|
السمّاح عبد الله : صوت شعري مقتحم
فاروق شوشة
الحوار المتمدن-العدد: 2250 - 2008 / 4 / 13 - 10:02
المحور:
الادب والفن
لم أفاجأ بحصوله على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر ضمن مهرجان الجوائز لهذا العام ، فقد أتيح لي أن أعرفه ، وأن أتابعه شاعرا له مذاقه الخاص منذ تعرفي على الشجرة الشعرية التي يعد السمّاح عبد الله أحد غصونها الأصيلة وهي شجرة غرسها الأب الشاعر الراحل عبد الله الأنور فواز الذي يعد واحدا من الشعراء الذين تتلمذوا على البارودي ومدرسته الشعرية التي كان من أنبغ شعرائها فيما بعد أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإسماعيل صبري ، وامتدت غصون هذه الشجرة الشعرية في الأبناء الأربعة فولاذ وأوفى ومشهور والسمّاح ، والأولان سارعا إلى التجديد والخروج على تقاليد المدرسة التي ينتمي إليها الأب ، وأصبحا من شعراء قصيدة التفعيلة ، وأتاحت لهما الدراسة في ( دار العلوم ) من ألوان الثقافة التراثية ، ومن التطلع المنفتح على التجديد مجالا لتأصيل قصيدتهما التفعيلية ، واتكائها على أصول راسخة من التقاليد الشعرية التي لم تتنكر أبدا للموسيقى ، أما الآخران ، مشهور والسمّاح فقد تجاوزا الدائرة التي سكنها فولاذ وأوفى ، وباعدا في خطوات الحداثة الشعرية ، لغة وإيقاعا وصيغة شعرية ، وعندما رحل مشهور فجأة عن الساحة الشعرية ، ومضى كالشهاب المحترق وتبعه بقليل الأب المكلوم ، فقدت الشجرة الشعرية – المغروسة في أرض سوهاج والممتدة بغصونها حتى سماء القاهرة – المعلم الأول والأستاذ الذي هيأ لأبنائه الأربعة تربة شعرية خصبة ، وعالما شعريا حقيقيا يتواصل مع اللغة والتراث والقيم الرفيعة وحب المعرفة ، وساعدت الأم العظيمة - التي تنتمي إلى الشاعر ولي الدين يكن – في صياغة أبهاء هذا العالم وصيانته والمحافظة عليه حتى اليوم ، بارك الله فيها حياة وعطاء .. نعم ، أتيح لي أن أتعرف على هذه الأسرة الشعرية ، وأن أحظى برؤيتها عن كثب في منزل الأسرة في سوهاج ، وأن أستضيف الأب الشاعر ومعه الأبناء الشعراء الأربعة في واحدة من أنجح حلقات البرنامج التليفزيوني ( الأمسية الثقافية ) كان لها صداها العميق على المستويين الأدبي والإنساني لدى جمهور واسع من المشاهدين .
ها هو ذا آخر العنقود ، أو آخر حبات العقد : السمّاح يفوز بجائزة الدولة التشجيعية ، تأكيدا لأصالته وتميزه ، وللنهج الشعري الذي ارتضاه لنفسه قريبا وبعيدا – في الوقت نفسه – عن نهج أخيه المبدع الراحل مشهور ، ومختلفا جدا عن نهج أخويه المبدعين ، في دأب وعناد صعيدي ، وإصرار على مواصلة الرحلة : فولاذ وأوفى ، بفوز بالجائزة بعد أن أصدر ديوانه الأول ( خديجة بنت الضحى الوسيع ) عام 1988 ، والثاني ( مكابدات سيد المتعبين ) عام 1992 ، والثالث ( الواحدون ) عام 1998 ، والرابع ( شجرة الأسبوع ) شعر للأطفال عام 1998 ، والخامس الذي فاز بالجائزة ( مديح العالية ) عام 2003
اللغة الشعرية عند السمّاح لغة شديدة الاقتصاد والتكثيف ، الكلمة تقوم مقام العبارة ، والعبارة كون شعري متصل يدور على محوره ، والمفردات إشارات رامزة ومشعة ، يتطلب استقبالها تهيؤا يتيح لها إكمال معراجها الشعري ، فهي تصفو وتشف ، وتشد قارئها – المتكاسل في أول الأمر بحكم عادات القراءة الراهنة – حتى ينتبه لكلام يستحق اليقظة والاحتشاد ، ويتطلب الصحو والقدرة على التأمل ونفاذ البصيرة .
يقول السمّاح في قصيدته ( خلاص ) :
غُنَّةٌ في غرامك والخطوُ مرتَهَنٌ بالرمالِ الكثيرةِ والصهدُ خارطةُ المتسللِ للبيدِ خذ بيدي أيها الشجَرِيُّ أنا نَفَرٌ من دمائك بعضُ حكاياكَ حادثةٌ علقتْ في زوايا ذواكرِكَ انتبهتْ جُثَّتي مرّةً لخُطَاكَ فقمتُ وضوَّءتُ عينيَّ بالأخضرِ المتلأليءِ في أثر الخُطُواتِ وكنتُ ظميئا وإنْ هيَ إلا مؤامرة البيدِ للإحتفاءِ بعطرِ روائحكَ انبثق النبعُ مُغْتَسَلٌ باردٌ وشَرَابٌ وآيته مهرجانٌ من الطيرِ يحفو على أفقه وكثيرٌ من الخلقِ يأتون خذ بيدي الوقتُ يأفلُ والشَّجَرِيُّونَ غيرك محضُ غبارٍ كذوبٍ ومحضُ مؤامرةٍ خُشُبٌ تتسنَّد فوق اليبابِ أنا صرتُ أعرفهم من ملابسهم مُذْ عرفتُكَ منذ انجلى فرحٌ قُزَحِيٌّ يُحَوِّطُ ما ترتديه من الأخضر التركوازيِّ خذ بيدي الوقتُ يأفلُ .
