مها عبد الكريم
الحوار المتمدن-العدد: 2253 - 2008 / 4 / 16 - 02:40
المحور:
كتابات ساخرة
في ظهيرة يوم ربيعي حار وبينما كنا نمر بالقرب من نقطة التفتيش الموجودة على جسر الجادرية , اقتربت سيارة نقل ركاب ( كيا ) فيها عدد من الشباب لا يتجاوز أكبرهم السابعة عشرة من العمر .. بدا واضحا صوت غنائهم وتصفيقهم رغم نوافذ سيارتهم المغلقة فما كان من سائق السيارة التي نستقلها إلا إن اخرج رأسه من النافذة وهو بحالة من الغضب وانهال بسيل من الشتائم على هؤلاء الشباب متهما إياهم بالانحراف والجهل بأمور الدين وتخريب قيم المجتمع مهددا ومتوعدا إياهم بمن يوقفهم عند حدودهم !!
في نفس المكان وكل صباح عندما نصل إلى النقطة التي تتوقف فيها السيارات بانتظار أن نعبر نقطة التفتيش الأولى على جسر الجادرية , أجول ببصري بين السيارات المتوقفة للبحث عن المتسول الذي تعودت رؤية في هذا المكان خلال الأشهر الثلاث الماضية وهو رجل لا يتجاوز الخمسين من العمر يحمل على كتفه طفل صغير يبدو بعمر سنتان , لم أره خلا الفترة السابقة ولا لمرة واحدة مستيقظ , تتدلى يده فوف جسد( الحصان!) الذي يحمله باسترخاء واضح وكأنه جثة هامدة بعكس طبيعة الأطفال في هذا العمر حيث يكونون في غاية النشاط خصوصا وسط أجواء مليئة بالحركة والضوضاء , وبالتأكيد لا يطول انتظاري كثيرا لمتسول جسر الجادرية حتى أراه يقفز بين السيارات المتوقفة مادا يده لركابها كونه أب لطفل ينام في الشارع . . معظم الركاب ينظرون إلى هذا المتسول بغضب واضح على وجوههم وأحيانا مصحوبا بغمغمات خفيفة لكني لم أشاهد خلال كل الفترة السابقة (مستأسد في أمور الدين والدفاع عن الأخلاق) يبادر للدفاع عن حياة ومستقبل الطفل -والذي يبدو بشكل واضح انه بوضع غير طبيعي ابدآ ولا أريد إن أقول انه مخدر مع إني سمعتها من أكثر من شخص شاهد الموقف – الموجود على كتف المتسول المحتال الذي ينتهك طفولته ويهدد حياته ومستقبله بشكل سافر
ربما يتصور البعض أن وجود هذا المتسول إنما هو ذنب آخر من ذنوب الحكومة أو أن وجوده أمر طبيعي أو على الأقل حالة مؤقتة أفرزتها الظروف التي يمر بها العراق
المتسولون موجودون في كل أنحاء العالم ولا يخلو بلد في العالم منهم وحتى في تلك التي تسمي نفسها بالعظمى حتى مع كل المميزات التي تقدمها تلك البلدان لشعوبها , وهذا ينطبق على البلدان العربية وخاصة تلك التي يبدو وجود المتسولين فيها كجزء طبيعي ومعلم من معالمها , وكان الفنان عادل إمام قد قدم قبل سنوات فلمه "المتسول" عن عصابات التسول في مصر وعالم المتسولين لذا يبدو من الطبيعي أن يكون في العراق متسولون وفي العراق ما فيه وكلنا يعرف أن التسول يرتبط بالفقر والبطالة وعدم توفر فرص العمل وكلها متوفرة في العراق والحمد لله !! لكن هل يبدو كل هذا مبرر لكي نقبل هذه الظاهرة أو نستسيغ وجودها بهذا الشكل اللا أنساني والمستغل للطفولة أو نلقي بذنوبها وتبعاتها على الجهات الرسمية فقط ؟!!!
عندما كان العراق يرزح تحت حصار خانق, كان من الطبيعي جدا أن نرى أن كل مشكلة نعاني منها وكل خلل أو نقص أو تقصير يساهم في زيادة معاناتنا من الحصار, ينسب بكل بساطة إلى الحصار الظالم المفروض على العراق.. فالوزير يبرر سبب التقصير الموجود في وزارته بالحصار وكذلك الموظف وحتى العامل الذي يقوم بجمع النفايات يردد نفس العذر , وفي نهاية اليوم الواحد نجد أنفسنا قد سمعنا عذر الحصار هذا عشرات المرات .. ألان وفي ظل الظروف المعقدة والمستمرة منذ خمس سنوات أصبح لكل مسؤول في الحكومة وحتى اصغر موظف في دوائر الدولة وكل شخص مهما اختلف عمله أو موقعة عذره الخاص الذي يتحجج به لتبرير تقصيره , فاحدهم ينسب كل مشكلة مهما كبرت أو صغرت إلى الاحتلال وثاني يبرر تقصيره بالإرهاب وثالث يضع عبارة المليشيات على طرف لسانه وآخر بغياب الأمن .. الخ , وكل واحد منهم يضع عذره الخاص وهو مدرك تماما انه يتملص به من مسؤوليته عن استمرار الخطأ وإلقاء اللوم على أي آخر !.
