• حاورها: عدنان حسين أحمد/ أمستردام
• الروائية السورية حسيبة عبد الرحمن ل ( الحوار المتمدن )
• من أين لي أن أجلب أبطالاً في زمن الهزائم؟
عاشت الروائية السورية حسيبة عبد الرحمن تجربة السجن الانفرادي والجماعي ثلاث مرات بتهمة الانتماء إلى حزب سياسي معارض ومحظور هو رابطة العمل الشيوعي السوري. وقد أمضت في السجن مدة سبع سنوات متفرقة قوّضت في داخلها أشياءً كثيرة لم تستطع أن ترمم بعضها حتى الآن. والطريف في الأمر أن حيسبة عبد الرحمن تتحدث عن ( أ دب السجون ) بوصفه مرحلة مهمة جداً من مراحل الأدب في سوريا. وقد توقفت عند أسماء رسخت هذا النوع الأدبي وتألقت فيه مثل نبيل سليمان، وإبراهيم صموئيل، وخلف الزرزور، وفرج البيرقدار وغيرهم. إن ( أدب السجون ) هو في حقيقة الأمر ليس ظاهرة غريبة في العالم العربي ولدينا من الشواهد الكثير من الأسماء المعروفة نذكر منهم رؤوف مسعد وصنع الله إبراهيم وعبد الحكيم قاسم وكمال القلش ومحمد عفيفي مطر وعزيز السيد جاسم وسعدي يوسف وفاضل العزاوي وعبد الستار ناصر وحميد المختار وبرهان الشاوي وعبد اللطيف اللعبي وعبد القادر الشاوي وقاسم حداد وعشرات الأسماء الأخرى التي لا يمكن حصرها في هذه المقدمة القصيرة. هؤلاء كلهم تعرضوا للسجن لمدد متفاوتة، وآخرون غيرهم تعرضوا للمساءلة والتحقيق والمثول أمام ( محاكم التفتيش الجديدة ) أمثال أحمد البغدادي وليلى العثمان ونصر حامد أبو زيد وسيد محمود القمني. بعضهم غادر البلاد مضطراً، والبعض الآخر ما زال مصراً على البقاء رغم المخاطر التي تتهددهم. غير أن حسيبة عبد الرحمن تصر على العودة إلى سورية رغم تواجدها في أوربا الآن لمواصلة مشوارها الأدبي. فبعد أن أصدرت رواية ( الشرنقة ) في بيروت تتهيأ الآن بعزم كبير لإصدار روايتها الثانية ( تجليات ) التي تدور أحداثها خارج فضاء السجن، خلافاً للرواية الأولى التي كرستها لعالم السجينات وفضاءات السجون الانفرادية المرعبة. كما وضعت اللمسات الأخيرة على مجموعتها القصصية التي وصفتها ب ( الكوميديا السوداء ). وعلى هامش الندوة التي نُظمت لها في مدينة أمستردام، التقاها موقع ( الحوار المتمدن ) وكان لنا معها هذا الحوار الجريء.
• هل كتبت رواية ( الشرنقة ) اعتماداً على المخيلة والذاكرة الفردية، أم أن فيها صدى للقراءات والمؤثرات الأولى التي لم تغادرك بعد؟
• قسم كبير من رواية ( الشرنقة ) يعتمد على التجربة الشخصية التي عشتها في السجن. وقسم آخر منها يعتمد على ذاكرتي التي أعود بها إلى مراتع الطفولة الأولى الموزعة ما بين اتجاهين، اتجاه الريف، واتجاه المدينة. فأهلي هم سكان أرياف نقلوا موروثهم الاجتماعي والحياتي إلى المدينة. كنا نعيش في المدينة حالة ازدواجية في اللهجة والحياة العامة. في البيت كنا نمارس الطقوس القروية، وفي المدرسة والشارع كنا نحاول أن نمارس طقوساً مدينية. لذلك بقيت الذكريات تختلط مع بعضها البعض، ما بين ذاكرة أهلي وموروثهم الاجتماعي الريفي والديني، وما بين المدينة وطقوسها الخاصة. لذلك أستطيع القول إن الرواية تعتمد على ذاكرة الطفولة، والقسم الآخر يعتمد على ذاكرة السجن المريرة.
