تحتل تجربة القاص والروائي نجم والي مكانة مهمة في المشهد الثقافي العراقي. فعلي الرغم من أنه عاش نصف حياته حتي الآن موزعاً ما بين أسبانيا وألمانيا إلاّ أنه كان يستدير بعينيه إلي تلك البلاد التي قُدِّر لها أن تبقي مشتعلةً مثل كرة من نار لا تُريح ولا تستريح. كان يعود إلي ألواح ذاكرته الكثيفة المتأججة لينهل من معينها الذي لا ينضب أبداً. وإذا توخينا الدقة فإن العراقيين يتمتعون بذاكرة مشتركة لا يحسدون عليها وإن اختلفت التفاصيل وتباينت المكونات أو المعطيات التي تكوّن النواة الحقيقية التي تشكل كل ذاكرة علي حدة. وربما يكون نجم والي هو واحد من الكتاب العراقيين الذين لا يجدون ضيراً في الكشف عن أسرار الذاكرة الفردية والجماعية أو فضح الذات الإنسانية التي تميل إلي التكتم والتستر والإنزواء. من هنا يشعر القارئ بمصداقية نجم والي، ويطمئن إليه، ويمضي معه في رحلة النص الذي يكشف المستور والمحجوب، ويفصح عن المسكوت عنه، ويستنطق المغيّب، ويعيد المحذوف إلي نصابه الصحيح، لتكتمل الصورة، ويمتلئ الفراغ بالدلالة المغيّبة أو المعطّلة عن قصد. لا شك أن نجم والي يشترك مع الكثير من الكتاب العراقيين تحديداً، والعرب والأجانب بعامة، بشروط الكتابة الفنية بشقيها التقليدي والحداثي، ولكنه يتميز علي الكثيرين منهم بروحه الفكهة، وأسلوبه التهكمي، وجملته الساخرة، وسرعة البديهة لديه. وربما يكون من المناسب جداً أن أحيلكم إلي قراءة روايته الجديدة الموسومة بـ(تل اللحم) تلك الرواية الكفيلة بأن تُخرج كل الصارمين والجادين عن طورهم ووقارهم الزائف، وتقذف بهم في فضاء من الأريحية والصدق والمكاشفة مع الذات. أنا فرح بصدور هذه الرواية تحديداً لأن نجم والي يختط لنفسه طريقاً مغايرة فيها الكثير من الاستثناء والتفرد الذي أشار إليه بعض النقاد المنصفين الذين أعربوا عن إعجابهم بروايتيه السابقتين (الحرب في حي الطرب) و(مكان اسمه كميت) ناهيك عن المكانة المرموقة التي تحتلها مجاميعه القصصية القصيرة (ليلة ماري الأخيرة) و(فالس مع ماتيلدا) فضلاً عن مجموعته القصصية القصيرة التي كتبها بالألمانية مباشرة وأعني بها (هنا.. في تلك المدينة البعيدة). ولإستجلاء تجربته الأدبية والحياتية إلتقيناه في زيارته الخاطفة لأمستردام وكان له معه هذا الحوار:
* الخروج من الرماد
* تعتمد رواية (تل اللحم) علي بناء معماري توراتي، فالبداية هي سفر التكوين، والنهاية هي سفر التثنية، فيما تشكل الأسفار الثلاثة الأخري، سفر الخروج واللاوّيين وسفر العدد المتن الذي يقوم عليه هيكل الرواية. ما المقصود من هذا البناء المعماري؟ وهل ثمة إحالات ميثيولوجية لأسطرة الواقع المعاصر أو لأسطرة الأحداث المعاصرة يقتضيها النص الروائي شكلاً ومضموناً؟
- أحياناً يجلس المرء ويخطط لإحالات مثيولوجية قبل الشروع بالكتابة. أما أنا حينما كتبت (تل اللحم) لم أخطط لأية إحالات مثيولوجية. في البدء قسّمت الرواية إلي فصول. وصادف في الفترة نفسها أنني كنت في زيارة عند أحد الأصدقاء. وكان لديه الكتاب المقدس باللغة العربية. تناولت الكتاب وبدأت أقرأ فيه حتي ساعة متأخرة من الصباح. ووقتها لم أكن انتهيت من كتابة الرواية، إذ كنت منشغلاً في فصولها الأخيرة. الغريب أنني وجدت أن بدايات ونهايات الفصول في الرواية تتشابه مع بدايات ونهايات الأسفار الخمسة من الكتاب المقدس. إن استيقاظ الشخص في بداية (تل اللحم) هو بمثابة الاستيقاظ الذي يشبه بداية تكوين العالم. فما أن يستيقظ هذا الشخص حتي يعي العالم كله. هكذا بدأت أجد حالات متوازية، ليس بالضرورة أن تكون متطابقة، ممكن أن أسحبها، ليس بالمعني المثيولوجي الديني، إلي النص الروائي. هناك تواز بالحدث والترقب والسر. بالمناسبة، فإن الكتاب المقدس، وهذا اكتشاف شخصي وربما يكون عاماً، يُقرأ مثلما تُقرأ الرواية البوليسية التي فيها سر ينكشف في النهاية. إن هذه اللعبة الغامضة أو السر هو الذي يشدك إلي الكتاب المقدس. وبالنسبة لي هو الذي دفعني لاكتشاف هذا التشابه الذي من الأفضل أن نطلق عليه توازياً. بعد ذلك بدأت أشتغل علي القصة بشكل واع. ومن خلال قراءاتي المتكررة بدأت تتولد عندي الإحالات المثيولوجية. إن عملية الكتابة في (تل اللحم) هي عملية غريبة حقاً، إذ بدأت تتشكل شخصيات أخري لم أكن أفكر بها من قبل، ولكنها ناجمة عن قراءتي للكتاب المقدس، أو متأثرة به إلي حد ما، بوعي أو بدون وعي. ومع الوقت رحت أكتشف أنني ومنذ أكثر من عشرين عاماً مشبع بالكثير من قصص العهد القديم، لأنني أعيش وأتحرك وأعمل وسط مجتمع مسيحي، في أوروبا، من غير المهم أنه يطلق علي نفسه اليوم (علماني)، لأن الدين قبل أن يكون ميثيولوجيا، هو الطريق التي ينظم فيها مجتمع ما نفسه. والكثير من الطقوس الدينية بقيت علي حالها لم تتغير. خذ عطلة يوم الجمعة أو يوم السبت أو يوم الأحد، لكل دين عطلته..الخ من الأشياء. وفي أثناء الكتابة بدأت أتذكر، بل صار عندي خلط بين الذاكرة القديمة وما يحدث الآن. العهد القديم كما تقول العديد من المصادر حُرر بعد النفي البابلي، وأن كتابته كانت استجابة لما تدعوه البنية التاريخية ــ السياسية ــ الثقافية ــ الدينية: مخطط سفر التثنية، وهذا يعني، التسلسل التالي: تحالف الرب مع شعبه، كفر هذا الشعب، عقاب الرب له، ثم التضرع للرب، وفي النهاية مغفرة الرب..ألا تتحدث الفصول الخمسة للرواية بالثيمة نفسها؟ مع الفارق أن موسي في العهد القديم بعد أن يقود شعبه للأرض الموعودة يموت ويُدفن ولا يسمح له الله بدخول الأرض الموعودة، بينما مرايا سيد مسلط تخرج من رماد توأمها معالي سيد مسلط، وتقود الراوي إلي خارج المقبرة. إذاً، إذا كان الجانب المثيولوجي موجوداً، فهو موجود كجزء من أجزاء أخري عديدة، وليس هو العنصر الطاغي المهيمن. فأنا، كما تعرف، أكتب أصلاً ضد هذه الفكرة. نحن عندنا كتاب كثيرون يبدأون من المثيولوجيا كأساس تنبني عليه الشخصيات، في حين أن الميثولوجيا تدخل عندي نتيجة للإرث التاريخي ــ الثقافي، الشخصي والعام، عند شخوص الرواية، وعندي كراوٍ، لأنني بالتالي جزء من شخصياتي كلها. وهذا فرق كبير.
