أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هدى حسين - الحدث















المزيد.....



الحدث


هدى حسين

الحوار المتمدن-العدد: 698 - 2003 / 12 / 30 - 05:11
المحور: الادب والفن
    


أني إرنو
جاليمار 2000
ترجمة :هدى حسين 
أمنيتي المزدوجة: أن يصير الحدث مكتوباً. وأن يصبح المكتوب حدثاً.
ميشيل لايريس
 
من يدري ما إذا كانت الذاكرة ترتكز على النظر إلى الأشياء حتى آخرها.
يوكو تسوشيما
 
 
نزلت في باربس. مثل المرة السابقة، كان بعض الرجال ينتظرون، متجمعين على أعتاب  المترو المكشوف . كان الناس يتقدمون على الرصيف حاملين أكياس وردية اللون من عند "تاتي". أخذت شارع ماجنتا، متعرفة على محل بيلي، ذي السترات الرياضية المعلقة في الخارج. مرت سيدة أمامي، كانت ترتدي جوارب سوداء ذات رسوم على سيقان قوية. كان شارع أومبرواز-باريه شبه خاوٍ حتى ضواحي المستشفي. تابعت الممر الطويل المقبب بقسم إيليسا. في المرة الأولى لم ألحظ كشك الموسيقى في الحوش الذي يمتد محاذيا للممر الزجاجي. تساءلت كيف سأرى كل ذلك فيما بعد، عند العودة. دفعت الباب رقم 15 وصعدت الطابقين. في مكتب استقبال خدمات الكشف، سلمت الورقة التي تحمل رقمي. فتشت المرأة في مجموعة بطاقات وأخرجت كيساً من الورق الكرافت يحتوى على أوراق. مددت يدي لكنها لم تعطه لي. وضعته على المكتب وطلبت منى أن أجلس، سينادونني.
 
قاعة الانتظار مقسمة إلى غرفتين متلاصقتين. اخترت الأقرب لباب الطبيب، هي أيضاً التي كان فيها أناس أكثر. بدأت في تصحيح الأوراق التي حملتها معي. بعدى بالضبط، مدت فتاة صغيرة جداً، شقراء بشعر طويل، يدها برقمها. تأكدت من أنهم لم يعطوها هي أيضاً كيسها وأنها هي أيضاً سينادونها. قبلنا كان رجل في سن الثلاثين، يرتدي ملابس على الموضة شبه أصلع، و شاب أسود معه ووكمان، ورجل في الخمسينات من عمره، ذو وجه مميز، متقوقع في كرسيه ينتظرون، جالسين  على مبعدة من بعضهم البعض،. بعد الفتاة الشقراء، وصل رجل في الأربعينات، جلس بحزم، أخرج كتاباً من حافظته. ثم زوجان: هي، ترتدي سروال، ولها بطن الحامل، هو في حُلة ورباط عنق.
على الطاولة، لم يكن هناك جرائد، فقط نشرات حول ضرورة أكل منتجات الألبان و "كيف تعيش إيجابياً". كانت المرأة تحدث رفيقها، تقف، تحيطه بذراعيها، تربت عليه. هو بقى صامتاً، بلا حركة، ويداه متكئتان على شمسية. كانت الفتاة الشقراء تخفض نظرها، بعينين شبه مغلقتين، قميصها الجلدي مطوي على ركبتيها، وتبدو مرعوبة. عند قدميها كانت هناك حقيبة سفر وحقيبة أخرى صغيرة تعلق على الظهر. كنت أتساءل إن كانت لها أسباب أكثر من الآخرين لهذا الخوف. ربما جاءت لتحصل على نتيجتها قبل الرحيل في نهاية الأسبوع، أو قبل الرجوع إلى والديها في الريف. خرجت الطبيبة من مكتبها، سيدة شابة نحيفة، حادة الطبع، ذات تنورة وردية وجوارب سوداء. قالت رقماً. لم يتحرك أحد. كان لأحد الجالسين في الغرفة الأخرى، صبي مر بسرعة، لم أرَ  منه غير نظارة وذيل حصان.
 
نودي الشاب الأسود، ثم بشر من الغرفة الأخرى. لم يكن أحد يتكلم أو يتحرك، ما عدا المرأة ذات الرفيق. كانت فقط كل العيون ترتفع كلما ظهرت الطبيبة عند باب مكتبها أو يخرج من مكتبها أحد. كانت النظرات تتبعه.
رن جرس الهاتف كثيراً، للحجز أو الاستعلام عن المواعيد. في إحدى المرات، ذهبت سيدة الاستقبال لاستدعاء  عالم أحياء للرد على الشخص الذي اتصل. قال ثم كرر إنه "لا، هي في كمية طبيعية، طبيعية تماماً". دوى هذا في الصمت. كان الشخص في الطرف الآخر من المكالمة إيجابياً بالتأكيد.
 
انتهيت من تصحيح الأوراق. كنت أري باستمرار المشهد نفسه، غائماً، ليوم سبت أو أحد في يوليو، حركات الحب، القذف. بسبب هذا المشهد، الذي تم نسيانه لشهور، أجد نفسي هنا. أحضان وإيماءات الأجساد العارية كانت تبدو لي كرقصة الموت. كان يبدو لي أن هذا الرجل الذي وافقت على رؤيته ثانيةً بشيء من الكسل لم يأتي من إيطاليا إلاّ ليعطيني الإيدز. مع ذلك، لم أستطع أن أقيم علاقة بين هذا وبين الحركات، دفء الجلد، الحيوانات المنوية، وكوني هنا. كنت أظن أنه لن تكون هناك أبداً أية علاقة بين الجنس وأي شيء آخر.
 
نادت الطبيبة على رقمي. وحتى قبل أن أدخل مكتبها، وجهت لي ابتسامة عريضة. اعتبرت ذلك علامة طيبة. مع إغلاق الباب، قالت بسرعة، "النتيجة سلبية". انفجرت من الضحك. ما قالته بعد ذلك لم يكن مهماً بالنسبة لي. كانت تبدو سعيدة ومتواطئة.
نزلت السلالم بسرعة شديدة، عدت أدراجي في الاتجاه المعاكس دون أن أنظر إلى شيء. كنت أقول لنفسي أنني نجوت ثانيةً. كنت أود أن أعرف إن كانت الفتاة الشقراء قد نجت هي أيضاً. في محطة باربس كان الناس المتكدسون يقفون متقابلين على الأرصفة، ومع هذا وذاك البقع الوردية لأكياس تاتي.
 
تذكرت أنني عشت هذه اللحظة في لاريبوازيير بنفس الطريقة التي كان فيها انتظار حكم الطبيب "ن."، عام 1963، يمثل نفس الرعب ونفس الريبة. تقع حياتي إذاً بين وسيلة أوجينور ومانع الحمل بفرانك لدى الموزعين. إنها طريقة طيبة لقياس حياتي، طريقةموثوق بها أكثر حتى من طرق أخرى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
في شهر أكتوبر 1963، في روان، انتظرت لأكثر من أسبوع لتأتيني دورتي الشهرية. كان شهر مشمس ودافئ. كنت أشعر أني ثقيلة ورطبة داخل معطفي الذي أخرجته مبكراً جداً، خصوصاً في المحلات الكبيرة حيث كنت أتجول، أشتري جوارب، في انتظار أن تبدأ الدراسة. عند العودة إلى حجرتي، في المدينة الجامعية للفتيات، في شارع هربوفيل، كنت آمل دائماً أن أرى بقعة في لباسي. بدأت أكتب في أجندتي كل ليلة، بحروف كبيرة تحتها خط: مافيش. كنت أصحو ليلاً، كنت أعرف مازلت إنه "مافيش". في السنة السالفة، في نفس الفترة، كنت قد بدأت في كتابة رواية، بدا لي ذلك بعيداً جداً وكأنما لا ينبغي له أبداً أن يحدث مرة أخرى.
ذات ظهيرة ذهبت إلى السينما لمشاهدة فيلم إيطالي أبيض وأسود، Il posto. كان طويلاً وحزيناً، عن حياة صبي في أول وظيفة له، مكان به مكاتب. كانت القاعة شبه خاوية. عند النظر إلى الشبح الهزيل لذلك الموظف الصغير، في معطفه الواقي من المطر، إلى مهانته، أمام الأسف اليائس للفيلم، كنت أعرف أن دورتي الشهرية لن تأتِ.
 
ذات مساء، تركت نفسي للذهاب إلى المسرح مع فتيات من المدينة الجامعية كان معهن تذكرة إضافية. كانت مسرحية "جلسة سرية"، ولم أكن شاهدت من قبل مسرحية معاصرة. كانت القاعة مكتظة. كنت أرى المشهد، بعيداً، مضاء بشكل عنيف، وأفكر بلا توقف أن دورتي الشهرية لم تأتِ. لا أتذكر إلاّ شخصية إستيل، شقراء في رداء أزرق، والفتى الذي يرتدي زي الخادم، بعيون حمراء بلا رموش. كتبت في الأجندة "هايل. لو بس ماكانتش الحقيقة دي بين ضلوعي".
 
في نهاية أكتوبر، توقفت عن الظن إنها يمكن أن تأتي. أخذت موعداً مع طبيب أمراض نساء، الدكتور "ن"، ليوم 8 نوفمبر.
 
في عطلة نهاية أسبوع توسان، عدت كالعادة إلى والديّ. كنت خائفة أن تسألني أمي عن  سبب تأخيري. كنت متأكدة أنها تراقب ألبستي كل شهر بينما تفرز الغسيل المتسخ الذي أجلبه معي لتغسله.
 
يوم الاثنين، استيقظت على مغص في معدتي، وطعم غريب في فمي. في الصيدلية، أعطوني "هيباتوم"، وهو سائل كثيف أخضر ذاد حالتي سوءاً.
 
"و." فتاة من المدينة الجامعية، اقترحت عليّ أن أقوم نيابة عنها بتدريس اللغة الفرنسية في معهد "سان-دومينيك". كانت فرصة طيبة لكسب القليل من المال الإضافي إلى جانب منحتي الدراسية. استقبلتني الناظرة، وفي يدها كتاب "لاجارد وميشار للقرن السادس عشر". قلت لها إنني لم أدرِّس من قبل وأن ذلك يخيفني. كان ذلك عادياً، هي نفسها، ولمدة عامين، لم تكن تستطيع دخول حصص الفلسفة إلا ورأسها محنية، ناظرة للأرض. جالسة على مقعد مواجه لي، كانت تحاكي هذه الذكرى. لم أكن أرى سوى جمجمتها المحجبة. بينما أنا خارجة ب"لاجارد وميشار" الذي أعارته لي، رأيت نفسي في فصل الصف الثاني وتحت نظرات البنات، وانتابتني رغبة في الغثيان. في اليوم التالي، اتصلت هاتفياً بالناظرة لرفض الحصص. طلبت مني بجفاف أن أعيد الكتاب.
 
الجمعة 8 نوفمبر بينما كنت أتجه إلى ميدان "اوتل-دو-فيل" لأستقل حافلة وأذهب إلى الطبيب "ن."، في شارع لافاييت، قابلت جاك س.، دارس للأدب وابن مدير مصنع في المنطقة، كان يريد أن يعرف لماذا أنا ذاهبة يساراً. أجبت أنني أشعر بألم في معدتي وإنني أذهب للطبيب الفموي. استدرك كلامي بحسم: الفموي لا يعالج المعدة، إنما تلوث الفم. ومخافة أن يشك في شيء نتيجة لهفوتي، ولكي لا يطلب مرافقتي حتى باب الطبيب، تركته فجأة مع وصول الحافلة.
 
بالضبط لحظة نزولي من فوق الطاولة، وبلوفري الأخضر الكبير يسقط على فخذي، قال لي طبيب النساء أنني حامل بالتأكيد. ما اعتبرته ألم في المعدة كان غثيان الحمل. لقد كتب لي أيضاً حقن تعيد الدورة الشهرية لكن كان يبدو عليه أنه غير مقتنع إنها ذات نفع. عند الخروج من الباب ابتسم بمرح قائلاً: "أطفال الحب هم دائماً الأكثر جمالاً." كانت جملة مخيفة.
عدت مشياً إلى المدينة الجامعية. في الأجندة، موجود : " أنا حامل. هو ده الفزع نفسه."
 
 
 
في بداية أكتوبر، مارست الحب العديد من المرات مع "ب."، طالب علوم سياسية التقيت به في الأجازة وكنت أذهب لزيارته في بوردو. كنت أعرف أنني في فترة الخطر، بحسب نتيجة "أوجينو" للتحكم في الميلاد، لكنني لم أكن أظن إنها "ممكن تشبك" في داخل بطني. في الحب والمتعة، لم أكن أشعر إنني جسم مختلف باطنياً من جسم الرجال.
كل الصور التي تأتيني من إقامتي في بوردو –الغرفة في حوش "باستور" والضجة المستمرة للسيارات، السرير الضيق، وسطح "مونتيني"، السينما التي رأينا فيها مشمالاً (1)، حصاد العرعر – لم يكن لها سوى معنى واحد: كنت هناك ولم أكن أعرف أنني كنت في طريقي لأصبح حاملاً.
_______
(1) ملحفة كانت تشتمل بها نساء الإغريق [م]
 
أعطتني ممرضة "كرو" حقنة في المساء، بلا تعليق، وأخرى في صباح اليوم التالي. كانت عطلة نهاية الأسبوع في 11 نوفمبر. عدت إلى والديّ. في لحظة، سال مني بسرعة وباقتضاب دم وردي. وضعت اللباس والبنطال القماش المبقع على كومة الغسيل الوسخ، بصورة واضحة. (في الأجندة: "نزلت وماستمرتش، كفاية لخداع أمي.") في العودة إلى روان، اتصلت هاتفياً بالطبيب "ن." الذي أكد لي حالتي وأعلن لي إنه سيبعث إلىّ بشهادة حملي. وصلتني الشهادة اليوم التالي. ولادة : الآنسة آني دوشيسن. متوقعة يوم: 8 يوليو 1964. رأيت الصيف، الشمس. مزقت الشهادة.
كتبت إلى "ب." أنني حامل وأنني لا أريد الاحتفاظ بالحمل. كنا قد تركنا بعضنا البعض غير متأكدين من استمرار علاقتنا وكنت أشعر بالمتعة في بلبلة عدم اكتراثه، حتى وإن كنت لا أملك أية أوهام حول الراحة العميقة التي سيسببها له قراري بالإجهاض.
 
بعد ذلك بأسبوع، تم اغتيال كينيدي في دالاس. لكن لم يكن هناك أي شيء يمكنه أن يثير اهتمامي.
 
كانت الشهور التي تلت ذلك تسبح في هالات من الضوء. أراني أمشي في الشوارع باستمرار. في كل مرة أفكر فيها في تلك المرحلة، تأتي إلى رأسي تعبيرات أدبية مثل " اجتياز المظاهر"، "ما وراء الخير والشر"، أو أيضاً "السفر في عمق الليل". بدا لي ذلك دائماً مماثلاً لما عشت وعانيت إذاً، شيء يعجز الواحد عن وصفه، وله جمال معين.
 
منذ سنوات وحياتي تدور حول هذا الحدث. كانت قراءتي لفقرة عن الإجهاض في رواية ما تجعلني أغرق في رعشة بلا صور ولا أفكار، كأن الكلمات كانت تتحول في كل لحظة إلى شعور عنيف. وبنفس الطريقة، كان سماعي صدفة للجاوية، أو ذاكرتي تستسلم ، أو أية أغنية صاحبتني في تلك الفترة ، يصيبني بالتوتر.
 