قبل مدة دعي مسؤول مهم لحضور لقاء اعد له مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني وعدد كبير من المهتمين بقضايا المرأة والمجتمع لمناقشة وضع الأرامل في العراق وتم تقديم شرح مفصل عن وضع الأرامل وإعدادهن التي يقدر أنها وصلت إلى ثلاثة ملايين أرملة , مليون منها على الأقل خلال السنوات الخمس الماضية فقط وإحصائيات عن عدد الأطفال الأيتام والمشردين والذي بلغ بحسب التقرير السنوي لجمعية حقوق الإنسان في الولايات المتحدة إلى وجود مليون وستمائة ألف طفل مشرد وستة ملايين طفل يتيم وتسعمائة إلف طفل معاق بسبب الفقر والعنف وضعف الرعاية الاجتماعية , وبينت الجهات المشاركة في اللقاء قلقها من وضع المرأة الأرملة في العراق وأبناءها من الأيتام وتخوفهم من العدد الهائل للأيتام الذي سيشكل خلال السنوات القادمة جيش خطر من الجانحين يمكن إن يهدد المجتمع بأكمله في حال استمرار الوضع المادي والاجتماعي المتردي الذي يعيشونه وعلى هذا تمت المطالبة بتقديم أقصى عون ممكن للام الأرملة لمساعدتها على توفير ظروف معيشية لائقة لابناءها تضمن استمرارهم في الدراسة ..بعد تقديم كل ذلك الشرح والإحصائيات والمخاوف كان جواب السيد المسؤول بأنه يدرك تماما حجم المشكلة لكنه لن يقدم أي حلول في الوقت الحاضر ولا حتى وعد بتحسين شبكة الحماية الاجتماعية بسبب (!!) وجود قوات الاحتلال في العراق وان أي تحرك له سيكون مرهون بخروج هذه القوات !! .. ولا ادري هل فكر هذا المسؤول وهو يردد عذره بشكل ببغائي بعدد الأرامل اللاتي سيصمدن حتى خروج الاحتلال ؟؟ وكم سيصبح عدد الأطفال المشردين والمتسولين أو النائمين في أحضان متسولي ومتسولات الشوارع والإشارات المرورية ؟؟!!
ليس الغرض من إيراد الحادثة السابقة بيان عدم شعور مسؤولي الدولة بمعانات الناس فهذه المسألة أصبحت معروفة للجميع بقدر بيان إن حال المسؤول إنما هو من حال من يمثلهم وما كان ليصبح أمرا عاديا ترديد حالات عدم اكتراث المسؤولين بهموم الناس لو كان أبناء هذا الوطن يعترضون على الأخطاء التي تحدث بطريقة تمنع استمرار هذا الخطأ .. فان نسمح لأنفسنا بالاعتراض بشدة – وبطريقة غير لائقة أحيانا وعنيفة – على شاب يستمع لأغنية لمجرد اعتقادنا انه يخرب قيم الدين وتقاليد المجتمع أو نلقي محاضرة طويلة عريضة مليئة بالحجج والبراهين والأدلة النقلية والعقلية على آخر لمجرد ارتداءه لقميص بلون فاقع لكونه لا يليق برجل ! بينما نسكت على من يخرب الممتلكات العامة أو يسرق محتوياتها او ينتهك طفولة وبراءة طفل صغير مرددين أعذارا مثل (آني شعليه ) أو (صوج الدولة ) , أن نفعل كل هذا إنما هو دليل على مقدار انحدار ثقافة الفرد الاجتماعية والوطنية وتعوده على حالة من الكسل والتملص من مسؤولياته الوطنية والإنسانية .. فمتى سيخرج أبناء هذا العراق من كسلهم وتذمرهم وتملصهم وسكوتهم على الخطأ واستغلالهم السلبي لدوائر وشوارع وأطفال وحدائق وانهار هذا الوطن على الأقل ليثبوا وطنيتهم وحبهم الذي يدعوه ؟!!
#مها_عبد_الكريم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