أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صالح محمود - أسطورة التأله الجزء السابع















المزيد.....



أسطورة التأله الجزء السابع


صالح محمود

الحوار المتمدن-العدد: 2256 - 2008 / 4 / 19 - 06:50
المحور: الادب والفن
    


انبجاس الجحيم
ثم تناهى فجأة نشيد الضّواري بأصواتها الأجشّة، الخشنة الأبحّة من أثر الصلابة والقسوة كالمطر أول إنهماره. و ما فتئ أن تصاعد و تعاظم، سرى في الفضاء و تفاقم، ثم اشتدّ العسف و القصف، امتدّ و احتدّ حتى غمر الجبال، الربى و الهضاب، الوهاد، السهول والشعاب مما جعلها تردّد صدى أناشيد احتوت أغاني فرعون المهترئة الرتيبة، و بخّرتها كتبخّر زبد البحار المتهيّجة، و طغت بما فيها من نشاز و ضروب الاستفزاز. فطغى رهاب فرعون وقد كان فيما مضى يخفيه بما له من ازدواج و انشطار، طفق يقوم بحركات بهلوانية من قفز وتدحرج، سجود و وقوف على الرأس و اليدين، و بين كل ذلك يخرج اللسان للضواري ويهش عليها بالخازوق، ثم يضحك ضحكات هستيرية اكتئابية في مسعى منه للحفاظ على النجومية.
هاهم الوحوش يتسابقون إلى قمم البراكين كسباق أهل الصحراء إلى ما برد من ماء، و قد ثار الغبار و عم، فعتم الفضاء و اغتم. اهتزّت الأرض تحت وقع أقدامهم، و رجّت الجبال و ارتجت لاقدامهم، و النسور فوق رؤوسهم ترشدهم حين كانوا في متاهات دروب البراكين الصعبة ومعابرها، حاملين الفؤوس، المعاول و الشواقير.
نظر تاكفاريناس إلى صديقه متسائلا :
- أليست البراكين مشحونة بالنار ؟
- ألم يبلغك نبأها، إذ قيل أنها أم الوجود.
- أتعني أن الحياة لم تتبلور كحياة بما فيها من ضوء و ألوان، خضرة و جنان إلا من خلال البراكين ؟
- لعل الحياة انبثقت من بين ثنايا الجحيم، حدق في الفضاء ألا ترى الشموس يخترق نورها طبقات السواد الكثيفة السميكة، هلم بنا الى قمم البراكين لا بد أن يدك الجحيم ويطمر.
- و لكنه جحيم ؟
- هل تراه جحيما، إنه مبتذل، انبنى على التوحّش !!
- أرساه مرتدون ؟
- بما فيهم من زيف و تمويه.
- إذا نحن في جحيم الفوضى !!
- تاكفاريناس، أيهما العرض العارض و الجوهر الخالص، جحيم الفوضى أم فوضى الجحيم؟
- جحيم الفوضى لأن فوضى الجحيم تمثل الأبد، الأزل، فالجحيم لا يمثل مقياسا للنظام بأي حال من الأحوال.
- أتعني أن الفوضى فوضى حقا؟
- بلى يا صديقي، لأن الكائن البشري يسعى إلى التألّه.
- فالجحيم كما تراه أنت لا يفنيه الفناء على الرغم من أنه فوضوي ؟
- بلى فهو من إنشاء الإله.
- فأي معنى للجحيم إذا كان جوهره فوضى ؟
- سيتآكل و يفنى لأنه يخلو من التصميم، موغل في التوحّش.
ثم أردف تاكفاريناس في حيرة :
- و لكن هذا العقاب يا صديقي ؟
- قد يكون الجبن و القبح من سمات الكائنات المتوحّشة ؟
- أيعني ذلك أن الإله يشعّ على الكون بأسره بمعزل عن الأطر؟
- بلى يا صديقي، انظر إله النور و بقية الشموس !!
- و من طبعوا بطبوع الجبن و القبح سينصهرون عنوة في مسارات التألّه ؟
- بلى، فقد تأصل فيهم التوحش، بما فيه من تمركز على الذات. وصاروا عميا صما لا يفقهون، و الانصهار عبر الجحيم.
- هذا يعني أنهم سيعودون إلى التجسّد عبر الهياكل، و لذلك تسعون إلى تصحيح المفاهيم ؟
- ألا ترى أن ذلك أسلم، فالجحيم مرتبط بالجنة.
- و أين الجنة ؟
- هذا يرتبط بالجحيم أصلا، فإن كان هناك جحيم كانت هناك جنّة لأنها تولد من رحمه.
- و لم لا تولد الجنة و تنشأ عبر السحر ؟
- ستكون جنة سحرية، فاقدة لكل جذور و أصل، سريعة الزوال.
ثم أنهما إنطلقا يحثاّن السير للإنضمـام إلى جموع الخـلائق و هي تتصاعد و تسري كالداء في الأعضاء، تشدو، تتبجّح و تتشدّق.
و في الطريق اعترض سبيليهما مشهد عجيب غريب، قال فارس ووجهه يفيض إشراقا و نورا:
- انظر هناك، إنه الدرة !!
كان يشير إلى صبيّ قد تعلّق بخيوط الشمس المضيئة، صـاعدا إلى قرصهـا و والده يبكي و يتضرّع، جاثيا على ركبتيه على الرمال المتحرّكة المصهورة يدعو ولده قائلا :
- أي بني، لا تفعل ستحرقك الشمس، محمد لا تتركني وحيدا بحق السماء !
فيجيبه محمد و هو يتسلق أشعة الشمس رابط الجنان وضاء الجبين قائلا :
- لا تخف يا أبي، سأنصهر في أشعة الشمس، و أصير نورا. هلم معي.