بدأت هذا العمل منذ أسبوع، وأنا غير متأكدة من أنني سأكمله. كنت أريد فقط أن أتأكد من رغبتي في الكتابة عنه. رغبة كانت تعبرني باستمرار في كل مرة أكتب فيها الكتاب الذي أشتغل فيه منذ سنتين. كنت أقاوم غير قادرة علي عدم التفكير فيه. كان يبدو لي مخيفاً أن أترك نفسي له. لكنني كنت أقول لنفسي أيضاً أنني يمكن أن أموت  دون أن أكون فعلت من هذا الحدث شيئاً. إذا كانت هناك خطيئة، فستكون هذه. ذات ليل، حلمت إنني أحمل بين يدي كتاب كتبته عن إجهاضي، لكن لم يكن لهذا الكتاب وجود في أي مكان في المكتبة ولم يكن منوه عنه في أية نشرة كتب. أسفل الغلاف، بحروف كبيرة، ظهرت كلمة: نافد. لم أن أعرف إن كان هذا الحلم يعني أنني ينبغي أن أكتب هذا الكتاب، أم إنه غير مجدٍ أن أقوم بكتابته.
 
في هذا النص، زمن اتخذ مجراه وأخذ يجرني معه رغماً عني. أعرف الآن أنني قررت أن أذهب فيه حتى النهاية، مهما كانت العواقب، مثلما فعلت منذ ثلاثة وعشرين عاماً، عندما مزقت شهادة الحمل.
 
أريد أن أغوص مرة أخرى في هذه المرحلة من حياتي، أن أعرف ما قد وُجِدَ هناك. هذا الاستكشاف سيدوَّن في نسيج نص، وحده قادر على أن يعيد حدثاً لم يكن إلاّ زمناً في داخلي وخارجي. ستأتيني من خلال نتيجة ويوميات كتبتها في تلك الشهور، العلامات والدلائل اللازمة لإرساء الوقائع. سأجاهد نفسي برغم كل شيء وأنزل إلى كل صورة، حتى أحصل على الشعور الفيزيقي بـ"الاتحاد معها"، وحتى تظهر بعض الكلمات، التي يمكن أن تجعلني أقول، "هو ده". أن أسمع من جديد كل واحدة من هذه الجمل التي لا تُمحى بداخلي، والتي كانت معانيها لا تطاق، أو كانت على العكس من ذلك مواسية لدرجة تجعل التفكير فيها اليوم يغرقني في القرف أو اللذة.
أن يكون الشكل الذي عشت به تجربة الإجهاض هذه – الخفاء – منتزع من قصة تامة لا يبدو لي سبباً مناسباً لتركها تهرب – حتى وإن كان التناقض في قانون عادل هو إجبار الضحايا القدامى على الصمت، تحت مسمى "كل ده فات وانتهى"، فالصمت السابق نفسه يغطي ما قد حدث بالفعل. بل ولأنه لم تعد هناك أية حرمانية تجثم على عاتق الإجهاض يمكنني، مقصية الحس الجمعي والصيغ المبسطة بالضرورة، والتي يتم فرضها عبر صراع السبعينيات – "عنف موجه إلى النساء"، الخ. – أن أواجه، في حقيقته، هذا الحدث الذي لا يُنسى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
قانون. يعاقبون بالحبس والغرامة 1) كاتبو وصفات مجهضة أياً ما كانت. 2) الأطباء والحكيمات، والصيادلة والمدانون بالتنويه عن أو استحسان هذه الوصفات. 3) السيدة التي تجهض نفسها أو تشرع في ذلك. 4) التحريض على الإجهاض والدعاية ضد الحمل. على المذنبين يمكن أن تقع عقوبة منع الإقامة، بل وبالنسبة للفئة الثانية،  المنع من ممارسة مهنهم.
لاروس العالمي الجديد
طبعة 1948
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
توقف الزمن من أن يكون تتابع غير محسوس للأيام، لملء المحاضرات أو الأبحاث، للتوقف في المقاهي والمكتبة، متجهاً نحو الامتحانات والإجازة الصيفية، إلى المستقبل. لقد صار شيئاً بلا شكل يتقدم بداخلي وينبغي تدميره بأي ثمن.
كنت أذهب إلى محاضرات الأدب والاجتماع، إلى المطعم الجامعي، أشرب قهوة في الظهيرة وفي المساء في "فالوش"، البار المخصص للطلبة. لم أعد ضمن العالم ذاته. كانت هناك الفتيات الأخريات، ببطونهن الفارغة، وأنا.
 
لكي أفكر في وضعي،  لم أكن أستخدم أي تعبير يعبر عنه، لا "أنتظر طفلاً" ولا "أنا حامل"، ولا تعبير أقل "حمل"، القريبة في النطق من "مضحك"(2). كانت هذه التعبيرات تحمل قبولاً لمستقبل لن يكون. لم يكن هناك داعٍ لتسمية ما قررت أن أمحوه. في النتيجة، كنت أعبر عنه بـ: "هذا"، "هذا الشيء"، ومرة واحدة "حامل".
______
(2) grossesse و grotesque والنطق شديد التشابه بالفرنسية [م]
 
كنت أمر من عدم الإيمان بأن هذا يحد يحدث لي، لي أنا، إلى اليقين من أن هذا كان ينبغي أن يحدث لي. كان ذلك ينتظرني منذ أول مرة تلذذت فيها  تحت أغطيتي، في سن الرابعة عشر، ولم أقدر، بعدها أبداً – برغم الصلوات إلى العذراء، والعديد من القديسين -، أن أمنع نفسي من تجديد التجربة، بينما أحلم دائماً أنني مومس. بل وإنه كانت معجزة أنني لم أجد نفسي مبكراً في هذا الوضع. حتى الصيف السابق لذلك نجحت بسبب الجهد والمهانة – مع معاملتي باعتباري وسخة ومثيرة -  في أن أمتنع عن ممارسة الحب ممارسة كاملة. في النهاية لم أصل إلاّ في عنفوان رغبة إلى سلامي - بالتصالح السيئ  مع حدود النزق – الذي قادني إلى التشكك حتى في أبسط القبل.
كنت أقيم بشكل ملتبس علاقة بين مستواي الاجتماعي الأصلي وما يحدث لي. كأول من قامت بالدراسات العليا في عائلة من العمال وصغار التجار، نجوت من المصنع ومبسط السلع. لكن لا الشهادة الثانوية ولا ليسانس الأدب نجحا في تحويل قدر  الانتقال من  فقر كانت الفتاة الحامل رمزاً له، مثلها مثل مدمنة الخمر. لقد أمسك بتلابيبي، وما كان ينمو بداخلي، كان بصورة ما الفشل  الاجتماعي.
 
 
لم أكن أفكر في الإجهاض مدركة له. بدا لي هذا، سهلاً، يمكن عمله، ولا يستوجب أية شجاعة خاصة. امتحان عادي. يكفي فقط اتباع طريق سبقتني إليه العديد من النساء. منذ سن المراهقة تراكمت عندي حكايات، قرأتها في روايات، أو حملتها الإشاعات في الحي عبر حاورات بصوت خفيض. اكتسبت معرفة غائمة حول الطرق المستخدمة، إبرة التريكو، عرق البقدونس، حقن الماء بالصابون، الفروسية – افضل طريقة تتمثل في التوصل إلى طبيب قالت "مارون"، أو إلى امرأة ذات اسم جميل "صانعة الملائكة"، الأول والثانية يكلفون الكثير من المال لكنني لم تكن لدي أية فكرة عن بيان الأسعار. السنة السابقة، سيدة شابة مطلقة حكت لي أن طبيباً في ستراسبورج خلصها من طفل، دون أن تعطيني أية التفاصيل، سوى "كنت أتألم بشدة لدرجة جعلتني أتشبث بالمرحاض". كنت مستعدة أن أتشبث بالمرحاض أنا أيضاً. لم أكن أتخيل أنه يمكنني أن أموت.
 
بعد تمزيقي لشهادة الحمل بثلاثة أيام، قابلت جان ت. في حوش الكلية، طالب متزوج وأجير، لأجله، في العامين السابقين، أخذت نسختين من محاضرات فيكتور هوجو  التي لم يستطع أن يحضرها. كلماته الجموحة وأفكاره الثورية كانت تناسبني. ذهبنا نحتسي مشروباً في ميدان "لاجار"، في المتروبول. في لحظة،  أخبرته بصورة ملتوية أنني حامل، بلا شك لأنني فكرت إنه قد يساعدني. كنت أعرف إنه ينتمي إلى جمعية شبه سرية تحارب من أجل حرية منع الحمل، تنظيم الأسرة، وتوهمت ربما نجدة يمكن أن تأتيني من هذا الجانب.
انتابه بشكل مفاجئ نوع من الفضول والمتعة،  كأنما يراني بسيقان متباعدة وعضوي ممنوحاً. ربما أيضاً وجد متعته في التحول المفاجئ للطالبة النجيبة، آنسة الأمس إلى فتاة في وضع ميئوس منه. كان يريد أن يعرف ممن أنا حامل، ومنذ متى. كان أول شخص أكلمه عن حالتي. حتى وإن لم يكن يستطيع في لحظتها أن يعطيني حلاً، كان فضوله يحميني. لقد اقترح علىّ أن أتناول العشاء عنده، في ضاحية روان. لم أكن أرغب في أن أجد نفسي وحيدة في حجرتي في المدينة الجامعية.
 
عندما وصلنا، كانت زوجته تطعم طفلهما، جالسة على مقعد عالي. جان ت. قال لها باختصار إن عندي مشاكل. جاءهم صديق. بعد أن أخلدت الطفل للنوم، قدمت لنا أرانب بالسبانخ. أصابني اللون الأخضر الغامق تحت  قطع الأرانب بغصة ما.فكرت أني في السنة القادمة سأشبه زوجة جان لو لم أجهض نفسي. بعد العشاء، خرجَتْ مع الصديق إلى مكان ما لجلب الأدوات اللازمة للمدرسة حيث كانت تعمل مدرسة، وأخذت أنا أغسل الصحون بصحبة جان ت. الذي أخذني بين ذراعيه وقال إنه عندنا متسع من الوقت لنمارس الحب. تخلصت منه وواصلت غسل الأواني. كان الطفل يبكي في الحجرة المقابلة، كنت أرغب في الغثيان. جان ت. ضغطني من الخلف بينما أنا مستمرة في تنشيف الصحون. فجأة، استعاد نبرته المعتادة زاعماً إنه كان يريد أن يقيس قوتي المعنوية. عادت زوجته واقترحا عليّ أن أبقى. كان الوقت متأخراً ولم يكن هو أو هي متحمسان لإعادتي إدراجي. نمت على مرتبة مطاطية في غرفة المعيشة. في الصباح التالي، عدت إلى حجرتي في المدينة الجامعية والتي غادرتها الليلة السابقة، قرب الظهيرة، ومعي متعلقات محاضراتي. كان السرير مرتباً، كل شيء كان يبدو كما هو بينما يوم قد انتساب تقريباً. بهذا النوع من التفاصيل كان يمكن قياس بداية الفوضى في حياتي.
لم أعتقد أن جان ت. عاملني بازدراء. فأنا، بالنسبة له، قد انتقلت من نوعية البنات اللاتي لا يُعرَف إن كنّ سيوافقن على النوم معهن أم لا، إلى نوعية البنات اللاتي، بصورة لا ريب فيها، نمن من قبل مع أحد. في عصر كانت فيه التفرقة بين النوعين شديدة الأهمية، وتحكم تصرفات الشباب تجاه الفتيات، كان يبدو قبل كل شيء نفعياً، متأكداً إنه لن يجعلني حاملاً بما أنني حامل فعلاً. كان مشهداً غير ممتع، لكن يمكن تجاهله على كل حال، أخذاً حالتي في الاعتبار. إنه وعدني أن يبحث عن عنوان طبيب وأنا لم يكن أمامي غيره.
 
 
بعد ذلك بيومين،  قابلته في مكتبه واصطحبني للأكل في كافيتريا على الرصيف، قرب موقف السيارات، في حي نُكِّس أثناء الحرب، وتمت إعادة بنائه من الخرسان،لم أكن أذهب أبداً إلى هناك. بدأت أتجول، أخرج من المساحات والأماكن التي كنت عادة ما أنمو فيها في تلك الساعة، مع الطلبة الآخرين. طلب سندوتشات. اندهاشه لم يخفت. قال لي ضاحكاً إنه يمكنه أن يضع لي مسباراً مستعيناً ببعض الأصدقاء. لم أكن واثقة من أنه يمزح. ثم حدثني عن آل"ب"، وهما زوجان قامت الزوجة بإجهاض نفسها مرتين أو ثلاثة من قبل. "كانت هاتروح فيها" لم يكن معه عنوان الزوج ب. لكن  كان يمكنني أن أتصل بـ "ل. ب." في الجريدة التي كانت تعمل فيها بالقطعة. كنت أعرف شكلها، لأني تابعت معها درس فلسفة، هي فتاة صغيرة الجسم وخمرية، ذات نظارات غليظة، تتسم بالجدية. أثناء عرضها بحث ما، تلقت مدحاً شديداً من المدرس. أن تكون فتاة مثلها قد أجهضت، فإن هذا أمر أشعرني بالطمأنينة.
ما إن انتهى من شندويتشاته، تمطى جان ت. في مقعده مبتسماً بأسنانه المتباعدة كلها: "حلو إننا ناكل." شعرت بالأسى وأحسست أنني وحدي. بدأت أفهم إنه لم يكن يرغب في أن يتورط كثيراً في هذا الأمر. الفتيات اللاتي ترغبن في الإجهاض لم تكن تدخلن في الإطار الأخلاقي الذي يضرب بجذوره في الخطط العائلية الذي ينتمي إليها.  ما كان يرغب فيه، هو أن يبقى في الصف الأول ويستمر في معرفة تطورات قصتي. شيء مثل أن يرى كل شيء ولا يدفع ثمناً: لقد سبق أن أخبرني إنه كعضو في جمعية تحارب لصالح الأمومة المرغوبة، فإنه لم يكن يستطيع "أخلاقياً" أن يقرضني مالاً لكي أجهض سراً. (في الأجندة "الأكل مع ت. على أرصفة المحطة. المشاكل تتراكم.")
 
 
 
 
 
بدأت البحث. كان ينبغي أن أجد ل.ب. زوجها الذي كنت غالباً ما أراه في المطعم يوزع منشورات، لم يكن يبدو أنه أتى. في الظهيرة والمساء كنت أقطع القاعات، أتوقف في الردهة قرب الباب.
 
انتظرت ل.ب. مساءين متتالين أمام "باريس-نورماندي". لم أجرؤ على الدخول والسؤال عن ما إذا كانت  قد وصلت. كنت أخشى أن يتم التشكك في خطواتي وأكثر من ذلك أن أسبب أي حرج لـ"ل.ب." في محل عملها بسبب شيء كان يمكنها هي أن "تروح فيها" لأجله. المساء التالي، كانت السماء تمطر، كنت وحدي في الشارع، تحت شمسيتي، أقرأ بآلية أوراق الجريدة المثبتة على لوح رمادي قبالة الحائط، بينما أنظر بالتوالي إلى طرفي طريق "الاوبيتال". ل.ب. كانت في مكان ما داخل روان، كانت المرأة الوحيدة التي يمكنها نجدتي ولم تأت. عند العودة إلى المدينة الجامعية، في أجندتي "انتظار مازال لـ "ل.ب." تحت المطر. غائبة. أنا يائسة. لازم أخلص من الحاجة دي".
 
إذا كانت روايات كثيرة تتحدث عن الإجهاض، فإنها لم تكن تتحدث عن تفاصيل الطريقة المحددة التي حدث بها. بين اللحظة التي تكتشف فيها الفتاة إنها حامل وبين اللحظة التي لا تعود فيها حاملاً، كانت هناك فجوة. في المكتبة بحثت في الكروت عن كلمة "إجهاض". المراجع لم تكن سوى مجلات طبية. أخرجت اثنتين، "الأرشيف الطبي الجراحي" و "مجلة علم المناعة". كنت آمل أن أجد تعليمات عملية لكن المقالات لم تكن تتحدث إلاّ عن توابع "الإجهاض المجرَّم"، وهذه التوابع لم تكن تهمني.
 
