قبل أن تُمتهن السياسة يتوجب على السياسي أن يكون إنساناً، فالتحلي بالقيم الإنسانية تهذب الروح ويسموا من خلالها الفرد فيكون أكبراً من السلطة وأكثر تواضعاً في مسيرة حياته. وهذا الأمر ينعكس على سلوكه العام وبالتالي على سلوكه الوظيفي، فالحقيقة لها أوجه متعددة ولا يمكن للمرء السوي أن يدعي امتلاكه للحقيقية.
ويجد ((أودنيس)) بأن اعتقاد الإنسان بأنه يمتلك الحقيقية هو مصدر كل قمع. فالسياسي الجيد، هو الذي يمتلك مواقف جيدة من المجتمع الإنساني، والسياسة لا تصنع أبطالاً بل المواقف السياسية الجيدة هي التي تصنع السياسي الجيد.
والتاريخ يسجل المواقف السياسية الجيدة كإحدى الأمجاد الإنسانية، ويضع المواقف السياسية السيئة في مزبلته كسمة من سمات الانحطاط والتجاوز على القيم الإنسانية. والنموذج السيئ للسياسي حين يجد أن البطولة تعني إشعال الحروب وكسب المعارك الكارثية، وطاغية العراق المهزوم كان يمثل هذا الوجه القبيح لهذا النموذج!!.
ويجد ((منشيس)) بأن الأبطال ليسوا هم الذين يكسبون الحروب مهما تكن (عادلة) بل هم من يربحون السلام.
فالحروب التي شنها السياسيون في العالم أمثال (هتلر، وموسولني، وطاغية العراق) لم تكن حروباً عادلة (بل لا توجد حرباً عادلة في التاريخ) لأجل رفاهية شعوبهم بل كانت نوازعاً شريرة للهيمنة والتسلط على الجنس البشري.
ويجد ((تولستوي)) بأن الحروب التي تشنها الدولة، تُفسد الناس في عام واحد أكثر مما تُفسدهم ملايين من جرائم النهب والقتل التي يرتكبها الأفراد في مئات السنيين.
لقد عانت أوروبا من الحروب وكوارثها، وأرست بعد الحرب العالمية الثانية أسس عملية لتجنب الحروب فيما بينها خدمةً لشعوبها ومحافظةً على الاستقرار العالمي. واعتمدت أوروبا النظام الديمقراطي كخيار يحظى بقبول الأكثرية لإعادة هيكلة الأنظمة واستقراها في أوروبا.
ويعتقد ((تشرتشل)) أن النظام الديمقراطي ليس الخيار الأمثل لنظام الحكم، لكنه يحظى بقبول الأغلبية وأنا أميل نحو رغبة الأغلبية.
مواقف مشرفة للسياسي الجيد من المجتمع والمثقف:
1-عندما احتلت ألمانيا فرنسا، وفرضت حكومة ((فيشي)) على المجتمع الفرنسي. انقسم الشعب الفرنسي بين مؤيد للحكومة ومعارضاً لها. وكان الجنرال ((ديغول)) معارضاً للاحتلال ولحكومة ((فيشي)) ورفض الانصياع لقراراتها وجرت محاولة لاعتقاله لكنه تمكن من الهرب إلى بريطانيا، ومنها بدأ نضاله ضد الاحتلال وبدعم من حكومة ((تشرتشل)) البريطانية وحاز على دعم الحكومة الأمريكية.
وحاولت الحكومة البريطانية فرض أراءها عليه من خلال إرغامه على اتباع أشكال من النضال داخل فرنسا، لكنه رفض تلك الوصاية!! وبدأ الاتصال بالقادة العسكريين في المستعمرات الفرنسية في أفريقيا من أجل كسب التأييد لنضاله ضد الاحتلال ولإسقاط حكومة ((فيشي)) ونجح في كسب القادة العسكريين في المستعمرات الفرنسية إلى جانبه.
وكان يجد أن الحلفاء (بريطانيا وأمريكا) تريد أن تحجم دور فرنسا من خلال فرض شكل المقاومة في الداخل لتخفيف الضغط العسكري الألماني على بريطانيا، وكان يجد أن فرنسا حتى تبدأ نضالها يجب أن تنطلق من دورها التاريخي كدولة عظمى لذا ركز على استعادة دور فرنسا من خلال الحفاظ على نقاط القوة التي تحفظ لفرنسا دورها.
وحاولت بريطانيا عزله كونه لا يستجيب لأراءها وخططها الاستراتيجية، لكنها فشلت كون الجنرال ((ديغول)) كان يستمد شرعيته من الشعب الفرنسي وليس من دول التحالف. وحينها طلب ((تشرتشل)) لقاءه للتعبير عن رفض بريطانيا لأسلوبه في عدم التنسيق مع دول التحالف وانفراده في اتخاذ القرار دون مشاورة دول التحالف بشأن تحرير فرنسا من قوات الاحتلال الألماني، وعبر ((تشرتشل)) عن امتعاضه بقوله: يجب عليك يا جنرال فرنسا أن لا تعض اليد التي مُدت لمساعدتك في تحرير بلدك!!.
فأجاب الجنرال الفرنسي ((ديغول)) أن فرنسا الحرة لا تعض يد صديقاً، لكنها لا تمانع أن يفهم من يهمهم الأمر أن فرنسا مازالت لها أسنان.
وحاولت بريطانيا وأمريكا عزل الجنرال الفرنسي ((ديغول)) بعد تحرير فرنسا لأنه لم يستجيب لأراء دول التحالف، لكنهم فشلوا في ذلك كونه استمد شرعيته من الشعب الفرنسي.
