هل يتذكر أحد تلك الفترة في منتصف التسعينات حين امتلأت الصحف المصرية الرسمية بحملة دعائية مكثفة حول مشروعات المستقبل، وعام 2017 (الذي ستصبح فيه مصر، بعد طول عناء، واحدة من القلاع الصناعية المتقدمة!!) وتحول مصر إلى نمر على ضفاف النيل، ومشروع الشرق الأوسط الجديد، ..إلخ؟!! لعل هناك موظفون يقومون الآن، كما في رواية 1984 لجورج أورول، بحذف كل تلك الوعود المحرجة من الأرشيفات الصحفية، واستبدالها بتنبؤات مذهلة حول الأزمات والانتفاضات والحروب القادمة!!مما لا شك فيه أن النظام المصري اليوم يعاني من أزمات غير مسبوقة. فدوره الإقليمي قد انهار مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، وانهيار عملية السلام، والتحول العنيف في شكل التدخل الإمبريالي المباشر في المنطقة. حتى السودان، والتي كان يلعب فيها دورا هاما (مخربا في أغلب الأحيان)، قد خرجت من إطار نفوذه.أما على المستوى المحلي فلا يمكن وصف الوضع الاقتصادي إلا بالكارثة، ليس فقط لما نراه من ظواهر مباشرة للأزمة مثل البطالة والركود وانهيار العملة وعودة التضخم، ولكن الأهم هو انهيار مشروع الليبرالية الجديدة برمته. فهل يصدق عاقلا اليوم أن هناك أي فرصة لأن تصبح مصر جاذبة لبلايين الدولارات الاستثمارية، ومصدرة لما قيمته عشرات البلايين من الدولارات من سلع مصنعة ونصف مصنعة؟!! وإذا كان ذلك كله قد أصبح من باب الخيال العلمي، فكيف إذا سيخرجون من الأزمة؟ وهل هناك حلول أخرى في ظل نظام مثل هذا؟ لقد أصبحت الحقيقة واضحة للجميع: لم يعد أمام النظام المصري للحفاظ على العرش إلا المزيد من البطش والتجويع والإذلال لغالبية سكان مصر، لخدمة الشركات الكبرى المحلية والأجنبية، وتلبية مصالح الاستعمار الأمريكي. وإذا كان هذا هو الوضع فإن التغيير الجذري يصبح مسألة حياة أو موت. ولكن أي تغيير نتحدث عنه، ولمصلحة
من، وبأية وسائل؟حدث خلال الأعوام الثلاث الماضية ما يمكن تسميته ببدايات صحوة جديدة لليسار المصري، فمع حركة التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية والمظاهرات والمؤتمرات التي نظمت من أجلها، ومع تصاعد الحركة المناهضة للهجوم الإمبريالي على العراق والتي توجت بمظاهرات كبرى يومي 20 و21 مارس، عاد اليسار من جديد إلى الساحة السياسية،
وخرج المئات من اليساريين المحبطين منذ بداية التسعينات من عزلتهم، وتجمع حول اليسار مرة أخرى الكثير من الشباب النشط الراغب في النضال والمتعطش للأفكار الثورية. ومع القمع الرهيب الذي ووجهت به الحركة والمظاهرات تفجرت قضية الديمقراطية كمجال أساسي للنضال. وتكونت اللجان والحملات حول الكثير من المطالب الديمقراطية والمناهضة للاستعمار والصهيونية. ومن أهم السمات الإيجابية لهذه الصحوة الجديدة تجاوز غالبية المشاركين في الحركة لأمراض الحلقية
