشاف طبعاً هو الأساس، لأنه كلما تبحث عن اكتشاف شيء ما، كلما يكون طريق العمل واضحاً ومدركاً ومحسوباً، ولهذا نبدأ كلنا رحلة اكتشاف النفس والتجربة، واكتشاف المعادل الموضوعي والمكان.
• النموذج الداخلي المحمول
• لديك نظرة خاصة إلى المشاهد بوصفه عنصراً متفاعلاً مع العرض ومشاركاً فيه، هل لك أن تتحدث لنا عن ( فن المشاهد ) كما يسميه برشت؟
- قبل ذهابي إلى ألمانيا للدراسة، وحتى بعد عودتي منها، كنت أبحث في منهج برشت الإخراجي. أتذكر وقتها ما قاله أستاذي والمشرف على أطروحتي عندما أعطاني رزمة كبيرة من الورق قال: هذه ساعات طوال تحدث فيها برشت مع الممثلين في أثناء التمارين، وعليك أن تدرسها لكي تكتشف من خلالها طقوسه الإخراجية. أنت تعرف أن لغة برشت معقدة، واللغة الألمانية معقدة أيضاً، فكنت أقف أمام الجملة الواحدة طويلاً حتى أفهمها. وبعد الانتهاء من قراءة هذه الأوراق والتعمق فيها وتأملها اكتشفت أن برشت كان يطمح لخلق فن جديد اسمه ( فن المشاهد )، وأن المشاهد يجب أن يكون هو المبدع الخلاق، وكما تعرف أن حالة الإبداع عند الإنسان المشاهد هي هدف أي فنان من فناني المسرح، ناهيك عن أن الفنان يتمنى أن يفجر في أعماق المشاهد القدرة الإبداعية التي لا تقف عند حد. وهنا تبدأ المعادلة وهي: كيف نفجر نحن المسرحيين القدرة الإبداعية داخل المشاهد. فاكتشفت بعد قراءة هذه الأوراق أنه لم يقم أي متخصص بدراسة هذا الجانب أو الالتفات إلية، اللهم إلاّ إشارات عابرة، أو شذرات هنا وهناك لم يتمعنوا بها طويلاً. هنا انتهى دور بريشت، وبدأت أنا في بحثي حول كيفية تحويل المشاهد إلى مبدع. فحتى يتحول المشاهد إلى مبدع عليه أن يتحسس، ويتألم ويشعر ويفكر ويلعب ويرقص ويغني ويحدو ويرجع بذاكرته إلى الوراء، ويحلق من المسرح والمكان والفضاء. بدأت عمل شيء اسمه النموذج الداخلي المحمول في عقل المشاهد عن الواقع والحياة والخبرة والوعي. في بعض الأحيان كنت أعول على الوعي، بحيث عندما أعرض مسرحية أراهن على أن المشاهد سيفهم هذا النص، خلافاً لمشاهد آخر أو قارئ آخر لا يفهم النص. هنا لا أريد أن أضع نفسي في يد الرقيب، وإنما أضع نفسي بيد حرية المشاهد. المشاهد غالباً ما يأتيني بخبرة أنا لم أستوعبها، فأتعلم هنا من المشاهد الذي تفجرت في أعماقه أشياءً كثيرة. وهنا يلعب النقد دوراً مؤثراً جداً. فعندما يأتي أمامي مشاهداً ذكياً فانا أعتبره معياراً لي، لأنني أستطيع أن أتلمس هفواتي من خلاله. وعندما لا يفهم شيئاً مما أقدمه فالخطأ ليس في الناقد أو في المشاهد، وإنما الخطأ فيّ أنا، فيتوجب عليّ أن أعيد تجربتي وخبرتي وعملي مع الممثل الذي أعده المبدع الأول. في كثير من الحالات كنا تقرأ دراسة نقدية متفحصة، فنبدأ بعد هذه القراءة بتحليل النص، وكأننا نقرأه من جديد. ومن بين النقاد الذين أثاروا هذا النوع من التأثير أذكر بكل أمانة د. علي جواد الطاهر وياسين النصير و علي مزاحم عباس. بعض النقاد كانوا يرجون الواقع بكتاباتهم، وأولئك النقاد هم الذين ينقلون صدى رسالة المسرحية للقراء. في التمرينات بعد العرض في اليوم الأول أو الثاني أو الثالث تستمر التمارين لأنني كلما ألتقي مشاهداً يحمل صدى معيناً فأنا أحاول في اليوم الذي يليه أن أحمّل المشاهد الجديد صدى أكبر. نجحنا في بعض الأعمال لأننا كنا نمتلك فرقة مسرحية ومؤسسة، وفشلنا في بعض الأعمال لأننا لم نكن نمتلك فرقة ومؤسسة. إن فريق العمل يتدرب معي يومياً، ونتحاور يومياً، وأحياناً نأتي قبل الوقت