(هذه الأسماء والأرقام الكودية، موجودة على الصفحة الواقية لأجندة عناويني الخاصة بتلك الفترة:
 per m 484, n. 5 et 6, Norm. Mm1065 (1). أنظر إلى هذه الآثار المكتوبة بالقلم الحبر الأزرق شاعرة بالغرابة والانبهار، كأن هذه الدلائل المادية حمت، بصورة قاتمة وغير قابلة للتدمير، حقيقة لم تكن الذاكرة ولا الكتابة، بسبب عدم استقرارهما، ليسمحا لي أن أصل لها.)
______
(3)أرقام كودية خاصة ببطاقات البحث عن الكتب في المكتبات[م]
 
ذات ظهيرة، خرجت من المدينة الجامعية بنية التوصل إلى طبيب يقبل أن يجهضني. هذا الكائن، لا بد له من وجود في مكان ما. تحولت روان إلى غابة من الأحجار الرمادية. كنت أنقب في اللوحات المعدنية المذهبة سائلة نفسي من سأجد خلفها. لم أقرر أن أدق الجرس. انتظرت علامة.
اتجهت إلى حي مارتنفيل، متخيلة إنه، في هذا الحي الفقير، شبه الضيق، ينبغي أن يكون الأطباء أكثر استيعاباً.
كانت شمس نوفمبر باهتة. تقدمت معها، في رأسي، مقدمة أغنية أسمعها بلا توقف، دومينيك نيك نيك،  تغنيها راهبة من الدومنيكان بصحبة جيتارها، هي الأخت سورير. كانت الكلمات معبرة، وساذجة – الأخت سورير (4) لم تكن تعرف معنى الفعل "نيكيه"(5) -، إنما الموسيقى المبهجة الراقصة. منحني ذلك شجاعة في البحث. وصلت ميدان سان مارك، بضائع معروضة متكدسة. رأيت في العمق محل الأثاث المطوّع، الذي أتيت إليه وأنا طفلة، مع أمي، لكي نشترى خزانة. لم أعد أنظر إلى اللوحات المعدنية على الأبواب، كنت في حالة تجوال لا هدف له.
_____
(4) سورير بمعنى ابتسام [م]
(5)فعل niquer بمعنى يسخر من[م]
 
(في جريدة لوموند، منذ حوالي العشر سنوات، علمت بانتحار الأخت سورير. حكت الجريدة إنه بعد النجاح منقطع النظير ل"دومنيك"، عرفت الأخت كل أنواع المرارة من نظامها الديني، فتركته، وعاشت مع امرأة. شيئاً فشيئاً، توقفت عن الغناء وغطاها النسيان. كانت تشرب. هذا الاختصار ربكني. بدا لي إنها كانت المرأة التي أحدثت قطيعة مع المجتمع، التاركة للرهبانية، المثلية بصورة أو بأخرى، المدمنة للكحوليات، تلك التي لم تكن تعرف إنها ستصبح هكذا ذات يوم، والتي صاحبتني في شوارع مارتانفيل عندما كنت وحيدة وضائعة. توحدنا معاً في الشعور بتخلي الرب عنا، تخلٍ المرجأ ببساطة، في الزمن. وفي تلك الظهيرة،  واتتني الشجاعة أن أعيش على أغنية لامرأة، فيما بعد، سيصيبها الضياع حتى الموت. كنت آمل بعنف أن تكون على الأقل قد حظيت ببعض السعادة وأنها، في أمسيات الويسكي، الآن أعرف معنى الكلمة، تكون قد فكرت إنها أخيراً، قد سخرت فعلاً من الأخوات الطيبات.
الأخت سورير هي واحدة من تلك النسوة، قابلتهن أم لم أقابلهن، أحياء كن أم أموات، واقعيات أم لا، ، اللاتي معهن، وبرغم كل الاختلافات، أشعر بشيء مشترك. إنهن يشكلن بداخلي سلسلة لا مرئية تقف فيها جنباُ إلى جنب، الفنانات، الكاتبات، بطلات الروايات ونساء طفولتي. أشعر إن قصتي يكمن فيهن.)
 
 
 
مثل أغلب عيادات الأطباء في الستينات، كانت عيادة الطبيب العام في شارع إيزير، بالقرب من ميدان بوفوازين، تشبه صالوناً بورجوازياً، بسجاجيد، مكتبة واجهتها من الزجاج ومكتب ستيل. من المستحيل التكهن بالسبب الذي من أجله توجهت إلى هذا الحي الجميل، حيث يسكن نائب اليمين، أندريه ماري. كان الوقت ليلاً وربما لم أن أرغب في الدخول بدون أن أختبر شيئاً. استقبلني طبيب مسن. قلت له إنني متعبة وإن دورتي الشهرية لا تأتني. بعد أن فحصني بإصبع من المطاط، أعلن إنني مؤكد حامل. لم أجرؤ على أن أطلب منه أن يجهضني، فقط توسلت إليه أن يعيد إليّ دورتي الشهرية، بأي ثمن. لم يجب، وبدون أن ينظر إليّ، انطلق في النقد اللاذع المعتاد ضد الرجال الذين يتركون الفتيات بعد أن ينالوا متعتهم منهن. كتب لي على حقن رحمية. استعاد لطفه في النهاية عندما علم إنني طالبة وسألني إن كنت أعرف فيليب د.، ابن أحد أصدقائه. كنت فعلاً أعرفه، خمري بنظارات، ذو طابع كاثوليكي من الطراز القديم، كنت آخذ معه درس اللاتينية، في السنة الأولى من الكلية، والذي رحل إلى كان. أتذكر إنني فكرت إنه لم يكن النوع الذي يمكنني أن أحبل منه. "ولد طيب، مش كده؟" ابتسم الطبيب وظهر عليه السرور من موافقتي له. لقد نسي سبب مجيئي. عندما صاحبني إلى الباب، بدا عليه الاطمئنان. لم يطلب منى أن أعود إليه.
 
 
 
الفتيات اللاتي مثلي كن يفسدن يوم الأطباء. بلا مال وبلا علاقات – وإلاّ لما كن أتين ليخسرن قضيتهن بعماء لديهم -، يجبرنهم على تذكر القانون الذي يمكنه أن يزج بهم في السجن ويحرمهم من ممارسة مهنتهم للأبد. لم يكونوا ليجرءوا على قول الحقيقة، إنهم لن يخاطروا بفقدان كل شيء من أجل جمال عيون آنسة غبية بما يكفي لكي تترك نفسها تحبل . إنهم يفضلون بصدق أن يموتوا على أن يوقفوا قانوناً يميت النساء. لكن كلهم يفكرون إنه، حتى وإن كنا نمنعهن عن الإجهاض، فإنهن سيجدن طريقة ما. أمام فقدان المهنة، إبرة تريكو في الرحم لم تكن تثقل على أحد.
 
 
كان علىّ أن أبذل جهداً لكي أخرج من تحت شمس الشتاء في ميدان سان مارك، في روان، من داخل أغنية الأخت سورير وحتى من العيادة المزخرفة لطبيب نسيت اسمه، في شارع يزير. للهروب من تشوه الصور والوصول إلى هذه الحقيقة الغير مرئية، المجردة، الغائبة عن الذاكرة، والتي مع ذلك كانت تلقيني في الشارع بحثاً عن طبيب مشكوك في وجوده: القانون.
 
كان في كل مكان. في التلميحات وأشكال التلطيف في أجندتي، في عيني جان البارزة، في الزيجات الاضطرارية، شمسيات شيربور، خزي اللاتي تجهضن واستنكار الآخرين. في الاستحالة المطلقة لتخيل ذلك اليوم الذي يمكن فيه للنساء اتخاذ قرار الإجهاض بحرية. وكالمعتاد، كان من المستحيل معرفة ما إذا كان الإجهاض محرماً لأنه سيئ، أم إنه سيئ لأنه محرم. كان التقييم يأتي حسب ما يقول القانون، والقانون لم يكن يتم تقييمه.
 
 
لم أكن أعتقد إن حقن الطبيب ستكون مجدية لكنني رغبت في تجربة كل شيء. خاشية من أن تشك في أمري ممرضة كرو، طلبت من إحدى طالبات الطب كنت أرها أغلب الوقت في المطعم، ما إذا كان يمكنها أن تحقنني. أرسلت لي طالبة أخرى مساءً في حجرتي، شقراء، جميلة جداً، وحبورة. برؤيتها كنت أدرك إنني في طريقي لأن أكون فتاة مسكينة. حقنتني دون أية أسئلة. في اليوم التالي، لم تكن أية منهما متاحة، فجلست على السرير وغرزت لنفسي الإبرة في فخذي مغلقة عيني. (في الأجندة: "حقنتان ولا أثر.") فيما بعد، سوف أعلم إن طبيب شارع يزير كتب لي دواءً يستخدم لمنع الإسقاط اللا-إرادي للحمل.
 
(أشعر إن النص يجرني ويفرض، بلا علم مني، معنى ما، معنى الأسى في خطوات محتومة. أرغم نفسي على مقاومة الرغبة في إنزال الأيام والأسابيع، محاولة أن أحافظ بكل السبل – بالبحث وتدوين التفاصيل، استخدام الماضي الناقص، تحليل الأحداث – على البطء الذي لا ينتهي لزمن مكثف لا يتقدم، مثل زمن الأحلام.)
 
 
 
كنت أواصل الذهاب إلى المحاضرات، إلى المكتبة. أثناء الصيف كنت قد اخترت بحماس موضوع مذكرة عن المرأة في السريالية. الآن لم يعد يبدو لي أشد جاذبية من أدوات الوصل في اللغة الفرنسية القديمة أو الاستعارات في أعمال شاتوبريان. كنت أقرأ بلا مبالاة نصوص إلوار، بروتون وأراجون، محتفين بنساء مجردات، وسيطات بين الرجل والكون. هنا وهناك، كنت أدون جملة تفيد في موضوعي. لكن لم أكن أعرف ماذا أفعل بالملاحظات التي دونتها وكنت أشعر أنني عاجزة عن أن أسلم الخطة إلى المدرس وكذلك الفصل الأول الذي طلبه مني. وصل المعارف ببعضها البعض ووضعها في بناء متناسق كان أمر فوق طاقتي.
          منذ دراستي الثانوية، كنت بالأحرى ألعب جيداً بالمفاهيم. الطبيعة المصطنعة لأوراق البحث والأعمال الجامعية الأخرى لم تكن تفوتني لكنني كنت أقتنص نوعاً من الفخر بإظهار مهاراتي. وبدا لي إنه الثمن الذي ينبغي دفعه لكي "أكون في الكتب"، كما كان والداي يقولان، وإن أخصص لها مستقبلي.
          الآن، "سماء الأفكار" صارت بعيدة المنال، كنت أجرجر نفسي تحتها بجسمي الذي يغوص في الغثيان. أحياناً كنت أتمنى أن تعود إليّ قدرتي على التفكير بعد أن أتخلص من مشكلتي، وأحياناً أخرى كان يبدو لي إن المكتسب الثقافي كان بداخلي بناءً مزيفاً وقد انهار للأبد. بطريقة ما، كان عجزي عن كتابة مذكرتي مرعباً أكثر من ضرورة إجهاضي. كان العلامة الأكيدة على انحداري الغير مرئي. (في أجندتي: "ماباكتبش. مابشتفلش. أخرج إزاي من الحالة دي.") لقد توقفت عن كوني "مثقفة". لا أعرف إن كان هذا الشعور ذائع. إنه يسبب معاناة لا يمكن التعبير عنها.
 
(ينتابني شعور متكرر مازال إنني لا أذهب بعيداً بما يكفي لاستكشاف الأشياء، كأنما يمنعني شيء شديد القدم، مرتبط بعالم الحرفيين الذي خرجت منه والذي كان يشك في " وجع الدماغ"، أو مرتبط بجسدي، بتلك الذكرى الموجودة في جسدي.)
 
 
كل صباح، عند الاستيقاظ، كنت أعتقد أن الغثيان قد ولىّ وفي اللحظة ذاتها التي كنت فيها أظن ذلك، كنت أشعر به يتدفق في مد غادر. لم أتوقف عن الرغبة والقرف من الأكل. ذات يوم، عند مروري أمام جزارة الخنازير، رأيت أمخاخاً. دخلت لأشتري واحداً أكلته في التو على الرصيف. مرة أخرى، توسلت لصبي أن يعطيني عصير العنب الذي كنت لشد ما أرغب فيه يهيأ لي إنني كنت لأفعل أي شيء لكي أحصل عليه. مجرد أن أحصل عليها، كانت بعض المأكولات تثير اشمئزازي، وأخرى، جميلة المنظر، كانت تتحلل في فمي، منبئة عن تفسخها المستقبلي.
          ذات صباح كنت أنتظر فيه مع طالبات أخريات نهاية محاضرة حتى ندخل إلى قاعة، ذابت الخيالات فجأة وتحولت إلى نقاط لامعة. لم أحصل إلاّ على الوقت الكافي لأن أجلس على درجات السلم.
          دونت في الأجندة: "ضيق مستمر." – "في الساعة 11، شعور بالقرف في م. ب. (6)" – "أنا على طول عيانة."
في سنتي الأولى في الكلية، بعض الفتيان كانوا يثيرون أحلامي، دون علم منهم. كنت ألاحقهم، وأجلس ليس ببعيد عنهم في المدرج، متابعة الساعة التي يذهبون فيها إلى المطعم، وإلى المكتبة. هذه الحكايات الرومانسية المتخيلة بدت لي تنتمي إلى زمن بعيد، بلا مبالغة، زمن فتاة صغيرة تقريباً.
_____
(6) مكتبو البلدية [م]
          في صورة التُقِطَت لي في سبتمبر السابق، أنا جالسة، شعري على كتفي، كنت مسمرة جداً، وشاح داخل فتحة القميص المخطط، مبتسمة، نبيهة. في كل مرة كنت أنظر فيها إلى تلك الصورة، كنت أفكر إنها أخر صورة لي كفتاة، تنمو في نظام غير مرئي، ودائم الحضور، للإغواء.
 
 
في سهرة في "لافالوش" حيث ذهبت مع بنات من المدينة الجامعية، شعرت برغبة تجاه ولد، أشقر ولطيف، كنت أرقص معه باستمرار منذ البداية. كانت أول مرة منذ أن عرفت إنني حامل. لاشيء يمنع إذاً عضواً تناسلياً من أن يمتد وأن ينفتح، حتى عندما يكون في البطن جنيناً يستقبل دون تردد  دفقة من الحيوانات المنوية الغريبة. في الأجندة، "الرقص مع ولد رومانسي، لكني ماقدرتش أعمل حاجة."
 
 
كل الأمور بدت لي إما خطيرة أو تافهة. عادة ما كان حكي بعض الفتيات عن حياتهن اليومية بحذافيرها أمراً غير محتمل بالنسبة لي. ذات صباح، في المكتبة، جلست إلى جانبي فتاة من مونبيليه، كنت تابعت معها دروس فقه اللغة. وصفت لي بالتفصيل شقتها الجديدة في شارع سان مور، صاحبة البيت، الغسيل المنشور في الصالة، عملها كمدرسة للدروس الخصوصية، في شارع بوفوازين، الخ. وصفها الدقيق هذا ورضاها بعالمها بدا لي أحمقَ وفاحشاً. يبدو لي إنني حفظت كل ما قالته لي هذه الفتاة ذلك اليوم، بلكنتها الجنوبية – بلا شك بسبب فراغ كلامها من المعنى، والذي كان له عندي معنى مرعباً، هو نفيي بعيداً عن العالم الطبيعي.
 