إلا أن والده انكفأ و قد وضع وجهه بين راحتيه و طفق يبكي بصوت عال و يذرّ التراب، مما جعل تاكفاريناس يقول وهو يشعر بالشفقة عليه والحنو :
- و هذا الأب الشقي ؟!!
إلا أن فارس تبخّر بين الزحام، و غاب في ثنايا الغبار و الغمام. وعن بعد لاح ليث وهو ينضمّ إلى الخلائق الصاعدة و صوته يتعالى بشدو كشدو الملائكة و هو بين أسراب السباع من لبؤات و أسود، نمور و فهود. و لما خف تاكفاريناس إليه ليحضنه و يحميه من تلك الجيوش الجرارة كالعيون الفوارة كان الأوان قد فات، إذ فاضت معابر الجبال بالخلائق التي باتت تتدفّق أفواجا في شكل أسراب كالحجيج يوم عرفات، و وجوهها مشرقة، مرفوعة الهامات، خالية الظهور من الاحتدابات، مؤمنة بالقدر المحتوم مندفعة إلى الحميم كالنار في الهشيم، منسلخة عن الجحيم بما فيه من توحّش سقيم.
هاهو سرور الخلائق ينشأ و يتفتح كبراعم الزهور والورود، حين تتجاوز الوعث والغبار، الفناء بما فيه من شحوب واصفرار. و تنفذ إلى السماء و قد امتزجت فيها الزرقة بالصفاء والنقاء حتى صارت أفلاك المجرات و هي سابحة في الفضاء، كالجواهر جمالا و بهاء. ولا تفتأ الخلائق تحدق في الشموس بأشعتها البيضاء.
هاهي ذي الوحوش تتسرّب من خلال الأرض المالحة الشعثاء القاحلة القفراء، فتدوس على كائناتها المتوحّشة من ملح و أشواك، أفاعي و عقارب، خفافيش و عناكب ضاربة عرض الحائط بنعيق البوم و نعيب الغربان.
تصاعدت الضّواري على قمم البراكين و أصواتها مزمجرة، و أفواهها مكشرة، صارة الآذان متقدة العيون، تنبئ بالويل و الثبور و فضائع الأمور بما في ذلك من هذيان و جنون. تختال و تتبختر و هي تستعرض ما لها من قوة من خلال عضلاتها التي خلت من الشحوم والدهون، فتقفز كالراقصة و تحلق كالسابحة.
أما تاكفاريناس فقد أخذه التيّار، ساقه و هو يتخبّط في لجة المندفعين اندفاع الضمآن الولهان أو الفارّ، سار حتى أشرف على القمم، و حين صوّب نظره إلى الصحراء لاحت في شكل لجّة تيار قوي عاصف في شكل لولبي مشحون بالغبار، قد تهيّج و ثار، و الصحاري مسيّجة بالجبال. و لا تفتأ الشمس تصبّ فيها اللهب، فتضرم فيها النار. إذاك عجب تاكفاريناس من قدرة الخلائق على التنفس في البراري، ثم أنه أجال النظر في الخلق و تفرّس في الوجوه و حدق عله يظفر بفارس و لكن بلا جدوى. أجال نظره إلى ما وراء الصحاري و خارج أسوار البراري والجبال، إذ رأى و ما أروع ما رأى و أبدع، بحار أنيقة بزرقة فتانة رقيقة، ترسل أمواجها الهادئة نسمات ندية رفيقة فتغمر البشرات و تداعبها. وتبحر في البحار سفن شراعية بكل حريّة، تدفعها رياح قوية، و يتحكّم في سيرهـا بحارة و هم خلق تميّزوا بالجرأة و الشجاعة، القوة و الذكاء، العزم و الإصرار مما جعل البحار تنحني لهم، فتنزلق سفنهم على ظهورها انزلاق الهواء في الفضاء، ترتاد المدن و القرى، البلدان و الأوطان، الأمم والأمصار مهتدية بالمنارات التي انتصبت في أطراف البحار.
هاهم البحارة ينعمون برفق الماء و رطوبته، لذته و عذوبته، فيشربون منه حتى الثمالة، ثم يغوصون فيه مقلّدين الأسماك و هم يضربون بأيديهم و أرجلهم الماء فيتطاير في شكل رذاذ مما يبعث الزهو و الانشراح في النفوس، و يشفي كل مريض مهوس. و لا يفتأ البحـارة يضجّون في لجج البحـار و هي في ساعة ودّ و صفاء، إذ يستبيحون عرضها ويهتكونه، يعكّرون صفوها و يشوّهون حسنها مما يجعلها تحتجّ احتجاج العبيد، تصرخ صراخ النسوة فتستيقظ الريـاح من غفوتهـا و تثور، ترسل العواصف والأعاصير على إيقاع ما تثيره البحار من نواح و عويل، حين يسلبها البحارة المرجان والمحار. تهبّ العواصف غاضبة، محمرّة العينين في هياج، دافعة جبالا من المياه في شكل أمواج، تعصف بتلك السفن الشراعية وتلقي بالبحارة في البحار، فيغرق من لا يحسن الغوص أو من يدّعي القدرة على الإبحار، و ينجو من يحسنه. و أمام الرياح الهابّة من كل حدب و صوب، العاصفة القاصفة، المولولة كزغردة النسوة في الأفراح الناسفة، انبرى البحارة يفكرون في ركن من أركان السفينة، يقلّبون الأمور على كل الوجوه، و بعد لأي اهتدوا إلى إمكانية تحديد مسارات الرياح و تطويعها لخدمتهم و سمّوها تيارات، فاخترعوا البوصلة و حدّدوا الاتجاهات، و صارت الرياح كالبغال تجرّ العربات.