* الوقود البشري
* ولكن ماذا عن شخصية عسلة اليهودية، ألم تأتِ هي من الميثولوجيا مثلاً، لأنها تحمل الكثير من الملامح الأسطورية؟
ــ كلا. عسلة اليهودية لم تأتِ من الميثولوجيا. إنها امرأة عرفتها في طفولتي، كانت تدور في أحياء مدينة العمارة، تبيع القماش علي النساء. شخصية لطيفة، أحببتها جداً. كانت شخصيتها تثير الفضول، فهي اليهودية الوحيدة التي ظلت في مدينة العمارة، بعد جرائم الهجوم علي اليهود وحرق وسلب بيوتهم وطردهم. ربما لذلك السبب تذكرتها، لأن شخصيتها بالنسبة لي، تقترب من الأسطورة. طبعاً في الرواية أخذت شخصيتها أبعاداً أخري، فأنا لم أكن يوماً معنياً برسم بورتريهات، إنما ما يهمني هو النمط Typus، النموذج، وليس هناك أفضل من شخصية عسلة اليهودية لمساعدتي بالذهاب إلي ما أريده. الصديق قيس قاسم، لاحظ بشكل لافت للنظر، أن أغلبية النساء في الرواية ضد الحمل، وكأنهن بسلوكهن يقفن موقفاً مضاداً للحرب علي طريقتهن، لا يردن تزويد الحرب بالوقود البشري، لأن السلطة في العراق كانت آنذاك تشجع الإنجاب، بل كانت تمنح أوسمة الشجاعة والتقدير للنساء الولودات. عسلة اليهودية بتصنيعها حبوب منع الحمل من طب الأعشاب لقرية بكاملها هي بالتالي شخصية ضد الحرب.
* استراتيجية القص
* ثمة حكواتيون كثيرون في (تل اللحم) وجيهة، معالي، نجمة، إفطيّم بي دي، محمد طالب النقشبندي، أسيد لوتي، عسلة اللاوي، مرايا سيد مسلط، نجم والي. ألا تعتقد أن هناك نوعاً من التناقض بين البنية الحكواتية والبنية الروائية، أم أنك سعيت إلي تذويب المفهوم الحكواتي أو الصيغة الحكواتية إلي صيغة سردية تتماشي مع البنية الروائية الحديثة التي تعتمد علي تداخل الأزمنة والأمكنة والأحداث والشخوص، مثلما تعتمد علي الاستعادة الذهنية، والسينارسيت، وقطع الحدث والمعاودة إليه وما إلي ذلك من شروط فنية؟
- أنا أستخدم الصيغة الحكواتية في النص الروائي لأنني أجد فيها الكثير من الحركة والفعالية. هكذا أبدأ بخلطها وتحريكها من جديد ضمن علاقته بالبناء الروائي بشكل عام. كانت جداتنا عندما يحكين لنا قصصاً كنّ يسردنها كل يوم بطريقة مختلفة. أي أن استراتيجية الحكي أو القص أو الروي كانت تمنح السامع لذة ومتعة كبيرتين. وهذه اللذة ناجمة عن تنويع طريقة الروي واختلافها وعدم ميلها إلي الرتابة والثبات. ونحن في سلوكنا اليومي، عندما نحكي، يختلط في ما نرويه، ما حدث، وما أردنا له أو خططنا له أن يحدث، وما لم يحدث، وما حدث عكس توقعنا، ألا تري معي كم هو الحكي معقد؟ حتي في الغيبة أو النميمة ننقل الخبر بطريقة مغايرة للأصل. فهناك دائماً راوٍ ينقل الخبر، ومروي له أو متلق يتسلم الخبر، وهناك خبر أو رسالة. لكن التحريف أو التلاعب بالخبر قد يصل إلي درجة لا علاقة لها بالخبر الأصلي. من أجل تجسيد ذلك كله، عليك كراوٍ اللجوء لكل الوسائل الممكنة، أنت مثل من يتقصي الأثر، مثل من يبحث عن المعرفة، من الصعب عليه التوقف بمكان، أو الأقتصاد بالوسائل التي تساعده علي الذهاب بعيداً، حيث يعتقد أن عليه أن يذهب. أنا وأقول باعتزاز، حكواتي منذ طفولتي. وكما في الحياة، عليك أن تشد المتلقي عندما تريد منه أن يصغي إليك. أنت عندك معلومة، تريد أن تقولها، وكلما كانت طريقتك ممتعة، كلما نجحت بتوصيلها. بالضبط، المتعة بالحكي هي التي جعلتني أكتب رواية بهذا الحجم، (407) صفحات من القطع الكبير.