المحدد للتدريب لكي نعيد بعض المشاهد، أو نغير كلمة أو إيماءة أو رمز، وأجمل الأعمال هي دائماً تلك التي كنا نتعب عليها، ونعيد إنتاجها، لأن الممثل الذي يعتقد أنه وصل الذروة في عمله، فهذا ممثل مُستهلك، وقد يتحول إلى ممثل سلبي، وهنا ينتهي دوره كمبدع. نحن كفرقة مسرحية نعتبر أنفسنا من المتمتعين بالإبداع جداً، وكان العرض يخيفنا لأننا نخشى أن نتحول إلى لحظة ميتة في ذاكرة المشاهد الثالث أو الآخر أو المجهول، فيجب علينا أن نعمل وأن نقرأ واقعنا من جديد، ونعرض عرضاً يحمل الصدى الذي تحدثنا عنه قبل قليل، الصدى الاجتماعي وصدى الخبرة وصدى الحوار، وهذا الحوار قد يكون حواراً في المقهى أو في البيت أو في الفرقة أو في الطريق أو في مقال في صحيفة أو في خبر سياسي. وفي كثير من الأحيان قد تستفزنا كلمة في مقالة وتحفزنا بالنتيجة للعمل. اكتشفت انه من دون مختبر مسرحي لا يمكن للمثل أن يبدع، وعندما يكون الممثل مبدعاً، سيتحول المشاهد إلى مبدع أيضاً، وكلما يكون الممثل ميتاً وحرفياً ومصنّعاً كلما يموت المسرح. كما أعتقد أن الممثل ينبغي أن يبقى ذاتاً، ومن الجرم أن يختفي الممثل وراء النص أو وراء القناع. الممثل يجب أن يبقى ذاتاً حيوية على خشبة المسرح ويشار إليه بكل قوة. إقبال مثلاً كان يشار إليها كإقبال نعيم على خشبة المسرح، ولكن هذه ( الإقبال ) عندما تجسد هذه اللحظة تصبح شخصية المسرحية، ولكنني أرفض ألا تكون هي. يجب أن تبقى الممثلة هي أمامي مبدعة وخلاقة لخبرة أو تجربة إنسانية تقدم في هذه الليلة عرضها المبدع. في بعض الأحيان لا يكون الممثل مبدعاً، ويشعر بأنه فاقد للحيوية والتواصل والإثارة وأنه ليس مبدعاً في النص. المختبر هو الذي جعلنا نثير هذه الأسئلة، وأن نعيد البحث في النص والأداء والمكان والمشاهد والفضاء. لهذا تركت مسرح العلبة وهشمته وغادرته، وهذا لا يعني أنني لم أنتج مسرح علبة. كلا، أنتجت مسرح علبة، ولكني غرّبت داخل مسرح العلبة. فعندما آتي إلى الطبيعة كنت أغرّب الطبيعة بوجودي، وعندما آتي إلى المسرح كنت أغرّب الطبيعة على المسرح. وتغريب الواقع على المسرح بوجود الممثل الحي يخلق المسافة المتباينة بين الشخصيتين. هذا الجانب المختبري الذي سعيت به يشكل نوعاً من التوجه الأساسي في بحثي عن المسرح الشعبي أو مسرح الذاكرة الجمعية.
• خارج الرهط
• من خلال حوارنا هذا ذكرتني بغروتوفسكي، لأنك تحدثت عن نقطتين مهمتين وهما ( المجابهة ) و ( اكتشاف الذات ). وهاتان النقطتان قد عرّج عليهما غروتوفسكي من قبل. هل لك أن توضح لنا أوجه التقارب والتنافر بينك وبين غروتوفسكي؟
- عند غروتوفسكي المسرح قائم بذاته ولذاته ولوجوده ككيان وكخبرة، أما أنا فالمسرح بالنسبة لي قائم بالواقع والحياة والمجتمع، وكل مشاركة فعلية هي مشاركة داخل الحياة الاجتماعية، وليس المشاركة في الطقس. أنا قد استثمر الطقس والموروث، وقد أستثمر الأسطورة والخرافة، ولكني لا أهدف إلى قلب الخبرة المقدمة عن واقع المجتمع وحياته المشتركة. غروتوفسكي يأتي لكي يبعدك عن الواقع في عالم تجربته الذاتية. أنا أحاول أن أبعد المشاهد من المسرح إلى الواقع عبر نفس روحية المشاركة مع التجربة. أنت تأتي لكي تجعل من هذا الإنسان المشارك إنساناً مشاركاً في الطقس، وأنا أريد من هذا الإنسان أن يشارك في الحياة. المهم أنني أجعل من المشاهد إنساًناً واعياً لذاته خارج الرهط الذي جاء إلى المسرح. أي أنهم يأتون جماعات ويخرجون أفراداً مع تجربة مختبرية واعية وجيدة.
