|
دعوة إلى حفل تنكري
طارق قديس
الحوار المتمدن-العدد: 2255 - 2008 / 4 / 18 - 07:25
المحور:
الادب والفن
ها قد اتخذ السيد سالم مكانه المحدد ، في الوقت المحدد ، جلس على مقعده ، خلف المنصة تماماً ، أخذ يتلفت يميناً ويساراً ، ينظر حيناً إلى زملائه المحاضرين ، وحيناً إلى كاميرات المصورين ، حتى وقع نظره على كتفها العاري ناصع البياض وهي تجلس إلى يساره ، فابتسم وأطال النظر إليه وهو ينحدر بعينيه نحو الأسفل حتى كادت نظارته أن تقع على الأرض من شدة التركيز ، فتنبه إلى فعلته تلك ، وعاد فاستوى على مقعده ، ثم بدأ ينقر المذياع فوق المنصة بإصبعه ليتأكد أنه موصول إلى الكهرباء ، فيما جموع الحاضرين ما زالت تتقاطر إلى داخل القاعة.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يدعى فيها للمشاركة في ندوات ثقافية ، فهو شخصية ثقافية رفيعة القامة ، لكنها المرة الأولى التي يُدعى فيها للمشاركة في ندوةٍ نسائية حول حقوق المرأة ، فالموضوع لم يكن يهمه يوماً ، لذا فضل النظر من موقعه في المقدمة إلى ثياب الحاضرات ، مساحيقهن التجميلية ، أقراطهن المتنوعة ، مفاتنهن المتعددة - غير آبهٍ بالجمع المذكر - فهنالك مع النساء لا ريب أن المنظر أجمل!
في زاوية أخرى من المكان نظرت الآنسة أروى منسقة الندوة إلى ساعة يدها وهي تتأفف ، فالوقت المحدد لبدء الحديث حان ، وهنالك الكثير من الناس لا يزالون يتدفقون . وأمام ذلك ما كان منها إلا أن توجهت إلى السيدة صاحبة الكتف العاري ، وقد بدا جلياً أنها مديرة الندوة ، لتطلعها على ما يحدث .
وفيما هي تحدثها خطر في ذهنها سؤالٌ كان قد راودها سابقاً ولم تجد له إجابة ، عندها استأذنت السيدة وهمست في أذنها اليسرى قائلةً: ( عفواً سيدتي . أريد أن أسألك سؤالاً لطالما ألح علي! لماذا كل النساء المدعوات أتين برفقة أزواجهن ، أما الرجال المدعوون فالقليل منهم أتوا مصطحبين زوجاتهم ؟ ) عندها نظرت إليها نظرةً اندهاش ، لم تخلُ من القبول ، ثم أتبعتها بابتسامةٍ مصطنعة وهي تقول: ( لا بد أنهن طريحات الفراش ! ) ، فبادلتها أروى بابتسامة مماثلة ، وطفقت عائدة إلى مدخل القاعة .
وبدأت الندوة ، وبدأت مديرة اللقاء ترحب بالحضور والمحاضرين ، ثم ألقت كلمتها المنمقة ، ومضى كلُّ واحدٍ من المحاضرين الثلاثة يدلو بدلوه عن حقوق المرأة بشكل هامشي دون الولوج إلى عمق الموضوع ، كمن يسير على محيط الدائرة ، وذلك حتى انتهوا بالسيد سالم الذي أخذ يتحدث عن ظاهرة العنف ضدها في المجتمع العربي، وكيفية معالجته ، وقد خلص إلى أن المرأة نصف المجتمع ، ولا يجب أن تقمع ، بل يجب أن تعبر عن كيانها المساوي لكيان الرجل ، وعلى المجتمع الذكوري أن يصبح جزءاً من ماضي أمتنا الأليم إذا ما أراد مواكبة القرن الحادي والعشرين ، فانهالت عندئذٍ الأكفُّ بالتصفيق مدويةً في ثنايا المكان ، والزوايا تعيد الصدى إلى نقطة البداية.
وفيما هو يهم بمتابعة كلماته المخملية حول دور المرأة توقف عن الحديث ، وانتفض إلى الإمام ، كأن أحداً صوب مسدساً إلى رأسه من الخلف ، فقد فاجأه شيءٌ ما ، لكنه - في الحقيقة - ليس سوى هاتفه الخلوي المدفون في جيب معطفه الأسود ، إنه يرن ، وكل الظن أنه أغلقه فور جلوسه إلى المقعد ، وتداركاً لدهشة الجميع ، عزم أن يغلقه لكنه حين شاهد رقم المتصل على الشاشة بدأت ملامح وجهه بالتبدل وآثر الرد ، فاستأذن صاحبة الكتف العاري ، ومضى في حديثه مع المتصل ، لكنَّ أحداً في المكان لم يكن ليتوقع الألفاظ التي خرجت من فمه قط .