(منذ أن بدأت الكتابة عن هذا الحدث، أحاول أن أعيد للحياة كل ما يمكن من وجوه وأسماء الطلبة الذين نموت بينهم، والذين باستثناء اثنين منهم أو ثلاثة، لم أرهم أبداً منذ رحيلي عن روان، في السنة التالية. بخروجهم واحداً تلو الآخر من طي النسيان، كانوا يستعيدون مواقعهم بتلقائية في الأماكن التي اعتدت أن ألتقي بهم فيها، كلية الآداب، المطعم الجامعي، الفالوش، مكتبة البلدية، رصيف القطار حيث كانوا يتلاصقون يوم الجمعة مساءً في انتظار القطار الذي يعيدهم إلى أسرهم. جمع حي، فيه أنا مأخوذة. إنه هو الذي، أكثر من ذكرياتي الشخصية، يعيد لي نفسي ذات الثلاثة وعشرين سنة – يجعلني أفهم إلى أي مدى كنت منغمسة في الوسط الطلابي. وهذه الأسماء وتلك الوجوه تفسر لي اضطرابي: مقارنة بهم، في هذا العالم المرجعي، كنت قد أصبحت داخلياً جانحة.
أمنع نفسي هنا من كتابة الأسماء لأنهم ليسوا شخصيات متوهمة لكنهم ذوات حقيقية. مع ذلك لا يمكنني أن أصدق إنهم موجودون في مكان ما. بمعنى ما، عندي حق بلا شك: فإن الشكل الذي يعيشون به الآن – أجسامهم، أفكارهم، حسابهم في البنك – ليس له أية علاقة بالشكل الذي كانوا يعيشونه في الستينيات، ذلك الشكل الذي أراه بينما أكتب. عندما تأخذني رغبة في البحث عن هذه الأسماء في الدليل السنوي، أحس فوراً بخطأي.)
 
 
 
 
يوم السبت، كنت أعود إلى والديّ. لم يكن كتمان حالتي يكلفني شيئاً، خارجة بالحالة العادية لعلاقاتنا منذ المراهقة. أمي كانت تنتمي لجيل ما قبل الحرب، جيل الخطيئة والخزي الجنسي. كنت واثقة أن هذه الاعتقادات لا تُمَس وقدرتي على معاناتها كانت مساوية لقدرتها على إقناع نفسها بأني أشاركها إياها. مثل أغلب الأهالي، كان أهلي يتخيلون إنهم يكتشفون بطريقة مبهمة من النظرة الأولى أدق علامات الانحراف. لكي أطمئنهم، كان يكفي أن أزورهم بانتظام، مبتسمة بوجه ناعم، وأن أحمل غسيلي الوسخ وأعود بالمؤن.
 
 
ذات يوم اثنين، عدت من عندهم بزوج إبر تريكو كنت قد اشتريتهما ذات صيف، لكي أصنع لنفسي سترة، لم أكن قد انتهيت من صنعها. إبرتان كبيرتان، بلون أزرق معدني. لم يكن أمامي أي حل. وقررت أن أفكر وحدي.
 
 
في اليوم التالي مساءً، ذهبت لمشاهدة Mein Kampf مع فتيات من المدينة. كنت شديدة الحماس وكنت أفكر بلا توقف فيما انتويت فعله في اليوم التالي. أحالني الفيلم مع ذلك إلى بديهة ما: المعاناة التي سوف أعاقب بها نفسي لا تساوي شيئاً أمام تلك التي يتلقونها في معسكرات الإبادة. أيضاً كان يشد أزري أنني أعرف أن ما كنت أتهيأ لفعله أمرٌ قامت به كثيرات أخريات.
 
في اليوم التالي صباحاً، تمددت على فراشي وجعلت إبرة التريكو تنزلق في عضوي بحذر. كنت أتحسس دون أن أجد عنق الرحم ولم أعد أستطع أن أمنع نفسي من التوقف ما إن أشعر بالألم. أدركت أنني لن أصل إليه وحدي. عجزي أصابني باليأس. لم أكن على المستوى. "ولا حاجة. مستحيل ولا إيه. أبكي ومافيش قدامي غير الاكتفاء."
 
 
          (يمكن لنص كهذا أن يثير الغضب، أو التنافر، مدموغاً بذوق السيئ. أن معايشة شيء أيا ما يكون، يعطي الحق غير القابل للتقادم في كتابته. ليست هناك حقيقة دنيا. وإن لم أذهب في علاقتي بهذه التجربة حتى آخرها، فسأكون قد ساهمت في تعتيم حقيقة النساء ووضعت نفسي في جبهة الهيمنة الذكورية على العالم.)
 
 
          بعد محاولتي غير المثمرة، اتصلت هاتفياً بالطبيب ن. قلت له إنني لا أريد أن "أحتفظ به" وإنني أهلكت نفسي. كان ذلك خطأ لكنني كنت أريده أن يعلم إني مستعدة لأي شيء في سبيل الإجهاض. طلب مني أن آتي فوراً إلى عيادته. ظننت إنه سيفعل لأجلي شيئاً. استقبلني بصمت، وبوجه وقور. بعد الكشف، أعلن أن كل شيء على ما يرام. أخذت في البكاء. كان خائر القوى على مكتبه، برأس منحنية، يبدو مرتبكاً. ظننت إنه كان مازال يصارع وإنه سيستسلم. رفع رأسه: "مش عايز أعرف إنتي هاتروحي فين. لكن هاتاخدي البنسلين، تمن ايام قبلها وتمانية بعدها. هاكتب لك الروشتة."
 
          عند خروجي من العيادة، اتهمت نفسي بأنني أفسدت عل نفسي فرصتي الأخيرة. لم أستطع أن ألعب للنهاية اللعبة التي تتطلب التحايل على القانون. إنه لم يمسك إلاّ بتوسلات الدموع والرجاء، بتعبير أفصل عن حقيقة اضطرابي، الذي أوصل بي إلى رغبتي في الإجهاض. (هذا هو ما اعتقدته لمدة طويلة. بشكل مغلوط ربما. هو وحده كان يمكنه أن يخبرني.) على الأقل كان يرغب في منعي من الموت بالتسمم الدموي.
          لا هو ولا أنا نطقنا بكلمة إجهاض ولا مرة واحدة. كان شيئاً لا مكان له في اللغة.
 
(الليلة الماضية، حلمت بأني كنت في الموقف ذاته الخاص بعام 1963 وأنني كنت أبحث عن سبيل للإجهاض. عند استيقاظي، فكرت
إن الحلم قد منحني الإرهاق والعجز نفسيهما الذين كنت أغرق فيهما. وبدا لي الكتاب الذي أكتبه نزوعاً يائساً. مثلما في الذروة الجنسية، حيث، في البرق، يكون لدينا انطباع أن "كل حاجة هنا"، كان تذكر حلمي يقنعني إنني حصلت بلا مجهود على ما أبحث عن الوصول إليه بالكلمات – جاعلاً استمراري في الكتابة بلا جدوى.
          لكن في هذه اللحظة، وقد استشعرت الإحساس الذي تبخر عند استيقاظي، تستعيد الكتابة ضرورة أكثر قوة من أن يبررها الحلم.)
 
 
 
 
           في الوسط الجامعي، الفتاتان اللتان كنت أعتبرهما صديقتيّ لم تعودا موجودتين. واحدة موجودة في مستشفى الطلبة، في سان-هالير-دو-توفيه، والأخرى كان تعد دبلومة الطب النفسي المدرسي في باريس. كتبت لهما إنني حامل وإنني أريد أن أجهض نفسي، لم يحكما على الأمر، لكنهما بدتا مرعوبتين. لم يكن خوف الآخرين هو ما كنت بحاجة إليه ولم يكونا يستطيعان شيئاً لأجلي.
 
          كنت أعرف و. منذ السنة الأولى  في الكلية، حجرتها وحجرتي كانتا في الطابق نفسه، كنا غالبا ما نخرج معاً، لكنني لم أكن أعتبرها صديقة. في النميمة التي تميز أغلب العلاقات بين الفتيات، دون أن تؤثر فيهم أو تفسد علاقتهم، كنت أميل إلى الآراء التي كانت تعتبرها مزعجة ولصيقة. كنت أعرف إنها نهمة لمعرفة الأسرار التي كانت تتخذها كنزاً تعطيه للآخرين، والتي كانت تجعلها، لساعة، شيقة أكثر منها لصيقة. في النهاية، بورجوازية كاثوليكية، تحترم تعليمات البابا حول منع الحمل، كان ينبغي أن تكون آخر من أعترف لها. مع ذلك كانت هي كاتمة أسراري من ديسمبر إلى النهاية. أدركت ذلك: الرغبة التي كانت تدفعني للإخبار بحالتي لم تكن تأخذ في اعتبارها لا الأفكار ولا الأحكام الممكنة من قبل الذين أعترف لهم. في العجز الذي كنت أجد نفسي فيه، كنت فعلاً، لامبالية بنتائجه، أحاول من خلاله أن أستدرج المخاطَب إلى النظرة المذعورة للواقع.
 
          هكذا، كنت بالكاد أعرف أندريه س. الطالب في سنة أولى آداب، والذي كان تخصصه ينحصر في أن يحكي بنبرة باردة حكايات مفزعة مأخوذة عن هارا-كيري. عند لف دفة الحديث في أحد المقاهي، أحطته علماً بأنني حامل وإنني سأفعل كل شيء لكي أجهض نفسي. بقى مرعوباً، محملقاً فيّ بعينيه البنيتين. بعد ذلك حاول أن يقنعني أن أتبع "القانون الطبيعي"، بألاّ أقترف ما اعتبره هو جريمة. بقينا لوقت طويل، على هذه الطاولة في المتروبول، قرب الباب المطل على الشارع. لم يكن يستطيع أن يتركني. خلف إصراره على رغبته في أن يجعلني أحيد عن مشروعي، لاحظت فيه توتر كثيف، انبهار مرعوب. رغبتي في إجهاض نفسي كانت تبعث نوعاً من الإغواء. في العمق،  كان إجهاضي بالنسبة لـ و.، وأندريه، وجان ت. قصة لم يكونوا يعرفون نهايتها.
 
          (أتردد في الكتابة: أستعيد النظر إلى المتروبول، الطاولة الصغيرة حيث كنا، قرب الباب المطل على شارع فيرت، صبي المقهي الهادئ الذي كان يدعى جول والذي شبهته بذلك الصبي في الوجود والعدم، الذي لا يعمل نادلاً في مقهى، لكنه يلعب دور نادل في مقهى، الخ. الرؤية عبر الخيال أو استعادة النظر عبر الذاكرة هو حمل الكتابة. لكن "أستعيد النظر" جملة تساعد على تثبيت هذه اللحظة التي أحسست فيها أنني لحقت بالحياة الأخرى، الحياة الماضية والضائعة، إحساس مثل التعبير القائل "كأني لسة هناك" مترجماً تلقائياً بصورة شديدة الصحة.)
 
 
الوحيد الذي لم يبدو مهتماً هو الذي كنت قد حملت منه، والذي كان يرسل لي من بوردو خطابات متباعدة في الزمن، فيها كان يشير بالتلميحات إلى  صعوبة التوصل إلى حل. (في الأجندة، " سابني اتصرف لوحدي.") كان ينبغي أن أستنتج إنه لم يعد يكن لي أي شعور ولم يكن لديه سوى رغبة واحدة، أن يعود كما كان قبل هذه القصة، الطالب الذي لا ينشغل سوى بامتحاناته ومستقبله. حتى وإن كان ينبغي أن أستشعر كل هذا، لم أكن أمتلك القوة اللازمة لقطع العلاقة، وأن أضيف إلى البحث اليائس عن وسيلة للإجهاض فراغ انفصال ما. كنت أخيراً وبدراية أخفي الحقيقة. وإذا كانت رؤية  صبياناً يتفكهون ويضحكون محدثين ضجيجاً في المقاهي تكتسحنى – في الساعة نفسها كان هو يفعل الكثير من ذلك بلا شك - ، كنت أغترف منها سبباً للاستمرار في إرباك سكينته. في أكتوبر، كنا قد خططنا مسبقاً أن نقضي إجازة الكريسماس معاً في الجليد، مع زوج من الأصدقاء. لم تكن عندي النية في تغيير هذا المشروع.
 
 
 
وصلنا إلى نصف ديسمبر.
          كانت أردافي وثدياي يشدان ثيابي، كنت ثقيلة، لكن الغثيان قد كف. كان يحدث لي أن أنسى كوني حامل في شهرين. بسبب انمحاء المستقبل بلا شك، العقل يسَكِّن القلق  من الأجل، الذي يعرف مع ذلك إنه محتوم، بسبب ذلك كانت الفتيات يتركن الزمن يمر بأسابيعه ثم بشهوره، حتى النهاية. ممددة على فراشي، في شمس الشتاء التي كانت تملأ الزجاج، كنت أستمع إلى كونشيرتو براندبورجوا، تماماً كالسنة السالفة. كان ينتابني شعور إن شيئاً لم يتغير في حياتي.
          في يومياتي، "حسة إني حامل بشكل تجريدي" – "ألمس بطني، هو هنا. ماعنديش تخيل أكبر من كده. لو سبت الزمن تصرف، في يوليو اللي جاي، هايطَلّعوا من جوايا طفل. بس أنا مش حسة بيه."
 
 
 
حوالي عشرة أيام قبل الكريسماس، عندما بدأت في التوقف عن العد، طرقت ل.ب. باب حجرتي. جان ت. كان قد صادفها في الشارع وأخبرها برغبتي في رؤيتها. كانت ما تزال ترتدي نظاراتها الغليظة ذات الإطار الأسود، الخجول. ابتسمت لي. جلسنا على سريري. أعطتني عنوان السيدة التي تعاملت معها، مساعدة حكيمة مسنة، تعمل في مصحة، السيدة ب. ر.، زقاق كاردينيه، في الحي السابع عشر بباريس. كان ينبغي أن اضحك لكلمة "زقاق"، التي أكملت الصورة الرومانسية والكريهة لصانعة الملائكة، فقد حدَّدَت أن زقاق كاردينيه يطل على  شارع كاردينيه الكبير. لم أكن أعرف باريس، هذا الشارع لم يثر عندي شيئاً غير محل مجوهرات، ال"كونتوار كاردينيه"، الذي كنا نسمع إعلانات عنه كل يوم في الراديو. ل.ب. عرضت لي بهدوء، بل ربما بمتعة، طريقة عمل السيدة ب.ر.: بمساعدة منظار طبي، كانت تُدخِل مسباراً  في عنق الرحم، ولا يتبقى سوى انتظار الولادة الكاذبة. امرأة جادة ونظيفة، تغلي معداتها. مع ذلك فإن كل الميكروبات لم تكن تموت بالغليان ول.ب. أصيبت بتسمم دموي. ذلك لن يحدث لي لو كتب لي طبيب عام مضاداً حيوياً بعد ذلك فوراً، وتحت أي مبرر. قلت لها إنني عندي فعلاً روشتة بنسيلين. كل شيء بدا بسيطاً ومطمئناً – قبل كل شيء، كانت ل.ب. أمامي، لقد نجت من ذلك. السيدة ب.ر. كانت تأخذ أربعمائة فرانك (1). ل.ب. عرضت عليّ بتلقائية أن تقدمهم لي. عنوان ونقود، كانا الشيئين الوحيدين في العالم الذين كنت بحاجة إليهما ساعتها.
_______
(1)     حوالي ستة آلاف فرانك عام 1999
 
 
 
(أحصر نفسي في كتابة الحروف الأولى للإشارة إلى المرأة التي تبدو لي الآن أول النساء اللاتي تناوبن بالقرب مني، هؤلاء العابرات اللاتي ساهم علمهن، حركاتهن وقراراتهن الناجعة في جعلي أجتاز، للأفضل، هذا الاختبار. كنت أود أن أكتب هنا اسم عائلتها، واسمها الجميل الرمزي، الذي وهبها إياه أبوان لاجئان من إسبانيا الفرانكية. لكن السبب الذي يدفعني لفعل ذلك – الوجود الواقعي لـ ل.ب، الذي يبدو لي أنني سأكشف هكذا عن قيمته أمام كل الأعين. لا أملك الحق، عبر قدرة غير متبادلة، في أن أعرض ل.ب.، في الفضاء العام لكتاب، امرأة حقيقية، حية ـ كما يؤكد لي الدليل السنوي - ، يمكنها أن ترد عليّ فقط بأنها "ما طلبتش مني حاجة".
 