• ألوان متعددة
• ركزت كثيراً على النص المحلي المشبع بالروح الشعبي وجعلته محوراً لاهتماماتك اللاحقة، وأكدت في كثير من حواراتك بأن الروح الشعبي هو بنية من بنى الثقافة العراقية. هل تريد القول بأنك تسعى لخلق نموذجك الفني من داخل تركيبة المجتمع العراقي. وهل تعتقد أن المؤلف المسرحي العراقي يمتلك خصوصيته وفرادته في الرؤية والتناول وطريقة المعالجة؟
- إن مفهوم الشعبية عندي هو أن تجعل من الإنسان الفرد مدركاً لحياته الاجتماعية داخل المسرح فيتحول الرهط إلى فرد واعٍ ضمن كيان مجتمعي إنساني يتفاعل مع وجوده في الحياة، وليس من مهمة المسرح أن يخلق الرهط، وليس هدفه أن يجعل جميع الأفراد يخرجون بلون واحد. أنا أريد أن يأتي مرة دفعة واحدة ويخرجون بألوان متعددة، لأن الإنسان الذي يخرج من المسرح وقد أدرك ذاته ومهمته الاجتماعية سيصنع شيئاً، أما الإنسان الذي يُغيّب ويؤدلج سيخرج كفرد لم تصل إليه الرسالة. هنا أنا أسأت إلى الحياة وإلى المجتمع لأنني لا أريد أن تتحول كل هذه المجموعة البشرية إلى فرد، أو يتحولوا إلى شكل من الأشكال، أو ينساقوا وراء نموذج من النماذج التي تُغيّب ذواتهم وأحاسيسهم وواقعهم. أنا أتمنى عندما يدخل أي متلق أو ناقد إلى المسرح أن يكتشف كم هي قدرته الإبداعية، وقدرته على الحياة والعمل والتقدم كونه ذاتاً مبدعة وخلاقة. فعندما يأتي هذا المتلقي وأشعره بذاته وأهميته خبرته وتفكيره وبقدرته الإبداعية فأنني أعيده أمام 50 سنة من حياته أمام خبرة جديدة يتفاعل معها، ويتحاور معها لكي يعيش 50 سنة جديدة في الحياة كمنتج معرفي وحضاري. فكلما حاولت أن تزيد من خبرة الناس وتطورهم فأنك بالتأكيد ستكون قريباً من الناس، وستكون شعبياً، وتعرف همومهم، وتتخيل تجاربهم.
• تفجير الذاكرة
• ما هي طبيعة إفادتك من الحياة الشعبية للناس، وما يكتنفها من عادات وتقاليد وميثولوجيا؟ وكيف تغرّب هذه الحياة الشعبية بحيث تسجل في النص مديات جديدة، أو أشكال جديدة للتعبير على مستوى التمثيل والإخراج؟
- ينبغي على الفنان بالدرجة الأولى أن يلامس خبرة ووعي وتجربة الإنسان ويرتقي بها إلى إشكالية معرفية جديدة. فمن دون ذاكرة المشاهد ووعيه وخبرته وتاريخه لا تستطيع أن تصنع تجربة. فالتجربة التي تصنعها هي بمثابة صيرورة مستمرة من أجل الوصول إلى هدف لاحق. وربما ينبثق سؤال مهم من خلال هذا الحوار وهو : ماذا نريد نحن من المسرح؟ والجواب من دون شك هو أننا نريد أن نقلل من عذاب الإنسان في الواقع، ونريد أن نجعل من الإنسان أكثر فرحاً وسعادة وحباً لهذه الحياة القصيرة الجميلة. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف يجب أن نجعل الإنسان قادراً على الإحساس بهذه الأشياء، وقادراً على صناعتها في الوقت ذاته. وكما يقول بريشت: ( ليس المهم أن نرى كيف يتحرر بروميثيوس. المهم كيف نجعل المشاهد يتحرر هو نفسه. ) أنا عندما أعرض للجمهور تجربة تحرر بروميثيوس فإنه سوف يستكين. ليس المهم أن تعزّز وتركز ما يعرفه المشاهد، بل المهم أن تجعل المشاهد يدرك أشياءً جديدة، لأن معرفة الحياة وإدراكها هي مرحلة من المراحل، وليست القمة. فالإدراك مهم، والوعي بالظواهر أكثر أهمية، وعلينا أن نجعل هذه الظواهر ملموسة ومحسوسة من أجل أن يدرها المشاهد الذي يشترك وجدانياً في مشاهدة العمل والتفاعل معه. إن المفهوم الشعبي هو أن ترتقي بمعرفة الناس عبر الخبرة المقدمة، أو أن تسهم في إثارة خبراته السابقة عبر تجربة إنسانية جديدة تغني تجاربه السابقة وتعيد تساؤلاته في الظواهر الاجتماعية التي رآها.