• ما الذي أضافته تجربة السجن إلى المبدعة الكامنة في داخلك؟ هل فجرت في داخلك معطيات اللغة أو ملكة التخييل؟
• بالتأكيد السجن يعطي فرصة كبيرة للتأمل، رغم أن شروطه المرعبة وفوضاه يضيّقان هذه الفسحة. مع ذلك كانت هناك فسحة هادئة للتأمل، والشرود، والذهاب بعيداً عن السجن. ولعل أيام السجن الانفرادي هي الأخطر. في ( المنفردة ) هناك دائماً وقت متسع، قاتل، ورتيب. وهذا الوقت لابد للمرء أن يعطله بأحلامه وكوابيسه وتخيلاته المختلفة، وذاكرته عن البيت والأهل والشارع والمدينة، أو عما يتوقعه أن يحصل في المستقبل القريب. هذه الأشياء مجتمعة دفعتني إلى الكتابة. أن الكتابة هي، في الحقيقة، ذاكرتي المنفردة التي تبلورت داخل السجن وخارجه.
• كيف تفسرين مفهوم الحرية بعد أن حجبوك سبع سنوات عن الحياة؟ وهل تعتقدين أن هذه الرواية هي رد كافٍ على المصادرة والاستلاب الفظيع الذي تعانيه المرأة في العالم العربي؟
• الحرية دائماً هي أعلى قيمة للإنسان، وهي جوهر الإنسان الحقيقي، بل هي أهم جواهره. لذلك لا يمكن للمرء أن يتخلى عن هذه الجوهرة الحقيقية. وعليه أن يدافع عنها بأية وسيلة. وأعتقد أن ما قاله فولتير عن هذه القضية يعبّر تماماً عن رأيي في مسألة الحرية. السجن يجعل المرء يتحسس الحرية بشكل أكبر لأن حركته تضيق، وخياله يتحدد على الرغم من أنه يحاول أن يسبح في الفضاءات، لكن هذه الفضاءات محدودة، ومحكومة بالشروط المكانية للسجن.
• ما هي العوامل والمحفزات والظروف التي شجعتك للانتماء إلى رابطة العمل الشيوعي السوري، آخذين بنظر الاعتبار أن تعرّض المرأة للسجن يعّد كارثة اجتماعية بالمعنى الحقيقي، وليس المجازي. كيف أقدمتِ على مجازفة من هذا النوع؟ وما هي ردود فعل الأسرة بصدد اعتقالك ثلاث مرات متتالية؟
• إن سبب الانتماء إلى حزب شيوعي علماني هو حزب العمل الشيوعي أو ما كان يعرف سابقاً برابطة العمل الشيوعي هو استجابة لنزعة التمرد التي كانت تمور في داخلي. فنحن نعيش في بيئة مغلقة في الشرق، ومع ذلك ربما كان ظرفي أفضل من النساء الأخريات، لأن أسرتي ضيقة، وليس بيننا ذكور باستثناء أبي، هذا الموضوع أفسح لي مجالاً للحركة والتمرد، غير أن وضع المرأة بشكل عام ضيق وسيئ ومغلق، وتمارس ضدها كل أنواع الاضطهادات سواء الجسدية أو النفسية أو المعنوية. ربما يكون هذا الظلم هو الذي دفعني إلى الانتماء إلى حزب علماني، ومعارض، ومحظور، ويقر بالمساواة بين الرجل والمرأة، ورافض لشكل وطبيعة السلطة في سورية، والتي تمارس كل أنواع القمع ضد مواطنيها. أما فيما يتعلق باعتقالي الأول فقد كان قاسياً ومأساوياً جداً، فأنا كنت وحيدتهم تقريباً. وقد بقيت أمي مدة طويلة تذهب كل يوم إلى موقف الباص تنتظر عودتي، وعندما يئست قيل لها أنني أعتقلت وأصبحت سجينة.