هاهم البحارة يقيمون الجزر و هي كالواحات في الصحاري ولكن هيهات، إمعانا في استنزاف خيرات البحر الوفيرة العميمة و التمتّع بها. ثم أنهم جلبوا أبناءهم و نساءهم و ضربوا الخيام على الشاطئ وهو الخط الفاصل بين اليابسة والماء، فتراكض الأطفـال لاعبين ضـاجين، ثم قبعوا على الرمال يشيّـدون القـصور و القلاع، يحفرون الآبـار و يهيؤون السواقي. هـاهي النسوة تنزعن ملابسهن و تنفذن إلى الماء و أصواتهن تترقرق في حلوقهن بالغناء. هاهن يغرفن في راحتهن الماء، ينضحنه على أجسادهن فينساب سائلا مرنـا يلين بشراتهن و ينعم شعورهنّ و هنّ مستلقيات مسترخيات تحت أشعة الشمس الذهبيّة.
ثم أن تاكفاريناس ثاب إلى رشده و أفاق من شروده و هو بين الخلائق القائمة كقيام الناس يوم الحساب، و سعى إلى شأنه باحثا عن فارس، مناديا إياه بصوت عال، لكن صوته تشتّت في الفضاء، انتثر، اضمحل و انتفى، إذ تناهى إلى الأسماع فوران و غليان البراكين سابقا للهيجان. إذاك بدأ ما ران من جليد على قممها في الذوبان و السيلان في المعابر و عبر الدروب الممزوجة بالطمى و الطين، الحصى و الطوب معلنة عن يقظة البراكين بعد سبات وخمود، و بعثت في الفضاء غازات في شكل أدخنة مشحونة بالرماد سوداء سرعان ما تصاعدت كأعمدة الأعاصير، و تحوّلت إلى فقاقيع عظيمة منتشرة متفاقمة، غمرت قبة السماء بستار سميك من السحب، فأطبق الظلام منذرا بالكوابيس والأحلام، غمر الصحراء التي توشّحت بوشاح السواد لما تهاطل عليها من أمطار ممزوجة بالرماد، و بذلك انبجس الجحيم، بعد أن كان مدفونا في الصمت البهيم.
إذاك سرى في المخلوقات الواهية الضعيفة الرّعب، فزعت وارتاعت، اضطربت وصاحت لما ايقنت بأن السماء ستطوى عليها كطي الكتاب والأرض، ترنحّت و تعثّرت، تهـاوت و خرّت صرعى كالسكرى حين هدرت البراكـين و دمدمت، مردت و قعقعت كفلق الرعود، فتزعزعت الأرض و ارتجّت، خلخلت و اهتزّت على إيقاع أناشيد الخلق وهم يوسعون فوهات البراكين التي تطاولت على الخلق و تكبّرت، قست وتجبّرت، تنفّست كتنفّس البحار حين تهتاج و تثور، فأرسلت ريحا عقيما، يزفر زفيرا في شكل دوائر لولبية مشوبة بلهيب أصفر كالفحيح ما تذر من شيء إلا جعلته رميم.
إذاك آوى الإنسان إلى سرادقه، و الفئران إلى مغاورها و الجرذان، الطيور إلى أوكارها، الذئاب و الكلاب إلى أوجارها، الضباع و الخنازير إلى الغيران مصحوبة بالغزلان وهي شاخصة و عيونها جاحظة، و أذهانها ذاهلة، و قلوبها واجفة ساعية إلى النجاة بالفرار والتخفي، و ماهي إلا برهة حتى أخذتهم الصيحة وهم في مآويهم جاثمين، أعقبتها الرجفة إذ دوى إنفجار كالإنشطار بما فيه من قوة وإبهار، تصدّع و انهيار، تفتّت وانهمار. و فتحت أوطاب السماء بالحمم التي تقاذفت في السماء في سباق، مختالة في ثوبها الأرجواني القاني، متصاعدة كنوافير الماء، فتنير الأجواء. تمطر الجحيم بصخور مصهورة تندفع سائلة متدفّقة على السفوح هابطة إلى الجحيم كالدماء، وطفقت تفيض على فوهات البراكين التي لا تفتأ تشتدّ رحاها و رغاها، صولتها و سورتها، وفيرة غزيرة نار تلظى، تبعث النور في دياجير الظلمة و الحلكة، حاملة في قلبها النابض بالدفء الماء، و تسري على الأرض الرملية دفقا دافقا كالفيضان أو الطوفان، نافذة إلى أعمـاق الجحور و الغيران، حارقة الجذوع و الأغصان، مدمّرة النصب و البنيان، مرعبة كل هيّاب جبان.
و يشتدّ بالخلق الخطوب والكروب، الفواجع و المواجع إذ يرون العذاب فيلطمون الوجوه، و يضربون الصدور و يعفرون بالرماد الشعور، هذا فضلا على ذر التراب و إثارة الفوضى و الغبار بعد أن تقطعت بهم الأسباب. و يعلو النحيب و النديب، العويل كالمواويل، البكاء كالعواء، يستغيثون طالبين العطف و الرأفة، الصفح و الرحمة و قد أطبق عليهم فكّا التوحّش والقسوة، حينها كانت البراكين تزبد و ترعد بالكائنـات الممشوقة المسحوقة، الغضّة الطريّة، الواهيـة الضعيفة، و تنصبّ عليها انصباب الوحش على الفريسة، تصليها الحميم وتريها الجحيم.
هاهو النشيج يشتدّ و البكاء، الثغاء و الرغاء يتصاعد في الفضاء كغيوم سوداء تبعث في النفس النفور و التقزّز، و تدفع المرء إلى التقيّؤ، إذ لم تستطع تلك الأجساد درأ الفناء عن نفسها، فهي ليست من الصلابة والقوة ما يجعلها تصمد أمام الصهارة إذ كانت من الرّخويات الرّخوة، فيسمع لتلك الكائنات الليّنة الهشّة، انهيار و خوار ممزوج بالدموع والغصّة، و تفوح رائحة الشواء تنتشر في أرجاء الصحراء، و التي تحولت إلى مجار للحمم الحمراء وسواق، جداول و أنهار، مندفعة نحو مركزهـا حتى إذا مـا اتّصلت ببعضهـا البعض وتمازجت كوّنت غديرا، و البراكين في تلك الآونة تزداد غليانا و هيجانا، فورانا و فيضانا، وهي تهرق الحمم الحمراء المضيئة في تلك الظلمة و الديجور حتى صارت بحيرة طافحة فائضة على قمم الجبال تمور، متموّجة ملتهبة متبخّرة بالغازات، تشرف على البحار.