          الأحد الماضي، عند العودة من الساحل النورماندي، عرجت إلى روان. مشيت في شارع جروس-هورلوج، حتى الكاتدرائية. جلست في شرفة أحد المقاهي المبنية حديثاً، في اسباس دي باليه. بسبب الكتاب الذي أكتبه، كنت أفكر بلا توقف في سنوات الستينيات لكن شيئاً في وسط المدينة المبتلعة، الملونة، ما كان ليعيد إليّ الإحساس. لم يكن يمكنني الوصول إلى هذه السنوات إلاّ بمجهود تجريدي صعب، مجبرة نفسي على انتزاع الألوان من المدينة، وأن أعيد إلى الجدران مسحتها القاتمة والصارمة، وإلى شوارع المشاة سياراتها.
          كنت أتفحص المارة. ربما يوجد من بينهم، مثلما في كريمات العنب في الأرياف، تختبئ في خيوطها الشخصيات التي يجب اكتشافها، واحد أو آخر من طلبة 1963 القدامى هؤلاء، الذين أستعيد رؤيتهم بجلاء بينما أكتب، والذين صاروا لا مرئيين الآن بالنسبة لي. في الطاولة المجاورة لطاولتي، توجد فتاة جميلة خمرية منطفئة، بفم صغير وثقيل، ذكرتني بـ ل.ب. أحببت أن أفكر إنها ابنتها.)
 
كان الذهاب إلى المرتفعات المركزية، لقاء ب. الذي لم أكن أقل ثقة في شيء من ثقتي في أنه يريد رؤيتي، صرف جزء من المال الذي كان ضرورياً لدفع ثمن الإجهاض، كان كل ذلك أمراً  لا عقلانية فيه. لكنني لم أكن ذهبت أبداً إلى رياضات الشتاء وكان يلزمني نوع من التأجيل الحميد قبل أن أذهب إلى زقاق كاردينيه، في الحي السابع عشر.
 
ألقي نظرة في دليل ميشلان على خريطة مونت-دور، أقرأ أسماء الشوارع، مينادييه، سيدوان-أبولونير، مونتلوزييه، شارع كابتن-شازوت، ميدان بانتيون، الخ. أكتشف أن شارع دوردوني يقطع المدينة وأن هناك مبنى حراري. كأنني لم أذهب إلى هناك أبداً.
          في أجندتي، "بنرقص في الكازينو" – "بنروح لتانيير" – "امبارح بالليل، الجرانش". لكنني لا أرى شيئاً من ذلك، الجليد والمقهى المزدحم حيث كنا نجلس إلى طاولاته في نهاية بعد الظهيرة، وصندوق الاسطوانات يصدر أغنية لو كان معي شاكوش، ستكون هي السعادة.
 
          ذكريات المشاهد التي تتبعها الغضبات والدموع، لا كلمات. لا أستطيع أن أحدد ماذا كان ب. يمثل لي في ذلك الوقت، ما كنت أريد منه. ربما إجباره على الاعتراف بشيء يشبه التضحية، أن يرى هذا الإجهاض "دليلاً على الحب" قررت أن أقوم به مع ذلك تبعاً لرغبتي ومصالحي.
أنيك وجوتران، طالبا الحقوق، لم يعلما بأنني حامل وأني كنت أريد أن أجهض نفسي. ب. لم يعتقد أن إخبارهما ذو نفع ما، معتبراً أنهما أشد بورجوازية وإصلاحاً من هذا الإعلان – كانا خطيبين ولم يكونا قد ناما مع بعضهما البعض. كان يبدو أنه لا يريد إفساد جو الإجازة بهذا الأمر. كان يصيبه الكدر ما إن أفتح الموضوع. في بوردو، لم يجد أي حل. بدا لي بحثه عن حل أمراً مشكوك فيه.
 
 
           الحبيبان، الثريان بما يكفي، كانا يسكنان في فندق قديم أنيق، ب. وأنا في بانسيون صغير. مارسنا الحب قليلاً، وبسرعة، غير مستفيدين من الميزة التي تمثلها حالتي – السيئ قد حدث –أكثر من استفادة العاطل بالوقت والحرية اللذين يتيحهما له غياب العمل، أو استفادة المريض اليئوس منه من السماح له بأكل وشرب كل شيء.
 
كانت نبرة المشاكسة الخفيفة هي قاعدة تحاور المجموعة، بالكاد تقطعها أحداث خفيفة، أو ملحوظة خشنة، سرعان ما تسكتها الرغبة في اتفاق الآراء. كانوا جميعاً قد عملوا على دروسهم، ردوا واجباتهم، عدم القلق الذي تركوا أنفسهم له  بقرار كان جزءاً من كونهم طلاباً نجباء. كانوا يريدون أن يفرحوا، أن يرقصوا، أن يشاهدوا ليه تونتون فلانجير. انشغالي الوحيد الحقيقي أثناء هذه الفترة الدراسية كان يدور حول إيجاد وسيلة للإجهاض. كنت أجاهد نفسي لكي أصل إلى مستواهم في حسن المزاج العام، ولا أعتقد أنني وصلت إليه. كنت تلك التي تتبعهم.
 
          لم أهتم إلاّ بالنشاطات الجسمانية، آملة أن المجهود الشديد، سقطة ما، قد ينجحا في أن يسقطا "ده"، جاعلان زيارتي للسيدة التي تسكن في الحي السابع عشر غير ذات فائدة. عندما أقرضتني أنيك أدوات تزلجها وحذاءها، الذي لم أكن أملك اللازم لتأجيره، كنت أقع بلا هوادة، معتقدة في كل مرة أنني أوجه النفضة التي ستخلصني. ذات يوم، بينما كان ب. وأنيك يرفضان الذهاب إلى أعلى، تابعت الصعود، بصحبة جونتران وحده، إلى قمة بوي جوميل بحذائي المصنوع من الجلد الصناعي، الواسع، الذي كان يحصد الجليد. كنت أتقدم، بعينين مائلتين إلى الانغلاق، منبهرة بالأشعة، نازعة حذائي بصعوبة أكثر فأكثر من البرد، غير راغبة إلاّ في شيء واحد، أسقاط هذا الجنين. كنت مقتنعة أنه ينبغي أن أصل إلى قمة ونهاية قدرتي لكي أتخلص منه. كنت أنهك نفسي لكي أقتله تحتي.
 
 في كل مرة أفكر فيها في ذلك الأسبوع في مونت-دور، كنت أرى الالتماع الممتد للشمس والجليد ينفتح على ظلمات شهر يناير. بلا شك لأن ذاكرة بدائية تجعلنا نرى الحياة كلها تمر في شكل عناصري بين الظلمة والنور، بين النهار والليل.
 
          (التساؤل حول الدليل تطرح نفسه دائماً، أثناء الكتابة: خارج يومياتي وأجندتي لتلك الفترة، لا يبدو لي أن هناك أي يقين خاص بالأحاسيس والأفكار، بسبب لا مادية و تلاشي ما يعبر الذهن.
          وحدها ذكرى الأحاسيس المرتبكة بكائنات وأشياء خارجي – جليد بوي جوميل، عيون جان ت. الجاحظة، أغنية الأخت سورير –تعطيني الدليل على الواقع. الذاكرة الوحيدة الحقيقية ذاكرة مادية.)
 
 
 
          في 31 ديسمبر، عدت من مونت-دور في سيارة أسرة وافقت أن تصحبني معها إلى باريس. لم أكن أشارك في الحوار. في لحظة ما، قالت امرأة إن الفتاة التي تسكن حجرة الشغالة قد أجهضت نفسها، "كانت بتنتفض طول الليل". من الرحلة، لم أتذكر سوى الوقت الممطر وهذه الجملة. إنها تنتمي إلى الجمل التي ، أحياناً مخيفة، وأحياناً مطمئنة، بصورة أو بأخرى مجهول صاحبها، قادتني إلى الاختبار، وصاحبتني مثل ذاد المسافر إلى أن يأتي دوري.
 
          (يبدو لي أنني أخذت في إنشاء هذا النص لكي أتوصل إلى صور يناير 64 تلك، في الحي السابع عشر، بنفس الطريقة التي كنت فيها في سن الخامسة عشر أعيش لكي أصل إلى صورة أو صورتين لي مستقبليتين: السفر إلى بلاد بعيد، ممارسة الحب. لازلت لا أعرف أي الكلمات ستأتيني. لا أعرف ما ستجلبه لي الكتابة. أود لو أؤجل هذه اللحظة، أن أظل باقية في هذا الانتظار. خوف، ربما، من أن تذيب الكتابة هذه الصور، مثل صور الرغبة الجنسية التي تنمحي في لحظة بعد الوصول إلى الذروة.)
 
 
 
 
 
الأربعاء 8 يناير (1) ذهبت إلى باريس لكي أقابل السيدة وأحدد معها التفاصيل العملية، اليوم، المال. لكي أوفر ثمن الرحلة، أوقفت سيارات لتقلني عند قرب ساحل سانت-كاترين. في حالتي، كان خطر  أزيد أو أقل بلا أهمية. كان الثلج الذائب يتساقط؟ توقفت سيارة كبيرة، "جاجوار"، أجاب السائق على سؤالي.  كان يمسك مقود السيارة بطرف ذراعه، مرتدياً قفازات، بلا كلام. أنزلني في نويي وأخذت المترو. عندما وصلت إلى الحي السابع عشر، كان مظلماً. على لافتة الشارع، كُتِبَ "ممر كاردينيه"، وليس "زقاق كاردينيه"، كانت علامة مطمئنة. وصلت إلى رقم . . .، وهو مبنى متهالك. السيدة ب.ر. كانت تسكن الطابق الثاني.
__________
(1)كتابة تاريخ اليوم تعتبر بالنسبة لي ضرورة مرتبطة بواقعية الحدث. وتاريخ اليوم، في لحظة، كان بالنسبة لفيتزجيرالد كينيدي – 22 نوفمبر 1963 - ، هو التاريخ الذي في نظر العالم أجمع، يفصل بين الحياة والموت.
 
 
آلاف الفتيات صعدن السلم، طرقن باباً خلفه كانت توجد امرأة لا يعرفون عنها شيئاً، ولها كن يسلمن عضوهن وبطونهن. هذه المرأة، الوحيدة إذاً القادرة على تمرير هذا البؤس، كانت تفتح الباب، بمريلة وقبقاب من الخشب، وفي يدها خرقة: "خير، يا آنسة؟"
 
 
          كانت السيدة ب.ر. قصيرة وبدينة، ترتدي نظارات، وشعرها رمادي معقوف، وملابسها قاتمة. كانت تشبه السيدات الريفيات المسنات. أدخلتني بسرعة إلى مطبخ ضيق وأسود، ثم مررت بحجرة أكبر قليلاً، ذات أثاث قديم تقريباً، وهما الغرفتين الوحيدتين للسكن. سألتني متى آخر مرة زارتني دورتي الشهرية. منذ ثلاثة أشهر، بالنسبة لي، كان أنسب وقت لعملها. فتحت لي معطفي، وطرقت إلى بطني بيديها الاثنتين من فوق الجونيلة مندهشة بشكل فيه رضا، "عندك كرش صغير!". قالت أيضاً، رافعة أكتافها، عندما حدثتها عن مجهوداتي في رياضات الشتاء، "تخيلي، هو اكتسب قوة!". كانت تتحدث عنه بسعادة كأنما عن بهيمة ملعونة.
 
          كنت واقفة قرب السرير، مواجهة هذه المرأة رمادية البشرة، التي كانت تتحدث بسرعة، بحركات عصبية. إنني سوف أسلم ما بداخل بطني لها هي، هنا كل شيء سيحدث.
 
أخبرتني أن أعود يوم الأربعاء التالي، اليوم الوحيد الذي تستطيع فيه أن تجلب منظار طبي من المصحة التي كانت تعمل بها. سوف تضع لي مسباراً، بلا أي شيء آخر، لا ماء صابوني ولا ماء جافيل. أخبرتني بالمال اللازم لها، أربعمائة فرانك نقداً. كانت تمسك بالأشياء في يدها بصرامة. بلا ألفة – لم تكن تقول أنتِ – وبكتمان – لم تكن تطرح أية أسئلة -، كانت تتجه إلى ما هو أساسي، تاريخ آخر دورة شهرية، الثمن، التقنيات المستخدمة. كان في هذه المادية الخالصة شيء غريب ومطمئن. لا مشاعر ولامعنويات. بالتجربة، كانت السيدة ب.ر. تعرف بالتأكيد أن خطاب محدد بالتفاصيل العملية يتجنب الدموع والبوح الذي يضيع الوقت ويغير الرأي.
 
 
          فيما بعد، عند تذكري لعينيها التين ترمشان بسرعة، شفتها السفلي التي كانت تُدخِلها وتمضغها على فترات، شيء طريد فيها بصورة غير ملحوظة، سأفكر أنها هي أيضاً كانت خائفة. لكن، بنفس الطريقة التي كان فيها لا شيء سيمنعني من الإجهاض، لا شيء لم يكن يوقفها عن فعله. بسبب المال بالطبع، وربما أيضاً الشعور بأنها ذات نفع للنساء. أو كذلك، بالنسبة لها هي التي تفرغ قصريات  المرضى والوالدات،كان الشعور بالرضا السري لامتلاكها، في حجرتيها، في ممر كاردينيه، نفس القدرة التي يمتلكها الأطباء الذين بالكاد يقولون لها صباح الخير. كان ينبغي إذاً أن تأخذ ثمناً غالياً، من أجل المخاطر، من أجل هذه المعرفة التي لم يُعتَرَف بها أبداً والخزي الذي قد تلقاه فيما بعد.
 
 
بعد أول زيارة لي إلى ممر كاردينيه،بدأت أتناول البنسيلين ولم يعد بداخلي مكان للخوف. كنت أرى مطبخ وغرفة السيدة ب.ر.، ولم أكن أريد أن أتخيل ما كانت ستفعله. في المطعم الجامعي، قلت لبعض الفتيات إنني سأزيل حسنة كبيرة من ظهري وأنني خائفة. كن يبدون مندهشات أنني أشعر بهذا القلق بسبب فعل حميد في مجمله. كان يطمئنني أن أقول إنني خائفة: للحظة، كان يمكنني أن أتخيل أنه بدلاً من مطبخ وممرضة، تنتظرني غرفة عمليات من النيكل وجراح بقفازات من المطاط.
 
 
          (لم يعد ممكناً أن أستعيد الآن ما كان يمكنني أن أشعر به. فقط عندما ألتقي صدفة، في طابور انتظار في السوبر ماركت أو مكتب البريد، أية امرأة في الستينات من عمرها، يبدو أنها فظة ومملة، متخيلة أنها سوف تعبث في عضوي بشيء مجهول، ساعتها أقترب عبوراً من الحالة التي كنت قد غرقت فيها خلال أسبوع.)
 
 
 
يوم الأربعاء 15 يناير، أخذت قطاراً إلى باريس في بداية ما بعد الظهيرة. وصلت إلى الحي السابع عشر قبل الموعد المحدد مع السيدة ب.ر. بأكثر من ساعة. تجولت في الشوارع المحيطة بممر كاردينيه. كان الجو لطيفاً، ورطباً. دخلت كنيسة، سان-شارل- بوروميه، حيث بقيت طويلاً جالسة أدعو ألاّ أعاني. لم تأتي الساعة بعد. انتظرت في مقهى قريب من ممر كاردينيه أشرب الشاي. على طاولة مجاورة، طلبة، هم الزبائن الوحيدون، يلعبون 421، كان المدير يمزح معهم. كنت أتفقد ساعتي بلا توقف. عند الرحيل، نزلت إلى دورة المياه، بحكم العادة  المكتسبة منذ الطفولة بأن أحتاط قبل حدث هام. أخذت أنظر إلى نفسي في المرآة فوق الخوض، وأفكر تقريباً، "ده بيحصل لي أنا" و"مش هاتحمل".
 