المتصل هو أخو زوجته ، زوجته التي لجأت إلى بيت أخيها هرباً من بطش صاحب المقام الرفيع ، وقد أوسعها ضرباً بعد أن رفضت نقل ملكية قطعة الأرض التي ورثتها عن أبيها إليه ، وذلك بداعي الرجولة ! وها هو اليوم يحاضر عن حقوق المرأة .
لقد نسي السيد سالم أنه أمام جمهور عريض ، وأرخى نفسه لثورة الغضب حتى بلغ من مبلغه حدَّ السُباب ، وإلقاء الكلمات النابية دون اكتراثٍ لمشاعر الآخرين ، وكأن بركاناً غاضباً تخلى عن سباته ، وشرع يقذف الأرض من حوله بالحمم والنيران ، وقد تفنن بتأنيب أخي زوجته لأنه آواها عبر باقةٍ من العبارات الجارحة ألطفها : أيها الحقير ، يا كلب ، إنكم حقاً عائلة منحطة ، من تظن نفسك أيها الجربوع ؟ حتى انتهى مذيلاً قولهُ بالعبارة التالية بكل افتخار : لقد توقعت منك أن تأنب أختك لأنها لم تطعني ، فهي زوجتي ، وأنا الرجل ، وعليها واجب الطاعة ، وإنه من حقي لا أن أضربها فقط بل حتى أن أمسح بكرامتها البلاط متى شئت .... وإلا فلماذا اسمي رجل البيت إذن ؟
إلا أن هذا كله بدا كابوساً فظيعاً عندما أغلق الهاتف ، ونظر إلى من حوله ، وقد بدت الحيرة تأكل وجوه الجميع على حدٍّ سواء . فمن ذا الذي كان يتوقع أن يحدث هذا ، وأن يسقط القناع عن وجه المثقف اللامع ليظهر المفرد المذكر الزائف!
الكل مذهولون لما سمعوا ، الكل وضعوا أياديهم على أفواههم ليحبسوا كلمات الحسرة ، وكأنهم يقولون لأنفسهم: ( أيعقل أن يكون هذا الوجه مزيفاً ؟ لا يمكن أن يحدث ذلك ، إنها مهزلة ! لقد صعق السيدُ مما فعل ، ولم يعلم كيف فعل ذلك ، ولم يجد مفراً أمامه سوى أن يحمل أوراقه بصمت ، ويطأطئ رأسه خجلاً ، ويمضي عبر تلك العيون الزائغة ، ويخرج من القاعة إلى الهواء الطلق ، وقد خانته الشجاعة للنظر إلى الحسناوات من حوله بذات النظرة التي أطلق لها العنان في بداية الندوة.
وفي خضم دمدمة الحاضرين اقتربت أروى من المنصة ثانيةً ، وعادت لتهمس من جديد في أذن السيدة والسخرية تظلل كلماتها: ( أتدرين سيدتي ؟ لقد عرفت الآن لماذا أتى أغلب المدعوون إلى هنا وحدهم دون زوجاتهم ! .. السبب هو أنهم اعتبروا هذه الندوة حفلاً تنكرياً يمكنهم من اللقاء بالجنس الناعم بحجة الدفاع عن حقوق المرأة ، وغايتهم المنشودة هي تفريغ ولو جزء ضئيل من شهواتهم الجنسية عبر نظراتٍ لا مكان فيها للبراءة أو النوايا الحسنة ) .
نظرت إليها السيدة وهي تهز رأسها ، وكأن الكلام لقي صدى لديها ، فتابعت أروى قائلةً : ( ألست محقةً في ما أقول ؟) .
صمتت قليلاً ، ومالت بنظرها إلى الجمع المحتشد عند المدخل ، ثم التفتت إليها مجدداً متممةً ولها :
( ماذا قلت؟.. ألست محقةً أنا في ما أقول ؟ أم أنك مازلت تظنين حتى الآن أن الزوجات لم يحضرن هذا المساء لأنهن طريحات الفراش ؟ ) .
عندها لم يكن من السيدة إلا أن تخلت عن صمتها وانفجرت ضاحكةً بشدة وسط صخب الحاضرين ، فأتبعتها أروى بضحكة لا تقل عنها سخونةً ، وكأنهما في قرارة نفسيهما تقولان لبعضهما : يا إلهي .. صدق من قال : شر البلية ما يضحك !
#طارق_قديس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنا وأنتِ وثالثنا (قرداحي)!
-
موعد مع عزرائيل
-
هل الديمقراطيون والجمهوريون وجهان لعملة واحدة؟
-
الأستاذ والطبشورة
-
الشعب من الزهرة .. والحكومة من المريخ !
-
صاح الديك !
-
كذبة إبريل
-
مذكرات بندقية مشلولة
-
أراكِ
-
الضوءُ الأحمر
-
حوار جاهلي مع امرأة متحضرة
-
في جنازة الأسقف (فرج رحو)
-
أمشي
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|