• أين تضعين نفسك كروائية، بعد أن أصدرت روايتك الأولى ( الشرنقة ) بين الروائيين السوريين، و الأدباء السوريين عموماً؟ هل تصنفين نفسك كأديبة معارضة، أم أنك تفضلين البقاء ضمن المشهد الأدبي السوري بكل أطيافه السياسية والاجتماعية؟
• هل أستطيع أن أصنّف نفسي أديبة أم لا؟ لا أدري. ربما أتمكن من ذلك بعد إصدار عملي الروائي الثاني ( تجليات ). فإذا لاقت هذه الرواية الجديدة نجاحاً معيناً فسوف أعتبر نفسي أديبة. أما قبل إصدار روايتي الثانية فلن أسمي نفسي روائية. روايتي الأولى تتحدث عن تجربة السجن على الرغم من أن القرّاء قد قالوا أن لغتي جميلة ومؤثرة. أما فيما يتعلق بالمشهد الثقافي فأنا قطعاً كاتبة معارضة. وربما يكون عملي في مجال حقوق الإنسان قد أتاح لي قضايا خاصة ومعقدة قد لا تتاح للناس الآخرين.
• هل تعتقدين أن الرواية هي أكثر الأنواع الأدبية استجابة لتجربتك السياسية والاجتماعية والنفسية، أم أنك تفكرين بجنس أدبي آخر ربما يضيء تجربتك الإشكالية أكثر من الرواية؟
• فيما يتعلق بتجربة السجن كحالة عامة أعتقد أنها تحتاج إلى عمل روائي، أو ربما أكثر من عمل روائي لأن ظروف السجناء، وشروط السجن القاسية، والزاوية التي يمكن للأديب من خلالها أن يتناول إشكالية السجن. أضف إلى ذلك أنني كتبت عن تجربة النساء السجينات، وهي تجربة خاصة جداً لا تتعلق باليسار السياسي، وإنما تشمل تجربة السجن بأطيافه السياسية المختلفة التي امتدت من الأصولية الدينية، إلى البعث، إلى اليسار، وإلى شرائح سياسية واجتماعية كثيرة. هذا المناخ الواسع يتطلب أكثر من عمل روائي. أما بعض القضايا أو التجارب الصغيرة أو اللقطات الخاصة فأنا أعتقد أنها تحتاج إلى أداة قصصية تلتقط هذه الحالات، وتدونها في إطار القصة القصيرة التي يمكن أن أسميها بالكوميديا السوداء. أنا على الصعيد الشخصي كتبت أكثر من قصة في هذا الاتجاه، ولكنني لم أنشرها لحد الآن رغم أن لدي ما يكفي لإصدار مجموعة قصصية كاملة.