* الكوميديا السوداء
* في (تل اللحم) يقترب الحكي من اللعب، وكأن كل شخص يلعب مجرد دورٍ معينٍ في الحياة عن طريق القص أو الحكي. هل تعمدت ذلك؟
- نعم. فبقدر ما آلمتني كتابة (تل اللحم)، فإنها وفي أماكن متفرقة أمتعتني جداً. للأسف في الأدب الروائي العربي الحديث ليس هناك ميل ملحوظ للكوميديا السوداء، للعب، باستثناءات قليلة فقط، أنا يعجبني اللعب، وليكن لعب الأطفال القريب من العبث. واللعب في (تل اللحم) يكتمل في وجوهه العديدة، عبر سلوك الشخوص أنفسهم. فهنا، يتبادل جميعهم الأدوار. كل واحد منهم يروي قصة الآخر من دون أن يدري. عندما يتحدث الشخص عن نفسه فهو في حقيقة الأمر يتقمص شخصية رجل آخر ويتحدث علي هذا الأساس، أي أنه يروي قصة غيرة متذرعاً أنها قصته. لقد تعمدت في هذا الأسلوب الذي نمارسه كثيراً في حياتنا اليومية. وهذه الطريقة بالمناسبة توفر عنصر الشد والجذب والإمتاع.
* الحقيقة الصافية
* ما هي الأسباب التي دعتك لاستخدام الأسماء الصريحة أو المحورة في (تل اللحم) هل لثراء هذه الأسماء أو لمقاصصتها في النص الروائي لأسباب شخصية أو سياسية أو فكرية، ولماذا لم تكتبها كما هي فعبد الرزاق الشيخ مخفر يحيلنا إلي حسب الشيخ جعفر، ومثير صفير يحيلنا إلي منير بشير. كيف تفلسف فكرة استخدام الأسماء الصريحة أو المحوّرة قليلاً؟
- استخدام الأسماء هو جزء من رغبتي باللعب، واستفزاز مخيلة القارئ. اعرف أنها لعبة خطرة، وفيها الكثير من المجازفة، لأن هناك من يذهب في التأويل بعيداً، حسب هواه، كما حدث أن أوّل أحدهم شخصية (معالي سيد مسلط)، لظنه بأنها ولأنها عاهرة، شخصية سلبية، ولذلك سميتها هكذا، لأنني أردت الإساءة عن طريق هذا الإسم لشخص معين. وينسي أنها أكثر شخصياتي الروائية حزناً، وأنها ليست شخصية سطحية، يمكن تصنيفها بسهولة علي طريقة النقد العربي التقليدي، (شخصية سلبية)، كلا معالي ليست شخصية سيئة السمعة، كما أنها ليست كما يفكر البعض معتمداً علي أحكام أخلاقية رجعية مسبقة، (عاهرة)، سلبية تتقبل ما يفعله الآخرون، علي العكس، معالي، امرأة مثلها مثل شخصياتي النسائية الأخري التي أحبها، شخصية حيوية، فاعلة، وهي من الناحية الأخلاقية، اكثر نبلاً من الذكور الذين ينعتونها بالصفات السيئة. علي أية حال ليس من الضروري الإشارة لكل شخصية، ومن تمثل، فذلك ما أتركه للقارئ. انا كما قلت، وأن تأويل كل شخصية أمر خاص بكل قارئ، تفرضه عليه المشاعر التي يملكها أثناء القراءة، الأمر ذاته يحدث لأي عمل فني: لوحة، مسرحية، هندسة معمارية..ألخ، أن اغلب استنتاجاتنا، إن لم تكن معظمها تخضع في النهاية للمشاعر، كما كتب باسكال ذات مرة، وكل تأويل ذاتي دائماً، يترك المجال مفتوحاً، لا يفرض ما يُطلق عليه بالـ (الحقيقة الصافية)، الحكم الواحد المطلق، لأن الحقيقة تُستخلص فقط عبر النقاشات، عبر الآراء المختلفة. ومن الناحية التاريخية من حق الكاتب المنفي، كما هو الحال معي، أن يملك نظرته الخاصة لما دار ويدور هناك في وطنه السابق، وهذه النظرة، هي في الحقيقة مساهمة منه في تشكيل صورة أخري لتاريخ زماننا الحاضر وللسايكولوجية الاجتماعية التي تؤسس ويتأسس عليها، غير الصورة التي سعت وتسعي السلطة لتثبيتها عبر كتابتها وماكنة دعايتها الأيديولوجية. من الصعب علي غير المنفي معرفة ذلك، وحتي أولئك القادمين الجدد، سيحتاجون زمناً طويلاً، لكي يتحرروا مما تعلموه هناك، ويفهمون ما أعنيه. لأن المنفي أكثر من غيره، يعرف أن تأرجحه الوجودي، انتشاره الطليق في البرية، يسمح له بالنظر بحرية لكل ما تراه عيناه. كل إسم يتأرجح في التاريخ، أو تتأرجح صورته في التاريخ، وأن الكاتب أو الفنان المنفي سيدافع عن نفسه أكثر من غيره، منذ البداية، ضد تثبيت صورة معينة لما يجب أن يكتبه، أو الحدود التي لا يحق له المساس بها. ولست بحاجة للقول، إلي اية درجة تتنازع الآراء بتقييم شخصيات تاريخية أو حاضرة (أليس جمال عبدالناصر وصدام حسين وصلاح الدين الأيوبي شخصيات مقدسة بعرف آلاف (المناضلين العرب). وأعتقد أن أي مجتمع مفتوح ويتوسم الديموقراطية يعترف بحق النظر لكل شخصية تارخية كانت أم معاصرة، بنظرة ذاتية تقيمه بصورة مختلفة. ولتوضيح ذلك أكثر، فأنا يمكنني أن أختلف مع هذا الشخص أو ذاك (تلك أمور تحدث)، إلا انني لم ولا أفكر اثناء الكتابة الروائية بالانتقام (أدبياً) من هذا الشخص أو ذاك (أو أتصل بأحد تلفونياً وأهدده بالقتل، أو أرسل له اشخاصاً يلقنونه درساً أو أشي به للسلطات). وبقدر تعلق الأمر ببعض الشخوص في (تل اللحم)، فإن الأمر يدور حول حيوات تتقاطع مصيرها هناك، شخوص ذوو ملامح محددة، ومن غير المهم الأسم الذي تحمله، فأنا لا