          كانت السيدة ب.ر. قد أعدت كل شيء. رأيت حلة ماء مغلي على البوتاجاز ينبغي أن تكون الأدوات فيها. جعلتني أذهب إلى الحجرة، كان يبدو عليها أنها تريد أن تبدأ سريعاً. امتدادتً للسرير، وضعت طاولة، مغطاة بفوطة حمام بيضاء. نزعت جواربي، ولباسي، بدا لي أني أبقيت على جونيلتي السوداء لأنها كانت واسعة. أثناء خلعي للملابس، سألتني "نزل من حضرتك دم كتير لما فقدتي بكارتك؟". وضعت الجزء العلوي من جسمي على السرير، ورأسي على وسادة، كليتي وساقاي، منثنيتين، على الطاولة، في وضع مرتفع. لم تكف عن الكلام أثناء عملها، محددة أنها فقط ستدخل المسبار  مرة أخرى، لا أكثر. حكت لي عن حالة ربة أسرة وجدت ميتة الأسبوع السابق، متروكة على طاولة حجرة طعام سيدة حقنتها بماء جافيل. أثناء حكيها، كانت السيدة ب.ر. شديدة الحيوية، والخزي الواضح بسبب غياب هذا الوعي المهني. كانت كلمات مطلوب منها أن تطمئنني. كنت أفضل لو أنها لم تقلها. فيما بعد، سأفكر إنها كانت تبحث عن شكل ممتاز لعملها.
 
          جلست أمام الطاولة، على طرف السرير.
          كنت أرى النافذة بستائرها، نوافذ أخرى في الجهة الأخرى من الشارع، رأس السيدة ب.ر. الرمادية بين ساقي. لم أكن أتخيل أنه يمكنني أن أكون هناك. ربما فكرت في الفتيات اللاتي، في اللحظة نفسها، كن منكفئات على الكتب في الكلية، وأمي تكوي الملابس بينما تدندن، في ب. يمشي في أحد شوارع بوردو. لكن لا حاجة للتفكير في الأشياء حتى تكون محيطة بنا وبلا شك، كانت معرفتي أن الحياة مستمرة كما هي بالنسبة لأغلب الناس هي التي تدفعني إلى أن أكرر لنفسي، "أنا باعمل إيه هنا".
 
 
          توصلت إلى صورة الحجرة. إنها تستعصي على التحليل. لا يمكنني سوى الغوص فيها. يبدو لي أن هذه المرأة التي تنشط بين ساقاي، والتي تدخل المنظار، تلدني.
          لقد قتلت أمي فيّ في هذه اللحظة.
 
          لسنوات، رأيت هذه الحجرة وهذه الستائر مثلما كنت أرها من زاوية السرير حيث كنت أرقد. ربما أصبحت غرفة  مضاءة، بها أثاث أيكا، داخل شقة لموظف شاب اشترى الطابق كله. لكن شيئاً لا يمكنه أن يمنع يقيني أنها مازالت تحفظ ذكرى الفتيات والسيدات اللاتي أتين ليوخزن بمسبار.
 
 
          كان هناك ألم شنيع. كانت تقول، "بطّل صريخ، يا صغيري" و"لازم أعمل شغلي"، أو ربما كلمات أخرى لم تكن تعني غير شيء واحد، ينبغي الوصول إلى النهاية. كلمات وجدتها فيما بعد في نصوص سيدات كنت قد أجهضن أنفسهن، كأنما لم يكن يمكن أن يكون هناك، في هذه اللحظة، سوى كلمات الضرورة هذه و، أحياناً بعض الشفقة.
 
          لم أعد أعرف كم من الوقت استغرقها لكي تغرز المسبار. كنت أبكي. كففت عن الشعور بالألم، فقط إحساس بثقل في البطن. قالت إن الأمر انتهى، كان ينبغي ألاّ ألمس شيئاً. وضعت قطعة قطن كبيرة، لربما أن أفقد ماءً. كان يمكنني أن أذهب إلى الحمام بهدوء، أن أمشي. في يوم أو اثنين سينتهي الأمر، وإلاّ ينبغي أن أتصل بها تليفونياً. شربنا قهوة معاً في المطبخ، بالنسبة لها هي أيضاً كان شيئاً جيداً فعلاً، لا أتذكر متى أعطيتها المال.
 
          كانت قلقة ترغب في أن تعرف كيف سأعود أدراجي. كانت تتمسك بأن تصاحبني حتى محطة بونت-كاردينيه، حيث سيقلني قطار إلى سان-لازار مباشرة، كنت أرغب في الرحيل وحدي وألاّ أراها مرة أخرى. لكنني لم أكن أريد أن أضايقها برفضي عناية لم أكن أشك فيها، بينما يمليها عليها خوف من أن يجدني أحد مغشياً عليّ عند مدخل بابها. ارتدت معطفاً وتركت خف المنزل في قدميها.
 
          في الخارج، أصبح كل شيء فجأة غير واقعي. كنا نمشي الواحدة بجانب الأخرى في المدخل وكنا نتقدم نحو نهاية ممر كاردينيه، الذي بدت أبعاده ملغية بسبب حائط عمارة، لم يترك سوى نور باهت. لا شيء من طفولتي ولا من حياتي يقودني إلى أن أكون هنا. صادفنا مارة، بدا لي أنهم ينظرون لي، وبرؤيتنا معاً كانوا يعرفون ما حدث للتو. شعرت أن العالم تركني، سوى هذه المرأة العجوز في معطفها الأسود التي تقودني كأنها أمي. في ضوء الشارع، بعيداً عن مدخله، بجلدها الرمادي، كانت توحي لي بالاشمئزاز. السيدة التي أنقذتني كانت تشبه مشعوذة أو قوادة عجوز.
          أعطتني تذكرة وانتظرت معي على رصيف المحطة حتى يصل القطار الذاهب إلى سان-لازار.
 
          (لم أعد متأكدة أنها بقيت بخف البيت. أن أكون نعتّها دوماً بعادات النساء اللاتي يخرجن هكذا من بيوتهن لشراء شيء من البقال في ركن الشارع، يظهر إنها بالنسبة لي كانت وجه من الوسط الشعبي، الذي كنت أبتعد عنه.)
 
 
 
          في 16 و17 يناير، انتظرت الأعراض الجانبية. كتبت إلى ب. إنني لم أعد أريد أن أراه بعد ذلك أبداً وإلى أهلي إنني لن أعود في نهاية الأسبوع، سأذهب لمشاهدة فالس فيينا – منحتني هذا المبرر إعلانات ملصقة في كل مكان في روان مما يجعل في أمكانهم أن يتأكدوا من صحته عن طريق الجريدة.
          لم يحدث شيء. لم أكن أشعر بالألم. مساء  يوم 17، الجمعة، اتصلت بالسيدة ب.ر. من مكتب البريد القريب من محطة القطار. طلبت مني أن أزورها في صباح اليوم التالي. في يومياتي، حيث لا شيء مكتوب منذ أول يناير، دونت في تاريخ الجمعة 17، "لسة مستنية. بكره هارجع لصانعة الملايكة، بما إنها مانجحتش".
 
          يوم السبت 18 مبكراً أخذت قطاراُ إلى باريس. كان الجو بارداً جداً، كان كل شيء أبيض. في عربة القطار، خلفي، كانت فتاتان تتحدثان بلا توقف وتضحكان بانتظام. عند الإنصات إليهما شعرت أنني لا عمر لي.
          السيدة ب.ر. استقبلتني بتعجب تحت البرد المدقع وأدخلتني بسرعة. كان هناك رجل جالس في المطبخ، أصغر منها سناً، ببيريه على الرأس. لم يبدو عليه لا الاندهاش ولا الانزعاج عند رؤيتي. لا أتذكر إن كان بقي أم رحل، لكن ينبغي أنه نطق بعض الكلمات لأنني ظننت أنه ينبغي أن يكون إيطالياً. على الطاولة، كان هناك صحن مملوء بالماء مازال يخرج عنها الدخان ويطفو فيها أنبوبٌ دقيق وأحمر. فهمت أنه المسبار الجديد الذي كانت تنوى أن تطرحه عليّ. لم أكن قد رأيت المسبار الأول. هذا كان يشبه الثعبان. بجانب الصحن فرشاه شعر.
 
          (إن كان عليّ أن أمثل هذا الحدث في حياتي بلوحة واحدة، كنت سأرسم طاولة صغيرة مستنده إلى حائط، مغطاة بالفورمايكا، مع صحن مطلي مينا يطفو عليه مسبار أحمر. إلى اليمين قليلاً، فرشاة شعر. لا أعتقد أن هناك مرسم صانعات الملائكة في أي متحف في العالم.)
 
          مثل المرة الأولى، أدخلتني إلى الحجرة. لم أعد خائفة مما كانت ستفعله. لم أشعر بألم. في اللحظة التي نزعت المسبار المثبت عني لكي تضع مكانه ذلك الذي في الصحن، كانت تصرخ، " انت في عز الشغل!". كانت جملة من سيدة حكيمة. لم أكن أفكر حتى الآن في أن كل هذا يمكنه أن يقارن بالولادة. لم تطلب منى مالاً إضافياً، فقط أن أعيد إليها المسبار فيما بعد، لأنه كان من المتعذر عليها أن تجد من هذا النوع.
 
          في عربة القطار، عائدة من باريس، كانت امرأة تبرد أظافرها بلا توقف.
 
 
          ينتهي هنا الدور العملي للسيدة ب.ر. لقد أنهت عملها، ألقت الدرس الذي يمحي الألم. لم يكن مدفوع لها لكي تحضر معي ما سيحدث بعد ذلك.
 
          (في اللحظة التي أكتب فيها، هناك لاجئين كوسوفيين، في كاليه، ينزعون إلى العبور سراً إلى انجلترا. المهربون يطلبون مبلغاً كبيراً وأحياناً يختفون قبل العبور. لكن لا شيء يوقف الكوسوفيين، ولا كل المهاجرين من البلدان الفقيرة: ليس لديهم أي خلاص آخر. المهربون يلاحَقون، يُرثى لوجودهم مثلما كان يحدث منذ ثلاثين عاماً للمجهضين. ولا يعاد النظر لا في القوانين ولا النظام العالمي الذي يحث عليها. وينبغي أن يكون هناك، من بين مهربي المهاجرين، مثلما فيما مضى من ضمن مهربي الأطفال، من هم أكثر انتظاماً من الآخرين.
 
          نزعت بسرعة شديدة من قائمة عناويني الصفحة التي يظهر فيها اسم السيدة ب.ر. ولم أنسه أبداً. استعدته بعد ذلك بستة أو سبعة أعوام، يحمله تلميذ في السنة السادسة  ، أشقر وصموت، بأسنان مسوسة ـ ضخم جداً وأكبر بكثير من هذا الفصل. لم أستطع أبداً أن أناديه لأسأله، أو أن أقرأ اسمه على ورقة، دون أن يحيلني إلى ذكرى سيده ممر كاردينيه هذه. هذا الصبي لم يثر عندي أبداً سوى ارتباط بصانعة ملائكة عجوز، بدا لي إنه حفيدها. والرجل الذي لمحته في مطبخ السيدة ب.ر.، رفيقها بلا شك، رأيته لسنوات في دكان أقمشة "أنيسي"، ميدان نوتر-دام: إيطالي بلكنة قوية وبيريه مكبوس على الرأس. لدرجة أني الآن لا يمكنني أن أميز الصورة من الأصل وأن أضع في ممر كاردينيه، ذات سبت ثلجي في يناير، ذلك الذي كان يبيع لي، في الستينيات، بجانب امرأة صغيرة ورشيقة لا عمر لها، شرائط التنظيف وأزرار كورزو.)
 
 
عند النزول من القطار، اتصلت بالطبيب ن. قلت له إن مسباراً قد وُضِع لي. ربما كان عندي أمل أن يجعلني أذهب إلى عيادته، مثل الشهر السالف، وينوب في كل شيء عن السيدة ب.ر. بقي صامتاً، ثم نصحني بالمازوجينستريل (1). من نبرته، فهمت أن رؤيتي كانت آخر شيء يريده وأنه ينبغي ألاّ أتصل به هاتفياً مرة أخرى.
______
(1) لست متأكدة من اسم هذا المسكن لألم الرحم الذي لم يعد يباع.  
 
(لم يكن يمكنني أن أتخيله – مثلما أستطيع الآن – يجتاحه العرق فجأة في مكتبه بينما يسمع صوت هذه الفتاة تعلن إنها تتجول منذ ثلاثة أيام بمسبار في الرحم. جعله الصراع يتسمر. لو أنه وافق أن يراهاا، يجبره القانون أن ينزع عنها هذه الأداة ويجعلها تستمر في الحمل الذي لم تكن تريده. وإن رفض، يمكنها أن تموت. لم يكن أمامه اختيار، وكان وحده. إذاً، المازوجينستريل.)
 
          دخلت أقرب صيدلية، أمام المتروبول، لكي أشتري دواء الطبيب ن. كانت امرأة: "معاكي روشيتة؟ مش ممكن تاخديه من غير روشيتة." بقيت في وسط الصيدلية. خلف المكتب،  كان صيدليان أو ثلاثة في قمصانهم البيضاء ينظرون لي. كان غياب الروشتة يعلن أني مذنبة. كنت أشعر أنهم كانوا يرون المسبار عبر ملابسي. إنها واحدة من أكثر اللحظات التي كنت فيها يائسة تماماً.
 
          (معاكي روشتة؟ لازم روشتة! لم أستطع أبداً أن أسمع هذه الكلمات، وأن أرى وجه الصيدلية يتقطب ما إن أجيب عليها بلا، بدون أن يصيبني الإرهاق.
 
          بينما أكتب، يجب عليّ أحياناً أن أقاوم غنائية الغضب أو الألم. لا أريد أن أفعل في هذا النص ما لم أفعله في الحياة في تلك اللحظة، أو أن أصرخ وأبكي قليلاً. فقط أن أبقي أقرب ما يكون من إحساس فسحة ممتدة من الحزن مثل الذي أعطاني إياه سؤال الصيدلية ورؤية فرشاة شعر بالقرب من صحن الماء الذي كان فيه المسبار. فالارتباك الذي أشعر به عند استعادة رؤية صور ما، واسترجاع كلمات ما، هو أمر لا علاقة له بما كنت أشعر به إذاً، إنه فقط انفعال كتابة. يمكنني أن أقول: إنه ما يسمح بالكتابة ويمنحها صفة الحقيقية.)
 
          في نهاية الأسبوع، لم يبق في المدينة الجامعية سوى الطالبات الأجنبيات وبعض الفتيات اللاتي تسكن أسرهن بعيداً جداً. المطعم الجامعي، بالجوار، كان مغلقاً. لكنني لم أكن بحاجة إلى الكلام مع أحد. في ذكرياتي، لا خوف، بل سكينة ما، تلك التي تنبع من أنني لا يمكنني أن أفعل شيئاً سوى الانتظار.
          لم أكن أستطيع أن أقرأ ولا أن أسمع اسطوانات. أخذت ورقة ورسمت ممر كاردينيه مثلما بدا لي عند نزولي من بيت المجهِضة، حوائط عالية تتقارب، بشق في العمق. إنها المرة الوحيدة في حياتي كناضجة التي شعرت فيها برغبة في الرسم.
 
          يوم الأحد بعد الظهر، مشيت في شوارع مونت-يان-انيان  الباردة والمشمسة. لم يعد المسبار يضايقني. كان جزءً من بطني، حليفاً كنت آخذ عليه فقط أنه لا يتصرف بسرعة كافية.
          في اليوميات، يوم 19 يناير: " آلام قليلة. أتساءل كم من الوقت يتحتم أن يأخذه هذا الجنين لكي يموت ويطرَد. كان بوقاً يعزف المارسييز، ضحكات في الطابق العلوى. وكل هذا، هي الحياة."
 
          (لم تكن التعاسة إذاً. ما كان فعلاً هناك ربما يمكن البحث عنه في اضطراري أن أتخيل نفسي مرة أخرى في تلك الحجرة، ذلك الأحد، لكي أكتب كتابي الأول، الدواليب الخاوية، بعد ذلك بثمان سنوات. في رغبتي أن أمسك في هذا الأحد، في هذه الحجرة، بحياتي كلها حتى سن العشرين.)
 