• لماذا نشرت روايتك الأولى في بيروت، ألم يكن بالإمكان نشرها في سورية في ظل المتغيرات الجديدة التي وفرّت هامشاً ضيقاً للحرية؟ وهل كنت تتوقعين منعها في سوريا ؟
• لم أنشر هذه الرواية في سوريا لأنني كنت مدركة تماماً أن الرقابة السورية لا توافق على نشر مثل هذه الرواية، لذلك اضطررت إلى نشرها في بيروت، ومع ذلك فلم يرد اسم دار النشر على ظهر الغلاف. أما رد فعل السلطات في سوريا فقد تمثل في استدعائي لما يقارب مدة ثلاثة أشهر لتفسير ما ورد فيها من رموز وإشارات حسب ادعائهم. وماذا أعني بهذه الفكرة أو تلك؟ ولماذا كتبتها بهذا الشكل وليس بشكل آخر؟ لكن ما أثار انتباهي حقاً هو ردة فعل المعارضة. إذ كانت ردة فعلهم قاسية وسلبية جداً. فقد اعتبروني في هذه الرواية أنني أريد أن أنشر غسيلاً، وأنا لم أقصد ذلك أبداً. أنا كتبت عن حياة السجينة بكل تفاصيلها، والسجن هو حياة لتفاصيل دقيقة ممضة ومؤلمة. وهذه هي وجهة نظري، وقد أكون مخطئة أو مصيبة. أما أن تكون ردة فعلهم عنيفة إلى درجة لا تختلف فيها عن ردة فعل السلطة فهذا أمر ملفت للانتباه، ومثير للتساؤل. غير أن الفرق الوحيد هو أن السلطة تستطيع استدعائي، بينما لا تستطع المعارضة أن تفعل ذلك. ولهذا لجأت إلى سلخ جلدي بطريقة مغايرة. المعارضة يريدون أن تكون الرواية رواية أبطال، بينما كانت المرحلة مرحلة هزائم عسكرية وفكرية. فمن أين لي أن أجلب أبطالاً في زمن الهزائم؟
• ألا تريد المعارضة أن تعرّي النظام السياسي، وتكشف عن أخطائه وعيوبه؟
• لأقدّم تفسيراً أوضح. أنا لا أقصد المعارضة كلها، وإنما أعني أطرافاً محددة في المعارضة. وهذه التجربة قد تمس شخصيات معينة، وأعتقد أنهم لا يريدون الكشف عنها أو تعريتها. فنحن على ما يبدو لدينا نزعة باطنية في الأشياء كلها، وليس في السياسة أو السلطة فقط، وهذه النزعة لا تميل إلى كشف المستور. فيما يتعلق بعملي الروائي كان كشفاً لتجربة السجن. فالسجن هو السجن، وليس شيئاً آخر. ضع فأرة أو قطة في غرفة واغلق عليها الباب، وترقّب ردة فعلها، فما بالك بالإنسان المحاصر في فضاء ضيق تحتشد فيه التفاصيل الصغيرة والتافهة والممضة إلى حد اللعنة؟
• إن البطولة الجماعية هي السمة الأساسية في روايتك. فما هو وجه الاعتراض على طبيعة هذه البطولة النابعة من حيّز واقعي؟
• الرواية تتناول عدة شخوص، وهم يمثلون نماذج بشرية مختلفة. ربما أكون قد أخطأت في اختيارها، لكنها نماذج نابعة من قلب السجن، وليس من مكان آخر. لقد تحدثت عن رغباتهم وميولهم وظروفهم الحياتية، كما غصتُ في أعماقهم، وتعرفت على أوضاعهم النفسية التي تمتد من الفرح إلى الحزن، ومن الانشراح إلى الكآبة، ومن القوة إلى الضعف. تحدثت عن الأمهات اللواتي كنّ في السجن، بينما كانت بناتهن خارج السجن. تناولت أطيافاً وشرائح اجتماعية مختلفة، لكنني لا أدري إن كنت نجحت أم أخفقت، ولكنني قطعاً لم أنشر غسيل أحد عن قصد.