أرسم بورتريهاً لهذا الشخص (بالذات) أو(ذاك)، إنما يتعلق الأمر بأنماط، تمر بأوضاع تراجيدية، والقارئ هو الذي سيحكم، فيما إذا كان الأمر يتعلق بإنسان حي بعينه، يعرفه، أو يتعلق الأمر أكثر بنموذج يحمله علي التفكير أبعد من ذلك، علي تشكيل شخصية أخري، اكثر نموذجية، يمكن أن يلتقي بها بجواره، في المقهي، في مكان العمل، في الشارع.. الخ، كان بإمكاني طبعاً أن أكتب في مقدمة الرواية (إذا حدث أي تشابه بين الأسماء في الرواية وأسماء في الواقع فإنه من محض الصدفة أو الخيال). وهذا التقليد نراه ليس في الروايات فقط، وإنما في الأفلام السينمائية التي تنفي علاقة هذه الأسماء بالواقع خوفاً من هذه المشاكل. لكني لم أفعل، وإذا فعلت ذلك في المستقبل، فسأكتب: (أي تشابه بين الشخصيات وشخصية في الواقع ليس محض صدفة). ربما ما أقوله يصدم البعض، لكن من الأفضل قول ما يجب أن يُقال بهذه الطريقة المكشوفة. ففي النهاية، أن ما يصدم، يوقظ ما هو مكبوت عند المتلقي، فكرياً وحسياً وجمالياً، سلباً، في حالة رفضه لما يُكشف، لما هو غير مألوف بالنسبة إليه، ولتشبث الذات بالتابوات التي صنعتها لنفسها واستبطنتها من مجتمع ينتج محرماته، وإيجابياً، عندما تُفهم الصدمة، كتحطيم لكل تابو، لكل صنم، أو كما هي الحالة العراقية بصورة خاصة، كإشارة نذير ضد السباحة مع التيار، التي نعرف إلي اين قادتنا: إلي القتل والدمار واغتصاب النساء، إلي تهجير آلاف العوائل (الفيّلية)، وإلي معسكرات الإبادة للأكراد، إلي اعتقال آلاف المعارضين وقتلهم وإلي نفي وهجرة الملايين إلي الخارج.. و... إلي حربين طويلتين، ناهيك عن الحروب القادمة الأخري التي ما زالت تنتظر بقية العراقيين الذين ما زالوا علي قيد الحياة أو أولئك الذين سيولدون بعد في بلاد وادي الانتظارين.
* ثنائية الظهور الاختفاء
* هناك بعض الشخصيات تتكرر في أكثر من نص روائي مثل ملهم الذي يتكرر في رواية (الحرب في حي الطرب) و(تل اللحم) وماجدة عبد الحميد تتكرر في رواية (مكان أسمه كميت) و(تل اللحم) وفي بعض مجاميعك القصصية . هل هناك ضرورة فنية تستدعي هذا التكرار أم أنك تحاول ترسيخ بعض الشخصيات المحببة لديك في ذاكرة القراء؟
- تتكرر شخصية ملهم لسبب بسيط وهو ذكري لصديق عزيز عليّ، أو عربون صداقة لشخص أحبه وأحترم صداقته. وهناك شخصيات أخري (واقعية) تخرج عن جانبها الواقعي لتصل حد الأسطرة ثم تصبح شخصية روائية ضمن اللعبة الفنية المتقنة. لقد أحببت شخصية ملهم لأنها شخصية سرّية وغامضة. فهو يظهر في كل الأعمال مثل أفلام هتيشكوك ويختفي، ولكن هذا الدور الصغير الذي يناط به هو دور مؤثر. وهذا الجانب ربما مأخوذ من السينما أو من هتيشكوك تحديداً. إن عملية ظهور واختفاء ملهم هي شبه استفزاز أدبي. تري هل يظهر بشكل مقنع فعلاً ويختفي بشكل أكثر إقناعاً. هو علي الصعيد الواقعي شخصية غائبة لأنه ما يزال أسيراً في إيران. بالمناسبة أن خالة ملهم هي الشاعرة نازك الملائكة، وأن علاقتي به، تعود إلي سنوات الدراسة في كلية الآداب ـ قسم اللغات الأوروبية. هناك الكثير من التفاصيل الصغيرة، ويكذب أي روائي إذا يقول إنني لا أستخدم هذه التفاصيل التي هي جزء مهم من مخزون الكاتب. ولكن الشيء المهم هو كيفية استخدام هذه التفاصيل. ثمة كتاب ينقلون الواقع بشكل فوتوغرافي، يرسمون بورتريهات، بينما هناك كتاب، أستطيع وضع نفسي بينهم، يأخذون الناس كأنماط في سلوك معين. وهنا يأخذ العمل الروائي طابعاً آخر، إذ تخضع الشخصيةإلي تطور درامي، تمر بمصائب، وتناقضات، ومحن، وتقاطع مصائر. شخصيات مثل ملهم وماجدة عبد الحميد ومعالي هي في النهاية شخصيات روائية بالفعل، وإن عرفتها ذات يوم. فعلي الرغم من أن ملهم هو ليس شخصية رئيسية مثل ماجدة عبد الحميد أو معالي ولكنه ليس شخصية ثانوية أيضاً، ولا أستطيع التكهن فيما إذا سيظهر في رواية أخري أم لا. بالمناسبة أن ظهوره في القصص والروايات يأتي عفوياً ومن دون تخطيط مسبق. ففي (تل اللحم) يظهر بشكل عجيب، بل أن الرواية نفسها تُختتم بجمل مستعارة من ملهم. أعتقد أن هذا الظهور والاختفاء له علاقة بأعماقي ودواخلي، وربما هو أيضاً تحية وفاء لصديق عزيز.
* نفس الشيء فعلته مع زوجتك، الممثلة والمغنية انعام، فأنت ذكرتها مرتين في سياق تذكر أغنية رافائيل البيرتي (ضلت طريقها الحمامة). أليس كذلك؟
- نعم... تلك كانت من أجمل لحظات كتابة الرواية، أن أتذكر المرأة التي أحبها أكثر من أي شيء في حياتي، وكأن إهداء الرواية لها لا يكفي..وسأبوح لك بسر..لولا وجود إنعام، ومعرفتي أنها هنا، تحيطني مثل الهواء، وتتابع كل سطر أكتبه، لما استطعت كتابة (تل اللحم) ولما كنت مواظباً علي الكتابة.