آنذاك هدأت صولة البراكين و سورتها، هيجانها و ثورتها، و خفتت أصواتها الصلبة القـويّة المرعبة. ولى الـليل كطيـف مريع، إذ تبدّدت السحب الداكنة و تلاشى الدخان الكثيف، تبخّرت الغازات الحارقة الحـادة، اضمحلّت الأغشية و ظهر وجه الشمس الفتان بهالة نورها وقد التفّت به كالبرقع. بينما ألفى تاكفاريناس نفسه واقفا على فوهات البراكين يحدّق باهتا شاخصا ذاهلا، و قد كان قاب قوسين أو أدنى من التهاوي والسقوط مغمى عليه. لاحت أمامه بحيرة الحمم نزلت مكان الصحراء ملتهبة حمراء، سرعـان ما اسودّت و اربدّت، يبست و تصلّبت، حتى تشقّقت متحولة إلى كتلة صخرية متفحمة سوداء.
أسطورة التأله
تقدم تاكفاريناس و قد غمره شعور بالرهبة و الريعة، ليطأ تلك الصخور الغريبة في ريبة، و ما إن لامستها أقدامه حتى سرى السراب من جديد في شكل أمواج و الذي لم يكن سرابا بل ماء تفجّر في شكل عيون فوّارة و ينابيع كالنوافير.
ثم أن هالة من الإعجاب قامت في السماء ممزوجة بالاستغراب، تعالى الترحيب والتهليل، و ترامت في الكون أغنية التألّه، بترتيل الأوراد على محرابه حين سرى، إذ طفا المغناطيس، ظهر أزرق في لون السماء، غمر الأرض و طغى.
انتبه تاكفاريناس إلى ما في الفضاء و يا لغرابة ما رأى، الشموس والأقمار، النجوم وبقية الأجرام السماوية تنظر إلى الأرض في عشق وغرام، فتنة و هيام، تبتسم لها و تهنئها بالخلاص من أغلال التوحّش وأصفاده، ثم طفقت تترنّم لها بتسابيح كالشدو، يرتدّ صداها في اللا نهاية، تغمر السواد فتبخره و تبعث في الوجود الصفاء، آنذاك تهتزّ الأرض وتسمو، تعلو و تتصاعد كبقية الشموس المضيئة، و التي رسمت بأنوارها أشكالا تمجّد الإله الجديد و تخلّد ميلاده، وهي تبدو في أوج إشراقها وإشعاعها حتى لكأنها أضواء كاشفة ساطعة. و لا تزال تلك الكواكب في فرحتها بارتقاء الأرض إلى مراتبها وهي في ضحك كثير و نبيذ حتى مطلع الفجر لما انكدرت، آنذاك طلعت الشمس ساطعة قاسية، نارها طافية لظى حائمة، تسعى للعصر والهصر كعادتها مع الصحاري الخاضعة الخانعة، حين لاحت الأرض في أبهى صورة من الجمال و الكمال، إذ تبدّت تختال بحلتها الأنيقة الشفّافة الرقيقة من خلال المغناطيس الذي طوقها و تغلغل في أعماقها بعد طفوه و ظهوره للعيان وضّاء وضّاحا. أنشأ طبقة سميكة من الغازات الزرقاء، ارتدت آنذاك أشعة الشمس الملتهبة على عيني الشمس البازغة و كادت تعميها و التي أصيبت بالفزع، الذهول و الهلع، الوجف، الخلخلة والارتباك. ترنّحت وكادت تتهاوى وهي تشعر بالذهول أمام جمال الأرض و ألقها عبر مغناطيسها الذي سرى في الأجـواء و كاد يلامسها و يحرقها، فتستحيل الشمس كتلة سوداء مكوّرة، لولا أنها انسحبت مصفرّة الوجه، خافقة القلب، مولية الأدبار متقهقرة، تجرّ أشعتها الحادّة كالأشواك و تتوارى وراء الفجوات السوداء، يخيل إليها أنها في مأمن من أنوار المغناطيس التي تراقصت في شكل أطياف جميلة، لا تفتأ تتدفّق متفاقمة، مندفعة تغمر الكون و تملأه، محتوية إياه.
مشى تاكفاريناس كالغائم أو الذاهل، و ضباب أبيض ينشأ نشـأة الغمـام و يتكثف وما هو بضباب، بل هو رذاذ ماء رسول العوالم من بحار و جبال، سهول و هضاب، أودية وأنهار، روابي و تلال تقدم القرابين و تنشد آيات الخشوع و تسابيح الخلود عبر التهاوي والسجود على أقدام الأرض وهي جالسة على عرشها. خرّ الرذاذ و هو يتكثّف ممـا جعـل الأجواء تهـدأ و تتلـطّف، و العواصف و الأعاصير تضمر، تتشكّل وتتحوّل إلى نسمات رقيقة تضع على رأس الأرض تاج الخلود طابعة على جبينها القبل، ثم جاءت شموس بمختلف الألوان و أطلّت من كل المشارق لتبسط على الأرض حلّة الجمال عبر نشأة الأدغال.
لما انتثرت قرابين العوالم مذبوحة على هياكل الأرض، طفقت تتفتّح بعد أن انبجست و بزغت، انبسطت لتحيل سواد الصخور البركانية والذي تفجّر من بين فجواتها المياه الصافية النقية العذبة الشهيّة، إلى ألوان نضرة بهيّة، و عبقت روائح فواحة شذيّة.