لا بد أن الذين تأملوا هذا الشعر ، قرأوه مرة ومرتين ، وربما ثلاثا ، في زحام الشعر المتقدم للجائرة ، قد لمسوا من الطلقة الأولى جوهر هذه الشاعرية التي لا تحمل عثرات البدايات وترددها ، إها شاعرية ثابتة الخطوات ، مستقرة الإيقاع ، تحفر في العمق الوجداني والإنساني ، ولا تتوقف عند القشرة الخارجية للتلقي ، وتحيل في غبار صهيلها إلى جماليات القصيدة العربية في سياقها التاريخي المتطاول ، دون شبهة تكرار أو تقليد ، لأنها شاعرية صاحبها التي أنضجها على صهد حياته ونيران معاناته وتطلب للمختلف ، حتى وإن جاء قليلا أو غاب طويلا فلم يتحقق ، لأنه عندما يجيء سيكون هو المغاير والمقتصد ، والقانع بالقليل المشع .
يقول السمّاح في قصيدته ( ظمأ ) :
لا أنا أنا ولا حكايتي بلادٌ ضيَّعتني في المدى سدى أجرّ خطوي في المسا كأنني أهربُ مني أو كأني أختبي من جسدي في جسدي شبِّهيني في حدودِ حالتي ليس يشبه الغريقَ هذي البيدُ والكلاْ ليس يشبه الغريقَ غيرُ الكفنِ وامنحيني وقتيَ الباقي فقد ضيَّعتُ عمري باحثا عن شجرٍ يكبر في الصيف الذي يسكننا امنحيني هدأةً واحدةً لا تريح وحشةَ الغريبِ دارٌ وبلادٌ لا تريحُ وحشةَ الغريبِ غير لحظة العناقْ متعبٌ أنا وأنتِ لا يعنيكِ هذا الكلأُ المقطوفُ لا يعنيكِ أن البحرَ محشوٌ برملِ الغيمِ لا يعنيكِ أن الحفوَ مرتبكٌ بين القطا والماء إنني وحدي الذي جرَّبتُ أن أظلَّ ظامئَا يخونُني السرابُ مرَّةً ومرَّةً وأظلُّ ظامئَا بين دمٍ ضالٍّ وشِبْه بلّْ أقايض الذي كان أنا ببعضِ رِيِّه القديمِ وأسبُّ هذه البلادَ هذه البلادُ ضيَّعتني في المدى سُدَى .
مثل هذا الصوت الشعري الواثق المقتحم ، من حقه أن يحتفي به ، وأن يشار إليه ، وأن يتوقع منه ، وينتظر القادم من دوائر رحلته الإبداعية التي تدور على مهل ، وتستصفي لنفسها أفضل ما يمكن اختزانه أو التشبث به ، حتى لكأنه واحد من عبيد الشعر القديم الذين كانوا يحكّكون قصيدتهم مرة بعد مرة ، ويعودون إليها بالتشذيب والتهذيب ، آنا بعد آن ، ولا يرضون عليه ، ولا يطلقونه في فضاء الحياة والناس إلا بعد طول نظر ، وإعمال صنعة ، والصنعة هنا هي جوهر الإبداع واكتمال أدواته وخبراته ، وهي غير التكلف والتعقيد ، لأنها المسئولة عن انسكاب ماء الشعر على جبهة القصيدة ، واندياحه من ثناياها وزواياها بلا جفاف أو تقعر .
وقد كان المبدع الكبير الراحل أمل دنقل واحدا من عبيد الشعر هؤلاء الذين يعون متطلبات الصياغة الأخيرة للقصيدة ، وعدم دفعها إلى الناس قبل أن يرضوا عنها ، ويستريحوا لصورتها الأخيرة .
جائزة الدولة التشجيعية في الشعر لمثل هذا الصوت الأصيل المقتحم ، وقفة ورهان ، أما الوقفة فهي مع الشاعر ونفسه ، مواجهة ومحاكمة ، وأما الرهان ، وهو بين الشاعر وجمهوره - الذي هو نحن - والمستقبل الواعد هو الكفيل بهذا الرهان .
فاروق شوشة
#فاروق_شوشة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-معاريف-: الاستخبارات الإسرائيلية بدأت دورات لتعليم اللهجة و
...
-
وفاة الفنان الاردني هشام يانس
-
رئيس نادى الأدب بقصرثقافة كفرالزيات(الشاعروالكاتب محمد امين
...
-
رحيل الفنان المغربي محمد الخلفي عن 87 عاما بعد صراع مع المرض
...
-
-العائلة- في سربرنيتسا.. وثيقة حنين لأطلال مدينة يتلاشى سكان
...
-
فيلم عن فساد نتنياهو وآخر عن غزة.. القائمة القصيرة لجوائز ال
...
-
“بداية الفتح” مسلسل صلاح الدين الأيوبي الحلقة 38 مترجمة بالع
...
-
“صدمة جديدة للمشاهدين” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 176 مترجمة
...
-
“كشف حقيقة ليلى وإصابة نور” مسلسل ليلى الحلقة 15 Leyla مترجم
...
-
-الذراري الحمر- يتوج بالتانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|