• هل تعتقدين أن تجربة السجن قد حطمت في داخلك أشياءً محددة، أم أنها أمدتكِ بزخم كبير لمواصلة الحياة رغم الإحباطات النفسية التي تعرضت لها؟ وهل تعتقدين أن العالم العربي مؤهل لإنتاج ما يسمى بأدب السجناء والمعتقلين، في حين أن الشعوب الأخرى بدأت تؤدب أنظمتها، وتشذب مخالب القمع والإرهاب، وتجبرها على ممارسة الحياة الحضارية التي بدأت تمد أجنحتها على بقاع واسعة من هذا العالم؟
• السجن لابد أن يحطّم أشياءً جميلة داخل الإنسان المُعتقل، ومن يقول غير ذلك فأعتقد أنه غير صادق. هناك جوانب عديدة تحترق داخل الإنسان وتتحول إلى رماد. خذ مثلاً الجانب الحالم الشفاف في الإنسان أين تذهب به داخل السجن. أين يمضي السجين بأحلامه وتطلعاته وآماله التي كان يرنو إليها قبل دخوله السجن؟ السجن يعلم الإنسان القساوة تدريجياً. أنا عندما خرجت من السجن قالت لي أمي: أنتِ لست ابنتي التي كانت أكثر حناناً ورقة وشفافية! أنتِ أصبحت قاسية جداً، بينما أنا بطبيعة الحال لم أكن أشعر بأنني أصبحت قاسية، ولكن بعض المواقف نبهتني إلى ذلك. فعندما توفي والدي ذرفت دمعتين فقط، ثم دخلت في صمت مطبق. لم أتكلم. حاولت أن أبكي لكنني فشلت. ثم اكتشفت أن القساوة قد تراكمت في داخلي. ردات الفعل في بعض المواقف التي ينبغي أن أقوم بها غريزياً أو عفوياً لم أقم بها على الإطلاق. وهذه المواقف ناجمة بكل تأكيد من شروط السجن الأليمة. السجين يحاول أن يفلت من شروط السجن ومؤثراته، لكنه لا يستطيع أن ينجو من هذا القدر اللعين. أما بصدد أدب السجون، فسأقتصر حديثي على سوريا فقط إذ ظهر فيها ما يمكن أن يطلق عليه اسم ( أدب السجون ) وقد بدأت هذه الظاهرة مع نبيل سليمان الذي كتب رواية ( السجن ) ثم كرّس هذا النوع بخطوات قوية القاص إبراهيم صموئيل في مجموعته القصصية الأولى التي تتناول موضوعة السجن. ومن الشعراء السوريين يمكنني أن أذكر أبرزهم الشاعر فرج البيرقدار وخلف الزرزور. وهناك أسماء في القصة والرواية والشعر لا يمكن الإحاطة بها كلها في هذا الحوار. أنا تعرفت خلال مدة سجني على معظم فروع الأمن السرّية في دمشق، وزرت أغلب سجونها، والتقيت بعدد من الكتاب الشباب الذين يأسسون لمرحلة مهمة من مراحل ( أدب السجون ) في سوريا، وهذا الأمر قد يكون مضحكاً مبكياً في آنٍ معاً. أما عن تأثير الأدب على السلطات فأعتقد أن تأثيره ضعيف ومحدود. فلكي تتأدب هذه السلطات ينبغي أن نعمل عملاً جماعياً، قد يكون في طليعته المثقفون باعتبارهم ينشدون الديمقراطية، وحرية التعبير، والحياة الحرة الكريمة. لكن ينبغي الأخذ بنظر الاعتبار أن السلطات لا تعطي الحريات مجاناً. فلابد من تضحيات كبيرة من أجل انتزاع هذه الحقوق المشروعة.
• هل تعتقدين أن تجربة السجن قد فجرت في داخلك أساليباً حداثية في الكتابة تتعارض تماماً مع الأساليب التقليدية التي لم تعد تنسجم مع روح العصر؟
• أعتقد أن خصوصية التجربة ربما تعطي خصوصية في الأدب سواء في الجملة الروائية التي تصدر عن مخيلة متفتقة، أو في استلهامها للمكان في السجن الذي هو لا مكان، وللزمان الذي هو لا زمان. هناك شيء صدئ لا يستطع الإنسان أو الكاتب التقاطه نتيجة شروط السجن الخاصة. فكل شيء ضائع في السجن. وأعتقد أن هذا الضياع يحتاج إلى أسلوب محدد لكي يحتويه.