إذاً، عندما يبدأ الإنسان بالتفكير في ماضيه ومستقبله هذا يعني أنك كسبت إنساناً للمسرح. إن العادات والتقاليد والطقوس لم يكتسبها الإنسان ببساطة عبر مسيرته الحياتية، وإنما اكتسبها لأنه يريد حماية نفسه ووجوده من خلالها. أنا لا أكتسب عادة أو أتبنى معتقداً إلاّ إذا كانت هناك حاجة ملحة لذلك. فعندما يأتي المسرح لكي يجادل الخبرة المختزنة، ويقدم الخبرة المتخيلة نكون قد وصلنا مع المشاهد إلى حالة أرقى اجتماعياً. وبودي أن أسوق مثالاً بسيطاً. لقد شاهدت معكم عرض ( رأس المملوك جابر ) لحازم كمال الدين. فالطبل والغناء كان يشكل بالنسبة لي ذاكرة، بينما يشكل العرض البصري ذاكرة ثانية، والمكان ذاكرة ثالثة. وأنا كمشاهد عندي ذاكرة فنية واجتماعية وخيالية. فمع أي من الذاكرات وجدت نفسي. هنا يبدأ السؤال. فإذا كانت ذاكرتي تُستثار عبر الموسيقى فلا بأس لأن أركز عليها. وعندما يفشل المشهد البصري في أن يستثير ذاكرتي فلا بأس أن أعوّل على اللغة والإيماءة. فالإنسان لا يستطيع أن يسترجع أي خبرة أو يبحث في أي إشكالية ما لم تكن ملحة عليه في الواقع أولاً. أنا أحاول أن أسقط كل مفردات الواقع والحياة والبيئة على العرض بصرياً، ولا أتوقف عند ما أتخيله أو أصنعه وأبتكره، بل أبحث وأحفر في ذاكرة الممثل من أجل أن يحفر هو في ذاكرة المشاهد، وعندما يتوقف الممثل عن الاجتهاد ويتعامل مع المخزون والكليشة يموت المسرح، ولهذا ربما تستغرب عندما أقول لا توجد مسرحية تشبه مسرحية، ولكن في كل المسرحيات توجد موضوعة. إن إعادة إنتاج الشكل في موضوعات مختلفة يقودك إلى الموضوعة الواحدة، بينما الموضوعة الواحدة بعدة أشكال تقودك إلى تفجير التجربة، أو تفجير الذاكرة.
• الاكتشاف والتساؤل
• لديك تجربة طويلة في ورشات العمل. ما هي أبعاد هذه الورشات، وما هي إنجازاتها، وماذا تبغي منها؟ هل هي حاجة شخصية؟ وهل تلجأ إليها نتيجة لوجود ضعف في المسرح العربي، ام أنها حالة صحية تؤشر حالة التطور والتحضر في المسرح العربي؟
- أنا باعتقادي أن الورشة هي الشكل الأمثل لخلق مسرح متطور ينسجم مع روح العصر. فحقيقة أنا عندما أذهب إلى أي ورشة، أذهب لكي أتعلم وأعلّم. أتعلّم من فناني ذلك البلد الذي أقيم فيه ورشتي ما أفتقده، وأقدّم في الوقت ذاته تجربتي الشخصية ، ليس للأخذ بها و تحويلها إلى مصدر أو مرجعية، وإنما لمناقشتها، لأنني ضد ن تحوّل الأشياء إلى مصدرية. إن ما يهمني هو البحث والخبرة والتجربة. وهناك هدف ذاتي وهو إعداد جيل من الفنانين القادرين على استنهاض الإنسان من أجل أن يتحرك، ويكون أكثر عطاءً. ثم أنني أريد أن أطرح أسئلة على الجميع من أجل الوصول إلى الحقائق عن جوهر ووظيفة المسرح بهدف تنشيطه لكي يكون جزءاً فاعلاً من ثقافة المجتمع. وكلما اغتنت خبرة المسرح بثقافات وخبرات ووعي شعوب متعددة، كلما عادت بالنفع على مجتمعات هذه الشعوب. أنا أبحث في هذه المختبرات أو الورشات لكي أصل إلى الممثل الذي يكتشف ويبدع، وليس إلى الممثل المُستَهلِك والمستهلَك للدور. أنا أبحث عن الممثل الذي يكتشف ويتساءل، وليس على الممثل الذي ينجز، لأن الممثل الذي ينجز له مرافقه العديدة البعيدة عن الاكتشاف والتساؤل.