لما استبطنت الأرض النجومية بعد أن حقّقت الألوهية، سبحت في الفضاء اللانهائي عالم الخلود، فوقف سكان الأقمار و الكوكب الأحمر وبقيّة الأجرام السماوية المتصحّرة الجرداء الخالية من الماء ذاهلين شاخصين، غائمين واجمين وهم فاغرو الأفواه أمام جمال الأرض و فتنتها، بهائها و أناقتها و قد غمرها المغناطيس الأزرق حاميها من الفراغ الأسود الحارق، مجلّلة بالهدوء والوقار، الجلال و الإبهار، تبعث في الكون بأنوار كبقيّة الشموس، النجوم و الأقمار، تخطف الأبصار، صارت منارة تهتدي بها كائنات الفضاء في الانسلاخ عن التوحّش و الارتقاء إلى الألوهية.
لما صعدت الأرض إلى أعالي السماء شعر سكان الأقمار، الكوكب الأحمر، وبقية الكواكب الأخرى بالرعب يخلخلهم فيرتجّون لذلك ويرتجفون و هم يرون الأرض تتبدى أمام أعينهم الحمراء قوة هائلة جبارة، قد استلهمت الجمال من المغناطيس زرقاء، لقد رأوا الماء الذي شكله الإنسان وفق مزاجه، و الذي لا يركن إلى قرار، في أوعية سماها محيطات وبحارا، أودية و انهارا، هذا فضلا على ما يخزنه في البحيرات والآبار، ثم صار يتنفسّه بتحويله إلى غازات سابحة في الفضاء أو ثلوج بيضاء تمثل صحاري الماء.
لما خلق الإنسان الماء ضمن التحكّم في كل سلوكاته، بإنشاء نظام الدورة المائية، وبذلك حـافظ على كل قطرة منه، بل أقـام عبر هذا النـظام الحـدائق و الجنان، الحقول والبساتين، الغابات و الأدغال و لم يشتك عبيده من الضمأ يوما و القحط. كما خلق الجاذبية وهي آلية تمكّنه من الهيمنة على الطبيعة، فتغلها بالأغلال و تسجنها بالغلاف الجوي، و هذا ما جعل الأرض تسبح في الكون اللانهائي بحرية غير عابئة بالانفجـار، الانتفاء والاندثـار. إذاك ضمرت الأقمار و ذبلت، تضاءلت و تصاغرت، فاحتوتها الأرض و ضمّتها إلى ممتلكاتها. أما الكوكب الأحمر المتصاعد نارا كالجمار، تباعد وجلا من تحويله كتلة سوداء متفحّمة على غرار بقية الشموس التي انطفأت حين داعبها المغناطيس من مواطن عفتهـا ولهيبه، فانتثر شعاعها واندثر خشوعـا أمام تهاطل الآيات و تدفّقهـا و المعجزات.
انتشر خبر الأرض في الكون بأسره، و صار مبعث سمر النجوم، إذ تتحدّث عن أنوار الأرض الغريبة و زرقتها العجيبة و قد استلهمتها من السرمدية، و ذهب في اعتقاد سمار الليالي وهم يحتسون الخمور المعتقة أن الأرض تستمدّ نورها المتوهج من النار عبر تفجّر غازات الهيليوم وإشعاعها، ومنهم من تحدث من وراء الستائر خوفا من الوشاية عن قرب نهاية الأرض إذ كيف تصبح بين عشيّة وضحاها بهذه الأناقة و هذا الألق كأكبر عارضة أزياء، وقد كانت فيما مضى كتلة صخرية صلدة، رمادية ملقاة في الفضاء، ذلك بأنهم كانوا يجهلون بحكم ما غشى أبصارهم من عمى تمكّن الإنسان من الإنسلاخ عن التوحّش و ارتقائه إلى الألوهية.
تابع تاكفاريناس طريقه بهمة و نشاط و الصحراء لا تفتأ تهتزّ وتربو، فتتشكل تدريجيّا إلى بحر ماء أو هكذا يخيل إليه لعجزه عن تفكيك الظواهر الغريبة في ظاهرها إلا أنها منطقية وعادية، فقد عادت الصحاري وهي تضمّ بين أجفانها البراري إلى أصلها و جوهرها. نشأ سدّ مأرب من جديد، أقيم و بني لما هبط واد النيل وفاض و سار و الفرات لينشآ الجنان. إذاك خرجت الثمرات من بين الأكمام، طارت العصافير الشادية والفراشات، التفت جذوع الأشجار بجذوع الأشجار، الأزهار بالأزهار حتى هيمنت الأدغال و سجنت الوحوش في محميات.
تصاعدت أنغام الهارب و نشـأت بين الفراديس و تعالت متدفّقة سخـيّة، و قد بدأت ثمار الجنان متهدلة مذلّلة لأيدي الإنسان دانية، وزهور غضّة نضرة بألوان شتى و أطيار. هاهو صوت الهارب يغمر الفردوس مسبحا للإنسان، خاشعا لمسيرته الخالدة.
ثم أن دخانا أبيض غشا السماء الزرقاء، غمرهـا و حجب عين الصقعـاء، و أشع نور أمامه، ولما حدّق رأى مخلوقات في شكل فرسان بوجوه بيضاء كالثلج، غاية في الجمال والفتون من فتية و أطفال، رجال و نساء يركبون خيولا من نور و يحملون سيوفا من نار. ومن أولئك الفرسان لاح فارس، فتهاوى تاكفاريناس على ركبتيه ساجدا وهو ينادي:
»فارس يا صديقي أغثني !! «. فوصله صوت فارس الجهوري قائلا : »تاكفاريناس يا صديقي، قم فأنت آمن «. إذاك قـام تاكـفارينـاس، و قف و استوى ثم سبح و كبر قائلا : »السلام على من اتبع الهدى و تجاوز الأهواء «. ثم أردف :
- عفوك أيها الإله، هل أنا في الرفيعة ؟
- لا أنت في سماء الدنيا.