• لا شك أن الحياة هي أوسع من تجارب السجن الضيقة. هل تنوين الكتابة خارج إطار تجربة السجن التي باتت مألوفة لدينا نحن العرب؟ وهل ستجنحين بمخيلتك إلى الحياة الواسعة المتشظية، أم أنك ستدورين في فلك الذات لا الموضوع؟
• عندما خرجت من السجن كان لدي هم كبير هو تسجيل تجربة النساء الخاصة بكل تفاصيلها السلبية والإيجابية، وليرد عليّ الآخرون كما يشاؤون. بعد تجربة السجن التي كتبتها في ( الشرنقة ) لن أعاود الكتابة مرة أخرى في الموضوع ذاته. ولهذا فقد كتبت رواية جديدة هي ( تجليات ) وهي رواية مختلفة ولا علاقة لها بتجربة السجن على الإطلاق. قد تكون هذه الرواية هي خطوط عامة عن تجربة حياتية داخل سوريا تتداخل فيها الصوفية بالتاريخ الغرائبي والحياة المعاصرة ضمن مدياتها الأوسع.
• كيف تفسرين فكرة التمرد التي تلبستك منذ زمن مبكر، وهل تعتقدين أن التمرد بوصفه فعلاً وجودياً مُلحاً، قادر على تلبية نوازعك الداخلية، بما فيها الهم السياسي الذي يعد محوراً أساسياً في حياتك اليومية؟
• أعتقد أن فكرة التمرد هي ضرورية في عمر محدد. وعندما ينضج الإنسان وتستقر شخصيته تنتفي هذه الحالة بالتدريج. إذاً، أستطيع القول إن التمرد من وجهة نظري هو شرط أساسي للالتحاق بأي حركة سياسية. وغالباً ما يقع هذا التمرد في مرحلة الشباب، والذي يرافقه في العادة قلق مستمر. أنا أعتبر أن القلق هو عنصر مهم جداً سواء في السياسة أو الأدب، وفي الأعمال الإبداعية وغير الإبداعية. إذاً، نخلص إلى القول إن التمرد والقلق هما شرطان أساسيان لكي يكتب الإنسان أو يرسم أو ليلتحق بحلم سياسي كبير، أو يتطلع إلى يوتوبيا. ولكي يحلم الإنسان، ويمشي باتجاه الحلم فهو بحاجة إلى أنماط قلقة من الناس، ومتمردة بشكل عام.
• إلى أي مدى نستطيع القول إن الأدباء السجناء هم كتاب باطنيون، يميلون إلى استبطان ذواتهم، وذوات الآخرين الذين يدورون في فلكهم، ويميلون إلى استنطاق الأعماق البشرية والغوص فيها أكثر من ميلهم إلى ترك المخيلة تجري على سجيتها لكي تكشف أو تتخيل العالم المحيط بالإنسان المقيد والمقهور والمكمم؟
• الحقيقة هذه قضية كبيرة. هناك من يميل إلى الباطنية، ولا يريد الكشف عما يحدث داخل السجن بمنغصاته وعيوبه الفاضحة. إن السجن هو عملية تحنيط للإنسان، وحجر لطاقاته الإنسانية، وتعطيل متعمد لها. السجن هو باب التفاصيل الصغيرة، فلا أدري لماذا يتناوله البعض من باب الباطنية، ولا يرونه إلاّ من باب التكتم والسرّية الشديدة. إن عملية الكشف، وتعرية المستور، وكشف المحجوب هي من الحقوق الطبيعية للأدباء الذين عاشوا تجربة السجن. ولكل فرد الحق في أن يكتب وفق رؤيته الخاصة من دون وصاية أو شروط وقوالب مسبقة.
• هل تميلين جدياً إلى إظهار المساحة المختفية تحت اللسان؟
• حقيقة أنا أميل إلى البوح في كل شيء. وربما سوف أكتب في يوم من الأيام كل التفاصيل المحظورة أو التي لا يمكن التعبير عنها. غير أنني لا أزال أبحث عن الأسلوب الملائم لهذا البوح. سوف أكشف عن كل مكنوناتي الداخلية ذات يوم. إنه مشروعي الجدي الذي أعوّل عليه كثيراً في المستقبل.