• مفتاح الحرية
• هل لك أن تتحدث لنا عن ورشة فلسطين، لكي نأخذها نموذجاً لكل أعمالك المختبرية؟
- ورشة فلسطين كانت عبر نص تم إسقاطه على الواقع الفلسطيني البحت، فكان هدف الورشة هو الحفر في الذاكرة الاجتماعية للتاريخ الإنساني الفلسطيني، أي لذاكرة وحياة الفلسطينيين في هذا الحصار الذي يعيشه، فكانت المسرحية عبارة عن تفجير الذاكرة التاريخية والحياتية والوجدانية، ذاكرة الرغبة في الانتظار من أجل الخلاص. في مسرحية ( ترنيمة الكرسي الهزاز ) كانت القصائد أو الأغاني ذات هم اجتماعي فردي. أما القصائد أو الأغاني هنا في الترنيمة فهي عن مغنية، شخصية فلسطينية، كانت تغني وتستثير ذاكرة الشعب والطبيعة، وتبحث عن هويته ووجوده ومقاومته وقدرته على أن يتصدى للعدوان، ويتمسك بإنسانيته في هذا الواقع، بينما تحولت الترنيمة في العرض الفلسطيني من إستذكارات فردية لحياة ماضية لإنسانة مبدعة إلى إستذكارات شعب يبحث من أجل يكون في حالة خلق وإبداع، لكن الموضوعة العامة، الانتظار، البحث عن الخلاص، البحث عن الحياة، التمرد على الموت، رفض الموت والضياع، هذه كلها موضوعات مشتركة في العرضين، ولكن عندما جاءت الممثلة الفلسطينية بدأت ترتجل الأغنية، وتحفر من ذاكرتها فجاءت كل الأغاني منسجمة مع بعضها لأنها عبارة عن ذاكرة المرأة داخل المجتمع. ولهذا أقول أنا أعتمد على الارتجال، لأنه مفتاح الحرية أو مفتاح للعطاء، ومن دون هذا الارتجال والبحث لا نستطيع أن نصل.
• المخرج في سطور
• من مواليد الموصل/ العراق عام 1945.
• خريج معهد الفنون الجميلة /قسم تمثيل وإخراج - بغداد عام1965.
• خريج أكاديمية الفنون الجميلة – بغداد عام 1969.
• ماجستير علوم مسرح من معهد العلوم المسرحية/ جامعة همبولدت – برلين- ألمانيا عام 1972.
• دكتوراه علوم مسرحية من معهد العلوم المسرحية/ جامعة همبولدت –برلين - ألمانيا عام 1976.
• درّس في عدد من الجامعات العراقية والعربية بين الأعوام 1977 و1991.
• شارك في العديد من المؤتمرات والمهرجانات والحلقات الدراسية العربية والعالمية بين الأعوام 1972 و2001.
• المسرحيات التي أخرجها د. عوني كرومي:
• أخرج أكثر من خمسين عملاً مسرحياً نذكر منها:
• فطور الساعة الثامنة، في منطقة الخطر، كاليكولا، غاليلو غاليليه، كريولانس، مأساة تموز، القاتل نعم القاتل لا، تداخلات الفرح والحزن، فوق رصيف الرفض، الغائب، حكاية لأطفالنا الأعزاء، كشخة ونفخة، الإنسان الطيب، صراخ الصمت الأخرس، ترنيمة الكرسي الهزاز، بير وشناشيل، المحفظة، المسيح يصلب من جديد، الصمت والذئاب، عند الصلب، في المحطة، الشريط الأخير، المساء الأخير، الطائر الأزرق ،أ أنتيجونا، فاطمة، السيد والعبد.