- و لكن أرى واد النيل والفرات !!
- بلى، فالصحراء تمور بأرواح الأنبياء.
- و الصحاري أرض البراري، موطن الوحوش والضّواري ؟
- لعلك تعني سماء الدنيا !!
- و هل للدنيا سماء ؟
- موطن الآلهة.
- و لم التجسّد عبر الأجساد و الأشكال، الألوان و الأحجام ؟
- في مسعى لتحقيق التوحّد و التعجيل به.
- أتعني أن الإنسان ...
- يتهاوى على هياكل التألّه قربانا.
- لكن التجسد هو اعتراف ضمني بالتوحّش؟
- لعل الاعتراف بالتراجيديا هو إيغال في التوحش وهي عملية تأجيل التأله.
- لكن هذا ظلام سيغلف الإنسان في طبقة سميكة تحجب الأصل والجوهر ؟
- للإنسان الخيار بين التوحّش بالاعتراف بالفناء و التألّه بشدو الغناء.
- و الآلهة كلها شادية في السماء؟
- عبر التسرّب و الانتشار، القدرة والاقتدار.
- هذه الصحراء أرض الرسل والأنبياء، موطن الجمال، الفتنة والبهاء، تسبح فيها الآلهة و تنتشر في الصفاء و الخلاء ؟
- لن تكون مرتعا لأحياء التوحّش الطائرة في السماء.
- ألذلك تحملون سيوفا من نار ؟
- لتحطيم الهياكل، أجسادا و أشكالا، ألوانا و أحجاما.
- فمتى سينتفي الصراع ؟
- بعد حرب النجوم !
- هذا يعني أن الإنسان سيصطدم بالأجرام كعقبة كأداء، أجسادا وأشكالا، ألوانا وأحجاما أمام التوحّد، الامتزاج و ملء الكون ؟
- الصراع سيقصي النجوم، و المغناطيس نافذ عبر التسرّب والانتشار، القدرة والاقتدار.
- فالإنسان إذا سيخوض آخر صراع مع التوحّش من خلال حرب النجوم، و بذلك سينتفي التاريخ ؟
- لتحقيق التمازج، التوحّد و احتواء الكون عبر الكلية.
- أيها الإله ما السبيل لتحقيق اللذة المطلقة ؟
- عبر عدم الإيمان بكهرومغناطيس النار !
- من خلال التوحّش ؟!!
- و الكفر.
- عفوك أيها الإله.
ثم أن تاكفاريناس هوى ساجدا في خشوع وهو يردّد : » سلام على من اتّبع الهدى و تجاوز الأهواء.« و عيونه تفيض دموعا هاملة، سائلة تبلل لحيته، ثم نهض مودّعا صديقه قائلا: « السلام عليك يا صديقي.« و انكبّ على يده يلثمها و هو يطفر الدموع ويسحّها، واتجه صوب الفجوة السوداء يمشي بخطى وئيدة، يلتفت من حين لآخر إلى الفرسان الآلهة الجميلة، تشيّعه أنغام أوتار الها رب الغريبة، المنسجمة المنتظمة العجيبة، تبعث فيه الكبرياء، الشموخ و الإباء، الهيبة القوّة والعظمة، تهزّه فيتسامى سابحا مضيئا في سماء الدنيا ويتعالى حتى لفه الدخان الأبيض من جديد و غمره الضباب الذي ساد المكان و حجب عنه الكائنات المقدسة، بينما انبثق أمامه نور أصفر باهت في لون الانحلال و الاضمحلال، إنها أنوار الشمس المنصبّة على الصحاري، غامرة الفيافي والقفار توشّح بزرقة كاذبة الهضاب والجبال، ممزوجة بغبار الرمال الموشّح بالسراب.
لما انقشع الدخان الأبيض، غشى عينيه الضبـاب الممـزوج بالضوء العـاتم و لفعه جحيم الصحاري. إذاك ترنّح، تهاوى و تهالك على الأرض و هو يخفي ناظريه بين راحتيه و يسقط كالمغمى عليه، و ما فتئ أن تحامل من جديد بشدّة وهو ينتبه إلى أصوات كقرقعة الصخور فجّة، ناشزة طغت و دوت متنافرة، بمنأى عن الأناشيد و الصدى. تهزّ الأرض وتخلخلها، ترجّها و تزعزعها. لما هزّ رأسه ليقف على جلية الأمور، وقلب وجهه في السماء بحثا عن الحقيقة. رأى النيازك و الشهب، المذنبات و صخور الفضاء نازلة كالحمم الحمراء، مرسلة كالصواعق في الفضاء، تسعى لطمس الأرض و معالمها، نسفها بعد قصفها.
إذاك لجّت السوائم و ضجّت، رفعت أخطامها عن كلئها و قد كانت سارحة في البراري، تضطرب في سجون الخوف كاضطراب السمك في الشباك، بهتت و ذهلت، خشعت أبصارها و هي ترى تلك الكتل الملتهبة تغزل لها ثياب من نار يصبّ فوق رؤوسها فيصهرها وشخصت، فلا يسمع لها إلا همسا. ثم لفتها الريعة، الهلع من هول كواكب النار الزافرة و الروعة، فذهلت كل مرضعة عما أرضعت فتراها ثملى كالسكرى و ما هي بسكرى، إذ تراكضت هنا و هناك جيئة وذهابا و قد أبهم عليها الأمر مختبلة، خوفا من أن تصير حصيدا. تحرث الرمال المسيرة بعد أن حاقت بها النار و صارت قاب قوسين من احتضانها أو دون ذلك. ثم نكست تلك المخلوقات المصهورة الوديعة، الرقيقة الورعة كالساجدة لما أيقنت بقرب سقوط الكسف عليها من السماء إذ باءت بسخط كبير من الصحراء، فيترامى تضرّعها في الفضاء و يتصاعد.