• كيف تفسرين السماح لكِ ولزوجكِ المعارض بالسفر من قبل السلطات المعنية في سوريا؟ ألا يكون من المحتمل أن الخطاب الذي تتبناه السلطات السورية هو: انظروا أيها الناس. ها نحن نسمح بالسفر حتى للمعارضين لنا. وها هم يقولون آراءهم بصراحة في المحافل والندوات الأدبية من دون أن يتعرضوا إلى القمع والتعذيب والمصادرة؟
• إن الذي قلته فيه كثير من الصحة والدقة، ولكن دعني أضيف بعض القضايا الأخرى. عندما كنا في حزب العمل الشيوعي. هذا الحزب الذي تعرض إلى ضربة قوية من قبل السلطة، ودفع ثمناً باهضاً لا يستحق أي حزب من هذا الطراز أن يدفعه. إذ زُج بالكثير من أعضائه في السجون والمعتقلات، ولاقوا أصناف التعذيب. بعد أن قوضت السلطة هذا الحزب رأت أن تعطي أعضائه شيئاً من الحرية. أي أن تسمح لهم بالسفر إلى الخارج لأنها تريد أن تقول إننا لم نرتد عن الإصلاحات والهوامش الديمقراطية التي نسعى لتحقيقها للشعب. السلطة تريد أن تقول إننا أعطينا فرج البيرقدار وحسيبة عبد الرحمن جوازات السفر، كما سمحنا لبقية المعارضين بالسفر إلى أوربا. إنها باختصار تمارس سياسة ( خد وعين ) معنا.
• كيف تسنى لك أن تؤسسي أرضية جيدة لثقافتك اليسارية؟ ما هي المصادر والمرجعيات التي اتكأت عليها في هذا التأسيس؟ وما هي طبيعة القراءات التي أمدتك بهذه الثقافة؟
• كنت متأثرة منذ الصغر بالفكر القومي. هذا الفكر الذي كان سائداً في ذلك الوقت وتأثر به معظم المجايلين لي، ربما لأنه كان الفكر الوحيد الموجود آنذاك. فيما بعد تأثرت بالأفكار المنفتحة على الصعيدين السياسي والثقافي. كانت ترجمات العفيف الأخضر سائدة. بعض الماركيسيين قاموا بترجمة ماركس ولينين وأنجلز. كما قرأت للكتاب القوميين وغيرهم. أي لم اكن أخضع ذائقتي لنمط محدد من القراءة، وهذا ما أعطاني فسحة للانفتاح والتنوع. هذا من الجانب السياسي، أما من الجانب الثقافي فقد قرأت أشياء كثيرة بدءاً من قصص الأطفال، مروراً بالأدب العربي الكلاسيكي والأدب العربي الحديث ممثلاً بنجيب محفوظ وطه حسين والعقاد والمازني وحنا مينا وحيدر حيدر، وانتهاءً بدستويفسكي وتشيخوف وتولستوي. إن قراءتي للأدب هي التي دفعتني للسياسة. فعندما أقرأ نصاً أدبياً أتأثر به جداً إلى الحد الذي أتقمص فيه شخصيات القصة أو الرواية التي أقرأها. هكذا كانت تسيطر عليّ الشخصيات، ولا أستطع أن أتخلص من هيمنتها. وهذا يحدث لي عندما أشاهد فيلماً جيداً، إذ تتلبسني الشخصية ولا أستطع انتزاعها أو التخلص منها إلاّ بعد زمن طويل. فيما بعد تأثرت كثيراً بأدب أمريكا اللاتينية. كما تأثرت إلى حد كبير بروايات سلمان رشدي، وبالذات ( أطفال منتصف الليل ) و ( العار ).