وعبرت بريطانيا لأمريكا عن انزعاجها من دور ((ديغول)) في فرنسا، ولكن الرئيس الأمريكي خفف من هذا الانزعاج بقوله: أن هذا الجنرال المغرور هو صنيعة فرنسية استغلنا لأقصى حد من أجل تحرير فرنسا، بذلنا ما في وسعنا لنجعل منه جندياً في جيش التحالف لكنه (للأسف) اصبح قائداً لجيش التحالف عند التحرير!!.
2-كتب ((جان بول سارتر)) في العام 1958 أبان الثورة الجزائرية من أجل التحرير من الاحتلال الفرنسي نداءً دعا فيه الشبان الفرنسيين إلى رفض خدمة العلم ناعتاً الرئيس ((ديغول)) بأوصاف أقلها أنه جلاد واقترح وزير الداخلية الفرنسي آنذاك على الرئيس ((ديغول)) اعتقاله، فرد عليه ((ديغول)) وهل يُعتقل فولتير؟!!.
3-حُكم على ((جان جينه)) بسبع سنوات سجن بتهمة التسول والسرقة، ومن سجنه كتب ثلاثة كتب أحدثت ضجة في الوسط الثقافي الفرنسي، وعلق مسؤول الثقافة الفرنسية (بعد أن تقدم عدداً من الكتاب في الوسط الثقافي الفرنسي بطلب بالإفراج عنه) هل يُعقل لفرنسا الديمقراطية أن تسجن كاتباً بحجم ((جان جنيه)) وتم إلغاء فترة الحكم المتبقية عليه ليعيش طليقاً ويرفد الثقافة الفرنسية بالشيء الكثير!!.
4-((تشرتشل)) يصف ((شكسبير)) بأنه ثروة يضاهي بأهميته جميع ثروات مستعمرات بريطانيا العظمى، ولا بأس من خسارة تلك الثروات مقابل ثروة بحجم ((شكسبير)).
5-سئل الرئيس الكوبي ((كاسترو)) ماذا كان يتمنى أن يكون لو لم يكن رئيساً لكوبا، فأجاب بدون تردد: كنت أود أن أكون كاتباً.
6-((خافيير ديكويلار)) أن الثقافة تشكل فكرنا وتحكم سلوكنا، وأنها طاقة الجماعات والمجتمعات وروحها في مختلف معاني التمكين والمعرفة وقبول الاختلاف الذي يعني الاعتراف بالتنوع والتعددية.
7-((غاندي)) لا أريد لداري أن تحيط به الأسوار من كل جوانبه وأن تُسد نوافذه، أريد ثقافة البلاد كلها تهب على داري بحرية تامة، لكني أرفض أن تقتلعني إحداها من الأرض.
8-كنت جالسناً في إحدى مقاهي ستوكهولم كما هي العادة أكتب إحدى البحوث المائية ناثراً عدداً من الخرائط والأوراق وبعض الكتب على الطاولة ومستغرقاً في الكتابة، فجلس بالقرب مني رجل وامرأة أديا التحية قبل الجلوس فبادلتهما التحية دون أن ارفع رأسي مواصلاً الكتابة.
وبعد قليل سألني الرجل ماذا أكتب وما هي هذه الخرائط؟ أجبته باختصار معبراً عن عدم الإزعاج وواصلت الكتابة دون أن اكترث لوجودهما أو حتى أنظر إليهما فالتزاما الصمت!! وعند انتهائي من تدوين الفكرة التي شغلتني عنهما رفعت رأسي ونظرت إليهما.
فإذا برئيس الوزراء السويدي ((إنفر كارلسون)) آنذاك وزوجته من يجلس بجانبي وهو الذي طرح عليَّ الأسئلة عند جلوسه بغرض المجاملة خاصة أن شكلي يوحي بأنني لست سويدياً!!. اعتذرت لهما عن لهجتي وبررت ذلك بانشغالي بتدوين الفكرة، وتبرعت بالإجابة عن سؤاله السابق وتحدثت لهما عن كتبي وبحوثي المائية عن الشرق الأوسط.
وحينها عقب رئيس الوزراء أن أمنيتي أن استقيل من وظيفتي كرئيس للوزراء في العام المقبل كي أقوم بكتابة مذكراتي، وأقضي أوقات الفراغ في المطالعة للكتب الثقافية التي أشعر بحاجتي إليها بعد سنوات من العمل المضني في السياسة. وكان الرجل صادقاً فيما قاله: استقال وكتب مذكراته!!.
كم نحن العرب (والعراقيون خاصة) بحاجة إلى سياسي صادق ومتواضع ويعي ما هي الثقافة وما هو دور المثقف في المجتمع.. كم نحن بحاجة إلى سياسي وطني لا يساوم على حساب وطنه وشعبه..كم نحن بحاجة إلى سياسي غير ذليل للأجنبي وللحاكم..كم نحن بحاجة إلى سياسي منتخب وشرعي، يجد من السلطة وظيفة لخدمة المجتمع وتنتهي مهامه بانتهاء مهام وظيفته!!.
متى يكون السياسي في الوطن العربي إنساناً قبل أن يمتهن السياسة؟. لماذا يفرض علينا السياسي في الوطن العربي أن نستخدم معه الحذاء بغرض إزاحته من السلطة وقيادة الحزب؟. لماذا يتحلى السياسي بكل صفات أبن الشارع كي يكون مناسباً للسلطة والقيادة؟. متى ننتهي من سلطات عديمي الضمير والشعور الإنساني في مجتمعاتنا؟.
ستوكهولم بتاريخ 29/12/2003.