والعصبوية، التي عانى منها اليسار لعقود، فمختلف التيارات والمجموعات يناضلون معا حول مطالب محددة بدون أن يجعلوا خلافاتهم التاريخية أو السياسية تقف عقبة أمام العمل المشترك.لا يمكن التقليل من قيمة هذه التطورات الإيجابية ولكن لا يمكن أيضا تجنب السؤال الملح: ماذا بعد؟ هناك حقيقة لابد من مواجهتها بشكل مباشر إذا كنا نريد الإجابة على مثل هذا السؤال، وهي: أن حركة اليسار رغم الإيجابيات المذكورة لم تخرج حتى الآن في شكلها المنظم عن إطار مجموعات ضيقة من النشيطين، ولم تتمكن حتى الآن من خلق جذور حقيقية في المواقع الجماهيرية.لنتناول مثالا حيا بالمعركة من أجل إنهاء قانون الطوارئ. إن كل القوى المعارضة تطالب بإلغاء هذا القانون ومن البديهي أن اليسار عليه المشاركة في النضال من أجل مطلب ديموقراطي كهذا، ولكن الأساليب والوسائل التي يستخدمها اليساريون في النضال لابد وأن تختلف عن القوى الأخرى. فاليسار عليه أن يربط المطالب الديمقراطية بالقضايا الطبقية والاجتماعية سواء في صياغة المطلب نفسه أو في التعبئة من أجله. فإذا كان الليبراليون مثلا يكتفون بمطلب إلغاء القانون، فعلى اليساريون أن يطالبوا أيضا بالكشف عن ميزانية الجهاز الأمني، وتقليصها لصالح دعم السلع الأساسية.هذا مجرد مثال ولكن المبدأ العام هو الربط الدائم بين المطالب الديمقراطية العامة وقضايا الصراع الطبقي. وهذا ينقلنا إلى التعبئة، فعندما تصاغ المطالب بهذا الشكل، يصبح من الممكن طرحها وكسب التأييد حولها في المناطق العمالية مثلا. لكن المسألة ليست فقط حول صياغة المطالب بشكل طبقي، بل أيضا حول شكل الحركة ووسائلها. فالهدف لا يمكن أن يكون مجرد جذب العمال كأفراد للنضال من أجل مطلب ديمقراطي، بل المساهمة في خلق حركة عمالية تتبنى مثل هذه المطالب.تثير هذه القضية تناقض واضح في مواقف حركة اليسار الحالية. فهل نحن مجرد ديمقراطيون ووطنيون نحاول جذب تأييد العمال والفقراء لدعم حركتنا ومطالبنا؟ أم أننا اشتراكيون نشارك بالطبع في النضال ضد الاستبداد والاستعمار، ولكننا نربط بين هذه المطالب وبين الاستغلال الرأسمالي، ونعمل من أجل بناء حركة جماهيرية للقضاء على هذا الاستغلال؟ وإذا كان الجواب على هذا السؤال بالإيجاب، فأين حركة اليسار من قضايا الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء بل والفقراء بشكل عام؟ وماذا تطرح الحركة لمواجهة سياسات الليبرالية الجديدة، من إفقار وتجويع وتشريد، التي تدمر حياة
الملايين في مصر اليوم؟ تعالوا نتوقف لحظة ـ من أجل الاكتشاف والخبرة ـ للنظر إلى التطورات الهائلة التي حدثت في أمريكا اللاتينية خلال الأعوام القليلة الماضية، والتي تتسارع وتيرتها هذه الأيام. ففي بلد تلو الأخرى حاولت البرجوازيات الحاكمة تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة، ولكنها واجهت حركات جماهيرية متصاعدة تناهض تلك السياسات برمتها، وتناضل أيضا ضد هيمنة واشنطن، وضد القمع والاستبداد الذي تمارسه حكوماتها. ولم تقتصر هذه الحركات على النقابات العمالية المستقلة،
التي انتزعت استقلالها عبر نضال مرير من سيطرة الدولة والشركات الكبرى (المكسيك، البرازيل، الإكوادور، الأرجنتين)، بل شملت أيضا اتحادات للعمال الزراعيين ولفقراء الفلاحين (البرازيل، بوليفيا). ومع تصاعد الأزمات الاقتصادية واستفحال