 
 
          يوم الاثنين صباحاً، كنت أعيش مع مسبار لمدة خمسة أيام. نحو الظهيرة، أخذت القطار إلى ي.، ذهابٌ وعودة سريعين إلى والديّ، مخافة ألاّ تسمح حالتي برؤيتهما السبت التالي. ربما، كالعادة، لعبت الرفة بالعملة لكي أعرف ما إذا كان عندي وقت كافٍ لأقوم بهذه المخاطرة. كان الريبة، أمي فتحت نوافذ الحجرة. فتشتُ لباسي. كان به دم وماء يسيل على امتداد المسبار الذي بدأ في الخروج من العضو. كنت أرى البيوت الصغيرة الواطئة للحي، الحدائق، القرية نفسها منذ طفولتي.
 
          (على هذه الصورة تنزلق الآن صورة أخرى، قبلها بتسعة أعوام. صورة البقعة الوردية الكبيرة، المكونة من الدم والإفرازات، التي تركتها على وسادتي قطة ماتت عندما كنت في المدرسة ودفنت عندما عدت، في ظهيرة يوم من أبريل، مع قططها الصغار الذين ماتوا بداخلها.)
 
 
          أخذت سيارة السكة التي تتحرك في الرابعة وعشرين دقيقة إلى روان. لم تدم الرحلة سوى أربعين دقيقة. كالعادة، جلبت معي نسكافيه ولبن مكثف، وبواكي بسكوت.
 
          في نادي سينما لافالوش، ذلك المساء، كان يُعرَض لو كويراسسيه بوتومكين. ذهبت لمشاهدته مع و. آلام، لم أعيرها اهتماماً في أول الأمر، كانت تعتصر بطني على فترات. مع كل انقباض، كنت أثبت عيني على الشاشة وأوقف تنفسي. بدأت الفترات تتقارب. لم أعد أتابع الفيلم. قطعة كبيرة من اللحم معلقة بكلاّب، يعج بالديدان، قد ظهرت. إنها آخر صورة تبقت لي من الفيلم. وقفت وجريت إلى المدينة. رقدت وبدأت أتشبث بمقدمة السرير،  أمنع نفسي من الصراخ. تقيأت. فيما بعد، دخلت و.، الفيلم كان قد انتهي. جلست إلى جواري، لا تعرف ماذا تفعل، نصحتني أن أتنفس كالسيدات أثناء الولادة، على طريقة الكلب الصغير. لم أستطع أن ألهث إلاّ في الفواصل بين الآلام التي لم تكن تتوقف. كان الوقت بعد منتصف الليل، ذهبت و. لتنام طالبة مني أن أناديها لو احتجت إليها. لم تكن تعرف الواحدة منا ولا الأخرى ماذا سيشبه الباقي.
 
 
شعرت برغبة عنيفة في التغوط. جريت إلى الحمام، في الجهة الأخرى من الممر، وقرفصت أمام المرحاض، مواجهة للباب. كنت أرى البلاط بين فخذي. دفعت بكل قوتي. برز هذا كرمانة، ملطخ بالماء الذي انتشر حتى الباب. رأيت مستحماً يمتد من عضوي في نهاية حبل مشوب بحمرة. لم أكن تخيلت هذا هو الموجود بداخلي. كان ينبغي أن أمشي به حتى حجرتي. أخذته في يدي – له ثقل عجيب –وتقدمت في الممر بينما أضمه بين فخذي. كنت بهيمة.
 
           كان باب و. موارباً، فيه ضوء، ناديتها برفق "خلاص".      
 
          نحن الاثنان في حجرتي. أجلس على السرير وهذا الجنين بين ساقي. لم نكن نعرف ماذا نفعل. أقول لـ و. إنه ينبغي قطع الحبل. هي تأخذ مقصاً، لم نعرف من أي جزء ينبغي القص، لكنها تقوم به. ننظر إلى الجسم الضئيل، ذي الرأس الكبيرة، تحت الرموش الشفافة تصنع العينان بقعتين زرقاوين. كأنها دمية هندية. ننظر إلى العضو. يهيأ لنا أننا نرى بداية أير. هكذا كنت قادرة على أن أصنع هذا. و. تجلس على المقعد، تبكي. نبكي بصمت. إنه مشهد بلا اسم، الحياة والموت في اللحظة نفسها. مشهد أضحية.
          لم نكن نعرف ماذا نفعل بالجنين. و.تذهب للبحث في حجرتها عن كيس بسكوتات فارغ وأنا أنزله فيه. أذهب إلى الحمام بالكيس. أقلب الكيس فوق المرحاض. أشد السيفون.
 
          في اليابان، تسمى الأجنة المجهضة "ميزوكو"، أطفال الماء.
 
 
          حركات الليل تحدث من تلقاء نفسها. لم يكن هناك ما يفعل غير ذلك في تلك اللحظة.
          باعتقاداتها وبرجوازيتها المثالية، و. لم تكن مهيأة لقص الحبل السري لجنبن له ثلاثة أشهر. ربما تتذكر الآن هذا المشهد باعتباره فوضى لا يمكن شرحها، شذوذ في حياتها. ربما تدين الإيقاف المتعمد للحمل. لكنها هي ، التي أرى وجهها الصغير المتشنج من البكاء، هي الوحيدة التي وقفت بجانبي، في تلك الليلة، مرتجلة دور الحكيمة، في الحجرة رقم 17، في مدينة الطالبات.
 
          فقدت دماً. لم أنتبه في البداية، ظننت أن كل شيء قد انتهى. كان الدم يخرج بلا انتظام من الحبل المقطوع. كنت ممدة بلا حراك على السرير و و. تضع لي فوط حمام كانت تمتلئ سريعاً. لم أكن أريد أن ألجأ لأطباء. حتى هنا كنت قد نجوت جيداً بدونهم. أردت أن أقوم، لم أر غير التماعات. ظننت أنني سأموت من النزيف. صرخت في و. أنني بحاجة إلى طبيب فوراً. نزلت وطرقت باب البواب، لم يجب. ثم حدثت أصوات. كنت متأكدة أنني حتى الآن قد فقدت الكثير من الدم.
 
          مع دخول طبيب الرعاية في المشهد كان النصف الآخر من الليل قد بدأ.  تحولت هذه الخبرة من كونها خبرة خالصة بالحياة والموت، إلى عرض عام وتقييم.
 
          جلس على فراشي ومسكني من ذقني: "ليه عملتي كده؟ إزاي عملتي كده، جاوبي!" كان يثبت نظره عليّ بعينين لامعتين. توسلت إليه ألاّ يتركني أموت. "بصي لي! احلفي انك مش هاتعملي كده تاني! أبداً!" بسبب عينيه ظننت أن بمقدوره أن يتركني أموت لو لم أقسم. أخرج نوتة روشيتاته، "هاتروحي اوتيل ديو". قلت إنني أفضل الذهاب إلى عيادة. بحزم، كرر "إلى اوتيل ديو"، ليعني لي أن المكان الوحيد لفتاة مثلي هو المستشفى. طلب مني أن أدفع له مقابل الكشف. لم أكن استطع القيام، فتح درج مكتبي وأخذ المال من كيس فلوسي.
 
          (لقد وجدت بين أوراقي هذا المشهد مكتوباً، منذ شهور عديدة. ألاحظ أنني استخدمت نفس الكلمات، " أن بمقدوره أن يتركني أموت"، الخ. كذلك كانت نفس التشبيهات التي أتت لي في كل مرة أفكر فيها في اللحظة التي أجهض فيها في الحمامات، بروز قنبلة أو رمانة، سدادة برميل تقفز. يتبدو لي استحالة قول الأشياء في كلمات مختلفة، والاقتران المؤكد بحقيقة ماضية وبصورة تختلف عم كل الصور الأخرى، تبدو لي هي الدلائل على أني حقاً قد عشت الحدث هكذا.)
 
          أنزلوني من حجرتي على نقالة. كان كل شيء غائماً، لم أكن أرتدي نظارتي. المضادات الحيوية، الجمود في النصف الأول من الليل لم ينفعا، انتهى الأمر في المستشفى. انتابني شعور أنني قدت نفسي إلى النزيف. كنت أبحث عن الخطأ، كان يبدأ بلا شك من الحبل الذي لم يكن ينبغي قصه. لم أكن أتحكم في أي شيء.
 
          (أشعر أن الأمر سيكون بنفس الطريقة عندما ينتهي هذا الكتاب. إصراري، مجهودي، كل هذا العمل السري، بل والعشوائي، في حدود أنه لا أحد يشك في أني أكتب عنه، سوف يغشى عليهم مرة واحدة. لن تصبح لي أية سلطة على نصي الذي سيصبح معروضاً مثلما كان جسد معروضاً في أوتيل ديو.)
 
          وضعوني على سرير جرار في قاعة بها الذاهبين والعائدين، أمام المصعد. لم يكن أبداً دوري لكي أُصطَحَب. وصلت فتاة ببطن ضخمة، تصاحبها امرأة أخرى ينبغي أن تكون والدتها. قالت إنها سوف تلد. ردتها الممرضة بعنف، لم يكن موعدها قد حان. كانت الفتاة تريد أن تبقى، حدث سجال، رحلت مع من تصاحبها. رفعت الممرضة أكتافها. "دي، خاوتانا من خمستاشر يوم!". فهمت أن الأمر يتعلق بفتاة في العشرين من عمرها، بلا زوج. احتفظت بالطفل لكنها لم تعامل أفضل منى. الفتاة المجهضة والفتاة الأم في الأحياء الفقيرة في روان كن في الهم سواء. ربما يكنون المزيد من الازدراء لها عني.
 
          في حجرة العمليات، كنت عارية، السيقان مرفوعة ودامية في قبضة المساكات، تحت إضاءة عنيفة. لم أكن أفهم لماذا كان ينبغي إجراء عملية لي، لم يعد هناك شيء ينتزعونه من بطني. توسلت إلى الجراح الشاب أن يقول لي ماذا سيفعل بي. انزرع أمام فخذي المفتوحين، صارخاً: "أنا مش السباك!" كانت آخر الكلمات التي سمعتها قبل أن أغرق في البنج.
 
          ("أنا مش السباك!" هذه الجملة، مثل كل الجمل التي تشخص هذا الحدث، جمل شديدة العادية، لفظها أناس كانوا يقولونها دون تفكير، وتنفجر فيّ باستمرار. لا التكرار ولا التعليق السياسي-الاجتماعي يستطيع أن يهون من عنفها: لم أكن "انتظرها". بسرعة، أظن أنني أرى رجلاً في الأبيض، بقفازات مطاطية، موسعاً ضربي صارخاً، "أنا مش السباك!". وهذه الجملة التي ربما ألهمته إياها فقرة لفرديناند رينو الذي يضحك فرنسا كلها، تستمر في أن تكريس تراتبية العالم بداخلي، في الفصل، كأنما بشكة دبوس، بين الأطباء وبين العمال والنساء اللاتي يجهضن، بين المهيمنين والمهيمن عليهم.)
 
 
 
          استيقظت، كان الوقت ليلاً. سمعت امرأة تدخل صارخة فيّ أن أصمت في النهاية. سألت إن كانوا استأصلوا مبايضي. أكدت لي بوحشية: تم كحتي فقط. كنت وحدي في حجرة، أرتدي قميص المستشفى. كنت أسمع بكاء أطفال. كانت بطني حوض رخو.
          عرفت أني فقدت أثناء الليل الجسم الذي كان لي في المراهقة، بعضوه الحيوي السري، الذي امتص عضو الرجل دون أن يتغير – صائراً أكثر حيوية وأكثر سرية أيضاً. كان لي عضو معروض، مفتوح، بطن مكشوطة، مفتوحة من الداخل. جسم يشبه جسم أمي.
 
          نظرت إلى الورقة المعلقة على حافة السرير. كان مكتوب عليها، "رحم حامل". قرأت هذه الكلمة "حامل" لأول مرة، كانت تضايقني. كانت تذكرني بالكلمة الاتينية - gravidus، ثقيل  - ظهر لي المعنى. لم أكن أفهم لماذا كُتِبَت هذه الجملة بما أنني لست حاملاً. لم يكونوا يريدون إذاً أن يفصحوا عما حل بي.
 
          في الظهيرة، وضعوا بالقرب مني لحم مسلوق على قطعة كرنب هابطة، مشقوقة من الجوانب والأعصاب، تملأ الطبق. لم أستطع لمسها. انتابني شعور أنهم يعطوني مشيمتي لكي آكلها.
 
          كانت ضجة كبيرة تخيم على الممر، يبدو أنها آتية من عربة الطعام. بانتظام، كان صوت امرأة يصرخ وكأنما يخاطب أحداً، "قشطة لمدام س أو ص اللي بترضع"، كميزة خاصة.
 
 
 
          نوبتجي اللليل مر. بقي في عمق الحجرة، بدا أنه منزعج. ظننت أنه يشعر بالخذي لأنه أساء معاملتي في غرفة العمليات. كنت محرجة لأجله. كنت مخطئة. كان يشعر بالخذي فقط من كونه – لأنه لم يكن يعرف شيئاً عني – عامل طالبة في كلية الآداب كأنها عاملة نسيج أو بائعة البضائع ذات السعر الموحد، هذا ما اكتشفته في ذلك المساء ذاته.
          انطفأت كل الأنوار منذ مدة طويلة. حارسة الليل، امرأة بشعر رمادي، جاءت إلى حجرتي، اقتربت بصمت من مقدمة سريري. في غبش الشيخوخة، كنت أراها مرحبة. همست لي بصوت موبخ: "الليلة اللي فاتت، ليه ماقولتيش للدكتور إنك زيه؟" بعد عدة لحظات من التردد، فهمت أنها أرادت أن تقول: من العالم الذي ينتمي إليه. علم أنني طالبة فقط بعد الكحت، بلا شك عن طريق بطاقة التأمين الاجتماعي للطلبة التي يخصني. كانت تومئ بالاندهاش والغضب الداخلي بلا كلام، "لكن في النهاية، لماذا لم تقله لي، لماذا!"، كأنما ساخطة هي نفسها على تصرفي. كان ينبغي عليّ أن أفكر أن عندها حق وأنها كانت غلطتي لو أنه كان تصرف بعنف: فهو لم يكن يعرف مع من يتعامل.
          عند رحيلها، مشيرة إلى إجهاضي، استنتجت باقتناع، "أنت أحسن كده!". إنها الكلمة الوحيدة المواسية التي مُنحَت لي في اوتيل-ديو والتي حظيت بها، ربما أقل منه بسبب تواطؤ نسائي، عنه لقبول "الناس الصغار" حق "ذوي المكانة المرتفعة" أن يضعوا أنفسهم فوق القوانين.
 
          (لو كنت أعرف اسم هذا النوبتجي ليلة 20 إلى 21 يناير 1964 وأتذكره، لم أن لأستطيع أن أمنع نفسي من كتابته هنا. لكن الأمر سيتعلق بانتقام لا فائدة منه ولا يحمل عدلاً في حدود أن تصرفاته لم يكن ينبغي لها أن تكون سوى عينة من تصرف عام.)
 
 
               بدأ ثدياي ينتفخان ويسببان لي ألماً. قالوا لي أنه صعود اللبن. لم أكن أتخيل أن جسمي يمكنه أن يصنع لبناً ليغذي جنيناً ميتاً عمره ثلاثة أشهر. كانت الطبيعة مستمرة في العمل آلياً في الغياب. ربطوا لي نصفي العلوي بشريط من القماش. كل لفة كانت تسطح ثديي أكثر فأكثر، كأنما لكي يدساهما بداخلي. ظننت أنهما لن يستقيما أبداً. وضعت معالجة إبريقاً به منقوع مغلي على الكمودينو، "لما تشربي كل دع، مش هاتحسي بألم في صدرك!".
 
 
 
          إلى جان ت. وج.ب. اللذين أتيا لرؤيتي معاً، حكيت قصة النزيف وأخذ اوتيل-ديو الحِمل التأديبي على عاتقه. رويت بمزاج ساخر، أمتعهما أن يسمعا روايتي – حيث لم تظهر أي من التفاصيل التي لم أتوقف فيما بعد عن تذكرها. ل.ب. وأنا كنا نقارن بابتهاج بين إجهاضينا. ج.ب. كان يحكي أن البقالة التي في ركن الشارع قالت له إنه لا داعي لتكلف عناء الذهاب إلى باريس للإجهاض، كانت هناك امرأة قريبة جداً في الحي، لم تكن تأخذ سوى ثلاثمائة فرانك. كنا نمزح حول المائة فرانك التي كان يمكن أن أوفرها. يمكننا أن نضحك الآن من النكد والخوف، من كل ما لم يمنع خرق القانون.
 