* قدرة التخيّيل
* تركز كثيراً في أعمالك الروائية والقصصية علي الجانب الحسي أو الإيروتيكي، وهذا ليس عيباً أو قصوراً، ولكن ألا تعتقد أن هذا الإفراط الحسي قد يغيّب الجانب التخييلي لدي الكاتب أو يحد من حضوره في الأقل؟
- لماذا يحد الإغراق في الجانب الحسي من خيال الكاتب؟ أنا أقول، نحن لا نأتي إلي الواقع من المخيلة، إنما العكس. وحتي عندما تقلعنا المخيلة من الحسي والواقعي، كما أشرت انت في التقديم، فإننا نحلق وأرجلنا ما تزال تلامس الأرض، ولو بأطرافها. ألا نختلف عن بعض عندما نصف شيئاً واحداً؟ لأن كل واحد سيصف الشيء من الزاوية التي يراه فيها. هكذا هو الوصف الحسي أيضاً، من غير المهم كيف يصفه الكاتب، يظل جانب منه غير مكتشف، الجانب الذي له علاقة بالجانب الذي تكشفه أنت، بالجانب الذي يرتبط بكل كمتلق. وكما تعرف فأنا أنتبه إلي الأمور الصغيرة التي يهملها البعض، لأنها باعتقاده صغيرة. إن الاهتمام بهذه الجوانب الصغيرة صار جزءاً من حرفتي، وهي لها علاقة بالجانب الحسي، فضلاً عن أنها تفجّر قدرة التخييل عند المتلقي.
* هل صحيح ما يُشاع عنك، بأنك كنت تكتب قصصاً جنسية للجنود؟
- نعم، كانت فترة حرجة في حياتي. في ذلك الوقت حدثت لي مشاكل مادية. فخطرت في ذهني فكرة كتابة قصص جنسية للجنود مقابل مبلغ من المال. قد تكون فكرة عبثية وفيها شيء من الطيش والتهور، لكنها في الوقت ذاته كانت ممتعة وجميلة يسرت لي فرص العيش في بحبوحة.
* الرومانسية الثورية
* هل لك أن تتحدث لنا عن طبيعة علاقتك بالأدب الإسباني. وما هي الأسباب والمعطيات التي دفعتك لتعلم اللغة الإسبانية ودراسة الأدب الإسباني؟
- عندما أنهيت دراستي للأدب الألماني عام 1986 فكرت بتعلم اللغة الإسبانية وهو في الحقيقة حلم قديم أن نقرأ بعض الكتب بلغاتها الأصلية، كأن نقرأ غارسيا لوركا بالإسبانية ورامبو بالفرنسية، فضلاً عن تأثيرات أخري فعندما كنا شباباً كنا نحلم بالسفر إلي باريس أولاً، ثم تأتي مدريد ثانياً فقد كنا نتذكر الرومانسية الثورية التي أثارتها بنا فكرة التطوع في الكتائب الأممية لنصرة الجمهوريين في الحرب الأهلية الأسبانية ومقتل لوركا الغامض. إضافة إلي ترجمة بعض الكتب إلي العربية مثل (مائة عام من العزلة) الرواية التي أشبهها بالكوميديا الإلهية التي أخرجت اللغة الإيطالية عن إطار اللاتينية. أعتقد أن (مائة عام من العزلة) جعلت اللغة الإسبانية يُنظر إليها بمنظار آخر. وهذه هي عبقرية بعض الكتب المهمة في التاريخ. كنت أريد في حقيقة الأمر أن أتعلم اللغة الفرنسية لكن كل محاولاتي كانت تبوء بالفشل. في العام 1986 كنت منشغلاً بأطروحة الماجستير في الأدب الألماني، وكانت عندي صديقة ألمانية تركتني وسافرت إلي إسبانيا لكي تتعلم اللغة الإسبانية. كنت وقتها متضايقاً من الامتحانات فذهبت إلي مكتبة مجاورة واشتريت كتاباً لنيرودا (عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة) وكان الكتاب باللغتين الألمانية والإسبانية. أعجبتني القصائد جداً، وكنت أقرأها أول مرة وهي من ترجمة محمود صبح، وكأنها اكتشاف جديد، رغم تاريخ الترجمة البعيد، وذلك يعود علي ما أعتقد إلي أن علاقتي في تلك الفترة بما كان يُنشر باللغة العربية كانت ضعيفة جداً. لا تنسي أن الوجود الصحفي والإعلامي العربي كان منحسراً في أروربا، وليس كما هو عليه الآن. بل أن الأدباء العراقيين والعرب كانوا معدودين. حسناً، قلت في نفسي إن هذه القصائد جميلة وربما تكون أجمل لو اقرأها بالنص الأصلي. في نفس اليوم، ذهبت إلي مطعم الجامعة، ومعي الكتاب. وبالصدفة التقيت هناك بفتاة أعرفها منذ الفصل الدراسي الأول، وكان بيننا نوع من الود والصداقة. ودار حديث حار بيننا.
سألتها عن سر هذه الغيبة قالت أنها تدرس اللغة الإسبانية في مدينة (ملقا). وحينما سألتني عن مشاريعي المستقبلية، تذكرت الكتاب وقصائد نيرودا، فقلت لها أريد أن أتعلم اللغة الاسبانية. طبعاً كانت هي منزعجة من (ملقا) فقالت إياك أن تذهب إلي (ملقا) فقلت لها كلا، أنا أفكر إما بغرناطة أو مدريد. تساءلت وعلي ماذا سيعتمد قراري، فقلت لها سيعتمد علي أين سأجد غرفة للإيجار. في تلك اللحظة تدخلت فتاة كانت تتناول وجبة غداءها بجانبنا فقالت أنا عندي لك غرفة في مدريد. اكتشفت أنها اسبانية متزوجة من ألماني ولها صديقة في مدريد تؤجر غرفاً للطلاب. طلبت مني الفتاة النهوض مباشرة، والاتصال بصديقتها من كابينة تلفون قريبة. كل شيء جري بسرعة، هكذا ذهبت إلي مدريد لكي أدرس (كورس لغة) لمدة ثلاثة أشهر، لكن هذا الكورس امتد لمدة ثلاث سنوات. تعلمت اللغة الإسبانية بسرعة لأن الناس هناك، الإسبان لطفاء، انهم مثل سكان البحر المتوسط الباقين، يقيمون علاقات اجتماعية سريعة، ثرثارون خلافاً لسكان شمال أوروبا. رجعت إلي ألمانيا وأكملت الماجستير بزمن قياسي كي أعود إلي إسبانيا ثانية. في إسبانيا تعمقت علاقتي بالأدب الإسباني وأدب أمريكا اللاتينية، وبالذات الأدب الإسباني الحديث الذي كُتب بعد مرحلة التحول الديمقراطي. وهو أدب مهم لم يُترجم إلي العربية مع الأسف لأن الكتب التي تترجم عندنا هي فقط الكتب الأكثر مبيعاً. إن الذي يعرف اللغة الأصلية تتاح له فرصة عظيمة للتعرف علي الثقافة الإسبانية. ففي اللغة الإسبانية تنتج يومياً عشرات الروايات والكتب المهمة. إن الجملة الروائية أو القصصية التي أكتبها تحمل مؤثرات هذه الثقافة الكبيرة. لقد تغيرت حتي رؤيتي وطريقة تفكيري في الحياة. المتعة أيضاً لا تكمن في الأدب فقط وإنما هناك أدباء أسبان أو من أمريكا اللاتينية يكتبون أعمدة جميلة في الصحف والمجلات. أعمدة لاذعة وفكهة لها علاقة بالحياة، ليس مثل الأعمدة الجافة والمكرورة والإنشائية التي تُكتب في صحافتنا العربية.