البطالة، ظهرت أشكال نضالية جديدة مثل اتحادات العاطلين (الأرجنتين) ولجان الأحياء الشعبية (الأرجنتين، الإكوادور، فنزويلا).وقد استطاعت هذه الحركات الجماهيرية من تغيير الخريطة السياسية، والتوازن الطبقي في القارة. ولعل نجاح الحركات العمالية والفلاحية في بوليفيا في الإطاحة برئيس الجمهورية ووقف كامل لبرامج الخصخصة، يبشر بموجة جديدة من الانفجارات الجماهيرية، بكل ما تحمله من إمكانيات للتغيير الجذري. ولم يكن اليسار في هذه البلدان بعيدا عن هذه التطورات، بل لعب في كثير من الحالات أدوارا هامة في تكوين وتطوير هذه الحركات الجماهيرية. هذا على الرغم من أن القوى الاشتراكية الراديكالية في تلك البلدان لم تتمكن بعد من توحيد صفوفها، وطرح إستراتيجية متكاملة للتغيير.تطرح تلك التطورات اللاتينية الكثير من الأسئلة على حركة اليسار في مصر. هل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر مختلفة نوعيا عن الموجودة في تلك القارة البعيدة؟ أليس نفس البرنامج الذي فجر الحركات الجماهيرية هناك هو الذي يتم
تنفيذه اليوم في مصر وبنفس الشراسة؟ ألا يجب أن يكون لليسار عندنا دورا في المبادرة بمثل هذه الحركات (تكوين اتحاد للعاطلين، حركة نقابية مستقلة، اتحاد للفلاحين الفقراء، ..إلخ) أو على الأقل في توصيل هذه الخبرات للجماهير، والعمل
معهم على تطوير الأشكال النضالية الأكثر ملائمة منها؟ وأخيرا، أليس هذا هو السبيل الأمثل لانتزاع الحقوق الديمقراطية، ولفرض المطالب المناهضة للإمبريالية؟
تتعلق كل هذه التساؤلات بقضية تطوير حركة اليسار، وإمكانيات تحويلها إلى حركة جماهيرية واسعة قادرة على التأثير السياسي. لكن ماذا أيضا عن الأفق الإستراتيجي للحركة؟ لقد تبنى اليسار المصري تاريخيا ما يعرف بإستراتيجية المراحل
الثورية، وهي تطرح، بإيجاز شديد، تقسيم عملية التغيير الجذري إلى مرحلتين منفصلتين زمنيا. يتم خلال المرحلة الأولى تنفيذ مهام الثورة الوطنية الديمقراطية، وهي التحرر الوطني والاستقلال ونظام جمهوري برلماني وتنمية وطنية مستقلة، وفقط
عندما تتحقق هذه المهام يمكن الانتقال لمرحلة الثورة الاشتراكية وسلطة الطبقة العاملة.كانت هذه الرؤية للثورة "بالتقسيط" قاسما مشتركا فرضه ستالين على غالبية الأحزاب الشيوعية في العالم. ويبدوا أن هذه الأفكار مازالت تهيمن على وعي
الكثير في اليسار المصري. وقد تبدو الفكرة للوهلة الأولى منطقية. فلنتخلص أولا من الاستبداد والفساد والعمالة للاستعمار، ثم ننتقل بعد ذلك إلى قضايا التحول الاجتماعي الشامل!! وكيف يمكن مواجهة الإمبريالية، إذا أضعفنا جبهتنا الداخلية بالصراع الطبقي؟!! وكيف يمكن الحديث عن ثورة اشتراكية بعد ما حدث في الاتحاد السوفيتي؟!! لنركز الآن على برنامج واقعي للتغيير و"يحلها ألف حلال" بعد ذلك!!ويبدو أن تجربة إندونيسيا في الإطاحة بالديكتاتور سوهارتو، قد عززت من هذا المنطق المرحلي في التغيير. فها هو سوهارتو الديكتاتور الفاسد عميل واشنطن في جنوب شرق آسيا يطاح به من خلال حركة ديمقراطية، وسلسلة مظاهرات جماهيرية شارك فيها الطلاب والعمال وفقراء المدن، ووصلت ميجاواتي سوكارنو وحزبها إلى
الحكم من خلال انتخابات حرة. هذا بعد مرحلة انتقالية حرجة، اتسمت بمزيج من الضغوط الجماهيرية، والمفاوضات بين الجيش والمعارضة، وتفجر حركات الاستقلال في مختلف الجزر الإندونيسية.كانت هناك بالتأكيد عدد من المكاسب الهامة التي حققتها الحركة، مثل درجة أكبر من الحريات النقابية والصحفية، وبرلمان منتخب بشكل نزيه، وبعض التقليص في سلطات