غير بعيد عن هاهنا تجمعت الذئاب و الضباع و انتصبت قائمة وفق صفوف منتظمة، محدّقة في السبـاع يتوسطهم ليث في قلب الصحراء، ترمقـهم بـكره و حقد، غيرة و حسد مزمجرة عاوية و انبرت تتقدم في شكل فيالق شاهرة السيوف و الرماح مطوحة بالحراب، منشدة أناشيد الهيمنة والسؤدد عبر الصياح.
ثم أن ليثا طفق يشدو بصوت رقيق وهو بين السباع الذين صاحبوه بأصواتهم الناشزة الأجشّة، الخشنة الأبحّة : » أعطني الناي و غني فالغناء سرّ الوجود و أنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود « و النسور يزعقون فوق رؤوسهم و هم يرفرفون حولهم كالأطياف نافخين في الرمال، حتى أن ألسنة كبخار الماء نشـأت و نمت، خفق الغبار خفق الأنوار مشكلا نواة الإعصار و قد بدت عليه بوادر النار، إذ أنارت وجه تاكفاريناس الذي لم تأخذه الدهشة ولم يوجف قلبه بل غمغم قائلا : » لن أكون مؤمنا قانطا.« ثم اندفع يعدو بخطوات مديدة نحو السّباع، وهم في قلب الإعصار المشوب بلهيب النار كتهيّج أمواج البحار.
كان الشدو يعلو و يشتدّ، و الزئير يتفاقم و يحتدّ، فتتعالى ألسنة النار راقصة متموّجة تتوج الإعصار الذي لا يفتأ يتسع و يتعاظم حتى صار أعمدة لولبية، تطاولت و تعالت تكاد تخترق السماء ببروق تخطف الأبصار، و لا تفتأ الرمال تولول و تثور كقيام الناس يوم النشور بعد أن كانت نائمة في شكل طبقة سميكة تراكمت عبر السنين الطويلة، فتتخطف الذئاب العاوية القادمة والضباع الفجّة المهوجّة، إذ تمزقها، تفتتها وتسحقها و تحيلها ذرات تخفق على أجنحة الرياح النوّاحة التي تبعث بها في كل فجّ غليظ و في كل وهد سحيق لتطهير الصحاري الأنيقة من جيناتها نهائيا.
كان تاكفاريناس يعدو نحو مشرق الشمس و قد ارتسم عليه قوس قزح بألوانه المشعّة، و الذي لم يكن قوس قزح بل هي النار مؤجّجة تفور متفاقمة في شكل ورود على رؤوس الأعمدة الهائلة، منشئة غلافا من غاز الهيليوم، و لما أشرف على تلك الألوان وثب وثبة طويلة، إذ أحسّ و أنه يحلّق في الفضاء و هو يخترقها و يمرّ كرفّ البصر، و ما فتئ أن استقرّ بين السباع لما لامس بباطن قائمتيه الأماميتين و قد كساهما الوبر الأسود، وبرزت منها المخالب، ساقي ليث يلعقها، ثمّ يرفع رأسه و يزأر مكشرا عن أنيابه الحادة، صارا أذنيه فيختلط زئيره ببقية أصوات السباع، وهم يوقدون نيران الإعصار و قد تغلغلت في الأجواء وهيمنت على الفضاء زرقاء، في حين كانت الكواكب النارية منسكبة حمراء، حتى إذا ما اصطدمت بنار الإعصار، تفجّرت و صارت خرابا ودمارا في شكل شظايا باهتة صفراء و هتامات، ثم استحالت إلى رماد سرعان ما تبخّر في السواد.
كانت أعمدة الرمـال تنفرج و تتفتّح في شـكل فجوة سرعـان ما تتّسع و تكبر، بتبدّد الغبار و انقشاعه فاسحا المجال لهيمنة ا لزرقة الرقيقة، و لنور الشمس المضيئة الذي أنار الطبق الطائر الرابض في هدوء، المشوب بلون الصحراء المشعّة، ينفث النار الزرقاء، و ما فتئ أن أقلع كالشّهاب في الفضاء، و صدى الشّدو بين الأرجاء : » أعطني الناي و غنّي فالغناء سرّ الوجود و أنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود.«
بين فيفري 2001
و مارس 2004

ملاحظة
أشكر للمشرفين على الحوار المتمدن تمكين هذا النص الذي كنتم أيها الأصدقاء قد أنهيتم للتو قراءة آخر جزء فيه، وكما ترون كنت كتبته منذ سنوات، وقد سعيت لنشره منذ ذلك الحين، درت به المشرق و المغرب بلا جدوى، فكرت بداية في نشره في مصر باعتبار هيكله مستوحى من الحضارة الفرعونية، لذلك اتصلت بالسفارة المصرية في تونس، دعتني المسؤولة للاتصال بمكتبة مذبولي مباشرة. سافرت إلى القاهرة في شهر أوت 2005 ، قدمت المخطوط لموظف مكتبة مذبولي و المسؤول فيها، فلم يقبل حتى تسلمه، قال لي بأن الحج مدبولي غير موجود الآن فضلا على أن اللجنة حسمت في النصوص التي ستنشرها المكتبة وحددتها و يمكن الإتصال بالسيد مذبولي في معرض تونس للكتاب في شهر أفريل 2006 . حاولت إقناع الموظف قبول المخطوط فرفض، قلت له و قد غزتني الخيبة : " كيف تتبنون العوالم و ترفضون الكتب " وخرجت من عنده كاسف البال، اتصلت صدفة بدار المعارف، قبل مدير النشر المخطوط بعد تقديمه له، مدني برقم هاتف المؤسسة على أمل تقديمه للجنة المكلفة بقبول النصوص التي تتكفل الدار بنشرها، عدت إلى تونس و أنا بين الأمل واليأس، التفاؤل و التشاؤم.