* طفولة متخيلة
* في رواية (مكان اسمه كميت) تصف تفاصيل المكان وكأنك عشت فيه لفترة زمنية طويلة. هل لك أن تتحدث لنا عن الضرورة الفنية في توظيفك لهذه التفاصيل المكانية الدقيقة في النص الروائي؟ وهل سيكتب نجم والي عملاً عن مدينة طفولته؟
- أتذكر (كميت) وأنا طفل صغير. كانت جدة أبي (ماتنراد) تعيش هناك حتي وفاتها. لقد رفضت أن تعيش مع أحد أبنائها أو بناتها، إذ وجدت من المناسب أن تعيل نفسها بنفسها. وكل النساء في عائلتي من جهة أبي كنّ قويات، يشتغلن ، ويعتمدن علي أنفسهنّ في الحياة. فـ(ماتنراد) مثلاً، كانت تصنع من سعف النخيل أشياء كثيرة، وكانت تخيط العباءات. ما أزال أتذكر بيتها، وقد وصفته الرواية بدقة. كانت علاقتي بها حميمة جداً، وعندما ماتت كان عمري سبع سنوات. لذلك أتذكرها جيداً. لم يكن (كميت) يعنيني كمكان بتفاصيله، بل أن ما يعنيني فيه هو الحرية التي يمنحني إياها بوصفه نموذجاً لفضاء صغير، مهمل، مثله مثل الفضاءات الأخري المهملة في العراق والموزعة بين المجتمع الريفي والمجتمع المديني. أنا أنظر إلي المجتمع العراقي كله كمجتمع ريفي علي الرغم من أن جزءاً كبيراً منه يسكن في المدينة. لذلك أنا لا تعنيني بغداد كثيراً، لأنني كما قلت لا أصف المكان كبورتريه وإنما كنمط. أنا لم أكتب حتي الآن عن أماكن طفولتي الموزعة بين العمارة والبصرة، لكنني كتبت مجموعة قصصية عن البصرة لأنها مدينة متخيلة أكثر منها مدينة واقعية. وربما يصح القول بأنني وزعت طفولتي في كل المدن الصغيرة التي كتبت عنها. أنا أظن أيضاً أنني سأظل أحمل مدينة طفولتي (المتخيلة) طوال حياتي، وستجد ملامح منها في هذا المكان أو ذاك. من جهة أخري أنا أشبه الكتابة عن مدينة الطفولة بمثل ذلك الذي يتسلم رسالة حب ولا يريد أن يفتحها لكي لا ينتهي منها، أو يقرأ كل مرة جزءاً بسيطاً منها. هل يمكنك تصور المخيلة التي تثيرها عندنا هكذا رسالة؟ الشيء ذاته يحدث مع مدينة الطفولة. أنها لمفارقة تستحق الدراسة، وهي أن معظم الأدباء والفنانين كرسوا عملاً إبداعياً واحداً لمدن طفولتهم، لكنهم أنجزوه عند اقترابهم من الموت. أتذكر فلليني الذي ظل يحمل مدينته رميني طوال حياته وفي كل أفلامه، حتي آخر فيلم أخرجه قبل أن يموت. ربما أكتب عن العمارة ذات يوم. أنا أعرف أن المدينة التي غادرتها تبقي مثل وهم لم أنتهِ منه، وحينما أضعه علي الورق ينتهي ويتلاشي تماماً.
* صوت المهمشين
* في رواية (الحرب في حي الطرب) تميل إلي تعرية الشخصيات المهمشة، المأزومة، المتوترة التي نبذها المجتمع، علماً بأن هذه الشخصيات تحمل بين طياتها ثراءً غريباً تمثل من خلاله وجدان الأمة أو المجتمع العراقي. ما الذي دعاك إلي تبني هذه الشخصيات المهمشة والكشف عن مكنونها السري؟
- أعتقد أن المهمشين هم أساس كل مجتمع، وهم مقياس نجاح أي مجتمع ديمقراطي. ربما جاءت علاقتي مع المهمشين من وضعنا نحن الكتاب والفنانين العراقيين أو العرب. فنحن مهمشمون بشكل تعيس. فالذي يريد أن يدرس المسرح هو بالنسبة إلي أهله ليس أكثر من (كاولي)، والذي يريد أن يغني لا قيمة اجتماعية له. فحتي المطربين المؤسسين أمثال داخل حسن وحضيري أبو عزيز هم أناس مهمشون غير أن ثراءهم الداخلي وإحساسهم بالحرية هو الذي وفر لهم سعادتهم الداخلية وجعلهم يبدعون. لذلك كان هؤلاء الناس يثيرون انتباهي. في مدننا كان هناك مجانين كنا نرميهم بالحجارة، بينما كانت الأساطير التي تنسج حول بعضهم تؤكد بأنهم إما كانوا فطاحل في الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء، أو أن بعضهم كان عاشقاً ولهاناً ولا يريد أن يتزوج بغير المرأة التي أحبها. إذاً هذه الشخصيات نموذجية وقد اتخذت قراراً واعياً في حياتها تُحترم عليه. في حين ينظر لهم المجتمع علي أنهم أناس منحطون وفي الحضيض.. أنا عندما أكتب عن المهمشين أحاول أن أصدم القارئ وأقول له إن هذه الشخصيات التي ينظر لها المجتمع علي أنها منحطة مثل العاهرة التي يتصورونها تعيش في الدرك الأسفل، هي أكثر صدقاً ونبلاً وشرفاً من المتسلقين، من الانتهازيين، من كل أولئك الذين يتهمونها بالسقوط، إنها صادقة مع نفسها، وتحترم مهنتها، ولا تشعر بالذنب عندما تمارس عملها اليومي، في حين أن الشخص الذي يذهب لها، الشخص الذي يخون زوجته سراً ويدعي النبل هو شخص منحط وغير صريح ولا يحترم زوجته أو عائلته. وأنه بكل بساطه يكذب علي نفسه وعلي زوجته وعائلته. إن نسبة الرجال المتزوجين الذين يذهبون إلي بيوت الدعارة تتجاوز %90 من الزبائن المدمنين علي الدعارة وهذا يعني أنهم يسمحون لأنفسهم بممارسة الخيانة الزوجية، بينما يقلبون الدنيا عاليها سافلها إذا اكتشفوا أن زوجاتهم يمارسن المثل أيضاً. وهذا الجانب أسميه باللاعدالة. وفي النهاية أنا أعتبر نفسي منتمياً إلي المهمشين الذين يعيشون في القاع، بل أنني صوتهم الأدبي والإنساني الصادق.