الجيش، ومحاكمة بعض رموز الفساد. لكن سرعان ما تكشف كم هي سطحية ومؤقتة هذه المكاسب. فالجيش ظل يحتل نسبة ثابتة من مقاعد البرلمان، وظلت قيادة الجيش تسيطر على إمبراطورية اقتصادية تقدر بعشرة بلايين دولار. وسياسات الليبرالية الجديدة، التي فجرت الأزمة أصلا، ظلت في محلها بل ازدادت شراسة في عهد ميجاواتي. والعلاقة مع الإمبريالية الأمريكية ازدادت حميمية مع المشاركة الإندونيسية الحماسية في حرب جورج بوش على الإرهاب!! ومنحت ميجاواتي صلاحيات استثنائية للجيش في قمعه المتوحش للحركات الانفصالية، مما زاد من سطوة قيادات الجيش في السياسة الإندونيسية.هل هذا ما حاربت من أجله جماهير إندونيسيا؟ بعض التغيرات الشكلية وخروج رموز النظام القديم وبدون أي مساس لجوهر النظام الطبقي؟ لعل ما قاله ليون تروتسكي عما يحدث في مثل هذه الحالات الثورية ينطبق بدقة على النموذج الإندونيسي: "إن
الذين أقاموا المتاريس في الشوارع في كل الثورات هم العمال والفقراء ومجموعات من الطلبة ثم ينضم إلى صفوفهم الجنود. ولكن بعد ذلك تلتهم البرجوازية السلطة، بعد أن كانت قد شاهدت المتاريس بحذر من نوافذها".هل هذا ما نريده في مصر اليوم؟ تغيير سوهارتو المصري بميجاواتي مصرية؟ أم نريد تغييرا جذريا؟ والجواب على هذا السؤال لا يتعلق فقط بالأفق الإستراتيجي لحركة اليسار، بل بأشكال وأساليب النضال المطروحة، فلا يمكن أن تتناقض الوسيلة مع الهدف. لقد أشارت المقالة في فقرة سابقة، على أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق تغيير جذري في المعركة ضد الاستبداد والإمبريالية يكمن في تحويل الحركة إلى حركة جماهيرية، وفي القلب منها الطبقة العاملة. وقد يتفق الكثيرون على ذلك. ولكن سرعان ما يظهر التناقض. فعندما يشارك العمال في الحركة فهم يشاركون بأساليب وأسلحة عمالية مثل الإضرابات، وتكوين اللجان العمالية، والنقابات. لكن هذه الأساليب تضع العمال في مواجهة الرأسمالية من ملاك المصانع والشركات والأراضي، وليس فقط في مواجهة الديكتاتورية والاستعمار. أي أن مشاركة العمال بالتالي ستطرح على الفور المطالب العمالية الملحة، التي تتعارض بشكل جذري مع مصالح الرأسمالية المحلية والعالمية. وستصبح القضية المطروحة لا تدور فقط حول من يحكم البلاد، لكن أيضا حول من يسيطر على المصانع والمزارع.إذا فهناك ضرورة لمناقشة هذه القضايا الإستراتيجية الآن، فالأزمة تزداد عمقا
يوم بعد يوم. وإذا لم يستطع اليسار بلورة مواقفه بحسم ووضوح، وطرح برنامجا جذريا للتغيير، فسيمتلئ الفراغ السياسي بقوى أخرى وسنشاهد حقبة تاريخية أخرى من الاستبداد والاستغلال، ربما بمسميات ورموز جديدة، ولكن بنفس العفن القديم.
نعم، ستكون هذه هي النتيجة المحتومة قطعا: إذا توقفنا ـ نحن اليسار ـ عن أن نكون يسارا بالفعل، في الواقع الحقيقي؛ إذا امتنعنا عن دعوة الجماهير للالتفاف حول رايتنا، لأننا من يناضل معها على قضاياها الأكثر إلحاحا؛ إذا اكتفينا بترديد شعاراتنا القديمة، وتوقفنا في نصف الطريق محاولين كسب الديموقراطية، دون إصلاح اجتماعي جذري. ودعونا هنا نتذكر مقولة قديمة لإنجلز: "إن الذين يصنعون نصف ثورة يحفرون قبورهم بأيديهم".