بعد مدة ليست بالقصيرة هاتفتني دار المعارف معلمة إياي رفض اللجنة نشر النص، كان ذلك في فترة معرض الكتاب في تونس أفريل 2006، مصادفة قدمت مخطوط النص لافريقيا الشرق دار النشر المغربية ممثلة بجناحها في المعرض كما نصحني أحدهم بتقديم النص لتوفيق بكار الناقد التونسي الذي اهتم بأدب محمود المسعدي الكاتب التونسي -و الذي يدير دار الجنوب التونسية للنشر و التوزيع (سلسلة عيون المعاصرة) ازداد أملي بل تضاعف و عجلت بتقديم مخطوط أسطورة التأله لتوفيق بكار و عليه توقيعي و فيه إهداء يتخلله شكري له على اهتمامه بالمبدع التونسي وتكريس تجربته الطويلة لخدمة الإبداع التونسي، و حين قابلته، قال لي أنه يلاحق بمخطوطات الكتّاب حتى في باريس و أنا أتساءل كيف يقول ناقدا في مثل سنه مثل هذا الكلام ؟ . بقيت أنتظر، وحتى أوضح رغبتي في تبني نصي من قبل دار نشرمختصة ذلك بأني كنت فيما مضى قد نشرت نص (رسالة) على نفقتي الخاصة (في شكل كتيب)، غير أني لم تمكن من ترويجه لأني لا احسن التجارة. و أخيرا و بعد أشهر و في أكتوبر 2006 جاءني الرد من كلا الدارين (دار الجنوب التونسية) و (دار إفريقيا الشرق المغربية) بالرفض، فازداد تشاؤمي و طغى.و مضت الأشهر، و في ماي 2007 اتصلت باتحاد الكتاب التونسيين للانخراط به قلت في نفسي، رئيسه الجديد منتخب و سيساعدني لا محالة طالما أنه تكفل بمهمة خدمة قطاع الفكر في بلدنا تونس. و حين اتصلت به في مقر الاتحاد اندهشت لقيام الرجل لا بمهمة رئاسية اتحاد الكتاب فحسب بل و أيضا هو نائب في مجلس النواب و مدرس، عجبت لقدرة هذا الرجل على القيام بهذه المهام الشاقة، لجسامة المسؤولية وما تفرضه من تضحيات كبيرة ،قلت في نفسي : أكيد أن هذا الرجل أي رئيس اتحاد الكتاب التونسيين الحالي سيجد صعوبة في إيجاد الوقت للنوم و الأكل. اتصلت به عديد المرات بمقر اتحاد الكتاب و في كل مرة يقولون لي الموظفون أن رئيس اتحاد الكتاب غير موجود و أخيرا و لما تعدد ترددي عليهم ،تطوع أحد الموظفين و لعله ضاق ذرعا بي و همس لي بأن السيد رئيس اتحاد الكتاب يمضي صباحاته في إحدى مقهيين لنزل بوسط العاصمة، و فعلا، اتجهت إلى الأماكن المشار إليها ووجدته في أحده، قدمت نفسي ككاتب و ناولته بعض نصوصي المنشورة بإحدى الصحف التونسية (جديدة الشعب) فمسكها بأطراف أصابعه خوفا من أن يتلوث بها. طلبت منه أن يساعدني على نشر نص أسطورة التأله، و قبول انخراطي في الاتحاد فأجابني بأنه سيحاول و قام صحبة نائبه، طالبا لي قهوة دافعا ثمنها مودعا إياي بحرارة و كأننا أصدقاء، والحال أني أراه و أكلمه لأول مرة و مضت الأيام، و هاتفت اتحاد الكتاب في فترات متقاربة و أخيرا يجيبني مساعد رئيس اتحاد الكتاب التونسيين بأن أمر انخراطي غير ممكن و إمكانية نشر كتاب أسطورة التأله مستحيله.

أصدقائي أتساءل ككاتب من هؤلاء الغربان، عفوا من هؤلاء الغرباء المشرفين على الثقافة في الوطن العربي، وهم أبعد ما يكون عن الثقافة ؟
إلى متى ستظل الثقافة في الوطن العربي تعتمد لا بماهي حركة بل كتجارة من قبل التجار والسماسرة ؟
و أنا كبقية العديد من الكتاب الذين يعانون من حشر الذئاب أنفسهم في حياتنا ،أتذمر....
صالح محمود



#صالح_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسطورة التأله الجزء السادس
- أسطورة التأله الجزء الخامس
- أسطورة التأله الجزء الرابع
- أسطورة التأله الجزء الثالث
- أسطورة التأله
- أسطورة التأله الجزء الثاني
- أسطورة التأله الجزء الأول
- إنبعاث الأنسان عبر الموسيقى بتحرير الحركة
- الإنسان الفسيفساء
- حقيقة النقطة والحرف في تجربة أديب كمال الدين الشعرية


المزيد.....




- قبل إيطاليا بقرون.. الفوكاتشا تقليد خبز قديم يعود لبلاد الهل ...
- ميركل: بوتين يجيد اللغة الألمانية أكثر مما أجيد أنا الروسية ...
- حفل توقيع جماعي لكتاب بصريين
- عبجي : ألبوم -كارنيه دي فوياج- رحلة موسيقية مستوحاة من أسفار ...
- قصص البطولة والمقاومة: شعراء ومحاربون من برقة في مواجهة الاح ...
- الخبز في كشمير.. إرث طهوي يُعيد صياغة هوية منطقة متنازع عليه ...
- تعرف على مصطلحات السينما المختلفة في -مراجعات ريتا-
- مكتبة متنقلة تجوب شوارع الموصل العراقية للتشجيع على القراءة ...
- دونيتسك تحتضن مسابقة -جمال دونباس-2024- (صور)
- وفاة الروائية البريطانية باربرا تايلور برادفورد عن 91 عاما


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صالح محمود - أسطورة التأله الجزء السابع