 
          لا أتذكر أنني قرأت أي شيء خلال الخمسة أيام التي قضيتها في اوتيل-ديو. الراديو الترانزيستور كان ممنوعاً. للمرة الأولى منذ ثلاثة شهور، لم يكن هناك ما أنتظره. بقيت ممددة، عبر النافذة كنت أرى أسطح أجنحة أخرى للمستشفى.
 
          كان المواليد الجدد يبكون في أحيان متقطعة، لم يكن هناك مهد في حجرتي، لكنني أنتجت أنا أيضاً، لم أشعر أني مختلفة عن النساء في الغرفة المجاورة. بل وبدا لي أنني أكثر منهن معرفة بسبب هذا الغياب. في حمامات المدينة الجامعية، وضعتُ حياة وموتاً في اللحظة ذاتها. كنت أشعر أنني، لأول مرة، ضمن سلسة من النساء عبرها تمر الأجيال. كانت أيام شتاء رمادية. كنت أطفو في الضوء وسط العالم.
 
 
 
          تركت اوتيل-ديو السبت 25 يناير. اهتم ل.ب وج.ب بالرسميات واقتاداني إلى محطة القطار. من مكتب البريد المجاور، اتصلت بالطبيب ن. لكي أعلن له أن الأمر قد انتهى, نصحني أن أعاود تعاطي البنسيلين – لم يعطوني أية أدوية في المستشفى. عدت إلى أهلي، متعللة أن البرد أصابني لكي أخلد مباشرة للنوم. طلبت منهما أن يحضرا الطبيب ف. الذي كان يعالج الأسرة كلها. عالماً بإجهاضي عن طريق الطبيب ن.، كان ينبغي أن يكشف عليّ سراً ويكتب لي البنسيلين.
 
          ما إن ابتعدت أمي، بدأ الطبيب ف. يهمس بانفعال، راغباً في معرفة من الذي فعل بي هذا. هازئاً، "ليه رحتي لغاية باريس، كان عندك في شارعك الأم… [لم أكن أعرف الاسم الذي قاله لي]، بتعمل ده كويس أوي!". الآن وقد أصبحت لا حاجة لي بهن، نظهر صانعات الملائكة من كل مكان. لكنني لم يكن عندي أي شك، في أن الطبيب ف، الذي ينتخب اليمين ويقف في الصف الأول في صلاة الأحد، لم يكن يستطيع إلاّ لاحقاً أن يعطيني العنوان الذي كان يلزمني سالفاً. جالساً على فراشي، بقليل من الجهد كان يستمتع بالتواطؤ الذي قام به تجاه طالبة مجدة "من الوسط المتواضع"، والتي قد تعبر إلى عالمه.
 
 
          ذكرى واحدة من الأيام التي قضيتها عند أهلي، بعد اوتيل-ديو. أنا نصف ممدة على سريري، النافذة مفتوحة، أقرأ أشعار جيرار دو نيرفال، في سلسلة 10-18. أنظر إلى سيقاني في الجورب الأسود ممدة في الشمس، إنها سيقان امرأة أخرى.
 
 
 
          عدت إلى روان. كان شهر فبراير البارد والمشمس. لم يبدو لي أنني عدت إلى نفس العالم. وجوه المارة، السيارات، الصواني على طاولات المطعم الجامعي، كل ما كنت أراه بدا لي يفيض بدلالات ما.، لكن، بسبب هذا الفائض ذاته، لم أكن أستطيع أن أدرك واحدة منها. كان هناك الأشخاص والأشياء التي كانت تعني أكثر من اللازم من جانب، ومن الجانب الآخر الكلمات، التي لم تكن تعني شيئاً. كنت في حالة اضطراب وعي خالصة، أبعد من اللغة، التي لم يقطعها الليل. كنت أنام نوماً واضحاً فيه كنت متأكدة أنني متيقظة. أمامي كان يطفو مستحم أبيض، مثل ذلك الكلب ذي الجثة الملقاة في الأثير والتي تستمر في متابعة رواد الفضاء في رواية جول فيرن.
 
          كنت أذهب إلى المكتبة لكي أعمل في مذكرتي، المهملة منذ نصف ديسمبر. كانت القراءة تأخذ مني وقتاً طويلاً، كان ينتابني شعور بأنني أفك الشفرات. موضوع مذكرتي، المرأة في السيريالية، بدا لي في عموميتة مضيئاً لكنني لم أكن أستطيع أن أفكك هذه الرؤية في أفكار، أن أعبر في خطاب متتابع ما كنت أراه على هيئة صورة من حلم: صورة لا حدود لها ومع ذلك فهي ذات طبيعة واقعية لا جدال فيها، أكثر واقعية حتى من الطلبة المنكبين على الكتب والحاجب الضخم الذي يجول قرب الفتيات بينما يبحثن عن أرقام الكتب في علبة البطاقات. كنت نشوانة بذكاء بلا كلمات.
 
          كنت أنصت في حجرتي إلى العشق حسب سان جان لباخ. عندما كان يرتفع صوت الإنجيلية تغني، بالألمانية، عشق المسيح، بدت لي كأنها اختباري من أكتوبر إلى يناير تحكيه لغة مجهولة. ثم جاءت الجوقة. فوهين! فوهين!(7) كان أفق شاسع ينفتح، مطبخ ممر كاردينيه، المسبار والدم كانا يتذاوبان في معاناة العالم والموت الأبدي. كنت أشعر أنني نجوت.
_________
(7) أين! أين! [م]
 
          كنت أمشي في الشوارع حاملة بسر ليلة 20إلى 21 يناير في جسدي، كشيء مقدس. لم أكن أعرف ما إذا كنت عند حافة الرعب أم الجمال. كنت أشعر بالفخر. بلا شك الفخر ذاته الذي يشعر به الملاحون الوحيدون، المدمنون واللصوص، فخر بالذهاب إلى حيث لن يقوى الآخرون أن يذهبوا. بلا شك إن ما دفعني لكتابة هذا النص، شيء من هذا الفخر.
 
 
 
          ذات مساء، صحبنتي و. إلى سهرة. كنت أجلس في عمق القبو، كنت أرى من يرقصون، مندهشة لاستمتاع الآخرين من بينهم وجه أني ل.، مشرقاً، وهي في ثوب من الصوف الأبيض يتبع للموضة ذلك الشتاء يعيد إليّ درجة المتعة. كنت المدعوة الفائضة لطقس أجهل معناه.
 
          ذات ظهيرة، تبعت طالب طب، جرار هـ.، إلى حجرته في شارع بوكيت. نزع عني البلوفر ومشد الصدر، كنت أرى ثديي دقيقان وهابطان – كانا مليئين باللبن منذ أسبوعين. كنت أود أن أحدثه عن هذا وعن السيدة ب.ر. لم أكن أرغب في أي شيء مع هذا الفتى. فقط أكلنا كيك جلبته له أمه.
 
          ذات ظهيرة أخرى، دخلت كنيسة، سان باتريس، قرب شارع لامارن، لكي أقول لقسيس أنني أجهضت. سرعان ما انتبهت لخطأي. شعرت أنني في النور وبالنسبة له كنت في الجريمة. عند خروجي، عرفت أن زمن الدين قد انتهى بالنسبة لي.
 
          فيما بعد، في مارس، رأيت جاك س. في المكتبة، الطالب الذي صاحبني إلى الحافلة، عندما كنت ذاهبة للمرة الأولى إلى طبيب النساء. سألني إلى أين وصلت في مذكرتي. خرجنا إلى الصالة. كعادته كان يدور حولي أثناء الحديث. كان سيسلم مذكرته في مايو عن مسيحي تروي وبدت عليه الدهشة لأنني أبدأ فقط في العمل. باللف والدوران، أفهمته أنني أجهضت نفسي. كان ذلك ربما بسبب كره طبقي، لكي أتحدى ابن صاحب المصنع هذا، الذي يتحدث عن العمال كأنما من عالم آخر، أو بسبب الغرور. عندما أدرك معنى ما قلته، توقف عن الحركة، عيناه تمددتا في النظر إليّ، وقد صعقهما مشهد غير مرئي، فريسة لانبهار وجدته دائماً في رجال ذكرياتي (1). كان يردد، شارداً، "قبعة، يا عجوزتي! قبعة!".
 
_____
(1)    والذي سرعان ما وجدته، كبيراً، عند جون إرفينج في روايته "صنع الله"، جزء الشيطان. تحت قناع شخصية رجل، يرى النساء يمتن أثناء الإجهاض العشوائي الشنيع، ثم يجهضهن كما يجب في عيادة نموذجية أو يربي الطفل الذي يتركنه بعد الولادة. حلم من الرحم والدم حيث يستولي على وينظم قوة حياة وموت النساء.
 
 
 
 
عدت إلى الطبيب ن. بعد كشف دقيق، قال لي مبتسماً، بنبرة مدح ورضا، أنني "خرج منها" بسلام. بلا علم منه، هو أيضاً حثني على تحويل العنف الممارس عليّ إلى نصر فردي. لقد زودني، كوسيلة لمن الحمل، بحاجز يوضع في عمق المهبل وأنبوبتي مجمد قاتل للحيوانات المنوية.
 
          لم أُعِد المسبار إلى السيدة ب.ر. فكرت أنه بسبب السعر كان يمكنني أن أحتفظ به. أخذت ذات يوم سيارة أهلي وألقيت به في غابة على حافة الطريق. فيما بعد، ندمت على ما فعلت.
 
 
 
                لا أعرف متى رجعت إلى العالم  الذي يسمونه طبيعي، عبارة مبهمة لكن البشر كلهم يفهمون معناها، أي العالم الذي تكون فيه رؤية رؤوس المسافرين في القطار، لحوض شديد اللمعان ، لا تعود مثيرة للتساؤل أو الألم. بدأت أكتب مذكرتي. عملت كجليسة أطفالاً في المساء وكمسئولة عن الرد على هاتف طبيب قلب،  لكي أعيد شيئاً فشيئاً ثمن الإجهاض. ذهبت إلى السينما لأشاهد شاراد، لأودري وهيبورن، بو دو بانان، لجان مورو وبلموندو، أفلام لم تترك لي أية ذكرى. قصصت شعري الطويل، أبدلت نظاراتي بعدسات لاصقة كان ضبطها إلى العين يبدو لي بنفس صعوبة وصدفية ضبط الحاجز في عمق المهبل.
 
 
 
                لم أر ب.ر. بعد ذلك أبداً. ولم أتوقف أبداً عن التفكير فيها. بدون أن تعرف، هذه المرأة الجشعة بلا شك – لكن كانت فقيرة الحال – انتزعتني من أمي وألقت بي في العالم. لها كان ينبغي أن أهدي هذا الكتاب.
 
                خلال سنوات، كانت ليل 20 إلى 21 يناير عيد ميلاد.
 
                أعرف اليوم أن هذا الاختبار وهذه التضحية كانا لازمين لي لكي أرغب في إنجاب أطفال. لكي أقبل هذا العنف الخاص بالولادة في جسدي وأصبح بدوري مكاناً تعبر منه أجيال.
 
                انتهيت من أن أضع في كلمات ما كان يبدو لي تجربة إنسانية شاملة، تجربة الحياة والموت، والزمن، والأخلاق والحرام، والقانون، تجربة تمت معايشتها من أقصاها إلى أقصاها عبر الجسد.
 
                محوت الذنب الوحيد الذي لم أشعر به تجاه هذا الحدث، أن يكون قد حدث لي وأن أكون لم أفعل شيء حياله. كهبة تم تلقيها وبعثرتها. فوراء كل الأسباب الاجتماعية والنفسية التي يمكنني أن أجدها فيما عشتـ هناك سبب أنا متأكدة منه أكثر منها جميعاً: الأشياء حدثت لكي أعيها. والهدف الحقيقي من حياتي هو ربما فقط ما يلي: أن يصير جسمي، وإحساساتي وأفكاري كتابة، أي شيء من مفهوم وعام، تجربتي تذوب كلية في رأس وحياة اللآخرين.
 
 
 
 
 
                هذه الظهيرة، عدت إلى ممر كاردينيه، في الحي السابع عشر. أعددت مساري بمساعدة خريطة باريس. كنت أريد أن أجد المقهى الذي انتظرت فيه حتى موعد ذهابي إلى السيدة ب.ر. والكنيسة التي بقيت فيها وقتاً طويلاً، كنيسة سان شارل بوروميه. لم يظهر في الخريطة سوى سان شارل مونسو. فكرت أنها ربما تكون هي وقد تغير الاسم. نزلت إلى محطة مالزرب ومشيت حتى شارع توكفيل. كانت الساعة حوالي الرابعة وكان الجو شديد البرودة بشمس كبيرة. في مدخل ممر كاردينيه، وضعت صفيحة معدنية جديدة. فوقها، الصفيحة القديمة، سوداء، غير مقروءة، تم تركها. كان الشارع خاوياً. عند مدخل واجهة، هناك لافتة كبيرة، "جمعية الناجين من المعسكرات النازية والمبعدين عن مقاطعة سين-ايه-واز". لا أتذكر أنني رأيتها أبداً من قبل.
                وصلت إلى رقم عمارة السيدة ب.ر. توقفت أمام البوابة، كانت مغلقة، بكود رقمي. أخذت أتقدم في الشارع، وسط قارعة الطريق، ناظرة إلى العمق، إلى الضوء الخافت بين الجدران. لم أصادف أحداً ولا سيارة مرت بي. انتابني شعور أنني أعيد إنتاج حركات شخصية دون أن أحس شيئاً.
 
                في نهاية الممر، التفتُ إلى اليمين وبحثت عن الكنيسة. كنت سان شارل دومونسو، وليس بوروميه. في الداخل، عناك تمثال للقديسة ريتا وافترضت أنه كان عليّ أن أوقد لها شمعة ذلك اليوم لأنهم يقولون إنها قديسة "الحالات الميئوس منها". عدت إلى شارع توكفيل. سألت نفسي في أي مقهى انتظرت ساعة الموعد أشرب الشاي. من الخارج، لم يذكرني أي مقهى بأي شيء، لكنني كنت متأكدة أنني سأعرفه من حماماته، تحت الأرض، حيث نزلت قبل الذهاب إلى السيدة ب.ر.
 
                دخلت "برازا". طلبت شيكولاتة وأخرجت نسخي لأصححها، لكنني لم أقرأ ولا سطر. كنت أقول لنفسي بلا توقف أنه ينبغي أن أذهب لتفقد الحمامات. كان جوز من الشباب يقبلان بعضهما البعض مائلين على الطاولة. انتهى الأمر بأن قمت وسألت البارمان عن الحمامات. أشار لي إلى باب في آخر القاعة. كان يطل مباشرة على غرفة ضيقة بها حوض، فوقه مرآة، على اليمين باب آخر، باب الحمامات. كانت حمامات على الطريقة التركية. لم أتذكر ما إذا كانت حمامات المقهى منذ خمسة وثلاثين عاماً هكذا. في ذلك العصر، لم تكن هذه تفصيلة يمكنها أن تصدمني، كانت كل الحمامات العامة تقريباً هكذا: فجوة في الأسمنت بها مكان على كل جانب لوضع القدمين والقرفصة.
 
                على رصيف محطة مالزرب، قلت لنفسي أنني عدت إلى ممر كاردينيه معتقدة أن شيئاً سيحدث لي.
 
                                                                                من فبراير إلى أكتوبر 99.



#هدى_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصائد
- عشـوائـية
- سأقول أعرفها
- إنهم يصنعون الخبز
- لأمي
- قِدر الطعام


المزيد.....




- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...
- تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر ...
- سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
- -المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية ...
- أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد ...
- الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين ...
- -لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
- انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
- مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب ...
- فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هدى حسين - الحدث