* جيل الخرائب
* درست الأدب الألماني لمدة سبع سنوات، وتعمقت في قراءة أبرز نماذجه الإبداعية. هل تستطيع أن تؤشر لنا الأعمال الأدبية التي أثارت انتباهك، وخلفت بصماتها عليك؟ وما هي الأصوات الأدبية المهمة التي زلزلت تفكيرك وذائقتك وأثرت عليك في كتاباتك اللاحقة؟
- إن تجربة الأدب الألماني هي تجربة غنية جداً. وأنا أول مرة أقرأ أدباً بلغته الأصلية. وقبل ذلك كنا ونحن شباب نقرأ هذا الأدب مترجماً في العراق. عندما قرأت كافكا بلغته الأصلية كانت بالنسبة لي متعة لا تصدق. فمهما أقول عن عظمة الترجمة، ودور المترجم كوسيط ثقافي يقوم بمهمة إبداعية عظيمة، إلا أن قراءة النص بلغته الأصلية تشكل متعة أكبر. هناك أعمال كثيرة لكافكا غير مترجمة إلي العربية قرأتها باللغة الألمانية وتأثرت بها. وهناك كتاب آخرون لا يمكن حصرهم لم تترجم أعمالهم إلي العربية، اكتشفتهم للمرة الأولي، مثل راينر ماريا لينتز الذي كتبت أطروحة الماجستير في الأدب الألماني عن مسرحياته ، وجورج بوشنير، صاحب مسرحيات عديدة وكبيرة، منها مسرحية (موت دانتون) ومسرحية (فويتزك) المشهورة، التي بالمناسبة سرق مخرج عراقي معروف نصها المترجم من مجلة (الحياة المسرحية) الصادرة في القاهرة في العام 1954ونشرها في كتاب باسمه تحت عنوان (مندلي). بالإضافة إلي ذلك درست ما كتبه (جيل الخرائب)، جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذين تحمل تجربتهم من الناحية الشكلية شبهاً بتجربة الكتّاب العراقيين، منهم فولفغانغ بورشيرت، التي تعكف زوجتي إنعام علي ترجمة أعماله، لأنها ايضاً تحب ما يكتبه حد البكاء. هناك أيضاً هاينرش بول الذي كنت أجد في قراءة أعماله لذة كبيرة. وبالمناسبة فإن معظم أعمال بول تدور عن الحرب، لأنه كان جندياً في شبابه في الحرب العالمية الثانية. أما بالنسبة لغونتر غراس فلم أقرأ أعماله جميعاً. فضلاً عن ذلك فقد اهتممت بدراسة أدب المنفي الألماني،والسبب لأن معظم الأدب الألماني الحديث نشأ في المنفي. قرأت كل مدرسة بريشت المسرحية التي تبلورت في داخل ألمانيا، وهذا هو الذي شجعني أن أنظر لدراستي وكأنني أتهيأ لمشروع أريد أن أنجزه في المستقبل. تري هل يمكننا نحن المنفيين العراقيين أن ننشئ أدب منفي بهذا المستوي؟ أثر عليّ أريك ريمارك (كل شيء هادئ في الميدان الغربي)، (للحب وقت وللحرب وقت) لأن ريمارك علي مستوي السلوك أو الكتابة هو شخصية رائعة جداً. في رواياته يتكلم الجنود بلغة مباشرة غير متكلفة. هذه اللغة السوقية المباشرة حينما تترجم إلي الفصحي تفقد روحها. لذلك تجد في روايتي (الحرب في حي الطرب) لغة وسطاً بين الفصحي والعامية. لدي ريمارك تجد لغة عفوية تعطيك الصورة الحقيقية للجندي والسائق أو أي إنسان بسيط تستطيع أن تستشف من خلال كلامه مستواه الاجتماعي والطبقي وحدود تفكيره. إن الحوار دائماً يكون علي مستويين، مستوي أفقي ومستوي عمودي. وغالباً ما يكشف المستوي العمودي عن عمق الشخصية. أما المستوي الأفقي فهو ينقل مستوي واقعياً غير مبالغ فيه. فالحوار ينبغي أن يعرّف الشخصية، أي أن الشخصيات يجب ألا تكون بمستوي واحد. فمن غير المعقول أن يتحدث الجندي والفنان والبروفيسور والعاهرة والقاضي بلغة واحدة ومستوي واحد. لقد انتبهت لهذه الظاهرة من خلال قراءتي للأدب العالمي، وخاصة الأدب الألماني، رغم أن الفارق في اللغة الألمانية بين العامية والفصحي قليل. ومع ذلك فهناك مصطلحات عامية تستخدم في الحياة اليومية أو في الشارع. بعض الأدباء المبدعين ينقلون هذه المصطلحات إلي الأعمال الأدبية ويضعونها في سياقها الصحيح. هذا الأسلوب نفتقده نحن في الأدب العربي، بينما حاولت أنا أن أعمقه أثناء دراستي للأدب الألماني والإسباني. ثمة كاتبة اهتممت بها جداً اسمها كريستا فولف تُرجمت متأخرة للغة العربية. أول فصل عملته في الجامعة عن الغربة عند كافكا وكريستا فولف. اخترت رواية (أمريكا) لكافكا، ورواية (أفكار عن كريستا تيه) لفولف وهي تتحدث عن مواطنة تعيش الغربة وهي في داخل بلدها. كافكا كتب رواية (أمريكا) من دون أن يسافر إلي أمريكا وهنا تكمن عظمة الرواية. المتخيل فيها شيء لا يصدق. بينما تكتب كريستا عن الغربة. فالإنسان تدهمه الغربة حينما يشعر أن أحداً لا يفهمه، أو أنه هو شخصياً لا يفهم نفسه، أو كما يقول بورخيس، أن القصة (الغربة) تبدأ حينما يتطلع الإنسان في المرآة. وربما سيسأل أحدكم، وماذا عن غونتر غراس؟ فأقول، إن قراءتي له بالألمانية جاءت متأخرة، فأنا لم أقرأه بالعربية. لغة غراس صعبة، وجملته عسيرة الهضم. أنا شخصياً لا أشعر بمتعة أثناء قراءة أعماله. بالمناسبة فهو معروف عندنا كروائي فقط، لكنه شاعر عظيم أيضاً. وعندما أقرأ شعره أشعر بمتعة أكثر من قراءتي لرواياته. وهذه هي مشكلة غراس، فهو شاعر كبير يكتب رواية. وفي تاريخ الأدب لا أتذكر رواية عظيمة كتبها شاعر. وأغلب تجارب الشعراء في كتابة الرواية هي تجارب فاشلة. قد أكون مخطئاً، ولكنني لا أشعر بمتعة قراءة الروايات التي يكتبها شعراء أفذاذ. عندما أقرأ روايات غراس أشعر أنني مجبر علي قراءتها خلافاً لهاينرش بول أو ريمارك أو ماريو برغاس يوسا البيروفاني. علي أية حال، اسمح لنفسي أن اقول، في هذا السياق بأن رواية (الحرب في حي الطرب) خرجت من تجربتي الشخصية ومن علاقتي التي استمرت لأكثر من خمس سنوات بالأدب الألماني. الآن أكثر قراءاتي للكتب بلغاتها الأصلية. من النادر أن أقرأ كتاباً مترجماً للعربية.
* في أية لغات يقرأ نجم والي؟
- بالألمانية والإسبانية والإنكليزية والعربية.
* بين البصرة وماكوندو
* لديك محاولات للكتابة عن الشخصية الأوربية في قصصك. هل من الممكن تطوير هذه التجربة بحيث ننتظر من كاتب عراقي أن يتناول شخصيات أوربية في نتاجه الأدبي؟
- تناولت الشخصية الأوربية في مجموعتي المعنونة (هنا.. في تلك المدينة البعيدة) كما تناولتها في بعض كتاباتي الأخري. عندي رواية مكتوبة بالألمانية مباشرة، أسمها (مطر في مراكش) تتحدث عن علاقة حب مستحيلة بين موسيقي جاز، وراقصة تمارس أنواعاً كثيرة من الرقص الحديث ورقص الفلامنكو وكذلك الرقص التعبيري، أو الرقص الراقي. هذه الرواية أحرص ألا تترجم إلي اللغة العربية قبل صدورها في اللغة الألمانية. والعجيب أنني حتي لحظة كتابتي للرواية لم أخطط لها، بأية لغة ستُكتب. ولكن عندما فتحت الكومبيوتر، نقرت أصابعي لوحة المفاتيح اللاتينية. الرواية الجديدة الأخري التي أشتغل عليها بالعربية فيها شخصية أوربية أيضاً. في مجموعة (فالس مع ماتيلدا) هناك شخصات أوروبية عديدة، فلا يمكن تخيل البصرة من دون تخيل الشخصيات الكوزموبولينانية التي كانت تعيش فيها. والمجموعة القصصية كلها قائمة علي أساس الربط بين البصرة وماكوندو، بين شط العرب والكاريبي. الكثير من الأصدقاء الذين قرأوا فالس مع ماتيلدا) أصروا علي أنها رواية لأن فيها شخصيات تتكرر، أو قرأوها علي أنها قصة واحدة مكتوبة بأشكال مختلفة. أحياناً أكتب قصصاً عديدة هي تكملة لقصة واحدة. البعض من أصدقائي يقولون إن قصصك كلها تصلح أن تكون أسساً لروايات قادمة. إن هذا الربط بين الداخل والخارج، بين البصرة والكاريبي جاء من خلال دراستي للغة الإسبانية وأدب أمريكا اللاتينية ورحلاتي للكاريبي.
* أدخل معنا أيها الأخ
* تتحدث عن الكاريبي في كتاباتك ومقالاتك وأحاديثك وكأنك قادم من هناك؟
- سأقص في هذا السياق حكاية طريفة. في زيارتي الأولي لكولومبيا، التي خرجت منها بريبورتاج رائع نشرته في صحيفة (الحياة) في البحث عن (ماكوندو)، كنت ذات مرة في قرية (لا بارانكيا)، القرية التي كان يعمل فيها والد ماركيز تلغرافاً، هناك، وفي ساعات الليل الأولي، أثار انتباهي كرنفال صغير. وقفت قريباً من حلبة الرقص، في يدي كأس الروم، المشروب المحلي. كنت أرتدي بدلة كاريبية بيضاء وقبعة بنمية وقميصاً برتقالياً غامق اللون. في تلك اللحظة ناداني أحد المشاركين في الكرنفال متصوراً أنني كاريبي فقال (أدخل معنا أيها الأخ). عندما أذهب إلي هذه المناطق أشعر بأنني في البصرة، وخاصة في مدينة قرطاجة الهنديات، المكان الوحيد الذي ينافس عند ماركيز، مكاندو، حتي أنه كرس له رواية كاملة له، رواية (الحب في زمن الكوليرا). عاش ماركيز طفولته في بيت أجداده في قرطاجة الهنديات. المدينة تشبه البصرة شبهاً لا يصدق، في كل شيء، حتيفي المناخ ودرجة الحرارة والرطوبة. تعرفون الدور الذي يلعبه المناخ في كتاباتي، وخاصة في (مكان اسمه كميت). عوداً علي الشخصيات الأوربية قال لي الصديق ستار موزان، قبل أيام، في مكالمة تلفونية، إن أحد أصدقائه دخل إلي بيته وتناول (فالس مع ماتيلدا) وشرع بالقراءة فقال في الحال: (بس..هذا الكاتب أوربي، شلون تكول عراقي).